إسلام ويب

الربح والخسارة في الآخرةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تختلف معايير الربح والخسارة في حسابات الناس، لكن المعيار الشرعي هو المعتبر، ولذلك ينصب يوم القيامة ميزان حقيقي لقياس الأعمال له كفتان ولسان، فإما أن ترجح فيه كفة الحسنات وإما أن ترجح فيه كفة السيئات. وإذا كان الإيمان بالله أعظم المرجحات لكفة الحسنات فإن الشرك بالله أعظم المرجحات لكفة السيئات

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد:

    فإن المؤمنين جميعًا يؤمنون بأن أعمالهم ستعرض على الله سبحانه وتعالى وتوزن في موازين القسط يوم القيامة، ولن يظلم أحد منهم شيئًا، وأن الله سبحانه وتعالى خاطبهم فقال: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، لكن يحتاج المؤمن في انتظار العرض على الله سبحانه وتعالى ووزن أعماله صالحها وطالحها أن يستحضر في هذه الحياة ما أوجه الربح والخسارة وما مقياس ذلك؛ لأن نعم الله سبحانه وتعالى سابغة لا يمكن أن تعد ولا أن تحصى، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ [النحل:53]، ولأن تكاليفه سبحانه وتعالى تنقسم إلى أوامر يجب أداؤها وإلى نواهٍ يجب الحذر منها واجتنابها، فاحتاج الإنسان إذن إلى أن يضع لنفسه ميزانًا يقوم به عمله لئلا يكون من الخاسرين والفرصة مواتية أمامه لإصلاح وضعه وللرجوع عن حاله إذا كان فاسدًا، وقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

    فيحتاج المسلم إذاً إلى تقويم مسيرته في حياته هذه، حتى يعلم هل هو على صواب أو هو على خطأ؟ فإن كان على صواب فليحمد الله وليسأله الثبات، وإن كان على خطأ فيحاول الإصلاح قبل أن يفوت الأوان، وليجتهد في تدارك ما بقي، فإن من الحكم الخالدة: إن عمرًا ضيع أوله لجدير أن يخسر آخره، ولا شك أنه ما من أحد منا يرضى عن تعامله مع الله، فما منا أحد إلا وهو يعلم أنه من المقصرين المفرطين، لكن تتفاوت أوجه التقصير وأوجه النقص في عملنا، فنحتاج إذاً إلى تذاكرها، والتدبر فيها، فلعل بعضنا يجد وجه النقص فيه فيحاول استدراكه قبل أن يفوت الأوان، ويجد آخر وجهًا آخر للنقص لم يكن مقصرًا في الوجه الأول الذي قصر فيه غيره، فلذلك احتجنا إلى مدارسة هذا الموضوع.

    انقسام الناس يوم القيامة إلى شقي وسعيد

    وأول ما نبدأ به هو التنبيه إلى أن الناس جميعًا ينقسمون يوم القيامة إلى قسمين فقط: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:105]، لا ثالث لهذين القسمين، فلا يمكن الحياد، لكن كل واحد من القسمين على درجات: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ [آل عمران:163].

    فمن السعداء من يستحقون الفردوس الأعلى من الجنة، فهم يصلون إلى درجة الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ومن السعداء من يكون دون ذلك إلى أن يكون من أصحاب اليمين، (وإن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء)، فمنهم من يبدأ أولًا في النار ثم يخرج منها بإيمانه فيدخل الجنة بعد ذلك، وأولئك يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا، فمنهم من لا يرى النار إلا تحلة القسم ثم يذهب به إلى الجنة، ومنهم من يمكث فيها مئات السنين، ومنهم من يمكث فيها آلاف السنين، ومنهم من يمكث ملايين السنين، نسأل الله السلامة والعافية.

    ثم يخرج منها من أراد الله به الخير فينقل إلى جنات النعيم، وكذلك لأهل الشقاء دركات متباينة، فلا شك أن أهل النفاق هم أسفل أهل النار فيها يوم القيامة: إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا [النساء:145]، ثم أهل الشرك على تفاوت دركاتهم، فمن أكمل جوانب الشرك نسأل الله السلامة والعافية يستحق الخلود الأبدي السرمدي في النار، وفوقه من وقع في جانب من جوانب الشرك ونجا من بعض الجوانب.

    ثم فوق ذلك العصاة من المؤمنين على تفاوت أكيانهم، فمنهم أصحاب الكبائر الموبقات، كأصحاب قتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، فأولئك توبقهم سيئاتهم في النار، نسأل الله السلامة والعافية، ثم فوق ذلك أصحاب الكبائر الأخرى التي هي دون الموبقات، وأقلهم شأنًا أصحاب اللمم الذين يطهرون بالنار، ثم يعادون بعد ذلك إلى الجنة.

    ميزان الأعمال حقيقي له كفتان ولسان

    علينا أن نعلم أن الميزان الذي تقاس فيه الأعمال بمقاييس الذر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8]، هو ميزان حقيقي له كفتان ولسان، إما أن ترجح فيه كفة الحسنات، وإما أن ترجح كفة السيئات، وإما أن يقع التساوي، فأول وزنة توضع في الميزان هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده سبحانه وتعالى، فهذا أول ما يوضع في كفة الحسنات، لأنه إذا لم يحصل فلا نفع فيما سواه، ولذلك قال الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].

    وقد صح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! (إن عبد الله بن جدعان كان يطعم اليتيم والفقير والمسكين والضيف وابن السبيل، أفيغنيه ذلك عنه من الله شيئًا؟ قال: لا، إنه لم يقل يومًا واحدًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، إنه لم يقل يومًا واحدًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين؛ فلذلك لابد أن يستحضر الإنسان أن أول ما يوضع في كفة الحسنات هو الإيمان بالله، وأن أول ما يوضع في كفة السيئات هو الشرك بالله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3088776770

    عدد مرات الحفظ

    778951967