إسلام ويب

عيدنا معشر المسلمينللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الله في حياة المسلم مواسم عبادات وخيرات، وميزها بمزيد فضل منه، ليرفع بها درجات من شاء من عباده وقد خص الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بيوم الجمعة وما يحويه من فضل وأجور، وكذلك عيد الفطر والأضحى وما فيهما من مناسك تزيد في الدرجات كزكاة الفطر وصلاة العيدين والأضحية، وبهذا كانت هذه الأيام من أفضل أيام الله.

    1.   

    حكمة الله في تشريع المواسم والأعياد في العبادات

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنتته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله تعالى جعل لكل أمة منسكاً هم ناسكوه، وهذه الأمة التي ختم الله بها الأمم اختار الله لها أحسن شيء وأفضله وأكمله؛ فلذلك أرسل إليها أفضل الرسل وأنزل إليها أفضل الكتب وشرع لها خير شرائع الدين، واختار لها أفضل الأزمنة وأفضل المقدسات المكانية كذلك فقبلتها في أول بيت أخرج للناس وهو أشرف مكان، وكذلك مقدساتها الأخرى، وجعل الله مساجدها في الأرض كلها بخلاف الأمم السابقة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي.. )، ومنها: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما امرئ أدركته الصلاة فليصلي ).

    وكذلك اختار الله لها مواسم الخير التي يضاعف الله فيها الحسنات ويبارك فيها بالأعمال، وتتنزل فيها رحمات الله جل جلاله وتفتح فيها أبواب جناته، ويستجيب فيها دعاء عباده ويتفضل عليهم بأنواع الرغائد، ومنها شهر رمضان الذي خص الله به هذه الأمة، وكذلك هذا الموسم الذي هو عشر ذي الحجة، وكذلك الأشهر الحرم، وغير ذلك من المواسم التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم، وبين فضلها ومزيتها ومزية الأعمال الصالحة فيها.

    والمناسك منها الأعياد؛ فالعيد مشتق من العود؛ لأنه يرجع ويتكرر في العام، وكل أمة لها عيد تعظمه وتتقرب فيه إلى الله بأنواع من القربات، وهذه الأمة جعل الله دينها مبنياً على أركان الإسلام الخمسة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيحين: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصوم رمضان ).

    فهذه الأركان الخمسة كل واحد منها في فضله ومزيته وما يتبع له من النوافل، وما يكمله كذلك من السنن هي بمثابة دين كامل إذا ما قورنت بالديانات السابقة الأخرى؛ لمزيتها وفضلها، وكل واحدة منها تستحق عيداً، ولكن الذي يتكرر منها في العام ويشمل جميع المسلمين هو الذي يمكن أن يرتب عيد قار، فالصلاة تتكرر في اليوم الواحد خمس مرات بالنسبة للفرائض.

    عيد فريضة الصلاة

    وقد جعل الله يوم الجمعة متميزاً عن سائر أيام الأسبوع فخصه بصلاة فيها خطبة جهرية، وخصه بمزيد فضل وبمظاهر الاحتفال التي تشرع في بعض الأعياد؛ فيشرع للإنسان فيه أن يتطهر، وغسل يوم الجمعة فريضة على كل محتلم، والمقصود بذلك أنه مطلوب منه أن يغتسل ويتنظف، وكذلك يلبس أجمل الملابس، كما في الحديث: ( خير ثيابكم البيض، صلوا فيها جمعكم، وكفنوا فيها موتاكم )، وكذلك التطيب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر خصال الجمعة وذكر منها: ( وتطيب من طيب بيته )، أي: مما يجده من الطيب، وكذلك اجتماع المسلمين في المسجد والدعوة للتبكير في ذلك؛ فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم التبكير، وبين أن: ( من بكر وابتكر وغسل واغتسل، ولم يفرق بين اثنين بغير إذنهما كملت له جمعته )، وبين كذلك خمس ساعات يتفاوت الناس فيها بالتبكير؛ ( فالساعة الأولى من راح فيها فكأنما قرب بدنة، والساعة الثانية من راح فيها فكأنما قرب بقرة، والساعة الثالثة من راح فيها فكأنما قرب كبشاً أقرن، والساعة الرابعة من راح فيها فكأنما قرب دجاجة، والساعة الخامسة من راح فيها فكأنما قرب بيضة )، وهذا التشبيه يدلنا على مشروعية التنافس في التبكير والقرب فيه، وقد يأتي الإنسان في الساعة الخامسة وهو معذور فيكون مأجوراً أكثر من الذي جاء في الساعة الأولى، وقد يأتي الإنسان في الساعة الأولى وهو متلبس بما يمنع قبول عمله - نسأل الله القبول - فيكون مردوداً؛ فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فكأنما قرب) ولم يقل: فإنما قرب، ولاحظوا الفرق بينهما، فالله تعالى هو الذي يتقبل الأعمال ويزنها وهو أسرع الحاسبين.

    وقد بين أنه يجازي بالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة؛ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ[البقرة:261]، وأنه لا يتقبل إلا من المتقين؛ فقال: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ[المائدة:27].

    وهذه الصفات المذكورة يمكن أن نعبر باجتماعها عن يوم الجمعة بأنه يوم عيد؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أفضل يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه، وفيه مات وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مطرقة مصيخة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه، تنتظر الساعة إلا الإنس والجن )، وفي الحديث الآخر: ( فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي )، وفي الحديث الآخر: ( وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائماً يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها )، فكل ذلك يدل على تميز هذا اليوم عن سائر الأيام وتميزه إنما هو بشعيرة الصلاة؛ فلذلك أبلغ ما خص به هو صلاة الجمعة وخطبتها والسير إليها والتحضير لها، هذا أبلغ ما في يوم الجمعة.

    عيد الزكاة وموسمه

    ثم الزكاة؛ عبادة شخصية لا يمكن أن تؤدى جماعياً؛ لأن كل فرد له زكاته وحده إلا الخلطاء الذين يشتركون في مال وحوله فيه موحد، ولهم عوامل مشتركة تقتضي جمع زكاتهم، أو ما شرع رفقاً بالسعاة الذين يجبون الزكاة ويجمعونها؛ فإنهم يخرجون في وقت شدة الصيف عند طلوع الثريا بالفجر ويردون المياه، فما وجدوا عليها من الحيوانات حسبوه وأخذوا الزكاة منه على أهله كما كانوا يخرجون في العهد النبوي وفي عهد الخلفاء الراشدين المهديين.

    ولذلك كل إنسان له يوم معين هو الذي يحول عليه الحول فيه إذا كان مزكياً، حول الحول على ماله في ملكه فتلزمه الزكاة في ذلك اليوم، وذلك اليوم هو بمثابة عيد؛ لأنه يؤدي فيه فريضة من أركان الإسلام وكبريات أموره وشرائعه، وهي تزكية لنفسه وتطهير لها من الأدران، والتزكية هي تنمية لماله أيضاً؛ فلا بد أن تكون طيبة بها نفسه، وذلك يقتضي تحضيراً لها؛ أن يتهيأ لها، وأن تكون نفسه طيبة بها وأن يخرجها في وقتها، وأن يكون اختياره لها على الوجه الأكمل والأحسن كما قال الله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ[البقرة:267]، فقوله: ((وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ)) معناه: لا تقصدوا الخبيث منه، أي: من المال وهو غير المرضي منه، سواءً كان خبثه مادياً أو معنوياً؛ فالخبث المادي بأن يكون رذيلاً من أراذل الحيوان، والخبث المعنوي أن يكون أصوله من غير الحلال؛ ((مِنْهُ تُنفِقُونَ)) أي: تنفقونه فتقدمونه في الزكاة، ((وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ)) معناه: في قضاء الدين، ((إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)) معناه: إلا أن تتجاوزوا عن صاحبه فتغمضوا العين عن عيوبه.

    وقد بين الله سبحانه وتعالى وعده لمؤدي الزكاة على وجهها فقال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[الأعراف:156]، وبين وعيده الشديد لمانعيها فقال: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[فصلت:6-7].

    عيد الشهادتين والدخول في الإسلام

    وقبل ذلك الشهادتان وليس لهما وقت محدود؛ فالإنسان يدخل الإسلام بالنطق بهاتين الشهادتين، مصدقاً بهما ويخرج بالتكذيب بهما؛ فالوقت الذي يهدي الله فيه الإنسان للدخول في الإسلام هو وقت وجوب الشهادتين الوجوب العيني، ثم بعد ذلك تكون كسائر الأذكار، لكن الذي هو ركن من الإسلام هو ما يدخل الإنسان به الإسلام من النطق بالشهادتين عند أول دخوله الإسلام، ولو كان ولد في دار الإسلام وبين أبوين مسلمين فلا يجزئه ذلك عن النطق بهما، فينطق بهما عند حصول القناعة والقرار التام له بدخوله في هذا الدين ورضاه بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً؛ فيتشهد شهادة الحق فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ملتزماً بمقتضياتهما وعارفاً بدلالتهما؛ فيكون بذلك قد اتخذ هذا القرار للدخول في هذا الدين، فليس لذلك يوم محدد يمكن أن يكون عيداً.

    لكن اليوم الذي يدخل فيه الإنسان الإسلام هو في الواقع يوم عظيم في حقه؛ لأنه يجب ما قبله، فالإسلام يجب، أي: يقطع كل ما قبله؛ فهو مكفر لكل سيئاته السابقة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـكعب بن مالك حين نزلت توبة الله عليه في سورة براءة: ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك )، وهو اليوم الذي غفر الله له فيه ورضي عنه، فكذلك المسلم عندما يهديه الله للدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين، فذلك يوم عظيم من أيام حياته يجب ما قبله وما مر عليه من السيئات.

    1.   

    عيد الصيام والحج وأحكامهما

    أما صوم رمضان وحج البيت الحرام؛ فهما عبادة تحتاج إلى موسم محدد في السنة؛ فلذلك احتيج في أدائهما إلى الأعياد، فشرع عيد الفطر من رمضان في أول يوم من شوال بعد أن يكمل الإنسان صيام شهر رمضان فرحة بإكمال الصوم؛ وإظهاراً لنعمة الله جل جلاله ومواصلة ونصباً في الخير بعد كماله؛ فإن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من العبادة أن ينصب في عبادة أخرى فقال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ[الشرح:7-8]، وفراغ الإنسان من الصوم يقتضي أن يكون طاعماً شاكراً؛ ولذلك حرم الله صيام يوم العيد وشرع أن يكون الإنسان فيه طاعماً شاكراً بعد أن كان صائماً صابراً طيلة الشهر إذا كان من أهل الصوم.

    وكذلك الحج؛ فهو مؤتمر عام سنوي يجتمع فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، وإن كان واجباً مرة في العمر، ولا يتكرر وجوبه عينياً في حق الفرد، لكنه مع ذلك يشرع للفرد متى ما قدر عليه أن يؤديه ولو كان يحج كل عام، كما كان عدد كثير من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن دونهم، وقد حج سفيان بن عيينة رحمه الله ثلاثاً وسبعين حجة متوالية، كان يسأل الله عند الصدر في كل عام أن يرده من قابل، فلما أتم ثلاثاً وسبعين حجة وقد تجاوز التسعين من عمره قال: "استحييت من ربي". فلم يسأله ذلك فمات من عامه.

    وهذا الحج كذلك يحتاج الناس فيه إلى راحة بعد النصب والجهد؛ فشرع لهم في اليوم العاشر من أيام شهر ذي الحجة بعد يوم عرفة الذي وقفوه باليوم التاسع وبعد قيامهم بالأعمال - أعمال الحج - أن يظهروا نعمة الله عليهم في هذا اليوم؛ فإنهم يوفون فيه نذرهم بذبح الهدي ونحره، ويتخلصون فيه من تفثهم وهو الشعث بما يحلقون من رءوسهم ويغتسلون ويزيلون الوسخ، وكذلك يحل لهم لبس المخيط الذي كان ممنوعاً عليهم طيلة الإحرام؛ فإنهم يتحللون في يوم العيد فيلبسون الجديد, وكذلك فإنه يشرع لهم الأكل من هديهم أو من أضحياتهم، وكذلك صلاة العيد التي هي عبادة مختصة.

    اقتصار اصطلاح الشرع على عيد الأضحى والفطر

    وهذان العيدان اقتصر عليهما اصطلاح "العيد" في الشرع، فليس لدى المسلمين عيد شرعي تقام فيه العبادات المخصوصة إلا عيد الفطر من رمضان وعيد الأضحى، وهو عيد الحج؛ فعيد الفطر من رمضان شرع الله فيه نسكين يؤديهما المسلمون:

    نسك زكاة الفطر في عيد الفطر

    النسك الأول في الأداء هو زكاة الفطر من رمضان؛ فيزكي الإنسان زكاة الفطر، وهذه الزكاة تسمى اسمين: تسمى زكاة الفطر وزكاة الفطرة، أما زكاة الفطرة فمعناه: أنها زكاة عن فطرة الإنسان، وما فطره الله عليه من الجوارح من سمعه وبصره وعقله وحركته ويديه ورجليه وغير ذلك؛ فإنه يزكي زكاة فطرته، أي: زكاة شخصه وما هو مفطور عليه من أنواع القوة.

    وأما زكاة الفطر فهي زكاة فطره من رمضان، فهي سد للثغرات التي ربما خدش بها صيامه وما حصل فيه من النقص، إما في الأداء أو في القيام أو في الصيام أو غير ذلك من سوء الأدب؛ فإنه يكمل ذلك النقص بأن يخرج هذه الزكاة عن نفسه وعن كل مسلم يمونه، طيبة بها نفسه، وهي صاع من طعام، من تمر أو من بر أو من شعير أو من غير ذلك يخرجه الإنسان عن نفسه، ثم يخرجه عن كل من يمونه من المسلمين، فإذا كان الإنسان يمون غير المسلمين فلا يلزمه إخراج الفطرة عنهم؛ لأنها لا يمكن أن تزكيهم، والزكاة مختصة بمن يزكى - أي: بمن يطهر - وهم المسلمون فهم الذين يطهرهم الله بتكفير السيئات، أما من كان كافراً بالله فإنه لا يطهره الله حتى يسلم؛ فلا تنفعه شفاعة الشافعين، ولا يمكن أن يزكى عنه؛ فلذلك يخرجها الإنسان عمن يمونه من المسلمين، سواءً كان ذكراً أو أنثى، كبيراً أو صغيراً، حراً أو عبداً، كما في حديث ابن عمر في الصحيح.

    والصاع هو أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ملء اليدين المتوسطتين غير مقبوضتين ولا مبسوطتين أربع مرات، فالصاع أربعة أمداد بالمد النبوي، والمد النبوي كما ذكرناه هو ملء اليدين المتوسطتين غير مقبوضتين ولا مبسوطتين.

    ويخرجه الإنسان قبل صلاة العيد وهي النسك الثاني في يوم عيد الفطر.

    صلاة العيد وكيفيتها

    والنسك الثاني هو صلاة العيد، ويسن أن يغتسل لها الإنسان وأن يأخذ من أظافره، وأن يؤدي خصال الفطرة، فيقص شاربه ويحلق عانته وينتف شعر إبطيه، ويلبس الجديد ولو كان غير أبيض؛ فالعيد الأفضل فيه لبس الجديد ولو غير أبيض، بخلاف الجمعة فالأفضل فيها الأبيض ولو غير جديد.

    ويسن الخروج خارج البنيان لأداء هذا النسك؛ ليظهر عدد المسلمين وزينتهم وإعلاؤهم لكلمة الله وإعلانهم للولاء لهذ الدين، فيخرجون من البيوت إلى المصلى الصحراوي، أي: المصلى المكشوف الذي إذا مرت طائرة رأت أهله، وإذا مر إنسان رآهم، ويكون ذلك غيظاً لأعداء الله جل جلاله من الإنس والجن؛ ولهذا ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بإخراج العواتق والحيض وربات القدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين ) كما في حديث أم عطية رضي الله عنها.

    وهذا يقتضي أن المطلوب فيه كثرة العدد وخروج الجميع بزينتهم وأن يخرجوا ضحى، فالخروج المبكر جداً في وقت نوم الناس وكسلهم لا يؤدي هذه الحكمة، والخروج المتأخر بعد أن يتعالى النهار أيضاً يشق ببعض الناس، فيخرجون في وقت الضحى بعد أن ترتفع الشمس قيد رمح وتزول عنها الحمرة.

    ويؤدون الصلاة، وهي صلاة مخصوصة وهي المشروعة في العيدين، يصلي الإمام للناس ركعتين يكبر في الأولى سبع تكبيرات بتكبيرة الإحرام ويقرأ الفاتحة وسورة جهراً، ثم يكبر في الركعة الثانية ست تكبيرات بتكبيرة الرفع ويقرأ الفاتحة وسورة معها جهراً، وركوعها كركوع غيرها من النوافل، فالذي يتكرر فيها هو التكبير يسرده الإمام سرداً، ولا يقرأ بين التكبيرات شيئاً حتى ينهي التكبيرات، فإذا أنهاها قرأ الفاتحة والسورة جهراً، وبعد ذلك يخطب الإمام للناس فيذكرهم ويعلمهم أحكام العيد.

    وخطبة العيد تختلف عن خطبة الجمعة؛ فخطبة الجمعة قبل الصلاة، وخطبة العيد بعد الصلاة، وخطبة الجمعة يسن بدؤها بحمد الله جل جلاله، وخطبة العيد تبدأ بالتكبير، كما أن خطبة الاستسقاء تبدأ بالاستغفار، فكل له مقامه ولكل مقام مقال، ويكثر فيها الإمام من التكبير يقطعها به؛ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، فيقطع خطبة العيد بالتكبير ثناءً على الله سبحانه وتعالى وإعلاءً لشأنه، ويعلم الناس الأحكام المختصة بيوم العيد ويذكرهم بشئونهم العامة والخاصة وبشئون المسلمين وحقوقهم عليهم.

    وبعد ذلك ينصرف الإمام فيسن أن ينصرف الناس من غير الطريق الذي جاءوا منه؛ ليشهد لهم طريقان: طريق في الذهاب وطريق في الإياب، ويكبرون في ذهابهم إلى المصلى ولا يكبرون في الانصراف منه، والتكبير إنما يشرع في الذهاب إلى المصلى فيجهر الرجال بالتكبير ويسر به النساء.

    الأضحية وما يتعلق بها

    وفي يوم عيد الأضحى يشرع هذا النسك الذي هو الصلاة على هذه الهيئة التي بينا، ويشرع معه نسك آخر ولكنه لاحق له وهو الأضحية، فالفرق بينها وبين زكاة الفطر أن زكاة الفطر وقتها المختار أن تؤدى قبل صلاة العيد وإ ذا فاتت أديت بعدها، حتى تغرب الشمس، وأما الأضحية فإن وقتها بعد صلاة العيد، ومن ضحى قبل أن يصلي الإمام وقبل أن يذبح فهي شاة لحم ولا تجزئ في الأضحية.

    والأضحية هي تكفير لسيئات الإنسان؛ فكل عضو منها يكفر عن الإنسان مقابل ما اقترفه طيلة العام، ويشرع للإنسان أن يكبرها ويضخمها ويعظمها؛ لأن الله قال ذلك: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج:32-33]، وهذا في الهدي فهو من شعائر الله، لكن الأضاحي أيضاً من شعائر الله، فشعائر الله ما أشعر فيه بحكم وما عظمه وبينه، وقد أشعر الله بحكم في الأضحية، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعيتها وحكمها وفضلها، وبين أن أربعاً لا تجزئ في الأضاحي كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمد يده ليراه الناس؛ قال البراء : ( وكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أطول من يدي، فبين لهم أن أربعاً لا تجزئ في الأضاحي؛ فالمريضة البين مرضها والعوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء التي لا تنقي ) أي: التي ليس فيها مخ - وهذه لا تجزئ في الأضاحي، وأما غيرها فإن الأضحية كالهدي يشرع أن تكون كاملة، وما دون ذلك من العيوب إذا لم يكن فيه قطع جزء من أجزائها ولا إزالة عظم من عظامها؛ فإن أمره أيسر، ولكن الأفضل أن تكون كاملة.

    والأفضل في الأضحية الضأن ثم المعز ثم الإبل ثم البقر، بخلاف الهدي؛ فالأفضل فيه الإبل أولاً ثم البقر ثم الضأن ثم المعز، والأفضل في الضحية الذكور، كالهدي أيضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أقرنين أملحين؛ فضحى بالأول عن نفسه وعن أهله، وضحى بالثاني عن من لم يضح من أمته.

    والأفضل أن يذبح الإنسان ضحيته بيده إن كان رجلاً، فإن كان امرأة وكلت من يذبح عنها من الرجال استحباباً، ولو ذبحت بنفسها أجزأ؛ لأنها تجزئ ذكاتها ويحل أكلها، ويقول المضحي: باسم الله، الله أكبر، اللهم منك وإليك ضحية عني وعن آل بيتي. وإذا كان يضحي بشاة أخرى فيقول: عمن لم يضح من المسلمين أو عمن لم يضح من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

    ومن كان قادراً على الضحية بكبشين فذلك أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل، ومن لم يكن قادراً على ذلك فتجزئه الشاة الواحدة، لكن المجزئ هو الجذع من الضأن والثني من المعز، فالجذع هو الذي أكمل سنة ودخل في الثانية دخولاً بيناً كالشهر وما زاد عليه، والثني هو الذي أكمل سنتين ودخل في الثالثة دخولاً بيناً كالشهر وما زاد عليه، وهكذا في الإبل والبقر. ومن الأفضل أن يكون سميناً؛ لأن ذلك داخل في التعظيم الذي بينه الله في قوله: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحج:32].

    ويسن أن يأكل منها الإنسان، والضحية يمكن أن يجمع الإنسان فيها بين أن يأكل منها وأن يدخر وأن يهدي، ولكنه لا يمكن أن يدخلها في معاوضة، فلا يحل له بيع شيء منها ولا الإجارة به، فلا يحل له إجارة الجازر بإعطائه الجلد أو إجارة الصانع بإعطائه الرأس أو نحو ذلك؛ لأن عقود المعاوضات مرفوعة عنها فهي نسك مختص، يهدى منه لمن أراد الإنسان الهدية إليه، لكن لا يعطى منها في مقابل أية خدمة؛ لأن ذلك من عقود المعاوضات التي لا تنعقد على النسك المختص، الذي هو الأضحية.

    ويسن أن يأكل الإنسان المضحي من زائد كبدها، ثم إذا ذبح فليكن الذبح بعد ذبح الإمام، ويسن للإمام أن يذبح في مكان واضح معروف كالمصلى الصحراوي أمام الناس ليعرفوا أنه قد ذبح؛ فيذبحوا بعد ذبحه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.

    ويسن للإنسان في عيد الأضحى أن يأخذ من شعره وأظافره بعد الذبح؛ لأنه كان ممنوعاً من ذلك من أول الشهر حتى يضحي لما في حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان لديه ذبح يريد أن يذبحه فإذا أهل شهر ذي الحجة فلا يأخذ من شعره وأظافره حتى يذبحه )، فإذا ذبحه فإن ذلك محل لإزالة تفثه فيأخذ من شعره وأظافره تشبهاً بالحجاج وتعلقاً للقلب بالطاعة وأهلها والعبادة، لعل الله ييسر له أن يلحق بهم، ويمكن أن يكتب من الحجاج وهو جالس في دار أهله إذا علم الله منه الإخلاص والصدق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً ولا نزلتم منزلاً إلا كانوا معكم حبسهم العذر ).

    إظهار نعمة الله يوم العيد وضوابطه

    ويسن للإنسان أن يظهر نعمة الله عليه في الأعياد من غير سرف ولا مخيلة؛ فالسرف ممنوع مطلقاً، وهو تجاوز الحد المعروف، وهذا المرجع فيه إلى عادات الناس، فمن الناس من يكون الأمر سرفاً في حقه ولا يكون سرفاً في حق غيره؛ فالذي يملك الكثير السرف في حقه أكثر من السرف في حق الفقير، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، وقد ذهب الشاطبي إلى أن السرف له حد مشترك بين الغني والفقير، ولكن الذي يترجح أن سرف الأغنياء غير سرف الفقراء؛ فكل على مستوى نفقته وما يملكه وما جعل الله تحت يده.

    وهذا السرف ممنوع، وقد حذر الله منه فقال: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ[الأنعام:141]، ويكفي هذا من التحذير أن الله لا يحب أصحابه؛ فهم ممقوتون عند الله مكروهون عنده، ومن يكرهه الله لا يمكن أن يهديه لما يرضيه، ولا يمكن أن يوفقه لطاعته؛ لأنه مكروه لديه، ولاحظوا أنه قال: إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ[الأنعام:141]، ولم يقل: إنه لا يحب السرف، فكونه لا يحب السرف من المعلوم من الدين؛ لأن الله تعالى يقول: (كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها) وفي القراءة الأخرى: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا[الإسراء:38]؛ فالسيئات كلها مكروهة عند الله جل جلاله، لكن المسرفين - أي: أصحاب السيئات - مكروهون عند الله جل جلاله، ومن كرهه الله لا يمكن أن يوفقه للخير ولا أن يتقبله منه.

    فلذلك لا بد من الحذر من السرف.

    الحذر من المخيلة والكبر

    ولا بد كذلك من الحذر من المخيلة، والمخيلة هي الخيلاء، أي: التكبر وإظهار البطر ونحو ذلك، فالخيلاء من الصفات المذمومة، وقد جاء في الحديث الصحيح: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر )، والكبر هو أصل أدواء القلوب، وهو الذي منع إبليس من السجود؛ فكان سبب لعنة الله عليه.

    والمتكبرون الذين يأخذون النعمة ولو كانت من حلال، ولكنهم يتبخترون بها ويتكبرون، فهم بذلك ممقوتون في تصرفهم وعملهم، فيمكن أن يكون الإنسان مستعملاً للنعمة على وجهها ولكنه غير متكبر بها؛ فلا يكون من أهل المخيلة، وقد يأخذها الإنسان فيتكبر بها فيكتب من أهل المخيلة عند الله جل جلاله ويكون من أصحاب الخيلاء، وتعرفون أن كمال الإيمان يمنع الخيلاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي بكر الصديق لما سمعه يقول: ( لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء، فقال: يا رسول الله! إن إزاري يسترخي فربما أجره؟ فقال: لست منهم )، فـأبو بكر قد قام به من صفات الإيمان ما يمنع اتصافه بالمخيلة المنهي عنها؛ فإنه لا يجر ثوبه خيلاء، وإنما يجره لضمور بطنه؛ فيسترخي إزاره، فربما جره وإذا شعر به رفعه، ولكن ليس هذا توسعة علينا نحن؛ فعلى كل إنسان منا أن يحذر المخيلة على نفسه؛ فإن الشيطان ينفخ في القلوب.

    والمخيلة قد تحصل في العمامة وقد تحصل في الدراعة، وقد تحصل في غير ذلك من الثياب، فينفخ الشيطان في صدر الإنسان إعجاباً بها، وهذا ما بين النبي صلى الله عليه وسلم خطره حتى على صلاته؛ فإنه لما ( لبس ثوباً فيه علم.. ) أي: دائرة مربعة بخيط أحمر ( نظر إليها في صلاته، فلما سلم خلعها خلعاً شديداً، وقال: احملوا هذه إلى أبي الجهم وأتوني بإنبجانيته؛ فإنني نظرت إلى علمها فكاد يفتنني عن صلاتي )، وأنبياء الله هم أشد الناس رجوعاً إلى الله وتوبة إليه؛ فهم التوابون الأوابون إلى الله جل جلاله؛ فتعرفون قصة سليمان لما شغلته الخيل الجياد التي يملكها ويعدها للجهاد، لكن مع ذلك أعجب بها وبأعرافها وهيئاتها؛ فعرضت عليه بالعشي فانشغل بها عن صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال: رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ[ص:33] أي: يضربها بالسيف في سوقها وأعناقها؛ لأنها شغلته عن ذكر الله حتى كادت الشمس تتوارى بالحجاب، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم هنا مجرد نظرة نظر بها إلى علم هذه الخميصة خلعها بها خلعاً شديداً وقال: ( احملوا هذه إلى أبي الجهم وأتوني بإنبجانيته فإنني نظرت إلى علمها فكاد يفتنني عن صلاتي ).

    ولذلك ينبغي للإنسان أن يحذر من هذا الأمر؛ فــعبد الله بن عمر - كما تعلمون - من صالحي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك مر أمام بيت حفصة فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا عبد الله ! ارفع ثوبك، فرفعه فقال: زد، فرفعه، فقال: زد )، فلما سكت رسول الله جرح ابن عمر ساقه في ذلك الموضع ليعرف المكان الذي أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يصل إليه بإزاره.

    وهذا يقتضي أن نراقب أنفسنا في المخيلة وبالأخص فيما يتعلق باللباس؛ فاللباس تعتريه أحكام الشرع، وهو يختلف باختلاف حال الإنسان كما قال العلامة محمد مولود رحمة الله عليه:

    ثم لباس الشرع تعتريه الاحكام حطب منه ما يقيه

    ما يقي الحر والبرد ويستر العورة فرض على الإنسان، ثم قال:

    لباس موسر لباس معسر شح..

    فالموسر الغني إذا لبس لباس الفقراء فهذا شح - أي: بخل - على نفسه، فهو حرام، البخل حرام.

    لباس موسر لباس معسر شح وضد سرف

    أي: لباس الفقير لباس الأغنياء هذا سرف في حقه.. ضد سرف.

    ثوب السري على الدني خيلاء والضد مهانة والمستجاد القصد

    ثوب السري أي: الشريف، على الدني خيلاء: كبر، والضد مهانة وهي أيضاً مذمومة، (والمستجاد القصد)، المستجاد: المحمود شرعاً، (القصد) أي: الوسط بين ذلك؛ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67].

    والعلماء يندب حسن الزي لهم ليعظموا لكف الغي

    العلماء والدعاة الذين يراد أن يؤثروا ويبلغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يندب لهم حسن الزي، أي: حسن الملابس؛ اقتداءً بالأنبياء؛ لأنهم مبلغون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسل عنه؛ فيشرع لهم أن يحسنوا هيئاتهم الظاهرة؛ لئلا يكون ذلك تنفيراً منهم وليستمع إليهم الناس، والغالب أن العلماء فقراء، لكن يشرع لهم حسن الزي ليخلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيان عنه، فيظهر ذلك، ومثلهم المبلغون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاة والأئمة والخطباء؛ فلهذا قال:

    والعلما يندب حسن الزي لهم ليعظموا لكف الغي

    وحسنه يندب للمصلي وللمؤذن وذات البعل

    حسنه أي: حسن اللباس من غير سرف ولا مخيلة، يندب للمصلي أي: الإمام، ومثله قاصد المسجد؛ لأن الله قال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ[الأعراف:31]، وقد أجمع أهل التفسير هنا أن المقصود هنا: عند كل صلاة، والزينة هي اللباس، فيأخذها الإنسان فيختار أحسن ملابسه للقاء ربه، كما قال الزاهد:

    العيد قالوا غداً ما أنت لابسه فقلت خلعت كاس ثوبه خلعا

    أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به يوم التزاور في الثوب الذي خلع

    فتلقى الله جل جلاله في أحب ثيابك وأحسنها، وما كان من أصل حلال فتختاره لذلك.

    التحذير من السرف في الطعام والشراب

    وكذلك أيضاً لا بد من الحذر من السرف والمخيلة في الطعام؛ فالطعام أخو اللباس؛ فلا يسرف الإنسان فيه ولا يتجاوز الحد المعروف، وبالأخص إذا كنا في أوقات الأزمات، فالعالم كله يشكو الآن من المجاعة، وإخوانكم المسلمون في غزة تسمعون أخبارهم اليوم، وإغلاق البنوك التي كانت تحول إليهم الإعانة عن طريقها، بالإضافة إلى الحصار الذي كان مضروباً عليهم في الأشهر الماضية كلها؛ فإذا أحس المسلم بحال إخوانه المسلمين فينبغي ألا يسرف على الأقل تأسياً بهم وتعاطفاً وتضامناً معهم فيما هم فيه من محنتهم.

    والإسراف في المآكل والمشارب مشغلة عن ذكر الله جل جلاله، وهو يقتضي ركوناً إلى الدنيا وميلاً إليها، وأصل الأدواء كلها حب الدنيا والميل إليها فلا بد أن يحذر الإنسان ذلك، ومثل هذا الإسراف أيضاً في الشراء والذهاب إلى الأسواق، كل ما اشتهاه الإنسان اشتراه؛ فهي هواية لدى الإنسان وشهوة لديه كشهوة الطعام والشراب، وبالأخص لدى النساء؛ فكثير منهن يضيع كثير من وقتها وربما ضاعت صلاتها، وربما أضاعت من أوجب الله عليها حضانته في الذهاب إلى الأسواق وتتبع الموضات وتتبع ما هو جديد، وبعض الرجال كذلك يفعلون هذا، وهو لا يخلو من سرف وتجاوز للحد؛ فلذلك على الإنسان أن يقتصد وأن لا يبالغ في مثل هذا كله وأن يحذر أن يكون بذلك مسيئاً للأدب مع من أنعم عليه بأنواع النعم وأحسن إليه بأنواع الإحسان جل شأنه.

    مشروعية الذكر في العيد والإكثار منه

    وكذلك يشرع للإنسان حمد الله سبحانه وتعالى والإكثار من ذكره؛ فهذه الأيام أصلاً يشرع فيها الإكثار من التكبير والتحميد والتهليل، كما في حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد في المسند وغيره، فيشرع للإنسان أن يكثر من التحميد والتكبير والتهليل في هذه الأيام؛ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وقد جاء في الحديث: ( هن خمس لا يضرك بأيتهن بدأت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله )، فهذه الخمس لا يضرك بأيتهن بدأت فهن أمهات الذكر.

    فلا بد أن يكثر الإنسان من ذلك وبالأخص التكبير الذي يشرع تكبيراً مطلقاً وتكبيراً مقيداً، فالتكبير المطلق قبل العيد وهو في هذه الأيام التي نحن فيها، والتكبير المقيد يبدأ من صلاة ظهر يوم العيد، يكبر الإنسان في دبر كل فريضة حتى يصلي الصبح من اليوم الأخير من أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة، بعد خمس عشرة فريضة يكبر الإنسان بعد الصلاة، ويبدأ به قبل أذكار الصلاة، فإذا كبر تكبيراً منفرداً كبر ثلاث تكبيرات يقول: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر، وإذا أراد التقطيع قال: الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد؛ فيجعل التكبيرات أربعاً عند التقطيع ويجعلهن ثلاثاً عند الإفراد، ويكون ذلك في دبر الصلاة، ويرفع الإمام صوته بها ليذكر بها المأمومين، وكذلك الإنسان إذا أدرك أن من حوله قد غفلوا عن التكبير فيرفع صوته به لينبههم على هذه السنة ولئلا يتركوها.

    فهذا التكبير المقيد؛ لأنه مقيد بعدد ووقت وهو أدبار الصلوات، وبأيام محدودة وهي الأيام المعلومات والمعدودات، فالأيام المعلومات ثلاثة والأيام المعدودات ثلاثة، وهي متداخلة كلها في أربعة أيام؛ فيوم العيد معلوم وليس معدوداً، واليومان اللذان بعده معلومان معدودان، واليوم الأخير معدود وليس معلوماً، فالأيام المعدودات هي التي أمر الله بالذكر المخصوص فيها، وهو ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد رمي الجمرة الأولى والجمرة الثانية قدر هذ سورة البقرة، فالجمرة الأولى والثانية لا ترميان يوم العيد، وإنما ترمى جمرة العقبة وحدها؛ فإذاً ليس يوم العيد من الأيام المعدودات التي قال الله فيها: وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ[البقرة:203]، فإنما هي الأيام الثلاثة التي بعده وهي أيام الرمي التي فيها ذكر ودعاء بين رمي الجمار.

    وأما اليومان بعده فهذه هي الأيام المعلومات التي قال الله فيها: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ[الحج:28] فهي أيام الأضاحي والهدي، تذبح الأضحية والهدي في يوم العيد بأول النهار وآخره ثم في اليوم الذي يليه ثم في اليوم الثالث، وقد اختلف في آخر اليوم الثاني وأول اليوم الثالث أيهما أفضل، وعموماً هذه الأيام الثلاثة هي أيام أداء الأضحية والهدي.

    فرصة نعمة العيد للتذكر والمراجعة

    وتذكر الإنسان لنعمة الله سبحانه وتعالى يقتضي أن يتذكر حاله فيتذكر من ملابسه أكفانه، ويتذكر بلقائه لأحبابه الفرقة التي ليس بعدها لقاء -بالموت-، ويتذكر بخروجه من بيته إلى المصلى الصحراوي خروجه منه محمولاً على الرقاب إلى الدار الآخرة، فيشكر نعمة الله ويذكره ما دام قد أذن له بذلك، وهذا هو الهدي النبوي في الأعياد.

    ويسن فيه التزاور بين المسلمين لإدخال السرور عليهم، ويتأكد فيها زيارة العلماء والصالحين وعيادة المرضى؛ فكل ذلك مما يثبت الإنسان على تقوى الله، وقد قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[الكهف:28].

    وهي فرصة لصلة الأرحام والتجاوز عمن أخطأ عليك في أي حق من الحقوق؛ ليتجاوز الله عنك، وكذلك هي فرصة لمراجعة النفس؛ فأنت أنعم الله عليك بأن عدت إلى العيد، وكثير من الذين شهدوا معك العيد في العام الماضي ما عاد عليهم هذا العيد إلا وهم بين الجنادل والتراب، قد قدموا إلى ما قدموا، وَبَدَا لَهمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47]، فلا بد أن تستحضر هذه النعمة وأن تستذكرها، وأن تعلم أنك قد أتيحت لك فرصة للتوبة والإحسان، وقد لا تتكرر هذه الفرصة؛ فلا بد من استغلالها، وقد قال الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله: "إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره". وقد قال العلامة محمد عالي رحمة الله عليه:

    بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير محمود من الزمن

    يستدرك المرء فيه كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن

    فيحاول الإنسان أن يمحو ما فرط فيه بجنب الله من السيئات، وهي كثيرة لا محالة، ويحاول تدارك ما مضى في هذه الأيام فهي فرصة، وبالأخص أن كثيراً من الذين يستغلون العيد على غير وجهه ويخالفون الهدي النبوي، يقبلون على المعاصي والشهوات كالبهائم بشغف ونهم، ويتركون الطاعات ويقصرون فيها كأنما أطلق سراحهم من سجن، وكأنما فتحت لهم أبواب المعاصي فيدخلونها ويبالغون ويسرفون ويبذرون، وهي أمور غير محمودة، فإذا اشتغل بها أصحابها، فعلى أهل الله أن يشتغلوا بالله جل جلاله والإقبال عليه عندما يغفل عنه الغافلون وعندما يعرض عنه المعرضون؛ فالله فتح لنا أبوابه، فمنا من يولي هذه الأبواب ظهره ويدبر عن الله جل جلاله، ومنا من يقبل على الله فيهديه سبل السلام ويدله على الله جل جلاله؛ فكل ذلك مما ينبغي أن يستحضره الإنسان في هذه الأيام.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لكل خير، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه.

    وصل اللهم على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    765176254