إسلام ويب

المسارعة إلى الخيرللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • المتقون يسارعون في مرضاة الله، ويسابقون في طاعته لينالوا مغفرته وجنته، فمآل المسارعين إلى الطاعات مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار.

    1.   

    المصاحف التي كتبها عثمان

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله تعالى أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] وما بعدها من الآيات بعد غزوة أحد؛ فكانت تثبيتاً للمؤمنين، وتسلية لهم عما أصابهم من القرح، ووعداً لهم بما ينتظرهم من الفتح، وبياناً لحكم ما يحصل من قدر الله سبحانه وتعالى، وما يصيب المؤمنين من السراء والضراء، وكانت تقويماً لهذه المعركة بعد حصولها، ولو جاء التقويم سابقاً على الأوامر والنواهي لكان ذلك إرجاعاً إلى المعايير المادية الدنيوية؛ فلذلك افتتح التقويم بأمره سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين بالمسارعة إلى جنات النعيم؛ فقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]، والواو في هذه الآية هي في المصحف الكوفي والمكي، وأنتم تعلمون أن المصاحف التي كتبها عثمان رضي الله عنه، وأجمع عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ستة مصاحف، مصحف استأثر به عثمان لنفسه، ومصحف أخرجه لأهل المدينة، ومصحف أرسله إلى أهل مكة، ومصحف أرسله إلى أهل البصرة، ومصحف أرسله إلى أهل الكوفة، ومصحف أرسله إلى أهل الشام.

    وهذه المصاحف الستة على أساسها كانت قراءات القرآن، وكل واحد منها يسمى "الإمام" أي: المصحف المتبوع الذي لا تحل مخالفته في الرسم، وكل قراءة خالفت رسمهاً جميعاً؛ فهي شاذة، وكل قراءة وافقت رسم واحد منها، وكانت صحيحة النقل بالتواتر، ووافقت وجهاً من الوجوه العربية في النحو أو الصرف؛ فهي قراءة متواترة.

    والمصحف الكوفي والمكي جاء فيهما زوائد في الواوات، لا تغير حكماً، وهي مما نزل به جبريل من عند الله تعالى في العرضات التي عرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك هذه الواو في قوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]، والواو التي في سورة المائدة في قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ[المائدة:53]، والواو التي في سورة التوبة في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ[التوبة:107]، ومثلها الفاء التي في سورة الشورى في قول الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ[الشورى:30]، وكذلك إبدال الفاء واواً في سورة الشمس في قول الله تعالى: وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا[الشمس:15] بالإضافة إلى زيادة الضمير "هو" في قول الله تعالى: هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[الحديد:24] في سورة الحديد؛ فهذه إذاً زوائد لا تغير المعنى، وهي مكملة لمعنى الآية بدونها؛ فالمعنى واحد على الإثبات وعلى الحذف.

    1.   

    المسارعة إلى رضوان الله وما تتطلبه

    وذلك حض من الله سبحانه وتعالى إلى المبادرة إلى مغفرته ورضوانه وجناته؛ فقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]، فهذا أمر للمؤمنين بالمسارعة إلى رضوان الله سبحانه وتعالى ومغفرته وجناته، وإنما تكون المسارعة إلى ذلك بالتضحية والبذل في سبيل الله، وهو يرمز إلى أن الذين استشهدوا في سبيل الله قد تعجلوا إلى مرضات الله ومغفرته؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يغفر للشهيد عند أول قطرة من دمه، ويزوج بسبعين من الحور العين )؛ فأولئك الذين استشهدوا يوم أحد قد صدقوا الله ما عاهدوه عليه؛ فلذلك سارعوا إلى مغفرته ورضوانه وجناته؛ ولهذا أنزل الله فيهم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ[آل عمران:169-171]. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ( ذهب إلى أهل أحد قبل موته بثمانية أيام، فصلى عليهم، وقال: إني شهيد على هؤلاء بأن صدقوا الله ما عاهدوه عليه ). ‏

    المسارعة بطلب الشهادة في سبيل الله والبذل في سبيله

    وهذا حض لعموم المؤمنين على المسارعة إلى رضوان الله، سواءً كان ذلك بطلب الشهادة في سبيله، أو بالبذل في سبيله، وسواءً كان ذلك البذل بدنياً؛ فالمسارعة إلى رضوان الله ومغفرته بعمل الأبدان، منها الذكر، ومنها قراءة القرآن، ومنها الصلاة والصوم والحج، وغير ذلك من الطاعات البدنية.

    والمسارعة إلى رضوانه بالمال، منها الزكاة والصدقة. والمسارعة إلى رضوانه بما يتعلق بالنفس، منها كظم الغيض والعفو عن الناس، فكل ذلك من الأعمال التي يبتغى بها وجه الله. والإنسان إذا أخلص فيها، وتقرب بها إلى الله تعالى فإن الله يتقبلها منه إذا كان من المتقين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ).

    وكذلك هذا يدل على أن المتقرب إلى الله بأية طاعة؛ إذا كان مخلصاً لله، ووافق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، فإن الله سبحانه وتعالى يقربه، ويرفع قدره ومنزلته؛ وبذلك يكون قد سارع إلى الطاعات؛ لأن الذي قرب قد طويت له المسافات، واختصرت له الأبعاد البعيدة؛ ولذلك فإن أهل الدنيا في انشغالاتهم وأمورهم إذا غفلوا عن الله تعالى فذلك إقصاء لهم، وحجب لهم عن حضرة القدس، وإذا أقبلوا على الله سبحانه وتعالى، وتخلصوا من الشواغل التي تشغلهم عن طاعته، وتنزهوا عن معصيته؛ فإن ذلك أيضاً تقريب لهم إلى حضرة القدس، وبهذا تصح محاكاة الإنسان للملائكة؛ فالملائكة عباد مكرمون؛ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، لا يشغلهم أكل ولا شرب ولا نوم ولا تشه، ولا انشغال بأمور الدنيا عن عبادة الله وطاعته. والإنسان مكلف مثلهم، وهو ينافسهم في التقرب إلى الله تعالى؛ فإذا كان الحال كذلك، وهو يعلم أنه يشغل في كثير من أوقاته في أمور هي ضرورية لحياته، ولا يستطيع الخلاص منها، كما يجب عليه من سد الرمق بالمأكل والمشرب، وكما يجب عليه لراحة بدنه من السبات والنوم ونحو ذلك، فإذا عرف ذلك فعليه على الأقل أن يحسن في الساعات التي يقبل فيها على الله، ومنها وقت الصلاة؛ فإن الإنسان عند إحرامه يتخلص من الدنيا فينبذها وراء ظهره بيديه، ويعلن تكبير الله تعالى؛ ليقتضي ذلك منه الانشغال بالإقبال على الله ومناجاته عن كل ما دون ذلك.

    ومن هنا فإن الفاتحة - وهي مقدمة الصلاة - تضمنت التفاتاً بلاغياً عجيباً؛ فأولها خطاب بصيغة الاسم الظاهر الذي مقتضاه البعد، ثم بعد ذلك جاء الالتفات إلى الضمير الذي مقتضاه القرب؛ فقال الله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:2-4]، ثم بعد هذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، فالاسم الظاهر مقامه الغيبة؛ فإذا قلت: جاء فلان، وقال فلان كذا؛ ارتسم في الذهن أنه غائب عن المجلس، أما إذا قلت: أنت كذا، وجلست وأتيت؛ فمن المعلوم أنه حاضر، والله تعالى شاهد لا يغيب، لكن الإنسان يغيب عن الحضرة ويحضر؛ فحضوره هو إقباله على الله، وغيبته هو انقطاعه عن حضور المناجاة، واستشعار الأدب معه سبحانه وتعالى؛ فمن هنا قال: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2]؛ فتهيأت النفس بحمد الله تعالى للثناء عليه؛ فقال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:3]، فتهيأت النفس بعد الثناء عليه بما هو أهله كذلك بإخلاص الملك له؛ فقال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4]، وبعد ذلك هذه الصفات التي وصلت إلى القيامة، وخرجت من الدنيا تخلص الإنسان من عبودية الدنيا ورقها فوصل إلى مقام المناجاة المباشرة؛ فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، ولهذا قال السيوطي رحمه الله في ألفية البلاغة:

    فالعبد إذ يحمد من يحق له ثم يجيء بالسمة المبجلة

    فكلها محرك الإقبال لمالك الأمور في المآل

    فيوجب الإقبال والخطاب بغاية الخضوع والتطلاب

    للعون في كل مهم يقصد وقس عليه كل ما قد يرد

    فهذا النوع هو أبلغ الالتفات؛ ولهذا فإن قرب الإنسان وبعده صفة من صفات الإنسان، وليست صفة من صفات الله سبحانه وتعالى؛ فالله تعالى حاضر لا يغيب؛ وهو الشاهد الذي لا تخفي عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، يعلم السر وأخفى، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؛ يقول تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ[الواقعة:85]؛ فلذلك لا يمكن أن يشغله شأن عن شأن، وإنما يشتغل الإنسان عنه فيحجب بقدر انشغاله، ويخلص له فيقرب بقدر خلوصه لله تعالى.

    منافسة الآخرين في المسارعة إلى رضوان الله

    ولهذا فإن المسارعة إلى رضوان الله تقتضي منافسة الآخرين في ذلك، وأول من ينبغي أن ينافسه الإنسان أهل عصره والمساوون له؛ فينبغي له أن يحاول التبريز عليهم، وأن يكون من الذين يسبقون إلى رضوان الله؛ فإن موسى بن عمران عليه السلام، وقد اصطفاه الله برسالاته وبكلامه، واجتباه بأن اتخذه كليماً من خلقه لما واعده الله تعالى ثلاثين ليلة ليعطيه التوراة، وقد كتبها له بيمينه في الألواح، اختار سبعين رجلاً من قومه ليشهدوا عليها، وهم عدول بني إسرائيل وخيرتهم، فلما استبطأ موسى سيرهم، وكان موسى أقوى منهم عجل فزاده الله تعالى في المدة عشرة أيام زيادة على ذلك، قال سبحانه: فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً[الأعراف:142]، حتى حضر أولئك القوم. ولما أتاه لامه على العجلة فقال: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه:83-84].

    ولهذا فإن على المؤمن أن ينافس أهل زمانه؛ فإذا رأى فيهم إقبالاً على الله سبحانه وتعالى حرص ألا يكون في الكيول وفي مؤخرة الركب، وعلى أن يكون من المقدمين في ذلك الزمان الذي هو فيه، فهم شهود الله تعالى وشهداؤه على العصر الذي هم فيه، ولا يتم ذلك إلا بالإيمان والعلم والعمل والصبر، وهذه هي مقامات اليقين التي ينافس فيها الإنسان الآخرين في التقرب إلى الله تعالى؛ فما لم يتعلم الإنسان مراد الله من عباده لا يمكن أن يتقرب إليه، وإذا تعلم مراد الله من عباده لا بد أن يبادر للعمل به؛ لأن الحجة قد قامت عليه بما تعلم من العلم، ثم بعد ذلك إذا تعلم مراد الله وعمل به في خاصة نفسه؛ فمن مراد الله أن يدعو إلى ما تعلمه وعمل به، وإذا لم يفعل كان غاشاً خائناً لعباد الله.

    ثم بعد ذلك لا بد أن يصبر على طريق الحق الذي عرفه وعمل به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( عرفت؛ فالزم )، وهذا يقتضي من الإنسان الاستقامة على سلوك طريق الحق، وقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ[هود:112]، وهذا يقتضي لزوم طريق الحق والاستقامة عليه حتى يلقى الله تعالى، وبذلك يذوق الإنسان طعم المجاهدة؛ لأن النفس متنقلة بطبعها؛ لأنها خلقت على أطوار، وقد تنقلت في أطباق، كما قال الله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ[الانشقاق:19]، ويمر بها الغنى والفقر، والصحة والمرض، والفراغ والانشغال، وقوة اللذة وضعفها، وقوة الداعية إلى الطاعة وضعفها كذلك، والإقبال والإدبار، والشرة والكسل، كل ذلك من العوارض التي تعتري النفوس، وإذا كان الحال كذلك؛ فإن الإنسان يحتاج إلى مجاهدتها وأطرها على الحق.

    المجاهدة للوصول للخشوع في الصلاة

    ومن هنا ذكرت لكم فيما مضى أن الإنسان يذوق طعم المجاهدة في محاولته لأن يكون من الخاشعين، فإنه إذا أراد أن يكون من الخاشعين في الصلاة؛ فلا يتوفر له ذلك إلا بالمجاهدة في مقامات متنوعة متعددة؛ يجاهد نفسه أولاً على ترك الملهيات والمشغلات، ومن هنا يترك التثاؤب بالكلية؛ فأول مقامات الخشوع في الصلاة ألا يتثاءب الإنسان في صلاته، فإذا كان لا يمكن أن يتثاءب في الصلاة، لا فرضاً ولا نفلاً؛ فقد وصل إلى المقام الأول من مقامات الخشوع؛ لأن التثاؤب لا يكون إلا من الشيطان، وقد صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثم بعد هذا أيضاً منع نفسه من الالتفات في الصلاة مطلقاً، سواءً كان ذلك الالتفات عينياً أو قلبياً؛ فالالتفات قسمان: التفات بالعين، ومنه النظر إلى خياطة ثيابه أو ألوان حصيره وفراشه، أو النظر إلى مكان سجوده، أو غير ذلك؛ فهذا هو من النظر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإني نظرت إلى علمها فكاد يفتنني عن صلاتي )، فلذلك هذا مقام من مقامات الخاشعين، يقطع فيه الإنسان نفسه عن الالتفات والنظر؛ لأنه مشغول بالنظر إلى الله، ( ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه، وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت! أنا خير مما التفت إليه ).

    وكذلك التفات القلب؛ فهو أيضاً التفات آخر وانشغال، والإنسان إنما يلتفت قلبه إلى ما يهمه ويفكر فيه؛ ولذلك يتذكر القصص التي أثرت في حياته، أو الكلام الذي أعجبه، أو غير ذلك من الأمور، وكل هذا من لمة الشيطان فإنه يأتيه فيركب رأسه فلا يزال يقول: اذكر يوم كذا.. اذكر ليلة كذا.. اذكر فعل كذا، حتى يلهيه عن صلاته بتلك الأمور التي لا يمكن أن يصلحها لأنه منشغل بالصلاة، ولا يمكن أن يصلح الصلاة مع انشغاله بتلك الأمور.

    ولهذا يحتاج الإنسان إلى التخلص من هذا الالتفات القلبي، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ( سئل عن الالتفات فقال: اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم )، اختلاس أي: سرقة، ولذلك فحظ الشيطان من الصلاة أمران، أحدهما غصب، والآخر اختلاس، فالاختلاس يقع بالالتفات، والغصب يقع بتخفيف الصلاة والاختصار فيها، فالذين ينقرون الصلاة نقراً، ويبادرون فيها مبادرة تخل بها، لا يقيمون ركوعها ولا أركانها ولا خشوعها ولا قراءتها ولا تسبيحها ولا تشهدها، هؤلاء قد اغتصبها الشيطان منهم فاقتلعها منهم بالقوة، وكثير منهم يزعمون أنهم ينافسون الشيطان في صلاتهم، وأنهم يريدون التعجيل بها عن الشيطان حتى لا يشغلهم، والواقع أنه قد اغتصبها منهم بكاملها، فحظه إما أن يناله بالاغتصاب والقهر وإما أن يناله بالسرقة والاختلاس.

    ثم بعد هذا يأتي مقام آخر، وهو مقام استشعار الخوف بمخاطبة ذي الجلال والإكرام؛ فأنت تخاطبه بالثناء عليه بما هو أهله، وتخاطبه كذلك بحوائجك فترفعها بين يديه، وهذا مقتض منك لكثير من الأدب معه، وهو الذي يقتضي قشعريرة الجسد، ويقتضي فيضان العين، ويقتضي الارتجاف في الأعضاء، وكل ذلك من مظاهر الخشوع في مقامه الثالث، وهو أعلى مقامات الخشوع، وهذا المقام لا يناله الإنسان إلا بمجاهدة شاقة؛ فالنفس لا بد من حصرها، فيحصرها الإنسان كأنه يحصرها في مبنى قائم، كأنما يحصرها في هذا المسجد، فهي تريد الخروج من الباب؛ فإن وجدته مغلقاً ذهبت إلى النافذة، فإن وجدت النافذة مغلقة دارت وهي تريد الخروج؛ فيحاول إمساكها وردها حتى تستقيم، وسيكون ذلك شاقاً في بداية أمره ثم يسهل عليه فيما بعد، ويكون لا شعورياً لديه.

    ولذلك فهذا الذي كنا نذكره من الخشوع في الصلاة نظيره الخشوع في الدرس؛ فالإنسان يحضر فيسمع بعض الكلام ويغيب عنه بعض؛ فبعض ما يقال قد يكون غائباً عنه، ويكون أفيد له أو سمعه مما حضره بقلبه؛ ولهذا نحتاج في الدرس إلى بعض المنبهات مثل الالتفاتة والنظر، ومثل رفع نبرة الصوت وخفضها، وغير ذلك من الأساليب التي هي مشوقة ترد الناس إلى الدرس؛ لأن هذا من باب المجاهدة.

    ومثل ذلك في الذكر؛ فذكر الإنسان لربه إذا اشتغل بعده فقط، مثلاً أخذ السبحة، أو بالأصابع فجعل يعد فانشغل بالعد، فإنه لا يكتب له من الذكر إلا ذكر اللسان فقط، أما القلب فهو غافل؛ لأنه يتعلق بالعد فقط؛ ولهذا يحتاج إلى رد نفسه إلى معنى الذكر، ما معنى: سبحان الله وأنت تقولها؟ ما معنى: الله أكبر وأنت تقولها؟ وأنت تعلم أن العبد إذا تلفظ بها ملأت ما بين السماء والأرض، وأن: ( سبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، وأن: ( سبحان الله تملأ الميزان )، وهذه أمور عظيمة جداً، كبيرة جداً. فهناك حسنة واحدة تساوي السماوات والأرض، وحسنات الإنسان التي هي من هذا القبيل يضاعفها الله سبحانه وتعالى حتى لا يخطر على باله عدد مضاعفتها؛ ولذلك فإن كفة الميزان يوم القيامة هي أكبر من السماوات والأرضين، ولهذا قال: ( يا ابن آدم! لو أتيتني وقد بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لغفرت لك ولا أبالي )، وعنان السماء هو المطر، وذنوب البشر كثيراً ما تبلغ عنان السماء فتحول دون المطر؛ فما يقع من احتباس المطر، واحتباس الخيرات عن الأرض، ما سببه إلا ذنوب البشر، فهي مظلات تحبس عنهم المطر والخير.

    والغريب في الأمر أن كثيراً من الناس لا يستشعر هذا! فذنوبه تعطل حسناته عن أن تصل إلى الله تعالى، لا ترفع إلى ربه بسبب شحناء بينه وبين قريب له أو بعيد عنه، أو بسبب تباغض بينه وبين جاره؛ فيقال: ( أرجوا هذين حتى يفيئا )، وفي رواية: ( أرجئوا هذين حتى يصطلحا )؛ فترجأ أعماله فلا ترفع إلى الله يوم الإثنين ويوم الخميس، وفيهما ترفع الأعمال إلى الله تعالى، نسأل الله أن يتقبل أعمالنا، وأن يبارك لنا فيها.

    فالذي لا يشعر بخطر سيئاته لا يمكن أن يصل إلى مقام المسارعة إلى الطاعات؛ لأن السيئات تكبله وتقيده؛ فهو يسير مع الذين ينطلقون انطلاق السهم في الهواء وهو مكبل لا يستطيع الحرجة، فما ظنكم في منافسة هذا؟! فأصحاب الذنوب مكبلون بكبل الذنوب، لا يستطيعون أن يقدموا رجلاً ولا أن يؤخروها، وأصحاب الطاعة المقبلون على الله تعالى ينطلقون كما تنطلق السهام.. أو كما ينطلق الرصاص في الهواء الطلق، لا يحجزهم شيء، فالفرق شاسع بين هؤلاء في سيرهم؛ ولذلك قال أحد السلف:

    لا تعرضن لذكرهم مع ذكرنا ليس السريع إذا مشى كالأعرج

    التخلي عن المعصية من آثار المسارعة إلى الطاعات

    فيحتاج الإنسان إذاً إلى أن يتخلى أولاً عن المعاصي بالكلية، وأن يعلم أن أبلغ طرد له عن باب الملك الديان هو أن يرتضيه الله تعالى للفساد في الأرض، وأن يرتضيه لأن يكون من أهل الذنوب؛ ولهذا قال ابن الجوزي رحمه الله: إن أعظم عقوبة يعاقب الله بها العبد أن يستعمله في المعصية، وأعظم منها طرده عن بابه، وأعظم من ذلك ألا يشعر به فأعظم العقوبة هو أن يستغله في المعصية، أن يوفر له كثيراً من الطاقات، يعمره عمراً طويلاً، يرزقه سمعاً وبصراً وعقلاً وجوارح، لكن يكتب الله عليها ألا تستغل إلا في المعصية، نسأل الله السلامة والعافية!

    ولهذا فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشرهم من طال عمره وساء عمله )، فالذي يطول عمره ويسوء عمله هو من أنعم الله عليه بنعم كثيرة فاستغلها في المعصية، نسأل الله السلامة والعافية!

    ثم شر من هذا وأعظم منه طرداً الذي يحجب عن باب الملك الديان؛ فلا يتوب، ولا يستغفر أبداً، ولا يستقيل عثرته، فهو مشغول في المعصية، ومع ذلك لا يحس أن ما هو فيه شر، بل يظن أنه من خير الناس، وأنه من أفضل الناس، ولا يستشعر أنه قد طرده الله ورماه في الحضيض الأسفل حين شغل بالمعصية ولم يكن له شغل بالطاعة، وشر منه الذي لا يستشعر هذا الطرد؛ فلا يحس أنه مطرود أصلاً.

    ولهذا فإن من أعظم ما شاهدته اليوم من آثار العلمانية، أن كثيراً من الذين يبتلون بتذوقها، والاشتغال بها مشغولون عن الله سبحانه وتعالى وعن طاعته، ومع ذلك يظنون أنهم على الطريق الأمثل، وأنهم أهل الاستقامة وأهل الخير، وأنهم في المقام الأعلى، ويعدون أنفسهم نخباً على المجتمعات، فهم يسمون أنفسهم بالنخبة، وهذه النخبة التي ليس لها شغل إلا معصية الله في الأرض! هل هي نخبة؟! لا يمكن أن يكون ذلك، من لا يشتغل إلا في معصية الله لا يمكن أن يكون منتخباً ولا منقىً ولا مصفى، فنخبة الخلق هم الرسل الذين عصمهم الله تعالى واختارهم لطاعته، وبعدهم أولياء الله الذين حفظهم الله من الوقوع في المعصية، أو من الاستمرار عليها، وبعدهم الذين وفقهم الله للتوبة من عصاة المؤمنين، فلذلك لا يمكن أن يكون من هو مشتغل بالمعصية ليله ونهاره من النخبة.

    لذلك فإن المسارعة إلى الخير تقتضي أمرين، أحدهما نفسي، وهو ما ذكرناه من التخلي والتحلي في خاصة نفس الإنسان، أي: أن يحرص على التخلي عن معصية الله وعن آثارها، ويحرص كذلك على التحلي بطاعة الله تعالى، وهو بذلك يلتمس آثار الطاعة؛ فالمعصية آثارها يدركها الإنسان إدراكاً جلياً بمجرد الوقوع فيها مالم يبادر إلى التوبة؛ فسيجد ظلمة في الوجه، واسوداداً في القلب، وبغضاً في الناس؛ كما قال ابن عباس ، وهذه آثار واضحة للمعصية، فصاحب المعصية ذليل، وهو مكروه لدى الناس، وفي وجهه ظلمة وانطماس، وفي قلبه كذلك ظلمة، لا يستطيع أن يتدبر القرآن، ولو تدبره لما فهمه؛ قال سبحانه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[الأنفال:22-23]، نسأل الله السلامة والعافية!

    والطاعة آثارها على عكس هذه، لكن الإنسان يلتمسها لأنه لا يوقن بقبول طاعته؛ فهو يعمل الطاعة، وقلبه مشفق كل الإشفاق أن يردها الله عليه وألا يتقبلها منه، يأتي إلى الدرس من مكان بعيد، ويتكلف، ويعطل أعماله وهو يعلم أن هذه طاعة لله سبحانه وتعالى، لكنه يخاف ألا يتقبلها الله منه؛ فهو مشفق غاية الإشفاق؛ ( ولهذا سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[المؤمنون:60]، قالت: أهو يكذب ويسرق وهو يخاف الله؟ قال: لا، بل هو الذي يصلي ويصوم ويخاف الله، يخاف ألا يتقبل الله منه )، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:60-61]، فهؤلاء هم المسارعون في الخيرات، وهم السابقون فيها.

    وهناك مقامان لا بد من استحضارهما في المسارعة:

    أحدهما: ما يتعلق بالنفس لقصد السبق، والثاني: مسابقة الآخرين، فهما أمران لا بد منهما، وقد انتظمتهما آية (المؤمنون)، وهي قوله تعالى: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:61]، يسارعون في الخيرات من عند أنفسهم، وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:61] أي: يسابقون الآخرين؛ فيسبقونهم إليها. ولذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه كان من هؤلاء المسارعين السابقين إلى الخيرات؛ فقد قال عمر بن الخطاب : (سابقت أبا بكر ثلاثاً فسبقني، فأقسمت ألا أسابقه بعد) فـعمر بن الخطاب سابق أبا بكر في الإنفاق؛ فجاء بنصف ماله حتى إنه ليأتي بإحدى النعلين ويترك الأخرى، قاسم الله ماله، فجاء بشطر ماله صدقة في سبيل الله لتجهيز جيش المسلمين، فجاء أبو بكر بماله كله؛ فوجده قد سبقه؛ فلذلك أقسم عمر ألا يسابقه؛ لأنه عرف أن الفضل لأهله.

    مشروعية المسابقة في الخير

    ولذلك فإن المسابقة في حد ذاتها مشروعة، وقد قال الله تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[الحديد:21]، وقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة:148]، وقال تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]، وهذا التنافس مشروع، وقد لا يطلع الله عليه الناس في الظاهر، فيكون الإنسان في باطنه يسابق آخرين ولو لم يكونوا من أهل زمانه.

    مثلاً: رجل قرأ سير السابقين فأراد منافستهم ومسابقتهم؛ ولهذا فإن المهدي وهو الخليفة الثالث من خلفاء بني العباس، فقبله أبو العباس السفاح و المنصور ، و المهدي هو الثالث، قال: قرأت سيرة بني أمية فوجدت فيهم عمر بن عبد العزيز ، فغارت نفسي ألا يكون في آل محمد صلى الله عليه وسلم مثله، فقرأ سيرة عمر بن عبد العزيز وأراد منافسته حذو النعل بالنعل، وحرص على أن ينافس عمر بن عبد العزيز ، وانظروا إلى الهمة العالية! لم يحرص على منافسة معاصريه ولا على منافسة أبيه وأخيه، وإنما حرص على منافسة عمر بن عبد العزيز .

    ولهذا فإن مما يرفع همم الشباب أن يتذكروا أفذاذ هذه الأمة، والسابقين فيها، والذين صنعوا تاريخها، فيحرص كل فرد منهم على أن يسد لهذه الأمة مسد فرد من أولئك؛ فرجال هذه الأمة، والمضحون في سبيل الله، والباذلون لأنفسهم وأموالهم وأوقاتهم في سبيل الله، كل يوم يتعجلون إلى الدار الآخرة، كل يوم يقتلون، وقد سمعتم اليوم عدد القتلى الذين قتلوا في الفلوجة، والذين قتلوا في الرمادي وغيرها؛ فأولئك كان بالإمكان أن يهربوا، وأن يختفوا كما اختفى كثير ممن سواهم، ولكنهم أرادوا المنافسة والمسارعة فتقدموا تحت ضرب إف ستة عشر، وإف خمسة عشر، وغيرها، ولم يشغلهم تنافس أهل الدنيا فيها، وتقرب الناس إلى أمريكا، وطلبهم لما لديها من حطام الدنيا عن أن يتقربوا إلى الملك الديان الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله.

    فلذلك لا شك أن هذه الأمة تحتاج إلى رجال، وتحتاج إلى مضحين، ولا يتم ذلك إلا بمنافسة السابقين الذين سبقوا وتقدموا إلى الله تعالى؛ ولهذا فإن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم ذهبت إلى لدة لي من الأنصار-واللدة: المعاصر، أي: الذي ولد معه في وقت واحد فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبضه الله إليه، وإن علمه في أصحابه؛ فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلنا نسد لأمته يوماً مسداً تحتاج إليه، فقال: دعنا نلعب، ومتى يحتاج إلينا؟! قال: فذهبت وتركته ) ذهب ابن عباس وتركه لأنه يفكر تفكيراً كبيراً.

    وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام.

    فلهذا كان ابن عباس رضي الله عنه من ذوي الهمم العالية ولم يفكر فيما يفكر فيه لداته وقرناؤه من اللعب؛ ولهذا قال فيه الشاعر:

    بلغت لعشر مضت من سنيك كما يبلغ السيد الأشيب

    فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا

    وقد وصفت الخنساء بنت عمرو بن الشريد رضي الله عنها أخاها صخراً بقولها:

    أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لـصخر الندى

    ألا تبكيان الحميد النبيل ألا تبكيان الفتى السيدا

    رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا

    إذا القوم مدوا بأيديهم إلى المجد مد إليه يدا

    فنال الذي فوق أيديهم من المجد ثم غدى مصعدا

    يكلفه القوم ما عالهم وإن كان أصغرهم مولدا

    وإن ذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدى

    ولذلك فهذه المسابقة إيجابية في حياة الإنسان، ومقتضية منه لأن يحرص على أن يكون من السابقين، وألا يرضى بالتأخر؛ ولذلك بايع عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا دجانة ، ومنزلة أبي دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة عظيمة؛ فقد كان يوزن بألف رجل، وقد أخرج يوم أحد عصابة الموت لما رأى نفراً من بني عمه أثر فيهم المنافقون فرجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في وجه العدو، ( أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فعقدها على وجهه، وخرج يتبختر بين الصفين، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لمشية يبغضها الله في غير هذا الموطن )، فتقدم وهو يقول:

    أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل

    ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول

    ضرب غلام ماجد بهلولي

    وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم في ذكره لأهل مؤتة ذكر تقدم زيد بن حارثة و جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما لما بذلا من التضحية ولحوق ابن رواحة بهما؛ فـزيد بن حارثة رضي الله عنه هو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما عقد له ذلك اللواء عرف أنه أمانة عظيمة، فتقدم بالحق الذي عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء عليه، ولما ذكر له بعض أصحابه أن جيش المشركين أضعاف جيش المسلمين، وأنهم لا يستطيعون مواجهتهم بعددهم ولا بعدتهم لم يبال بذلك وقال: أما أنا فمنطلق، فمن أراد الجنة فليلحق بي وتقدم بلوائه. ثم لما قتل أخذ جعفر بن أبي طالب اللواء فتقدم فقطعت يمينه، فأخذه بشماله، فتقدم فقطعت شماله، ثم أمسكه بذقنه حتى قتل شهيداً في سبيل الله.

    ولهذا فإن التضحيات الجسيمة التي قام بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوها هي في الواقع تاريخ هذه الأمة وهي ما يمكن أن تفخر به هذه الأمة، وتقدمه نموذجاً للأمم، فالذي لا تستطيع الأمم أن تفاخر بمثله، ولا أن تقدم له نموذجاً إنما هو تلك التضحيات الجسام التي بذلها سلف هذه الأمة الصالح، في الحديث: ( يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم ).

    إن أولئك الذين بذلوا هذه التضحيات الكبيرة قد سارعوا إلى مغفرة الله تعالى فسبقوا، وصعب أن يلحق بهم من سواهم كما قال عمر رضي الله عنه لـأبي بكر : (أتعبت من يأتي بعدك) فـأبو بكر رضي الله عنه همته لا يمثلها إلا حديث واحد ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب الجنة الثمانية، وأنها هي أعمال البر والطاعة؛ ففيها: ( باب الصلاة، وباب الصدقة وباب اسمه "الريان" لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد؛ فقال أبو بكر : يا رسول الله! ما على من دعي من جميعها من بأس؟.. )، أي: هل يمكن أن يدعى أحد من جميع أبوابها؟ ( قال: نعم، وإني لأرجو أن تكون منهم ). لم يرض أبو بكر أن يكون من الذين يدعون من باب واحد من أبواب الجنة، ولا من اثنين ولا من ثلاثة، ولا من أربعة حتى يدعى من جميع أبوابها الثمانية، فهو يريد المشاركة في كل أوجه البر وفي كل طاعة؛ ليتقرب بها إلى الله حتى يكون فعلاً يستحق السبق على من سواه.

    وهذه المسارعة التي أمر الله بها لا تعدو عاملاً زمنياً؛ لأن الإنسان يعلم أن مدة بقائه في الدنيا - وهي مدة تكليفه - محصورة يسيرة، ما عساك أن تعيش في هذه الحياة الدنيا؟! هل تؤمل ما يؤمله اليهود عليهم لعائن الله؛ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ[البقرة:96]، فأنت لا تريد ذلك ولا تحبه، ولا يحب أحد أن يصل إلى أرذل العمر فيكون فاقداً للعقل والجوارح لا يستطيع حركة، يقلب ويحمل يميناً وشمالاً، إنما يحب ذلك اليهود وحدهم من الخلائق؛ لأنهم فطروا على محبة الحياة، ولو كانت حياة الذلة والمسكنة فهم يرضون بذلك؛ قال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ[البقرة:96].

    فلذلك ليعلم الإنسان أن مدة عمره يسيرة محدودة، وبالأخص إذا كان قد خاض تجارب في هذه الدنيا وسافر ولقي الناس، أو مر به سنوات وسنوات، أو تغير لون شعره فخالطه بياض بعد سواد، أو انتقل بياضاً بالكلية.

    يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائم ألواناً

    سوداء حالكة وسحق مفوف وأجد ثوباً بعد ذاك هجانا

    والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا

    فإذا أدرك الإنسان هذا، وأدرك أنه منتقل لا محالة من هذه الدار، وأن الموتة التي كتب الله عليه واحدة، وستتحقق لا محالة رضي أم كره، تسبب فيها أو لم يتسبب لا بد أن يموت.

    لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيب

    هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب

    الحرص على المسارعة قبل فوات الأوان

    فالموت لا بد آت؛ فإذا عرف الإنسان ذلك أدرك قيمة الزمن، وسارع إلى الطاعة قبل أن يفوت الأوان، والمغرور الذي يغره الشيطان، ويغتر هو بنفسه، هو الذي يسوف ويطيل الأمل، ويقول: أنا الآن شاب؛ فدعني أتمتع من هذه الحياة فإذا تقدم بي العمر فحينئذ أتوب وأنيب، وما يدريك لعلك لا يتقدم بك العمر؛ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ[الأعراف:185]، ألست ترى كل يوم وفداً ينتقل إلى الدار الآخرة، منهم من هو أسن منك، ومنهم من هو دونك، ومن هو معاصر لك، ترى ذلك وهو حجة قائمة عليك، وكفى بالموت واعظاً.

    ثم بعد هذا لا شك أنك لو قدر أنك عشت عمراً طويلاً فبلغت سبعين سنة أنك ستضعف عن المعصية فعلاً، ولن تكون الدواعي إليها متوفرة لديك، لم تعد الدواعي متوفرة للمعصية بعد أن يبلغ الإنسان سبعين سنة، لكن في نفس الوقت أيضاً ضعفت نفسه عن الطاعة؛ فلم تعد الدواعي متوفرة أيضاً للطاعة، فما تضعف عنه من المعاصي في ذلك العمر في مقابله ما تضعف عنه من الطاعات.

    فلهذا لا بد أن تبادر، البدار.. البدار! لاستغلال شبابك قبل هرمك، ولاستغلال حياتك قبل موتك، ولاستغلال فراغك قبل شغلك، ولاستغلال غناك قبل فقرك، فكلها صفات لا بد أن تأتي، والحال الذي أنت فيه ينظر إلى الحال الذي بعده، فإذا كنت الآن في الشباب فهو ينظر إلى أحد حالين: إما الموت وإما الهرم، وإذا كنت في الصحة فإن حالك ينظر إلى المرض أمامك، وإذا كنت في الغنى فهو ينظر إلى الفقر، وهكذا. وقد قال الشيخ محمد عالي رحمه الله:

    القبض والبسط في الأكوان شيئان على مراد الفتى قد لا يجيئان

    يتتابعان لكل منهما أجل هذا بآن وهذا بعد في آن

    إن يظهر البسط في آن على أحد فآنه المقتفيه مظهر ثان

    والعسر لا يغلب اليسرين منفرداً فالعسر فرد وإن اليسر يسران

    لا تجزعن ولا تفرح لحادثة فإن دارك دار ذات ألوان

    وراع في كل حال ما يناسبها ولا تشح بفان أيها الفاني

    لذلك لا بد أن نحرص جميعاً على استغلال هذه الأوقات التي تمضي، وأن نعلم أن الفرص فيها قد لا تتكرر، فكثير من الناس اليوم لا يستشعر أننا في وقت هو مما قبل الفتح؛ فهذا الدين الآن لم يفتح له في وقتنا، بل أمم الشرك والكفر هي الغالبة على المسلمين، وهي المتحكمة في مصائر الشعوب، وهي الناهبة لخيراتها، وهي التي تتحكم في سياساتها وقوانينها، وهذا لا يناقش فيه جاهل أو مكابر، وإذا كان الحال كذلك فإن وقتنا هذا هو وقت ما قبل الفتح، وهذا الوقت الذي قبل الفتح، الأجر فيه أعظم وأكبر من الأجر فيما لو كان الفتح.

    فلو حصل الفتح فسقطت أمريكا مثلاً كما سقط الاتحاد السوفيتي، وقامت حضارة إسلامية اتحد فيها المسلمون، وظهرت قوتهم، وتآلفت قلوبهم على الحق، وأصبحوا قوة ضاربة لا يمكن أن يقف في وجهها شيء؛ حينئذ سيكون الأجر أقل؛ لأن خيمة الإسلام الآن ساقطة، وإذا رفعت فسيستظل بظلالها أهل الوداعة والراحة، والذين يشاركون في بنائها لا يمكن أن يستووا عند الله مع الذين يجلسون في ظلها بعد أن تقوم؛ ولهذا قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى[الحديد:10].

    فلا بد أن يبادر الإنسان الآن لأن يكون من المشاركين في وقود هذا القطار على الأقل؛ فالقطار جاهز حاصل، وهو هذا الدين وأهله، وهو منطلق لا محالة، يعزه الله بعز عزيز أو بذل ذليل، وأنت بالخيار؛ إن شئت شاركت فكنت من المعزين لله فيعزهم الله، وإن شئت تركت فلا تضر إلا نفسك، وسيعز الله هذا الدين على رغم أنفك؛ ولذلك فالقطار منطلق، وسعد الإنسان وحظه إذا كان وقوداً لهذا القطار ولو لساعة واحدة، يصبر على الموت لحظة واحدة، أو يصبر على الحياة كذلك في سبيل الله لحظة واحدة؛ فيكون وقوداً للقطار المنطلق ولو كان لا يصل معه إلى الفتح، بل يكون يؤدي خدمة في مرحلة من مراحل الطريق؛ فذلك شرف عظيم، والإنسان الذي يموت قبل الفتح ينال أجره كاملاً، والإنسان الذي يفتح على يديه ينقص مقابل ذلك من أجره؛ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من سرية تخرج في سبيل الله فتخفق إلا نالت أجرها كاملاً، وما من سرية تخرج في سبيل الله فتغنم إلا نقص من أجرها ).

    فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان على استغلال الفرص جميعاً، وأن يعلم أن الفرص قد لا تكون كلها في ما يظهر للإنسان خيراً أو موافقة للهوى، بل إن وقتنا هذا هو فرصة للتقرب إلى الله تعالى وللطاعة، كما أتاح الله الفرصة لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما حوصروا بالشعب بمكة، أتيحت الفرصة الآن لقوم يعلنون إعلاء كلمة الله، ويجعلون ذلك مرادهم وحظهم من هذه الحياة الدنيا، لا يتمتعون بشيء من زخارفها، ولا يركنون إلى أهلها، وهم بذلك قد هجروا هذه الدنيا هجراناً شعورياً، واتصلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشعب حين حوصروا فيه؛ فحالهم حال أولئك، تألب عليهم أهل الأرض جميعاً، كما قال ابن رواحة رضي الله عنه يوم أحد:

    والناس إلب علينا فيك ليس لنا إلا السيوف وأطراف القنا وزر

    (والناس ألب علينا فيك) أي: تألبوا علينا فيك، أي: في ذات الله، (ليس لنا إلا السيوف وأطراف القنا وزر) يعني: ليس لنا وزر إلا السيوف وأطراف القنا، التي هي الرماح.

    وإذا أحس الإنسان بهذا الحال فسينال سعادة عجيبة من القرب إلى الله سبحانه وتعالى، والشعور بتقريبه واستغلاله في الطاعة الخاصة، وأنسه بالله سبحانه وتعالى كما أنس به السابقون الذين ذاقوا هذا المقام من مقامات الإيمان.

    مغفرة الله للمسارعين إلى الطاعات

    إن التقرب إلى الله تعالى والمسارعة إلى رضوانه سبب لغفران السيئات، وهذا ما يحرص عليه أهل الإيمان؛ فأهل الإيمان جميعاً يرجون مغفرة الله تعالى ويخافون عقوبته؛ ولهذا إذا حفزت هممهم إنما تحفز بالمغفرة كما هنا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]، والمغفرة هي "مفعلة" من (الغفر) وهو الستر، وهي: ستر الذنب في الدنيا وعدم المؤاخذة به في الآخرة، أي: أن يستر الله ذنب العبد في الدنيا؛ فلا يطلع عليه الناس، وألا يؤاخذه به في الآخرة؛ فلا يجده في صحائفه عندما يقرؤها على رءوس الملأ، يمحو الله منها تلك السيئات، فإذا عرضت عليك صحائفك، وقيل لك: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[الإسراء:14]، ووقفت تقرأ كتابك بأعلى صوتك بين يدي الملك الديان، وبحضرة الأنبياء والملائكة والخلائق جميعاً، فإن الله يسترك بستره الجميل؛ فيمحو تلك السيئات؛ فلا تقرؤها، ولا تراها، ولا تجد لها أثراً؛ وهذه هي المغفرة، وما أحوجنا إليها! ما أحوجنا إلى مغفرة الله؛ لأنها ستر جميل في الدنيا، وستر جميل في الآخرة.

    وهذه المغفرة يكفيها شرفاً أن الله تعالى قال فيها: مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]، فجعل ابتداءها من الله تعالى؛ فهذه المغفرة ابتداؤها من الله، فإنه لم يقل: (سارعوا إلى المغفرة)، أو (سارعوا إلى مغفرة) مطلقة، بل قال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]، و (من) هنا ابتدائية، أي: ابتداء هذه المغفرة من ربكم، وأيضاً في ذكر هذا الاسم نكتة عجيبة وهي: أنه لم يقل: (مغفرة من الله) أو (مغفرة من الديان) أو (مغفرة من الملك) أو (القدوس) أو غير ذلك من الأسماء، بل قال: مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]؛ وذلك تحبباً إلى العباد؛ لأن الرب معناه: موصلهم إلى كمالهم بالتدريج، شيئاً فشيئاً، الذي تعرف إليهم بخلقهم وبأنواع النعم التي أنعم بها عليهم؛ فهو يستحق أن يحب، ويستحق أن يخاف منه، ويستحق أن يتقرب إليه؛ فلهذا قال: إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133].

    مآل المسارعين إلى الخيرات

    ثم بعد هذا هذه المسارعة أيضاً مآلها ومصير أصحابها إلى الجنة؛ فلذلك قال: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ[آل عمران:133]، والجنة في الأصل: البستان؛ وذلك أنها تجن الأرض، أي: تسترها، فالبستان تختلط رءوس الشجر فيه والنبات يغشي الأرض فيسترها فلا ترى؛ فلذلك سمي البستان "جنة" بالفتح، و "الجنة" بالكسر: الجن؛ لاختفائهم عن البصر أيضاً، وجن الليل وأجن أي: أظلم قال تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا[الأنعام:76]، والجنة المقصود بها: دار النعيم، وهي جنان لا جنة واحدة، فإذا أطلقت بالإفراد فإنما يقصد بها الجنس، أي: جنس الجنان، وذلك في مقامين عاليين:

    أحدهما: الجنة العليا، وهي الفردوس، وهي أعلى الجنان، وأهلها هم المقربون، وهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، ومقامهم عال جداً، والفرق شاسع بينهم وبين من دونهم.

    والجنة الثانية هي جنان أصحاب اليمين، وهم الذين لا بأس عليهم، قربهم الله تعالى، وأنعم عليهم، وأدخلهم جنته، ولكن مقامهم دون مقام المقربين، وهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين.

    وما يناله الإنسان الواحد من الجنة عرضه كعرض السماء والأرض، عرضه السماوات والأرض، والعرض هنا لا يقصد به خلاف الطول، بل المقصود به السعة، وذلك جنة الإنسان الواحد؛ فحظ الإنسان الواحد وهو أقل أهل الجنة حظاً أن ينال الدنيا وعشرة أضعافها معها، وهذا أقل أهل الجنة حظاً، وهو آخر من يدخل الجنة، ( يدخلها فيجدها ملأى، يظن أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب! وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فإن لك الدنيا وعشرة أضعافها معها، فيقول: يا رب! أتهزأ بي وأنت الملك؟! فيرجع فينال الدنيا وعشرة أضعافها في الجنة )؛ ولذلك فإن المقصود بالجنة هنا: الجنس، أي: جنة كل واحد منكم، فكل واحد من أهل الجنة ما يناله من الجنة عرضه كعرض السماء والأرض، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ[آل عمران:133].

    وهذه الجنان هي جاهزة الآن، ودليل ذلك قوله: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[آل عمران:133]، أعدت أي: قد جهزت، بكل ما فيها، لا يحتاج الإنسان إلى أن يصحب معه لباساً ولا نعلاً، ولا ركوباً ولا طعاماً ولا شراباً ولا آلة، فكل ما يشتهيه يجده أمامه، فالإنسان الذي يبني منزلاً جديداً فإنه يحتاج إلى الفراش واللباس والآلات، والجنة كذلك يبنيها الإنسان بالطاعات كما قال إبراهيم عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج: ( أبلغ أمتك أن الجنة إنما هي قيعان، غراسها التسبيح والتكبير والتهليل )، وكلما ذكر الإنسان ربه بتسبيحة أو تهليلة أو تكبيرة غرست له شجرة، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، كلها تغرس بها شجرات في الجنة، ولا يزال ذلك يزداد بقدر ما زاد الإنسان من الذكر.

    أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[آل عمران:133]، والمتقون هم الذين اجتنبوا ما نهى الله عنه وامتثلوا ما أمر به، فهم الذين اتقوا سخط الله فجعلوا بينهم وبين سخط الله وقاية من طاعة الله. فالإنسان إذا كان مشغولاً بالمعصية فليس من المتقين، وإذا وقف عند الحد، توقف عن المعصية فقط ولكنه بقي في الشبهة فليس من المتقين، فإنه إنما يكون من المتقين إذا حال بينه وبين المعصية حاجز من الطاعة؛ ولذلك عرف أهل العلم التقوى بأنها: أن تجعل بينك وبين سخط الله وقاية من طاعة الله، فلذلك لا بد في التقوى من اجتناب المعصية، واجتناب الشبهة، والعمل بالطاعة، فهذه ثلاثة أمور لا يكون الإنسان متقياً إلا بتحقيقها. والإنسان قابل للطاعة والمعصية فهو في الأصل مفطور على قبول الأمرين؛ قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ[البلد:8-10]، أي: هو قابل للأمرين، إما للتقوى والطاعة، وإما للمعصية؛ فلذلك ينقسم الناس يوم القيامة إلى قسمين فقط، والناس في هذه الحياة ينقسمون إلى أقسام كثيرة جداً، إلى ألوان وعشائر وقبائل وأصناف ودول، وجنسيات وأعمار ومستويات، من الناحية العلمية، ومن الناحية الاقتصادية، ومن الناحية الاجتماعية، لكن هذا الانقسام يزول بمجرد الموت، فإنهم إذا ماتوا تساووا.

    فينقسمون إلى قسمين فقط؛ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ[هود:105]، فأقسام الناس بعد الموت اثنان فقط: شقي وسعيد، ولا يبقى تقسيم بعد ذلك، لا عبرة بالألوان ولا بالألسنة، ولا باللهجات ولا باللغات، ولا بالجنسيات ولا بالشهادات ولا بالغنى ولا بالفقر، كل ذلك يزول، يبقى فقط الشقاء أو السعادة؛ فلهذا قال: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[آل عمران:133].

    1.   

    من صفات المتقين المسارعين في الخيرات

    ونحتاج هنا إلى تعريف المتقين ببعض خصائصهم وصفاتهم؛ لننافسهم فيما هم فيه.

    الإنفاق في السراء والضراء

    نقول: بين لنا ربنا ذلك وهو الكريم المنان، وقد علمنا ما نحتاج إليه؛ فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ[آل عمران:134]؛ فالمتقون من صفاتهم أنهم ينفقون في السراء والضراء، والإنفاق معناه: البذل؛ فيشمل ذلك الإنفاق من العلم، والإنفاق من الجاه، والإنفاق من المال، كل ذلك إنفاق؛ فإنفاق الوقت إنفاق، وإنفاق العضد والغلة والطاقة إنفاق، وإنفاق المال إنفاق، وإنفاق الجاه إنفاق، وإنفاق العلم إنفاق، كل هذا من أنواع الإنفاق، والإنفاق هو: إشراك الغير فيما أنعم الله به عليك من النعم.

    قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ[آل عمران:134] أي: في الحالين، في حال السراء والضراء، وحال السراء تشمل الغنى، وحال الضراء تشمل الفقر؛ فمن الناس من لا ينفق إلا في السراء فقط، أي: إذا كان غنياً ووجد طولاً كثيراً استطاع أن ينفق بعضه؛ لأنه أحس بالخلف فهان عليه الإنفاق، وهذا ليس مدحاً؛ لأنه عندما تكاثرت عليه الدنيا استطاع أن يتخلص من بعضها لشعوره بالخلف، وأن لديه ما يعوض ذلك، ومنهم من لا ينفق إلا في الضراء، أي: إذا أحس بطامة من الطوام بدأ يتصدق، إذا أحس بمرض أو مرض له قريب يتصدق، لا يعرف الله إلا في حال الشدة، وهؤلاء ليسوا من المتقين، إنما المتقون هم الذين ينفقون في السراء والضراء، ينفقون في حال السراء، وينفقون في حال الضراء؛ ولذلك لن يبلغ إنسان درجة الإيمان حتى ينفق من الإقتار، أي: حتى ينفق في حال الفقر، فإذا كان الإنسان يحس أن الله عز وجل هو الذي يطعمه وينفق عليه فإنه ستستوي أحواله، لعلمه أنه في حال غناه لم يستغن عن الله، وأنه في حال فقره أيضاً لم يفتقر إلى المخلوقين، بل هو من عيال الله، وإذا أحس الإنسان بذلك كان من المتقربين المبادرين إلى الإنفاق مطلقاً، في حال السراء وفي حال الضراء، لا يبالي أي الحالين غلب عليه؛ ولهذا قال الشيخ محمد عالي رحمه الله:

    لا آمل الناس في سر ولا علن في حالتي ثروة مني وإفلاس

    ولا أرى الرزق إلا عند خالقه ولا أضيف أمور الله للناس

    فالإنسان الذي يعرف الله سبحانه وتعالى هو الذي يتوكل عليه، ويعتمد عليه، ولهذا يقول الشيخ رحمه الله أيضاً:

    يا قلب ثق بضمان القادر الباري على يقين من الباري بإخبار

    ولا تحرك بتدبير المعاش يداً ولا لساناً بإيراد وإصدار

    كم ليلة بت فيها بين أربعة يأس وفقر وخوف الذل والعار

    فبينما أنت فيها غير مكتسب ولا معلق تأميل بديّار

    وافتك من نفحات الله سارية تؤم دارك من دار إلى دار

    ومعرفة الإنسان بربه تقتضي منه أن ينفق في السراء والضراء؛ لعلمه أن الله تعالى يناديه فيقول: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ[البقرة:245]، فكل ذلك من عنده سبحانه وتعالى.

    ومن هنا فأنت فقط مدعو لهذه السوق التي تضاعف فيها الأمور، والربح فيها أقله عشرة أضعاف، وقد قال محمد مولود رحمه الله في نظم الصدقة، في حضه النفوس على ذلك ما معناه: لو علمت أن من أسواق النصارى سوقاً فيها تروج السلع إلى عشرة أضعاف، إلى سبعمائة ضعف، إلى أكثر من ذلك لبادرت إليها، وبعت كل ما لديك من السلع فيها، وأنت قد علمت أن هذا من عند الله الذي لا يخلف الميعاد، والسلع التي يبيعها هي ما سمعتم من المغفرة والجنة، فهذه سلعة الله الغالية، ( ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ).

    والسراء والضراء في الآية لم يضافا إلى أحد؛ فالمصدر يضاف إلى فاعله وإلى مفعوله وإلى المتصف به، وهنا لم يقل: (في سرائهم وضرائهم) ولا (في سراء من سواهم وضرائه) فالغير أيضاً تنتابه الضراء والسراء.

    فإذا كنت أنت انتابتك السراء في وقت، فيمكن أن يكون غيرك انتابته الضراء في ذلك الوقت، فعليك أن ترق له، كحال المهاجرين والأنصار، فالمهاجرون لما هاجروا إلى المدينة وجدوا أمامهم إخوانهم من الأنصار وقد انتزع الله منهم الشح والبخل بالكلية؛ ولذلك وصفهم الله تعالى بقوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ[الحشر:9]. وكحال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وصفهم الله تعالى بقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا[الإنسان:8-12]؛ فهؤلاء بين الله تعالى إنفاقهم وأحوال المنفق عليهم؛ فقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ[الإنسان:8] أي: مع حاجتهم إليه وافتقارهم إليه ومحبتهم له، مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا[الإنسان:8] وهؤلاء كلهم من المستضعفين المحتاجين.

    فلذلك يمكن أن تعرو السراء والضراء أيضاً الغير الذي تتعامل معه، فتحتاج إلى الإنفاق في السراء والضراء على ذلك الغير الذي تعامله، أن تنفق عليه في حال سرائه وأن تساعده أيضاً في حل ضرائه؛ فكل ذلك داخل في قوله: يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ[آل عمران:134].

    كظم الغيظ والعفو عن المسيء

    ثم وصفهم وصفاً آخر، وهذا الوصف الأول يتعلق بالمال وما ينعم الله به على الإنسان من أنواع النعم، ثم الوصف الثاني يتعلق بالنفس، قال: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ[آل عمران:134]، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ[آل عمران:134]، والكظم في الأصل هو الكتمان، فكظم الإنسان حزنه أي: كتمه، والحزين يسمى كظيماً؛ لأنه يكتم حزنه كما قال الله تعالى: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ[يوسف:84]؛ فالكظيم هو الذي يكتم الحزن عن الناس ولا يرفعه إليهم، وذلك تمام الحصافة ومن تمام قوة الشخصية؛ فقوي الشخصية لا يعرض لأعدائه إلا جانب القوة منه وهو يكتم عنهم جوانب الضعف كما قال الشاعر:

    وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع

    فهذا حال من أحوال القوة، وهو من قوة النفس، وهو مطلوب في أهل الإيمان، فمطلوب منهم ألا يظهروا ضعفهم إلا لله عز وجل؛ ولذلك قال يعقوب عليه السلام: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[يوسف:86]. وقد قالت ذلك أمنا عائشة رضي الله عنها لما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يشك في أمرها، ويعلم أنها طيبة مطيبة، وأن الله نزهها عما ادعاه المنافقون، لكن قال لها: ( إن كنت أحدثت فتوبي إلى الله واستغفريه، وسأستغفر لك، وإن لم تكوني كذلك فأخبريني؛ فقالت: لا أقول إلا ما قال أبو يوسف .. )، ونسيت أن تقول: يعقوب، نسيت اسمه من الحزن! إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[يوسف:86]؛ فأنزل الله براءتها وأنزل الله تعالى شرفها وشرف آل أبي بكر جميعاً في عشر آيات من القرآن بقيت إلى أن يرفع القرآن تتلى في الصلاة وفي غيرها؛ رفعاً لمنزلتها وإعلاءً لشأنها.

    وهذا الحال وهو قوة شخصية الإنسان يقتضي منه أن يكظم الغيظ، فإذا حصل له غيظ، والغيظ هو الغضب أو أثره؛ فقيل: الغيظ: الغضب مطلقاً، وقيل: أثر الغضب، أي: ما يظهر على الإنسان إذا كانت شخصيته قوية فإنه يستطيع كظمه وكتمانه؛ فلا يظهره للناس، ولهذا فنحن مطالبون شرعاً بعدم الغضب أصلاً، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري : ( أن رجلاً أتاه فقال: أوصني، فقال: لا تغضب، فردد مراراً، قال: لا تغضب )، فنحن منهيون عن الغضب أصلاً.

    ثم إذا حصل الغضب فنحن مأمورون بإزالته؛ ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً غضبان قد انتفخت أوداجه واحمر وجهه؛ فقال: أما إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ما به؛ فقيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )، وكذلك أمر الغضبان أن ينضح في وجهه من الماء، وإذا كان قائماً أن يجلس، وإذا كان جالساً أن يتكئ، فكل ذلك مما يزيل الغضب.

    والغضب صفة ضعف في الإنسان؛ لأنه يقع به فيما لا يريده؛ ولذلك فأنا في هذه الأيام يتردد علي كثير من الناس في الاستفتاءات في الطلاق، يوقع أحدهم الطلاق في حال غضب ثم يندم عليه، ويندم حيث لا ينفع الندم؛ فهو قد تصرف؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: يرتكب أحدكم الأحموقة فيأتيني فيقول: يا ابن عباس !.. يا ابن عباس.

    فلذلك نحتاج جميعاً إلى أن نكون من الكاظمين الغيظ، وأن يحاول الإنسان إذا أحس بالغضب ألا يتكلم بأية كلمة، وأذكر أن بعض من أدركتهم من كبار السن حدثوني عن امرأة صالحة وهي فاطمة بنت عمرو سالم ولد محمد الحبيب رحمة الله علينا وعليهم أجمعين كانت تقول: إنها إذا غضبت بكمت، أي: أنها لا تستطيع أن تتكلم حال الغضب أصلاً، وهذا هو مقتضى كظم الغيظ، فإذا كان الإنسان يستطيع إذا غضب ألا يتكلم بأية كلمة؛ لأنه في ذلك الوقت غير موزون التفكير، ويمكن أن يتكلم بما لا يحسن، فقوته تظهر في إمساكه للسانه وألا يتكلم أصلاً.

    ثم قال: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ[آل عمران:134]، ومن تمام ذلك أيضاً تجاوز هذه المرحلة - وهي كظم الغيظ - إلى العفو عن آثارها. ومن بلاغة القرآن وإعجازه أنه أتى بالعفو بعد كظم الغيظ، فلم يقل: (والعافين عن الناس والكاظمين الغيظ)؛ لأن في ذلك إرجاعاً إلى الوراء، بل بدأ بالمرحلة السابقة ثم بالمرحلة اللاحقة بعدها، فقال: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ[آل عمران:134] أولاً، ثم بعد ذلك: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ[آل عمران:134]، أي: بعد أن يذهب الغيظ حيث كظموه فتغلبوا عليه فذهب، بعد ذلك جاء العفو عن أثره، فالمتقون يعفون عمن ظلمهم، وهذا هو حسن الخلق؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حسن الخلق: ( قيل: وما حسن الخلق يا رسول الله؟ قال: أن تعفو عمن ظلمك، وأن تصل من قطعك، وأن تحسن إلى من أساء إليك )، فعفو الإنسان عمن ظلمه أيضاً هو صفة قوة، وهو دليل على تمام شخصية الإنسان، وذلك أنه لا يتصرف على وفق صفة الضعف فيه.

    فتصرف المرء في حال الرضا أقوى وهو وصف كمال فيك، والوصف الذي أنت أضعف فيه تصرفك على أساسه وصف نقص فيك؛ فلهذا كان العفو جميلاً، وبالأخص ممن كان قادراً؛ فمن كان أقدر كان العفو منه أجمل؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما زاد الله عبداً بعفو إلا رفعة ومجداً )، فالعفو يرفع الله به أصحابه، يقول تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ[الشورى:40].

    وهنا قال عن الناس، وهذا العموم مقصود به الخصوص؛ فأصل الكلام: (والعافين عمن ظلمهم من الناس) لكن جاء العموم هنا - وهو: من الناس - إيذاناً بأن من يخالط الناس لا بد أن يجد ما يعفوه ويحتاج فيه إلى الصبر. فأنت إذا خالطت أباك الذي يجلك فلا بد أن تتعرض منه إلى ما يحوجك إلى صبرك عليه والعفو عنه، وأمك التي حملتك تحتاج أن تعفو عنها وتعاملها بالصبر في بعض المواقف، والصاحب بالجنب - وهو الزوج أو الزوجة - أيضاً محوج إلى الصبر والعفو، والأولاد كذلك، والجيران كذلك، وجميع الخلائق لا يمكن أن تخالط أحداً إلا وجدت منه شيئاً يحوجك إلى الصبر.

    ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

    ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب

    فتحتاج إلى أن تصبر، وإذا كنت محتاجاً إلى الصبر لا محالة فأولى الناس بحسن صبرك من يتفق معك في المبادئ والطريق؛ ولهذا كان صبر أهل المسجد المستمعين فيه بعضهم على بعض أولى من صبر أهل الشارع بعضهم على بعض، وأهل السوق بعضهم على بعض، والجميع مطالبون بالصبر؛ فالذي لا يصبر لجاره في المسجد على أن يضايقه في مجلسه كيف يصبر على مخالطة الناس في الدنيا والعمر الويل؟! وأنت تعرف أنه يجتمع معك في الهدف وفي المطلب، وأنتم في تلك الحال ضيوف على الرحمن سبحانه وتعالى في بيت من بيوته، وقد جاء بكم ليكرمكم، وأذن لكم في دخول بيته وحجب كثيراً ممن سواكم، لم يأذن لهم في الدخول. قال الغزالي رحمه الله: الصف الأول سبقوا بالإذن فأذن الله لهم قبل من سواهم، وإذا امتلأ المسجد فالمتأخرون أيضاً وإن أذن لهم في القدوم لم يؤذن لهم في الدخول؛ فكان من سبقهم أفضل منهم من هذا الوجه، فلهذا لا بد أن يصبر بعضهم على بعض، وأن يحرصوا على التعاون فيما بينهم، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ[آل عمران:134].

    1.   

    جمع الإحسان إلى التقوى وما يترتب عليه

    وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ[آل عمران:134]، هذه جملة اعتراضية، وهي تعقيب على ما سبق، وهي مؤذنة بأن من فعل ذلك كان من المحسنين؛ ولهذا بدأ الذين يفعلون هذه الأوصاف أولاً بأنهم من المتقين وختم ذلك بأنهم من المحسنين؛ فجمعوا الخاصيتين العظيمتين.

    والمحسنون هم الذين يتقنون العمل، سواءً كان دنيوياً أو أخروياً؛ فالذين يتقنون عمل الآخرة إذا صلوا حضروا وخشعوا، وإذا توضئوا أسبغوا الوضوء، وإذا زكوا اختاروا لأنفسهم أحسن ما يجزئ ويرضي الله سبحانه وتعالى، وإذا تصدقوا أنفقوا من خيرة أموالهم، يقول سبحانه: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[آل عمران:92]، ويقول: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ[البقرة:267]، فالمتقون إذا عملوا أي عمل أخروي أحسنوه وأتقنوه؛ كأنهم يرون الله سبحانه وتعالى، ولهذا عرف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان في حديث جبريل : ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).

    وكذلك في عمل الدنيا إذا عملوا أي عمل أحسنوه وأتقنوه؛ فالله تعالى يحب العبد الذي إذا عمل عملاً أتقنه؛ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في أمور الدنيا؛ فهم لا يغشون ولا يخادعون، وإذا وكل إليهم أي عمل كفوا فيه وقاموا به على الوجه الصحيح، وهذا وصف كمال، وهو مطلوب في الرجال، كما قال الشاعر:

    فتى قُدّ قَدّ السيف لا متضائل ولا رهل لباته وأباجله

    يسرك مظلوماً ويرضيك ظالماً فكل الذي حملته فهو حامله

    إذا القوم أموا بيته فهو عامد لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله

    وكما قال الآخر:

    لعمرك ما إن أبو مالك بواه ولا بضعيف قواه

    ولا بألد له لوثة يعادي أخاه إذا ما نهاه

    ولكنه هين لين كعالية الرمح سهل مطاه

    إذا سسته سست مطواعة ومهما وكلت إليه كفاه

    (ومهما وكلت إليه كفاه) أي: أي شيء وكلته إليه أتقنه وقام به على الوجه الصحيح، فهذا وصف كمال، وهو من تمام خلقتهم وتمام شخصيتهم؛ فلذلك قال: وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ[آل عمران:134]، ويكفي جزاءً لهذا الإحسان محبة الله تعالى لأهله؛ فمن يحبه الله لا يعذبه، ومن أحبه الله لم يتعرض لسخطه ولا لعذابه، بل إن من يحبه الله لا يمكن أن يشغله بمعصيته، بل سيشغله بطاعته ويوفقه لرضوانه.

    1.   

    الرجوع إلى الله عند الزلل

    قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[آل عمران:135]، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً[آل عمران:135]، وهذا ممكن جداً؛ فالبشر عرضة لذلك لما يعتريهم من الأحوال، وقد سبق بيان بعضها؛ فالإنسان غير المعصوم يشق عليه ألا يقع في ذنب من الذنوب.

    مراتب ظلم العبد لنفسه وبيان أقسام المعاصي

    وهذه الذنوب تتفاوت بحسب مقامه هو في الإيمان؛ فإذا كان مقامه في الإيمان عالياً فمجرد تذكره المعصية معصية في حقه، أي: أنه نقص في حقه، وإذا كان من أهل العلم والتقوى والورع، فوقوعه في مكروه أو خلاف نقص في حقه كذلك، وإذا كان ممن دون هذا فبحسب ذلك الحال، كل على حسب مقامه وحاله؛ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ[الصافات:164]؛ فلهذا إذا وقع الإنسان في معصية أياً كان نوعها وقبيلها، وأياً كان مستواها بحسب درجته هو فعليه أن يبادر للتوبة؛ فلذلك قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ[آل عمران:135]، و (أو) هنا للتشكيك؛ فليس كل إنسان من التائبين صاحب معصية وفاحشة، بل إن منهم من معصيته التي يتوب منها هي ظلمه لنفسه، ومن ظلمه لنفسه أنه إذا استطاع الكمال والوصول إلى الأشرف فقصر دونه، ولهذا قال أبو الطيب :

    ولم أر من عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام

    فمن قدر على التمام وقصر دونه فهو بذلك قد ظلم نفسه حين قصر ورضي بالأدنى بدل الذي هو خير؛ فلهذا قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ[آل عمران:135]، والفاحشة هي السيئة البالغة النهاية في القبح، وذلك عام في السيئات باعتبار من عصي بها، أي: إذا نظر إلى المعصي بها - وهو الله تعالى - فهي غاية في القبح؛ لأنه يقبح من الإنسان الذي يخاف الله ويرجو ثوابه أن يعصيه؛ ولذلك قال الشافعي:

    تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا محال في القياس شنيع

    لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

    فيحتاج الإنسان إلى أن يعرف أن المعصية بحسب المعصي بها هي قبيحة وفاحشة مطلقة، لكن مع ذلك يتفاوت حالها؛ فقد قسم الله المعاصي في سورة النجم إلى ثلاثة أقسام؛ فقال: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ[الشورى:37]، فقال: ((يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ)) وهذا هو المقام الأول، وهي ما توعد الله عليه بنار، أو رتب عليه لعنة، أو حداً دنيوياً.

    والفواحش؛ وهي البالغة النهاية في القبح؛ فيدخل فيها كل ذنب ولو لم يرتب عليه عقوبة في الدنيا؛ كالكذب فإنه لم يرتب عليه حد دنيوي، لكنه فاحشة.

    واللمم هو الصغائر، وهي ما دون ذلك.

    أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ[آل عمران:135] أي: حصل منهم ظلم لأنفسهم بأي تقصير، كالاشتغال بخلاف الأولى؛ فهو ظلم لأنفسهم؛ لأن من تمام أداء حق النفس أن تؤدي بها إلى أعلى الدرجات وأعلى المقامات؛ فإذا قصرت بها دون ذلك فقد ظلمتها؛ فلذلك قال: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ[آل عمران:135].

    المبادرة إلى التوبة والاستغفار

    ماذا يصنعون؟ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[آل عمران:135]، وهذا الذكر هنا المقصود به الذكر القلبي، أي: تذكروا من عصوه فبادروا إلى التوبة والاستغفار، وهذا هو التفسير الأول للآية.

    فالقول الأول: أن معنى: ذَكَرُوا اللهَ[آل عمران:135]، أي: ذكروه بقلوبهم؛ فتذكروا نعمته عليهم وتذكروا بأسه وبطشه وعاجل عقوبته؛ فبادروا التوبة قبل أن يسخط الله عليهم.

    والقول الثاني: أن معنى: ذَكَرُوا اللهَ[آل عمران:135]، أي: بألسنتهم وذلك بالاستغفار؛ ولهذا فالفاء على هذا القول تفسيرية، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[آل عمران:135] أي: هذا هو ذكرهم، ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا[آل عمران:135]، مثل ما تقول: توضأت فغسلت وجهي.. (فغسلت) الفاء هنا تفسيرية، ليس معناه أنك بعد أن توضأت غسلت وجهك؛ وهذا النوع من الفاءات هي الفاء التفسيرية التي لا يقصد بها التعقيب والترتيب، وإنما يقصد بها تفسير المقام السابق؛ فلهذا قال: ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[آل عمران:135]، أي: سألوه المغفرة، ((لِذُنُوبِهِمْ)) واللام هنا للتعدية، ومعنى ذلك أنهم سألوه أن يغفر تلك الذنوب، وهذا الفعل يتعدى بنفسه ويتعدى باللام؛ فيقال: استغفر الله ذنبه، ويقال: استغفر الله لذنبه، مثل ما يقال: شكر الله وشكر لله، كما قال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ[لقمان:14]، وكما قال الشاعر:

    سأشكر عمراً ما تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي زلت

    فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت

    رأى خلتي من حيث يخفى مكانها فكانت قذى عينيه حتى تجلت

    وكما قال الآخر:

    أمسلم إني يا ابن كل خليفة ويا فارس الهيجا ويا قمر الأرض

    شكرتك إن الشكر حبل من التقى وما كل من أوليته نعمة يقضي

    وترفع من ذكري وما كان خاملاً ولكن بعض الذكر أنبه من بعض

    فلذلك قال هنا: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[آل عمران:135].

    والذنوب جمع ذنب، وهو الإساءة مطلقاً؛ فالإساءة إلى المخلوق تسمى ذنباً في حقه، والإساءة إلى النفس هي ذنب الإنسان لدى ربه، فإساءته إلى نفسه بمعصيته لأمر الله تعالى، وهذا هو الذنب في حق الخالق، والإساءة إلى المخلوق مطلقاً هي ذنب في حقه، فلذلك قال: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[آل عمران:135].

    وهذا دليل على أن الاستغفار لا ينبغي أن يقتصر فيه الإنسان على الذنب الذي يذكره، أو الذنب الذي اقترفه وحده، بل نظراً لنسيان الإنسان، ولأن المغفرة قد لا تحقق له بالاستغفار في وقت من الأوقات عليه أن يستغفر من كل ذنوبه، فعليه إذا وقع في ذنب ألا يستغفر من ذلك الذنب وحده، بل يستغفر لكل الذنوب؛ ولهذا قال هنا: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[آل عمران:135]، جاء بها بصيغة الجمع، ولم يقل: لذلك الذنب وحده.

    اختصاص الله سبحانه وتعالى بمغفرة الذنوب

    ثم قال في جملة اعتراضية مؤكدة لمعنى الجملة السابقة: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ[آل عمران:135]، وهذا استفهام تقرير، معناه: ولا يغفر الذنوب إلا الله. ولابد أن نقول جميعاً: لا يغفر الذنوب إلا الله؛ لأن هذا استفهام تقريري، يقررنا الله به، فالله وحده هو غافر الذنب، وقد وصف نفسه بذلك؛ فقال سبحانه: حــم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ[غافر:1-3]، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ[الشورى:25]؛ فهذا وصف أثنى الله به على نفسه بأنه هو الذي يغفر الذنوب جميعاً؛ فلذلك قال: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ[آل عمران:135].

    ولا شك أن وصف الإنسان إما أن يكون إيجاباً وإما أن يكون سلباً، فالإيجاب هو الإثبات، وكل ما سبق من الأوصاف كان إثباتاً، والسلب هو النفي؛ ولذلك لا بد من إشراكه في وصف هؤلاء الذين أثنى الله عليهم؛ فجاء الوصف السلبي بالنفي في قوله: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ[آل عمران:135]؛ فالإصرار على الذنب هو قصد تكراره، أي: أن يفعله الإنسان ثم يقصد تكراره فيما بعد، وهذا تضعيف له واستمرار عليه، وهو سبب لإزالة الحياء من الله من قلب الإنسان، وسبب لإزالة برهان الله في قلب المؤمن؛ فإصرار الإنسان على المعصية خطر عليه؛ لأنه سبب لإزالة برهان الله من قلبه، نسأل الله السلامة والعافية.

    وبرهان الله هو الذي يحول بين الإنسان وبين المعصية يقول تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ[يوسف:24]، فبرهان الله هو الوازع الديني في قلب الإنسان الذي يحول بينه وبين اقتراف المعصية؛ ولذلك فإن الإصرار على المعصية يقتضي زوال هذا البرهان بالكلية، وهنا قال: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا[آل عمران:135] أي: على ذلك الذنب الذي فعلوه، وَهُمْ يَعْلَمُونَ[آل عمران:135]، هذه الجملة مفسرة؛ فإن الإنسان قد يقع في ذنب وهو لا يعلم أنه وقع فيه، وهذا معفو عنه، فإنما يخاطب الإنسان بما عرف، فما لم يعلمه الإنسان فهو ساقط عنه؛ ومع هذا يطلب منه الاستغفار له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم )، فيحتاج الإنسان للاستغفار لما لا يعلم.

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في السعي بين الصفا والمروة: ( لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله حقاً حقاً، تعبداً ورقاً، رب اغفر وارحم واعف وتكرم، وتجاوز عما تعلم؛ فإنك تعلم ولا نعلم، وإنك أنت الأعز الأكرم )؛ فلهذا قال: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ[آل عمران:135]، فمن أصر على ما يفعل وهو يعلم أنه معصية لله فهذا المتوعد بالوعيد الشديد، وهو الخارج عن هؤلاء الموصوفين بهذا الوصف، المسابقين إلى مغفرة الله وجنته.

    1.   

    ما يجازي الله به المسارعين إلى الخير

    ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ[آل عمران:136]، وهي المغفرة السابقة التي دعوا إلى المسابقة إليها والمسارعة فيها.

    وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ[آل عمران:136]، أي: جزاؤهم أيضاً بالإضافة إلى المغفرة جنات تجري من تحتها الأنهار، وقد سبق أنها جمع، وذلك باختلاف منازل أهلها ودرجاتهم، وباختلاف ما لكل واحد منهم؛ ولهذا فإن أم حارثة لما جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ( يا رسول الله! أسألك عن ابني حارثة أفي الجنة هو فأصبر، أم في غيرها فسترى ما أصنع؟! فقال: أو جنة هي! إنما هي جنان، وابنك في الفردوس الأعلى منها )، وقد قتل حارثة هذا يوم بدر شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.

    وهذه الجنات وصفها الله تعالى بوصف مشوق عجيب، وهو بعض ما فيها؛ فقال: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ[آل عمران:136]، أي: هذه الجنات لا يخاف عليها الانقطاع، ولا إزالة خضرتها ولا إزالة شيء من نعيمها؛ لأن الأنهار تجري من تحتها فلا تيبس ولا تجف ولا ينقطع عنها السقي، ولا يخاف عليها من وجه من الوجوه، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ[آل عمران:136].

    وهذه الأنهار قيل: المقصود بها: أنهار الجنة ولكل إنسان منها ما يناسبه من الأنهار، وقيل: المقصود بها: الأنهار الأربعة التي في أصل سدرة المنتهى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج أنه: ( لما أتى سدرة المنتهى إذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا نبقها كقلال هجر، وإذا في أصلها أربعة أنهار، نهران داخلان ونهران خارجان؛ فسألت جبريل عن هذه الأنهار فقال: أما الداخلان فنهران في الجنة، وأما الخارجان فالفرات ونيل مصر )، فلذلك هذه الأنهار تحت الجنان، ومن تحت أهلها، فهي نعيم لا ينقطع ولا يزول، ولا يخاف عليه التغير ولا النقص بحال من الأحوال.

    خَالِدِينَ فِيهَا[آل عمران:136]، أي: هم خالدون مخلدون فيها لا يتغير عليهم شيء من أحوالها؛ فلا يملون شيئاً من نعيمها، ولا ينقطعون عنه، ولا يضعفون عن أية شهوة من شهواتها، كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا[البقرة:25]، فهم لا يملون من شيء منها، لا يشبعون حتى يحسوا بالاستغناء أو الملل منها، ولا ينقطع عنهم شيء منها، ولا يحسون بالكدر ولا الثقل من أي شيء منه، ولا يجدون عناءً في الوصول إليه، فثمراتها مقربة لهم دانية، فهي دانية لهم دائماً؛ وبذلك لا يشكون من أي خطر ولا ضرر فيها.

    ثم قال تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[آل عمران:136]، وقوله: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ جملة اعتراضية، فهي بيان لأجر أولئك ولحالهم، ولما هم آئلون إليه، ولما هم صائرون إليه، قال: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[آل عمران:136] أي: مبالغة في الثناء على أجر أولئك؛ فــ(نعم) فعل ماض، يؤتى به للمبالغة في المدح، وفي مقابلها (بئس) وهي فعل ماض، يؤتى به للمبالغة في الذم؛ فهنا بالغ الله عز وجل في مدح أولئك بحسن أجر عملهم؛ فقال: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[آل عمران:136]، أي: أنما أعد الله لهم في تلك الجنة من الأجور الطائلة لا يمكن أن يخطر على قلب أحد، ويكفي أن الله أثنى عليه بهذا الثناء، فقال: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[آل عمران:136]، وهذا وصف لهم بأنهم من العاملين، أي: أنهم تقربوا إلى الله بالأعمال الصالحة فقبلها منهم، وضاعف لهم أجورها؛ فكانوا إذاً في هذا المقام الممدوح، الذي أثنى الله عليه بهذا الثناء العطر البليغ؛ فقال: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[آل عمران:136].

    وهنا من الإعجاز أن الواو العاطفة في هذا الموضع إنما هي في هذا المكان، أما في سورة العنكبوت فقد قال: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[العنكبوت:58] بدون واو، ولذلك يقول الددو :

    ونعم أجر العاملين سارعوا بالواو فيها إن تلوتم سارعوا

    ولتسقطوا الواو ولا تجادلوا إذا تلوتم ولا تجادلوا

    وهذا بيان للمتشابه من الآيتين فقط، وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[آل عمران:136].

    ونحن لا نستطيع إيفاء هذه الآيات في مثل هذا الدرس؛ ولذلك سنقتصر على هذا الحد، ونعد إن شاء الله تعالى بحلقة قادمة للمواصلة مع الآيات لعلنا نستوعب منها بعض الحكم في تقويم الله تعالى لغزوة أحد، وبيان تنزل ذلك على واقع المسلمين اليوم وحالهم.

    نسأل الله تعالى أن يوفقنا أجمعين لما يحب ويرضى، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767424777