بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن كل من يحتاج إليه الشخص يحاول أن يربط به الصلة، وأن تكون علاقته به متينة قوية، وتزداد حاجة الإنسان إلى ربط العلاقات وتقويتها بحسب حاجته واستفادته ممن يربط معه تلك العلاقة. والله سبحانه وتعالى هو الغني، ووصفه بالغنى يخالف وصف المخلوقين، فالغني من المخلوقين محتاج دائماً إلى غيره، والله سبحانه وتعالى هو الغني الغنى المطلق، لا حاجة به إلى أحد من خلقه، والخلق كلهم محتاجون إليه سبحانه وتعالى، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].
لذلك فإن الناس محتاجون إلى أن يتعاهدوا علاقتهم بالله سبحانه وتعالى، وأن يجددوا الصلة به في كل الأحيان وفي كل الأوقات، سواءً كان ذلك في أوقات السراء أو في أوقات الضراء؛ ولهذا نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه عبد الله بن عباس بقوله: ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة )، فالتعرف إلى الله سبحانه وتعالى في أوقات الرخاء معين على التعرف إليه في أوقات الشدة، وبئس العبد الذي لا يعرف الله إلا وقت حاجته ووقت اضطراره! والعبد الذي لا يرفع حاجته إلى الله ولا يعرفه ولا يناديه إلا إذا اضطر يسلك طريق المشركين؛ لأن المشركين هم الذين يدعون الله في وقت الضراء، ولا يدعونه في وقت السراء، لا يعرفونه إلا في وقت الضرورة والحاجة؛ ولذلك قال الله تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء:67]، فالمشركون يدعونه ما داموا في أعماق البحر إذا خافوا على أنفسهم، فإذا وصلوا إلى البر عادوا إلى ما كانوا فيه من الشرك، ونسوا حاجتهم وفقرهم إلى الله سبحانه وتعالى. وينبغي للمؤمنين أن يخالفوا المشركين في هذا، وأن يجددوا علاقتهم بالله سبحانه وتعالى، ويقووا صلتهم به، حتى تكون هذه الصلة أركز في نفوسهم وأقوى من كل الصلات، فابن آدم سيرد إلى الله سبحانه وتعالى فرداً، ويحشر إليه فرداً ليس معه إلا عمله، في ذلك الوقت الذي يفر فيه من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه يرد فرداً إلى بارئه سبحانه وتعالى الذي خلقه وسواه، وكذلك عندما تقبض روحه فإن أهل بيته يسوءهم أن يستقر في بيته أربعاً وعشرين ساعة، لا يريدون إلا إخراجه إلى المقابر، وإلى تلك الحفرة الضيقة التي يبقى فيها وحيداً مع عمله.
ولذلك إذا مات ابن آدم صحبه ثلاثة: عمله وأهله وماله، فإن وضع في قبره رجع اثنان ويبقى واحد، عندما يبقى في قبره لا يصل إليه من الخير إلا روح الله ورحمته إن كان مرحوماً، تنقطع عنه الأسباب وينقطع الرجاء إلا من الله سبحانه وتعالى؛ لذلك فإن الموقن بتلك الضجعة وحيداً فريداً، يجاور الموتى ولا يلقاهم؛ فهم أهل قرب لا يتزاورون، وأهل سجن لا ينفكون، وهو بينهم وحيد غريب، من كان يعرف هذا ويؤمن به حق المعرفة؛ فعليه أن يقوي علاقته بالله، وأن يجدد الصلة به سبحانه وتعالى، وليعلم أن هذا لمصلحته هو، وأنه لا ينفع الله سبحانه وتعالى ولا يضره شيئاً.
لذلك فإن الداعي إلى العلاقة بين الناس إنما هو الخوف أو الطمع أو المحبة، وهذه الصفات الثلاث يجد فيها كل شخص منا نفسه مضطراً إلى ربط العلاقة مع من يخافه أو فيمن يرغب في ما عنده أو من يحبه، نجد ذلك بالضرورة.
والخوف دافعه هو ما لدى المخوف مما يمكن أن يسلطه على الخائف، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يملك وسائل الترويع والتخويف، سواءً منها ما كان في هذه الدار أو ما كان في الدار الآخرة، أما في الدار الآخرة فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحشر الناس إليه فيأتونه حفاة عراة غرلاً، ويجمعهم في ذلك الموقف الذي لا يتأبى ملك جحجاح، ولا ذو سلطة وجنود، وإذا أتاه الداعي لا يستطيع أن يتأخر عنه؛ فيجتمعون جميعاً إلى البارئ سبحانه وتعالى، ويحشرهم في ذلك الموقف الذي ليس لأحد به سلطة، يحشر فيه الأنبياء والصالحون، والكفرة والملحدون والفجار، والكبار والصغار، يجتمعون جميعاً في ذلك الطبق الأرضي، الذي تحفه النار تقودها الملائكة، يرون أن الملك يومئذ لله وحده؛ فهو الذي يقبض السموات والأرض بيمينه، ويهزهن ويقول: ( أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ).
هو الذي إذا أمر بشخص أن يسحب على وجهه في النار وأن يلقى فيها فإنه لا تنفعه شفاعة الشافعين. هو الذي إذا أمر بإسقاط شخص من علو الصراط؛ فأول ما يصل إلى قعر جهنم منه ناصيته التي يجذب بها وهو يتردى من مسيرة سبعين ألف خريف في قعر جهنم، لا يستطيع أحد أن يشفع له.
هو الذي إذا أمر بإخراج عبد قد امتحش واسود من عذاب النار، وأن يجعل في مكان يتجدد فيه جلده، وينبت فيه لحمه؛ ليتجدد عذابه مرة أخرى لا يستطيع أحد أن يعقب على ذلك.
هو الذي يأمر بمن أنعم عليهم بالنعم السابغة في هذه الدنيا فلم يشكروا نعمته ولم يعرفوا حقه، يؤمر بأحدهم فيؤتى به وقد كان من الأغنياء في هذه الدنيا، وقد ملك المئين من الأبل؛ فيبطح لها في قاع قرقر، فيمر عليه أولها وآخرها، لا يفقد فيها صغيراً ولا كبيراً، تدوسه بأقدامها وتنهشه بأسنانها، كلما مر عليه آخرها أعيد إليه أولها، هو الذي يأمر بالغني الذي كان يملك البقر فيبطح في قاع قرقر، فيمر عليه البقر من أوله إلى آخره لا يفقد منه عجلاً ولا كبيراً ولا صغيراً، وليس فيها عقصاء ولا مقطوعة قرن ولا مكسورة، فيمر عليه ذلك البقر من أوله إلى آخره، ضربه بأظلافه وقرونه، كلما مر عليه آخره أعيد إليه أوله، هو الذي يقتص حتى للشاة الجماء من الشاة القرناء، وهو الذي يحاسب ذلك الحساب العسير الذي يوقف فيه الشخص على كل ما أسلف.
هو الذي إذا أمر بعبد من عباده أن يحبس وهو يرى عذاب الآخرين ولا يؤذن له أن يصرف وجهه عن تلقاء ذلك العذاب، لا يستطيع أحد أن يمنعه.
هو الذي يأمر بالموت ( فيأتي في صورة كبش أقرن، فيعرض على أهل الجنة، فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويشمئزون منه، ثم يعرض على أهل النار، فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويشمئزون منه، فيضجع على مرتفع بين الجنة والنار ويذبح وينادي المنادي: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت )، من يستطيع أن يتمنع من ملك الموت في الدنيا ويماطله في تأخير روحه لحظة واحدة؟! إذا كان البشر جميعاً لا يستطيعون ذلك، فإن الله هو الذي يأتي به ويذبحه على هذا التل بين الجنة والنار وينادى به على أهل الجنة والنار: يا أهل النار خلود فلا موت، يا أهل الجنة خلود فلا موت.
إن الله هو الجبار، المتكبر، القهار، المنتقم، وكل ذلك مدعاة لأن يخاف منه، وإن من يخاف من العباد الفقراء الضعاف الذين لا يملك أحد منهم لأحد حياة ولا موتاً ولا نشوراً، ولا يستطيع أن يرفع عنه أي ضرر، ولا يستطيع أن يعيد إليه أية نعمة قد فقدها، ولا أن يرد عنه أية مصيبة قد نزلت به لا يمكن إلا أن يخاف من الباري الذي كل السموات والأرضين في قبضته.
وسيختلف جواب الملائكة لهذا الصنفين من الناس، أما الصنف الأول الموقن المؤمن، فيقولان له: ( صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً به، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، ويفتحان بينه وبين مقامه من الجنة باباً يصل إليه هواؤه وروحه، ويعرض عليه مقعده من النار، ويقال: هذا مقعدك من النار قد أبدلك الله خيراً منه، ويعرض عليه مقعده من الجنة فيقال: هذا مقعدك من الجنة، قد خبأه الله لك، فيبقى في قبره بروح وريحان، ويقابل رباً غير غضبان، ويتعجل وينتظر الساعة بفارغ الصبر؛ ليدخل ما يراه مما أعد له في الجنة. وأما الآخر فيقولان له: لا دريت ولا تليت! ويضربانه بمرزبة معها لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها )، وفي رواية أخرى في حديث أسماء في الصحيحين: ( أنهما يضربانه بمطارق بين أذنيه؛ فيصيح صيحة يسمعها كل من يليه، إلا الإنس والجن )، ويملآن عليه قبره من العذاب المعجل الذي يقول الله تعالى فيه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ [السجدة:21]، فيملأ عليه قبره بالتنانين والحيات والعقارب والسموم، وأنواع الروائح الكريهة، ويبقى في ذلك العذاب، بحيث لا يشعر الناس إلا من أطلعه الله على ذلك، ويستمر هكذا وهو يرى مقعده من النار، ويعرض عليه مقعده من الجنة، فيقال: ( هذا مقعدك من الجنة، لو آمنت واتقيت، وقد أعطي لغيرك، وهذا مقعدك من النار وهو مهيأ لك )؛ فيرث المؤمنون مقاعد الكافرين من الجنة التي أعدت لهم فتكون توسعة عليهم وزيادة في نعيمهم.
إننا لا نستطيع أن نصل إلى مجرد أخبار هؤلاء وما هم فيه إلا عن طريق الوحي، فإذا كان الأمر كذلك وكان الذاهب إلى تلك الجهة تنقطع أخباره؛ فلماذا لا يجدد صلته بالله قبل أن يكون في ذلك المكان؟!
كذلك مما دون هذا ما هو في هذه الدنيا، مما خبأ الله لأهلها من أنواع المخوفات؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، فإن الشخص إذا أصبح وقد طلع الفجر عليه وهو في هذه الدنيا فإنه عرضة للأعراض والأمراض من يمينه وشماله، إما أن يبتلى في دينه وشر البلاءِ البلاءُ في الدين، يستلب إيمانه ويختم له بسوء الخاتمة، أو يبتلى بتقصير في صلاته التي هي أول ما يسأل عنه يوم القيامة، أو يبتلى بغضب يؤدي به إلى عقوق والديه، أو إساءة عشرة زوجه، أو غير ذلك من إفساد العلاقات الدنيوية، أو يبتلى بتقصير في فرض قد فرضه الله عليه سيسأله عنه على رءوس الأشهاد، أو يبتلى بأن تؤخذ أمانته من قلبه فيستيقظ وفي قلبه وكت كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ، وليس فيه شيء؛ فكثير من الناس ينامون على أماناتهم وهي في قلوبهم، ويستيقظون وقد استل الله هذه الأمانات من قلوبهم؛ ولذلك سترفع الأمانة حتى يقال: في بني فلان رجل أمين! أو يبتلى في بدنه فيصاب بأنواع الأمراض والأعراض، التي هي مخوفة مروعة، كم يسوء الإنسان أن يصبح بعد قوة فيعرض نفسه على طبيب أو يجرى له فحص فيرى على وجه الطبيب السآمة والنكد، فيسأله إن صدقه فيقول: أنت مصاب بسرطان الكبد، أو أنت مصاب بسرطان في القلب، أو أنت مصاب بسرطان في الدم، أو أنت مصاب بمرض الزهري، أو أنت مصاب بمرض الإيدز، أو غير ذلك من الأمراض التي ما بينها وبين أن تصيب الشخص إلا أن يؤذن لها أن يقول الله: (كن).
كذلك كم بين الإنسان وبين أن يسلط الله عليه داءً يشل أعضاءه ويشل جهازه العصبي، فيكون لقىً محمولاً على الأكتاف، يمله أقرب الناس إليه، لا يستطيع أن يتصرف في بدنه شيئاً، يمله أقاربه من طول ما يعالجونه، ينفقون عليه من ماله الذي جمعه بكد وشق نفس، ومع ذلك يعدونه عليه ويتضجرون منه، وهو الذي جمعه لهم وأسعدهم به، وهو لا يستطيع أن يرد هذا عن نفسه، فلماذا لا يقوي الصلة بالله الذي هو أرحم الراحمين؟!
كذلك يمكن أن يبتلى في أهله بفقد أقاربه وأحبته، الذين يمضون ليل نهار؛ فإنه في ليلة من السنة يفرق كل أمر حكيم، أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:5]، فمن أمر الله بقبض روحه في تلك السنة لا يمكن أن يتأخر، وكم رأينا من الذين كان الناس يتعلقون بهم تعلقاً بالغاً، من أقاربهم وأحبتهم وأزواجهم وأولادهم، وقد انقطعت العلاقات بينهم وانقطعت الصلة ولا يدرون هل هم في جنة أو في نار، ينظرون إلى قبورهم من بعيد؛ فلا يستطيع أحد منهم أن يجزم بأن هذا القبر روضة من رياض الجنة، ولا أن يجزم بأنه من حفر النار، كم رأينا ممن فقدنا من الآباء والأمهات والأجداد والإخوة والأخوات قد انقطعت أخبارهم، واتصلت أسفارهم، ورحلوا عن هذه الدنيا وودعوها إلى غير رجعة، وتركوا ديارهم وآثارهم، وبقي من خلفهم متمتعاً بما أحرزوه ويعيش فيما تركوه، وقد نسيهم وغفل عنهم، وهم في أحوج الحاجة إلى أن تكون صلتهم به دائمة، وأفقر أحوالهم وأحوجها إلى من يصلهم ويقدم لهم معروفاً حال فقرهم في قبورهم؛ فلماذا لا يجددون الصلة بالله قبل أن يكونوا في ذلك الحال؟!
كذلك كم شاهدنا ممن أتاه الله بسطة في المال؛ فبينما هو يتمتع به ويتصرف فيه في اليمين والشمال تأتيه جائحة من السماء فتأتي على أغلى أملاكه وأعلى أمواله ويعود فقيراً بعد أن كان من الأغنياء، ويرجع إلى حال المذلة والمسكنة بعد أن كان في حال يحسد عليها.
كم رأينا من الذين ضربت عليهم القيود، وضرب عليهم الحجر، وفلست أموالهم، وبقيت الديون متراكمة عليهم بعد غنىً وتصرف! كم رأينا بين ظهرانينا من الذين يجدون في بعض السنوات أنهم خلال هذه السنة قد ائتمنهم الله تعالى على أموال طائلة! وفي السنة التي تليها كانت أملاكهم أقل من ذلك وما وصل دخلهم إلى ما وصل إليه من قبل، ألا يتعظ هؤلاء بأنهم محتاجون إلى أن يجددوا صلتهم بالله، وأن يحسنوا علاقتهم بديان السماوات والأرض، المجازي على كل الأعمال.
إن الله سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق لنا ما في الأرض جميعاً قد اتصف بالرحمة التامة الكاملة، فله مائة رحمة، وزع رحمة واحدة منها بين أهل الدنيا؛ فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، وادخر عنده تسعة وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وهو الذي يجازي أهل الجنة بما وصفه بأنه: ( لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، وهو الذي يحل رضاه الأكبر بمن شاء من عباده؛ فلا يضره ما فعل أبداً، وهو الذي يحل مغفرته وستره على من شاء من عباده؛ فلا يُطْلِع الكرام الكاتبين على ذنبه، وهو الذي يحل توبته على من تاب عليه ليتوب، ولا يتوب أحد إلا إذا تاب الله عليه ليتوب، كما قال تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة:118].
وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وإذا انقطعت الأسباب وظهر العجز على من كان يدعي القدرة، وزال السلطان عمن كان يتصرف وكان لسان حاله يقول: هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:29]، إذا دعا الله حينئذ مخلصاً، ورفع إليه أيدي الضراعة؛ فإن الله يستحي أن يردهما صفراً، فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهو الذي يبسط الفضل قبل المسألة، يبادر عباده بالفضل قبل أن يسألوه، ويضاعف لهم إذا سألوه وهو الذي يغضب إذا لم يسأل، ويجيب إذا سئل ويعطي أكثر مما سئل.
إن منا من إذا سأله أحدنا شيئاً يعلم أنه سيعطيه إياه وهو شيء بسيط من أعراض الدنيا؛ فإنه يتعلق به ويحاول أن يحسن علاقته به دائماً، ومع ذلك فهو يعلم أنه سيمله، فوجه صاحب الحاجة مملول مسئوم، وإن ابن آدم يغضب إذا تعددت مسألته، كما قال الحكيم:
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
كذلك فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرفع السوء إذا حل بعباده ومن أمثلة ذلك ما ينزل بهم من البؤس عندما يقحطون، وعندما يظهر في هذه الأرض الفساد بما كسبت أيدي الناس وعندما يظهر البؤس وتنقطع الأرزاق، وتضن السماء بمائها وتضن الأرض بزرعها، وتنقطع المساعدات ولا يبقى إلا أن يمد الناس أيدي الضراعة إلى الله؛ فهو الذي يغيثهم حينئذ، هو الذي ينزل الغيث، فهو سبحانه وتعالى وحده الذي يملك ذلك ويتصرف فيه، وهو الذي يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وهو الذي يبسط كنفه على عبده إذا حشره إليه، فيقول: ( يا عبدي! أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا وكنت قد نهيتك عنه؟! فيقول: يا ربي! أذكره وكنت قد نسيته، فيقول: لكنني لم أنسه! )، ثم يغفر له ويتجاوز عما لديه، هو الذي يحشر أقواماً فينصب لهم كراسيَّ من نور عن يمين الرحمن -وكلتا يديه يمين- لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ [الأنبياء:103].
هو الذي يمن بفضله على من لا يظن ذلك، فكثير من الناس يصبح جاهلاً ناقص الإيمان لا صلة له بالله ولا معرفة له بالله، فيصب الله الإيمان في قلبه صباً؛ فيتوجه قلبه إلى الله وحده وتنتفض جوارحه مما سوى الله، ويكون حينئذ في الملأ الأعلى وتكون نفسه من النفوس الطيبة المختارة، وهو الذي يكتب بين عيني الشخص: أنه سعيد من أهل الجنة وهو لم يتسبب في ذلك وكان قبل أن يكتب ذلك بين عينيه لا يدري هل هو شقي أم سعيد، هو الذي يمن على عباده بالتوفيق والهداية إلى العمل الصالح والمثمر الذي يتنافسون فيه وينالون به الدرجات العلى، وهو الذي يمن عليهم بعد أن يوفقهم لذلك العمل بقبول ما عملوه؛ فيقبل منهم اليسير، ويتجاوز عنهم في الكثير، ( يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم )، هو الذي إذا أتاه العبد بقراب الأرض خطايا وأتاه لا يشرك به شيئاً أتاه بقرابها مغفرة، هو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، وهو الذي يرفع الشدة النازلة بالأفراد والمجتمعات، وهو الذي يمنع الزلازل والمحن التي يكتبها على من شاء ويرفعها عمن شاء، وهو الذي ينزل الصواعق فيصيب بها من يشاء ويصرفها عمن يشاء، وهو الذي ينزل البرد، فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، فهو إذاً الذي لديه ما يرجى وما يخاف؛ فلماذا لا نجدد الصلة به ونحسن العلاقة به؟!
كذلك في مجال المحبة، لا شك أن الإنسان إذا أحب شخصاً أكثر من زيارته، وأكثر من التحدث بذكره، وحسن العلاقة به، وحاول أن يتصل به بعيدات بين، وكلما أتيحت له الفرصة، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى أولى بالمحبة وأن عباده المؤمنين هم أشد حباً لله، كما قال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165].
إن محبة الله ذات حلاوة لا تنبغي إلا لأهل الإيمان، لا يذوق طعمها إلا أهل الإيمان الذين عرفوا الله حق معرفته، أما من دونهم فإنهم يعرفون الله تعالى بخوفهم منه، ويعرفونه بطمعهم فيما عنده ورغبتهم فيما عنده، لكنهم لا يعرفونه بالمحبة، يمكن إذا تذكروا وسئلوا عن وجه العلاقة بالله أن يتذكروا أنه الذي يملك ما يخاف منه، وأنهم يخافونه ويخشونه، أو أنه الذي يملك ما يرجى وما يطمع فيه، وأنهم يرجون ما عنده، ولكنهم لا يستحضرون أن الله سبحانه وتعالى قبل هذا وذاك هو الذي يستحق أن تبذل له المحبة، ولا يمكن أن يذوق أحد حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ويدخل في ذلك نفسه التي بين جنبيه، ووالده وولده والناس كلهم.
إن هذه المحبة مقتضية من المؤمن أن يكثر ذكر الله بلسانه وبقلبه، وأن يكثر الزيارة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي بعبادته والإتيان إليه، والخروج في سدف الليل إلى المساجد، وبالحج والعمرة، والجهاد في سبيل الله، وبعيادة المرضى، والإنفاق على الفقراء؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ( إن الله عز وجل يدعو عبده يوم القيامة فيقول: يا عبدي! قد مرضت فلم تعدني، فيقول: يا ربي! كيف أعودك وأنت ديان السموات والأرض؟! فيقول: مرض عبدي فلان فلم تعده فلو عدته لوجدتني عنده، ويقول: أي عبدي! جعت فلم تطعمني؛ فيقول: كيف أطعمك وأنت ديان السموات والأرض؟! فيقول: جاع عبدي فلان فلو أطعمته لوجدتني عنده، ويقول: ظمئت فلم تسقني، فيقول: كيف أسقيك وأنت ديان السموات والأرض؟! فيقول: ظمئ عبدي فلان فلو سقيته لوجدتني عنده ).
إن المحبة مدعاة لتكرر الزيارة وإن الذين يرون في هذه المساجد ويأتون إليها نياتهم متباينة، منهم من يأتي تعوداً وعادة ورثها وتربية ترباها، ومنهم من يأتي رغبة في الاجتماع بأهل الخير؛ ولأن يعد منهم، ولأن يحسب من أهل المسجد وأهل الخير، ومنهم من يأتي لغرض دنيوي، لكن منهم عباداً يجدون في قلوبهم أنها معلقة بالمساجد، يجدون في قلوبهم محبة لهذا المكان الذي يرفع فيه اسم الله وحده عالياً، يجدون في قلوبهم محبة لهذا المكان الذي لا ملك لأحد غير الله عليه، يجدون فيه الراحة والحرية، ولا يجدون الحرج ولا الانزعاج من الجلوس في المساجد وإطالة الانتحاب فيها وإطالة التردد عليها؛ ولذلك فإن هؤلاء من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.. )، وذكر منهم: ( ورجل قلبه معلق بالمساجد )، وهؤلاء هم المفردون، وهم المرابطون الذين ينتظرون الصلاة بعد الصلاة، ( فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط )، هؤلاء الذين يعودون المرضى لا ليذكروا، وينفقون على الفقراء لا ليشكروا، ويتصدقون على غير الطامعين وغير الراغبين ويخفون ذلك، ويجاهدون بأموالهم ويرسلونها إلى من لا يعرفونه ولا يعرفهم ولم يسألهم شيئاً ولم يلقهم مدة أعمارهم، ويجاهدون بألسنتهم فيرفعون كلمة الله عالية، ويعلمون أنهم سيتضررون في الدنيا من جراء ذلك، ولكنهم يعدون لذلك عدة من الصبر واليقين؛ فهؤلاء قد حققوا محبة الله، وهم الذين يستحيون من الله سبحانه وتعالى، فإذا أقدموا على عمل تذكروا وقت العرض على الباري عندما يسألهم عن هذا العمل، يجدون برهان الله حياً في قلوبهم يحول بينهم وبين الوقوع في المعصية أو الاستمرار فيها.
والناس في ذلك متفاوتون؛ فمنهم من يقوى هذا البرهان في قلبه فلا يسمع للمعصية صوتاً، ولا يجد لها ريحاً، ولا يرى لها حركة، وهؤلاء هم المحفوظون الذين قوي برهان الله في قلوبهم، فأغناهم الله بحلاله عن حرامه، وأغناهم بطاعته عن معصيته، وقوم آخرون يكون هذا الحاجز الإيماني بينهم وبين المعصية بمثابة الزجاج الحاجز للصوت، فيرون حركة المعصية ولكنهم لا يسمعون صوتها، ولا يجدون ريحها، وهؤلاء أحسن حالاً ممن بعدهم، ثم آخرون يكون الحاجز بينهم وبين المعصية بمثابة السرادق من القماش، فقد لا يرون حركتها ولكنهم يسمعون صوتها ويجدون ريحها، وآخرون يكون الحاجز بينهم وبينها رقيقاً جداً؛ فنجدهم ينغمسون فيها، في كل الأوقات، وبرهان الله في قلوبهم قد خبت وضعف، ولم يجددوه، ولم يقووا الصلة بالله، هؤلاء قد ذابت شعلة الإيمان في قلوبهم ولم يتعهدوها، تعاهدوا أمراض أبدانهم، وعرضوها على الأطباء وأجروا الفحوص، ولكنهم لم يتعاهدوا أمراض قلوبهم ولم يجروا الفحوص فيها ولم يتعالجوا من أدوائها، وما اهتموا بها، حتى اتسع الخرق على الراقع، ووصلت إلى درجة الختم، أعاذني الله وإياكم! وإن كل شخص بينه وبين الله سبحانه وتعالى حد من الذنوب إذا وصل إليه ختم على قلبه، وما دون ذلك الحد في المشيئة، إن شاء أخذ به، وإن شاء عفا عنه.
وكذلك فإن هؤلاء الذين رق هذا الحاجب وهذا الحاجز في أذهانهم وفي أرواحهم نجدهم يقارنون الذنوب بمقارنات هي أعظم من الذنوب؛ فكل شخص ربما يقترف بعض الذنوب وقليل من الناس من يعصم عنها بالكلية، ولكن الموفقين للتوبة والاستغفار والندم يرجعون كأن لا ذنب لهم؛ فالخارج من الذنب والتائب منه كمن لا ذنب له، وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( إن عبداً أذنب ثم قال: يا ربي أذنبت وعلمت أن لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي، فيقول الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لك، ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يذنب؛ فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي؛ فيقول الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لك، ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يذنب؛ فيقول: يا ربي! أذنبت وعلمت أنه يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك، فيقول الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لك، لا يضر عبدي ما فعل بعدها أبداً )، وهذا المقام سبب المغفرة فيه ليس مجرد الاستغفار باللسان، وإنما هو العلم؛ لأن الله لم يقل: استغفرني عبدي، وإنما قال: ( علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به ) فهذا العلم وهو معرفة الله واليقين به هو سبب هذه المغفرة الدائمة التي لا يضر بعدها ذنب.
هذه القرائن التي تقترن بالذنوب، فتكون أعظم منها منها:
الإصرار على الذنب؛ فنجد بعض الناس يذنبون بعض الذنوب، وإذا وقعوا فيها وقد عرضت عليهم فرص التوبة والاستغفار، والله سبحانه وتعالى يخاطبهم في كتابه فيقول: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:53-61].
إن هذه الفرصة السانحة التي تنادينا أن نتوب إلى الله ونستغفره، وأن نجدد الصلة به لهي فرصة حقيقية بأن تبتذل، ولهي فرصة حقيقية بأن لا تضيع، ولكن بعض الناس يكتب عليهم أنهم يصرون على الذنوب؛ فإذا أسرفوا على أنفسهم ووقعوا في ذنب تمادوا فيه، وأصروا عليه واستمروا، وإصرارهم عليه مكتوب، فهم ترفع عنهم التقارير إلى الله سبحانه وتعالى وهو أعلم؛ فيأتي الملك فيقول: يا ربي عبدك فلان مصر على الذنب الذي فعل في الصباح، ويأتي آخر في الصباح فيقول: يا ربي عبدك فلان مصر على الذنب الذي فعل بالأمس، وهكذا حتى يستمر على هذا عشرة أيام أو يستمر عليه شهراً، أو سنة، أو في بعض الأحيان يستمر عليه السنوات ذوات العدد، إن هذا لا يستحي من الله؛ لأنه لو استحيا من الله؛ لتذكر هذه التقارير المرصودة عند الله في كل صباح ومساء، وهي ترفع عنه وهو مصر على ذنب واحد، إن هذا الإصرار أعظم من أصل المعصية.
ثم القرينة الثانية هي: تعظيم الذنب عن المغفرة، إن كثيراً من الناس يتوجه إلى الله، ويسمع الموعظة فينتفع بها ولكنه عندما يريد الإقبال على الله والتوبة يأتيه الشيطان من قبل ذنوبه، فيقول: أنت الذي فعل كذا، وأنت الذي فعل كذا، كيف تكون بعد هذا من أهل الجنة؟! فيتعاظم ذنبه على المغفرة ويظن أن الله لا يغفره، وأن ذنبه أعظم من مغفرة الله ورحمته، وهذا أعظم من أصل الذنب، وهو مدعاة لأن يحل عليه خذلان الله، فيخذله الله تعالى، وتقذره نفس الرحمن، وبذلك يستمر في عماه ولا يتوب ولا يتراجع.
كذلك القرينة الثالثة هي: احتقار الذنب؛ أن تزين للشخص نفسه ذنباً فيقع فيه، ثم بعد أن يقع ينظر إلى جسمه معافىً لم تصبه عاهة، وينظر إلى عقله معافىً لم تصبه آفة؛ فيظن أنه قد نجا من مكر الله، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، يظن أنه قد تجاوز العقبة، وبذلك يستصغر هذا الذنب الذي حصل، فيقول: هذه معصية عادية، فعلها فلان فلم تصبه مصيبة، وفعلها فلان ولم يعاقب عليها في الدنيا، ويكون بهذا مستصغراً للذنب متصفاً بوصف المنافقين، فقد وصف ابن مسعود رضي الله عنه المنافق بأن ذنبه عنده بمثابة ذباب نزل على أنفه فنفاه بيده هكذا، وينساه بعد أن يطير عنه، وأن ذنب المؤمن بمثابة جبل فوق رأسه يخشى أن يقع عليه ويخافه على كل أحيانه.
كذلك من هذه القرائن: الجهر بالذنب وإبدائه أمام الناس، وذلك أن الجهر بالذنب دعوة إليه، ومن في قلبه حياء من الله أو محبة له لا يمكن أن يبارزه في المعصية جهرة على رءوس الأشهاد، بل يتخفى بها ويفعلها في الخفية وفي خلوته، وهو بذلك ناقص الإيمان في وقت اقترافه للمعصية؛ لكنه لا يستطيع أن يبارز الله بها على رءوس الأشهاد؛ لأن معه بقية من الحياء، أما الذي يبارز الله بالمعصية على رءوس الأشهاد، ويشهد الناس وينادي فيهم تعالوا فأشهدوا على معصيتي لله! هل تظنون هذا يريد أن تقوى صلته بالله؟! هل تظنونه يحافظ على علاقته بالله سبحانه وتعالى وهو يشهد عباد الله على معصيته واقترافه للذنب وعدم خجله منه أمام الناس؟! ويدعو الذين لا يتجرءون على الله أن يتجرءوا عليه بفعله هذا؛ وبذلك يكون داعياً على أبواب جهنم؛ لأنه أشهر معصيته ودعا إليها، وأعلنها على الملأ، وكثرة المساس تزيل الإحساس.
إنكم اليوم في هذه البلاد ما زالت أجسامكم تقشعر من بعض الذنوب التي لم تألفوها ولم تعرفوها بين ظهرانيكم، ولكنها عندما تأتي وتظهر وتنتشر سيزول ذلك الإحساس، وسيراها الناس فيعتادونها ويزول ما كانوا يقشعرون منه في أجسامهم؛ لأنهم قد شاهدوه وانتشر بينهم.
ألا ترون أنكم اليوم لو رأيتم امرأة سافرة قد خرجت وهي لا ترتدي إلا فستاناً فقط وتمشي في الشارع، أو تلبس ثوباً قصيراً يصل إلى ركبتيها فقط وهي تمشي في الشارع أن أبشاركم ستشمئز من هذا وتستنكره، بلى! أنكم ستستنكرونه الآن، ولكنكم على طريق من سبقكم وقد سبقكم كثير من الدول التي كان أهلها يقشعرون من هذا وينكرونه، ثم تعودوا عليه بالتدريج ودرج بينهم فقبلوه، وبذلك ماتت تلك الحاسة في قلوبهم، ومات الإحساس الذي كانوا يجدونه في قلوبهم من هذه الجهة قد مات وتبلد ووضع عليه الضماد وبرئ مكانه، لكنه بقي جرحاً عند الله، وبقي جرحاً في الدين.
إن كثيراً من الذنوب والمعاصي التي انتشرت بيننا لم يكن كثير من آبائنا، وأسلافنا يعرفونها، ولو خرج أحد منهم من قبره، فرآها اليوم لاقشعر جلده منها وأنكرها، وكذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا رأوا أمراً منكراً حدث، بادروا لإنكاره وتأثروا تأثراً بالغاً، حتى إن أحدهم لما رأى تهافت الناس على الدنيا، وولعهم فيها؛ بال الدم من الجزع على ما حصل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، حين رأى الغربال ورأى الناس يرققون الخبز؛ بال الدم، وقال: والله الذي لا إله إلا هو لقد خرج محمد من هذه الدار -دار الدنيا- ولم ير شاة مصلية، أي: مشوية بكاملها، وأنتم تتنافسون في ترقيق الخبز؛ فبال الدم خوفاً على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أن يلحق بها ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم من التنافس في الدنيا.
إن ما نراه بيننا من هذه الذنوب التي تأتي في البداية بمظاهر منكرة، لكنها يسكت الناس عنها، وتأتي قليلة نادرة ثم لا تزال تزداد وبسكوت الناس عنها تنتشر وهي عروة من عرى الإسلام تنكث، وهي جزء من العلاقة بالله يقضى عليه، وهي مؤامرة على العلاقة بالله سبحانه وتعالى في ذلك المجال وذلك الجانب، لكن إذا قام الناس في وجه الفساد فأنكروه، وكلما رأوا منكراً وقفوا في وجهه ورأوا أنه من نقص الدين ومن سوء العلاقة بالله، وأنه لا يمكن أن يحصل نقص في الدين وهم أحياء يمتعون بحواسهم وجوارحهم، كما قال أبو بكر رضي الله عنه: (أينقص هذا الدين وأنا حي؟!) إذا كان كذلك فإن الناس ما زالوا على خير، وإذا قاموا بإنكار المنكر كلما رأوه فإنهم يسلكون سنة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أما إن كان المنكر ينتشر بينهم ويستشري ولا أحد ينكره؛ فمعناه أنهم سلكوا سبيل اليهود، الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه؛ فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81]، ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم ).
إننا هنا في هذا المسجد إذا سألنا أنفسنا: هل نرضى أن تطبع قلوبنا على قلوب من عرفناهم من الفجرة الذين يساكنوننا ويعايشوننا؟! لا يرضى أحد منا أن يضرب قلبه على قلبه كحذو النعل بالنعل، هل ترضون أن يكون إيمانكم على إيمان أشخاص تعرفونهم وتعرفون سلوكهم وتعرفون سوء علاقتهم بالله؟! هل ترضون أن يؤخذ الإيمان من قلوبكم فيوضع على قلوبهم من الإيمان ويقاس عليه حذو النعل بالنعل؟! إذا كنتم لا ترضون بهذا؛ فإن عليكم أن تغيروا ما هم فيه؛ لئلا يضرب الله قلوب بعضكم على بعض؛ فضرب القلوب بعضها على بعض معناه أن يجعل اتجاهها موحداً والإيمان فيها واحداً وعلاقتها بالله موحدة، يغير الله تعالى أقواماً كانوا أهل هداية فيردهم على أعقابهم، وينكصون على أدبارهم؛ بسبب أنهم رأوا أعداءه والمسيئين العلاقة به؛ فلم يغيروا عليهم ولم ينكروا.
إن هذه العلاقة بالله سبحانه وتعالى وأنتم قد رأيتم حاجتكم إليها ورأيتم ثلاثة أسباب من أسباب المحافظة عليها وهي: الخوف، والطمع، والمحبة، ورأيتم أن الله غني عنكم، وأنه لا يرضى لعباده الكفر؛ لهي جديرة بأن تعاهد وتجدد، وإن تعاهدها وتجديدها لا يتم إلا بما شرع الله؛ فالغني الحميد الذي ليس بينكم وبينه رحم ولا نسب، وليس لكم عليه دالة، ولا يمكن أن توصلوا إليه نفعاً ولا أن ترفعوا عنه ضرراً، وهو الذي يبسط عليكم خيره ورزقه، وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، وهو الذي أسبغ عليكم النعم الظاهرة والباطنة؛ لحري أن تتبعوا ما شرع لكم، وأن ترضوا به وأن لا تزيدوا عليه ولا تنقصوا منه؛ فيصبح الشخص بعد أن كان إيمانه جديداً قد تخرق إيمانه وبلي في قلبه، وأصبح بمثابة الثوب الخلق الذي فيه الخروق، ولا يزال يبلى إذا لم يجدده حتى يصل إلى نهايته، وحينئذ يختم له بسوء الخاتمة، أما إن كان كلما وجد فرصة لتجديد إيمانه بادر إليها كما شرع لنا الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلما سمع آية من كتاب الله ازداد إيمانه، كما بين الله وفي وصف الذين رضي حالهم، والذين قال فيهم: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125]، فالمؤمنون إذا سمعوا آية واحدة من كتاب الله لم يخروا عليها صماً وعمياناً، بل انتفعوا بها وعملوا بما فيها وأحبوها؛ لأنهم آمنوا وأيقنوا أنها كلام الله الذي وجهه إليهم لهدايتهم وإرشادهم، وإصلاح داريهم، وأما من في قلوبهم مرض؛ فإنها تزيدهم غواية، وتنقص إيمانهم، ولا يتحملون سماعها، أو إذا تحملوه لم يتأثروا به ولم يستفيدوا منه.
إن هذا القرآن كفيل بتجديد الإيمان؛ ولذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لأصحابه: (تعالوا بنا نؤمن ساعة) فيقرءون آيات من كتاب الله ويتدبرونها ويتحلقون عليها بالمسجد، لا يجمعهم إلا كلام الله، وبذلك يجدّ الإيمان في قلوبهم فإذا خرج أحد منهم إلى بيته واضطجع على فراشة تذكر العلاقة بالله، وتذكر ما سمع فتجافى جنبه عن المضجع وقام يصلي ويدعو الله سبحانه وتعالى في السراء قبل الضراء، تذكر حاله لو كان بمثابة الغريق المرمي في البحر؛ فإن البر عند الله بمثابة البحر، فما أهون الأرض كلها على الله إذا عصاه أهلها أن يرسل عليهم سوطاً واحداً من عذابه يعدم الأرض ومن عليها، إن سوطاً واحداً من عذاب الله لو وصل إلى الكرة الأرضية بكل مجموعتها الشمسية لأذابها وأزالها، فالله سبحانه وتعالى لو كشف لحظة واحدة عن وجهه الكريم لأحرقت سبحاته السموات السبع والأرضين السبع ومن فيهن.
فلذلك إذا استفاد الشخص من هذا النور وهذ الوحي الذي أنزله الله، واستطاع أن يعرف كيف يجدد به إيمانه؛ فإنه يكون مدعاة لأن يربط صلته بالله وأن يتعاهدها.
إن كثيراً من الدول تحرص على ربط العلاقات الدبلوماسية مع من تخافه أو تطمع فيه من الدول حتى ولو كان عدو الأمس، وأنتم تشاهدون زماننا هذا الذي يسمى بزمان الهرولة، الذي يهرول الناس فيه إلى اليهود، ويهرول المسلمون فيه إلى اليهود طمعاً في دريهماتهم، وفيما يقدمونه من مساعدات موهومة، ماذا حملهم على المبادرة إلى ربط العلاقات الدبلوماسية مع اليهود وهم أعداء الأمس؟! وإذا رجعوا إلى أرشيف وزاراتهم وجدوها مليئة بالوثائق التي تلم بالعداء المستمر الأبدي باليهود، هل تغير اليهود؟ لم يتغيروا، ولكن تغير أهل الإيمان -تغير المؤمنون- أما اليهود لم يتغيروا، فيهود اليوم هم يهود الأمس، لكن أهل الإيمان هم الذين تغيروا.
هذا الحرص على الدنيا الذي جعل الناس يطلبونها من غير وجهها، ويرغبون فيما عند اليهود.
والذي ينبغي أن يكون أهل الإيمان أشد حرصاً منهم على الوجه الصحيح وأن يطلبوا الرزق عند خالقهم الذي يملكه، وأن ينظروا إلى علاقتهم بالله على أنها علاقة مصيرية، وأن ينظروا إلى أنفسهم عندما يحتاجون الشفعاء في ذلك اليوم الذي لا يشفع فيه إلا من أذن الله له؛ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه، والملائكة كذلك: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28].
إذا عرف الشخص ذلك عظم جلال الله في قلبه، وإذا عظم جلال الله في قلبه وآمن به تبخر من دونه وزالت كل العلائق الأخرى، وعلم أن اتكاله واعتماده لن يكون إلا على من إليه الاتكال وعليه الاعتماد، سبحانه وتعالى وحده، وبذلك يستطيع أن يقول في أوقات الشدة: حسبي الله ونعم الوكيل! كما قال إبراهيم عندما رمي به في النار، كثير من الناس يقول: حسبي الله ونعم الوكيل! ولكنه يقولها بلسانه ولا يحققها بقلبه، فــ(حسبي) معناه: كافياً، الذي لا أعلق أملاً إلا به ولا أرفع رغبة إلا إليه، ولا أقوي رجاءً إلا منه، ولا أربط صلة إلا به، هل أنت صادق إذا قلت ذلك؟! راجع حساباتك وراجع نفسك حتى تعلم هل أنت كاذب على الله الذي يعلم السر وأخفى، أو أنت صادق عندما تقول: حسبي الله! فإذا كنت صادقاً؛ فاعلم أن البشر كلهم لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، وإن اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كبته الله لك، وأنك بهذا ينبغي أن لا تكثر ذكرهم ولا شكرهم، وأن تتعلق بالذي خلقهم وسواهم.
مالي أذل لمخلوق على طمع هلا سألت الذي أعطاه يعطيني
الذي وهبه ومنحه أليس قادراً على أن يهبك مثل ما وهبه؟! كيف تتعلق بما لديه هو وتتعلق بفضلة زاده وأنت بين يديك مسألة من لا يرد له سائل، ومن يعطي فوق الحاجة ومن يرزق من يشاء بغير حساب؟! كيف لا تعلق حاجتك بالله؟! كيف تجزع إذا قطع غير الله معك العلاقة وأنت تعلم أنك ستفد عليه فرداً، وأن كل الناس يفدون عليه؟! وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:95]، وأن كلهم ينقل إليه على آلة حدباء محمول، كما قال كعب بن زهير :
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب
يتعاقبون عليه، يعقد النعش الآن لفلان، ثم قد علم الله أن الذي يليه هو فلان، وقد يكون من حامليه في ذلك الوقت؛ فإذا علمت أن انفرادك إليه كائن لا محالة فلماذا تجزع على فوت العلاقة مع غيره؟! هلا تمثلت بقول الشاعر:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
أو هلا تمثلت بقول مولود بن أحمد الجواد رحمه الله تعالى:
أستودع الحافظ المستودع الوالي ديني ونفسي وأولادي وأموالي
وأسأل المتعالي أن يوفقني وأن يسدد أفعالي وأقوالي
أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه ربي القوي فكان الضعف أقوى لي
ما ذل ما ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوال
وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالأموال
متى تفز بموالاة الإله يدي فعادي يا أيها المخلوق أو والي
كم رأيتم من كان مريد لقاءه يقدم الطلب يمكث شهراً لا يأتيه الجواب، ينتظر لقاءه ويمر قبل لقائه بقاعات التفتيش، ولا يدخل على الرئيس إلا بعد تعب ونصب، وأصبح اليوم يسأل اللقاء فلا يعطاه، وأنتم تشاهدون هذا بين ظهرانيكم، وليس الزمان ببعيد، وما بالعهد من القدم، تجدون أقواماً كانوا محجبين بالأمس لا يصل إليهم أحد إلا بعناء وشق الأنفس، وهم اليوم لا يذكرهم ذاكر ولا يزورهم زائر، ألا تقيسون عليهم من سواهم؟! ألا تعلمون أن ما جاز على المثل جاز على مماثله، وأن الدنيا لا تدوم على حال، وأن الأعراض زائلة، وأن الله هو الباقي وحده؟! إذا كان الأمر كذلك فمعناه: أن العلاقة التي يجب الحفاظ عليها، والتي يجب أن تجدد وتتعاهد هي العلاقة بالله وحده.
هذه العلاقة تقتضي منك ذكراً وشكراً، وقد قسم الله لك الزمان بين يوم وليلة؛ لتذكره وتشكره، فقال سبحانه وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:61-62]، فالليل والنهار خلفة متعاقبان لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، فيأتيك الليل تخلو فيه بنفسك ويسترك الله بالظلماء وهو مطلع على حالك لتتذكر نعمة النهار، ثم يعاقب هذا الليل ويكوره على النهار فيأتي النهار بضوئه وإنارته؛ لتباشر أعمالك وأنشطتك.
ولتتذكر حالك البارحة، وتعلم أن الزمان لا يدوم على حال وأنه سيتغير، تجد نفسك مضطراً لاستغلال هذه الأوقات قبل فواتها، فأنت تعلم أن وقت إغلاق المكاتب هو الساعة كذا، وأن أوقات إغلاق الأسواق الساعة كذا، فتبادر في الخمس الدقائق الأخيرة لتنتهز فيها وتؤدي كثيراً من المشاوير وكثيراً من العمل، ومع ذلك ألا تستحضر أن اللحظات الأخيرة من عمرك هي أغلى وأثمن من تلك اللحظات؟!
بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير محمود من الزمن
يسترك المرء فيه كل فائتةٍ من الزمان ويمحو السوء بالحسن
بقية العمر لا ندري متى تكون، ولا نعلم في أي لحظة يأتينا الملك الذي هو رسول من عند الله تعالى، ولا يمكن أن يعصي ما أمر به؛ فإذا كان كذلك فعلينا أن ننتهز هذه الفرصة مثلما ننتهز الفرص الأخرى، وأن نبادر إلى تحسين علاقتنا بالله؛ حتى لا يقدم أحدنا على الله إلا وهو يحسن ظنه بالله، كما ثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يقدمن أحدكم على الله إلا وهو يحسن ظنه بالله )، وإحسان الظن بالله ليس بالتمني، إنما هو بأن تعلم أنك لم تفرط في جنب الله، فإذا قدمت عليه علمت أنه هو الرؤوف الرحيم، وأنه يعلم من داخل قلبك الإيمان به ومحبته، وأن ما فعلته من المعاصي قد ندمت عليه وتبت منه، فمن مات على هذا فإنه قد حسن ظنه بالله وقدم عليه وهو محسن ظنه به، أما من مات وهو سادر في غفلته؛ فأتاه ملك الموت وهو منغمس في أوحال الدنيا ومنغمس في العلاقة بغير الله؛ فلينظر إلى أولئك الذين ينغمس في العلاقة بهم هل سينفعونه عندما يأتيه الملكان؟! أو ينفعونه عندما تستوي رجلاه على الصراط؟! أو ينفعونه عندما يؤخذ بيده اليسرى؟! أجارني الله وإياكم! فتدخل من صدره فيعطى كتابه وراء ظهره، أو ينفعونه عندما يطرد عن حوض محمد صلى الله عليه وسلم كما تطرد غرائب الأبل؟! أو ينفعونه عندما تعلن النتائج على رءوس الأشهاد؟! وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59]، إذا كان كذلك فعليه أن يهتم بعلاقته بالله سبحانه وتعالى وبتعاهدها أكثر مما يهتم بغيرها من العلاقات.
وأقول قولي هذا، وأسأل الله أن يكون ما قلته حجة لنا لا علينا، وأن يهدينا سبحانه وتعالى لتحسين العلاقة به، وتجديد الصلة به، وأن يجعلنا من المنتفعين بالذكرى، وأن يجعلنا أجمعين من الهداه المهتدين، غير الضالين ولا المضلين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر