بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى جعل التكليف امتحاناً لبني آدم، وجعل شقه ما كان مخالفاً للهوى، فللإنسان هوىً يدعوه إلى الانسياق وراءه، فإن انساق وراءه لم ينجح في أي امتحان، وإن خالف هواه فإن الله وعده على ذلك بالجنة.
وإن من أبلغ الامتحانات التي امتحن الله بها عباده مما يخالف الهوى: إنفاق المال في سبيل الله؛ وذلك أن الناس يقولون: المال شقيق النفس، ويظنون أن بقاءهم مشروط ببقاء المال بأيديهم، ولا ينالونه في الغالب إلا بجهد ومشقة وعنت؛ فلذلك كان إنفاقهم امتحاناً شاقاً، قل من ينجح فيه من الناس؛ لكن الله سبحانه وتعالى بايع عباده المؤمنين على ما آتاهم من الأنفس والأموال بيعةً أكدها في التوراة والإنجيل والقرآن، فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111] ، ودعاهم سبحانه وتعالى إلى التجارة الرابحة معه فيما آتاهم من الأموال، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:10-11]، وبدأ هنا بالأموال قبل الأنفس.
وكذلك فإنه سبحانه وتعالى عندما دعا الناس إلى الإنفاق في سبيله، علم مشقة ذلك على النفوس، ومخالفته للهوى، فرتب عليه من الأجور الشيء الكثير، فجعل النفقة مضاعفةً إلى سبعمائة ضعف كما في الآيات الواردة من سورة البقرة؛ ولهذا قال الله تعالى: وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [محمد:36-37] .
ثم حض بعد ذلك على الإنفاق فقال: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] ، وقد عطف الله سبحانه وتعالى هذا الامتحان على الامتحان بالإيمان، فقال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7] .
وهذه الآية فيها تلميح عجيب!! بين الله فيه: أن كل ما في هذه الدنيا من الأموال والمنافع هو من الخلق الذي خلقه الله في الأيام الأولى من خلق العالم، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:9-10] ، فكل أقوات الأرض وما فيها من الأموال والمنافع كانت قد خلقت في الأيام الأولى من خلق العالم، ولم توجد بعد ذلك ولم تنقص، فما يأكله الناس منها راجع إلى الأرض، يخلفه الله سبحانه وتعالى فيما بقي في الأرض كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26]؛ ولكنه دولة بين الناس، يخرج من يد هذا ليصل إلى يد هذا إما بالبيع وإما بالتفليس وإما بالسرقة وإما بالغصب، وإما بالميراث، فالمال دولة بين الناس ينتقل من يد هذا إلى يد هذا، كحال سكنى هذه الأرض، فما من بيت معمور اليوم بالسكان في الأرض إلا وقد سكنه سابقون وسيسكنه لاحقون، وهكذا أمر الدنيا كلها، فإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نعلم أن ما تحت أيدينا ليس ملكاً لنا؛ ولهذا قال الله تعالى: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7] ، فأنت مستخلف أي: خالف لمن سبقك، ومخلوف أيضاً فيما تحت يدك، فستسلمه لآخرين إما طوعاً وإما كرهاً، ومن هنا يعلم أن الله ما ملكنا الأموال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1] ، فلم يملكنا الأموال، وإنما استخلفنا فيها، فجعلها تحت أيدينا أمانةً عندنا، ووكالةً فقط، والوكيل معزول عن غير النظر، وهو ينتظر العزل في كل حين؛ ولذلك فعزله إما بالموت، وإما بالحجر، وإما بالفقر، كل ذلك عزل للإنسان عن التصرف فيما تحت يده، ولا يدري الإنسان متى يقع ذلك: فما يدري الفقير متى غناه، وما يدري الغني متى يعول، كل ذلك بقدر الله سبحانه وتعالى، ووفق الحكمة البالغة لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41].
لقد جعل الله الأسباب التي تجمع بها الأموال مقسومةً إلى حلال وحرام، وجعل من الناس من يبذل الجهد الكثير فلا ينال إلا القليل مقابل ذلك، ومنهم من يبذل الجهد اليسير فينال الكثير.
وكم من إنسان أعطاها وقته، فلم يبق أي حيلة يمكن أن يعملها في جمع المال إلا أعملها، ومع ذلك مات فقيراً، وخرج من الدنيا لم ينل مراده، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكم من إنسان أعمل الحيل لجمعها، فلما بلغ المستوى الذي يطلبه كان على موعد مع ملك الموت.
فبينما هم دارجو مراقي زهرتها إذ هجمت حلاق
وكم من إنسان آخر لم يعمل من الحيل إلا الشيء اليسير، فاجتمع عنده أكثر من حاجته، كل ذلك نراه ونشاهده بين ظهرانينا من الذين يعملون للدنيا، فليس الغنى عن كثرة العرض، ولا عن إعمال الحيل، بل هو قدر يكتبه الله سبحانه وتعالى في الدنيا كلها بقسمته، لا مبدل لحكمه؛ ولهذا قال الحكيم:
باتت تعيرني الإقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما
تباً لرأيك ما الإقتار عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما
فالدنيا كلها مقسومة قسماً كما قال لبيد : فإنما قسم الخلائق بيننا قسامها.
وكذلك إعمال الحيل ليس هو الذي يوصل إلى الغنى، بل إنما يوصل إليه القدر؛ ولذلك قال ابن زريق في عينيته:
لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه
جاوزت في نصحه حداً أضر به من حيث قدرت أن النصح ينفعه
فاستعملي الرفق لتأنيبه بدلاً من قلبه فهو مضنى القلب موزعه
يكفيه من حزن الترويع أن له من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه عزم على سفر بالرغم يجمعه
كأنما هو من حل ومرتحل موكل بفضاء الله يذرعه
إذا الزمان أراه في الرحيل غنىً ولو إلى السند أضحى وهو يقطعه
وما مكابدة الإنسان واصلة رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه
قد قسم الله رزق الناس بينهم ما يخلق الله من خلق يضيعه
لكنهم كلفوا رزقاً فلست ترى مسترزقاً سوى الغايات يقنعه
والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه عفواً ويمنعه من حيث يطمعه
فلذلك على الإنسان أن يجمل في الطلب أولاً، ثم ليعلم أن ما جعل تحت يده ليس بالضرورة مما سينتفع به، بل كثير من الناس يبتلى بكثرة العرض، وتجعل تحت يديه أملاك طائلة، ومع ذلك لا يرزق منها إلا بالشيء اليسير، فيكون هو خادماً للدنيا، بدل أن كانت الدنيا خادمةً له.
إن كثيراً من الناس يعيش مهموماً مغموماً في مكابدة هذه الدنيا، إذا اختل منها أي ركن من الأركان أو حتى أي نفل من النوافل ضاقت به الأرض بما رحبت، وظن أن الآخرة قد أقبلت، وقد أقبلت فعلاً؛ لكن ليس معنى ذلك أن ما اختل من الدنيا شيء لم يقدر من قبل أو لم يكن، بل هكذا حيل الدنيا كلها، وقديماً قال الحكيم:
مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك
فلن تنال من الدنيا إلا حظك، وعلى هذا عليك أن تعلم قيمة هذا المال، وقيمة هذه الدنيا كلها، وأن تعلم أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأنه لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، فالله سبحانه وتعالى جعل الآخرة خيراً وأبقى؛ ولذلك خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم -وخطابه خطاب لأمته- بهذا الخطاب البليغ فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132]، فالعاقبة للتقوى، وما في هذه الدنيا من الأعراض كله عرض سيال، وبقاء الحال من المحال، فأمرها إلى زوال، وعلى هذا فإن الإجمال في طلبها، والتقلل ما استطاع الإنسان منها خير له؛ ولهذا قال الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] ، فعلى الإنسان ألا ييأس على ما فاته من هذه الدنيا، وعليه ألا يفرح بما نال منها، فإن ذلك كله امتحان يمتحنه الله به، وإذا كان كذلك فليعلم المؤمن أن عليه في الدنيا حقين:
الحق الأول: أن يأخذها من حلها.
والحق الثاني: أن يضعها في محلها.
فأخذها من غير حلها محادة لله ورسوله، ووضعها في غير محلها غاية السفه والخسران، فعلى الإنسان حينئذ ألا يأخذها إلا من حلها، وألا يتبع نفسه ما ليس من حله نفسه، فإن الإنسان الذي يتبع نفسه المال، ويريد الوصول إليه مطلقاً -سواءً جاء من حله، أو من غير حله- مفتون بهذه الدنيا، والمفتون لا رأي له؛ لأنه قد تملك الهوى قلبه فأصبح عابداً لهواه، وقد جعل الله سبحانه وتعالى عبدة الهوى أضل الناس: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، فالذين يتبعون الهوى هم أضل الناس.
على الإنسان قبل الجمع أن يقدر الهدف. لماذا تجمع يا أخي؟! وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر ).
قال أهل العلم: المال كله كذلك، وإنما مثل النبي صلى الله عليه وسلم بالخيل؛ لأهميتها عند العرب، وإعجابهم بها، وإلا فالمال كله كذلك، وهذا النوع هو على القاعدة التي سبق أن بينتها في تفسير السلف للقرآن، فإن تفسير السلف كله للقرآن إنما يقصد به ضرب الأمثلة للتفهيم، كمن سألك عن الخبز: ما هو؟ فأخذت خبزةً فقلت: هذا الخبز، فليس معنى ذلك أنك تزعم أنك ترفع له ما في علم الله من الخبز، وإنما معنى ذلك: أنك تبين له مثالاً يفهم به مدلول هذه الكلمة في لغة العرب، فكذلك ضرب المثل بالخيل هو ضرب للمال كله، فالمال كله لثلاثة:
النوع الأول: هو لرجل أجر، وهو: من لم يأخذه إلا من حله، ولم يضعه إلا في محله، وابتغى به وجه الله سبحانه وتعالى، وأعده لما كلفه الله به، فكان في يده ولم يكن في قلبه، لا يحزن على ما فاته منه، ولا يفرح بما نال، وما كان منه تحت يده فهو في يده بعيداً عنه، لا يتأثر به، ولا يدخله داخل قلبه، فالمال محله اليد، ليس محله القلب.
النوع الثاني: من هو له ستر، وهو من أراد به التعفف عما في أيدي الناس والاستغناء عنهم، والحرية والاستقلال في الرأي، ولم يأخذه إلا من حله، وأراد أن يأخذ ما أحله الله له منه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32] ، فهذا النوع المال له ستر يستره من الذم، فلا يذمه الناس بألسنتهم؛ لأنه جعله وقاية دون عرضه.
النوع الثالث: هو عليه وزر، وهو من جمعه من غير حله، أو بعد أن جمعه -ولو من حله كمن ورثه- صرفه فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، فجعله لواءً لله ورسوله وإرصاداً للكافرين، وتجبر به على عباد الله، وطغى وبغى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] ، فهذا المال عليه وزر يأتي يحمله يوم القيامة وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13]، فسيأتي يحمله جميعاً؛ لأنه أخذه من غير حله، وهذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره للغلول، والغلول: أخذ المال العام قبل القسمة من غير أن يأخذ الإنسان نصيبه منه فقط، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الغلول فعظم من شأنه فقال: ( ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته فرس لها حمحمة، يقول: يا محمد! أغثني، ولست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول: يا محمد! أغثني، ولست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خوار، يقول: يا محمد! أغثني، ولست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة تيعر، يقول: يا محمد! أغثني، ولست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته صامت يقول: يا محمد! أغثني، ولست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تلوح، يقول: يا محمد! أغثني، ولست له بمغيث. ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟ ).
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من هذا الخطر الداهم، الذي يتجاسر عليه أقوام جهلوا أو تجاهلوا مصير ذلك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك الخطر في بعض أنواع المال بالخصوص، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من اغتصب شبراً من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين ). طوقه: أي: جعل قلادةً في عنقه يوم القيامة من سبع أرضين، فيقتطع له من كل أرض ذلك الذي اغتصب، ويطوقه ويجعل في عنقه يوم القيامة.
إن هذا المال ذا الخطر الجسيم والأمر العظيم هو مع ذلك وقاية للإنسان، يمكن أن يفتدي به في الدنيا؛ فإن كل إنسان يوم القيامة يستظل بظل صدقته، ( والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار )، والله سبحانه وتعالى بسط يده بالخير إلى عباده وتعرف إليهم حين قال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ [البقرة:245] .
إن الله سبحانه وتعالى هو القابض الباسط الرزاق الوهاب، وهو الذي تعرف إلى عباده فدعاهم بأن يقرضوه قرضاً حسناً، وبين لهم غناه عما في أيديهم، وأن ما قدموه إنما يقدمونه لأنفسهم، ( يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد لله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).
ثم بين سبحانه وتعالى: أن من قدم له شيئاً فإنه يضاعفه له وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، فيضاعفه له أضعافاً كثيرة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تمثيل ذلك على وجه التقريب، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وما تصدق عبد بصدقة طيبة إلا كان كأنما وضعها في يمين الرحمن، فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل )، والفلو: ولد الفرس، والفصيل: ولد الناقة، وتنميته: تربيته والإنفاق عليه حتى يتم ويصل إلى غاية السمن؛ فلذلك قال: ( إلا كان كأنما وضعها في يمين الرحمن، فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل ).
إن الثقل والضخامة التي هي في الجبال تحصل بما هو دونها من الإنفاق إذا تقبله الله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر أصحابه: ( لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه )، فقوله: (ما بلغ مد أحدهم) أي: مد شعير تصدق به أحدهم، (ولا نصيفه) أي: نصف مد، أو النصيف الذي تجعله المرأة على رأسها، وهو ثوب صغير.
والإنسان إذا أنفق في وقت الرخاء، لا يمكن أن يقاس بالذي أنفق في وقت الشدة؛ ولهذا قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]. إن الذين أنفقوا في وقت الشدة يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سبق درهم مائة ألف درهم ), وذلك عندما ( جاء قوم من الأعراب مجتابي النمار، عامتهم من مضر، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان أرحم بالمؤمنين من أنفسهم- فتمعر وجهه رحمةً بهم، وسالت دمعتاه على خديه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أنفق رجل من صاع تمره، من صاع بره، من صاع شعيره، من درهمه، من ديناره. فجاء رجل من الأنصار وقدم درهماً واحداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبق درهم مائة ألف درهم ).
إن درهم ذلك الأنصاري عند الله أكبر وأربح من مائة ألف درهم ينفقها من سواه؛ لأنه كان من السابقين الذين يقتدى بهم، فكل من اقتفى أثره يكتب له هو من حسناته دون أن ينقص ذلك من أجر المنفق شيئاً.
كذلك فإن هذا الإنفاق على ما سبق له فوائد أخرى غير الجوائز الأخروية التي فيها ثقل كفة الحسنات، فبه كذلك رفع الدرجات في الدنيا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اليد العليا خير من اليد السفلى )، فالمنفق خير من المنفق عليه؛ وكذلك هو مدعاة للغنى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يقول الله تعالى: يا ابن آدم ! أنفق أنفق عليك )، ( وما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: وأعط ممسكاً تلفاً )، هذا كل يوم تطلع فيه الشمس، ملكان ينزلان يرسلهما الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يدعوا إلا بما أذن به، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، فلا يمكن أن يدعو الملائكة إلا لمن أذن الله بالدعاء له.
ثم إن من فوائد هذا الإنفاق الدنيوية كذلك: أنه يرد الله به البلاء، فإن الصدقة ترد البلاء عن أهل البيت، تصطرع مع البلاء في السماء فترده عن أهل البيت؛ ولهذا فإن الله رتب على ابن آدم ثلاثمائة وستين صدقةً كل يوم تطلع فيه الشمس، على مقابل ما فيه من المفاصل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث عائشة : ( إن الله خلق ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، وجعل على كل مفصل صدقةً كل يوم تطلع فيه الشمس )، فكل مفصل من المفاصل سواءً كانت مما يعرفه الأطباء مما يدرك بالتشريح، أو كانت من الخفيات التي لا تعرف بالعين المجردة، فإن كل تلك المفاصل -عظيمها وجليلها- رتب الله عليه صدقةً كل يوم تطلع فيه الشمس، ويجزئ من ذلك أن يصلي المؤمن ركعتين وقت الضحى، فركعتان وقت الضحى تقومان مقام ثلاثمائة وستين صدقة؛ لكن لا شك أن هذا الترتيب هو إرشاد للعبد، ونفع له، وتقوية لأسره ولهذه الجوارح، وسعي لتمتيعه بها، ودفع للضرر عنها، فما أحوجنا إلى مثل هذه الصدقات التي ترفع البلاء عن أهله في الدنيا، وترفع المنازل، وتطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، وهي مع ذلك تضمن للإنسان الازدياد، فالصدقة لا تنقص المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما نقصت صدقة من مال )، فالصدقة لا تنقص المال، بل تزيده، بل تزيده، بل تزيده، ما يبذله الإنسان ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى قطعاً مخلوف عليه، ولا بد أن يناله في هذه الحياة الدنيا فضلاً عن أجره يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى غني عن دراهم الناس ودنانيرهم، وآصعهم وأمدادهم، وإنما امتحنهم ليعلم وهو أعلم المخلصين منهم الذين يؤثرون الآخرة على الأولى، ويتقربون إليه بما آتاهم.
إن المؤمنين في الصدر الأول أدركوا قيمة الإنفاق ومنزلته، فقد جاء ذات يوم فقراء المهاجرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ( يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور والفضل العظيم، يصومون كما نصوم، ويصلون كما نصلي، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة )، وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم كثرة طرق الخير وأبوابه، حتى ذكر: ( إماطة الأذى عن الطريق فهي صدقة )، ( وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ).
فالصدقة لها مفهومان: مفهوم عام واسع شامل لكل خير، ( تعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة )، هذا من مفهوم الصدقة العامة الشاملة، وللصدقة نوع آخر أخص من سابقه، وهي الصدقة المالية، التي لها أثر بالغ في إزالة الشح والبخل عن الإنسان، وهذا الأثر التربوي هو الذي نحتاج إليه؛ فإن كثيراً من الناس لا يشعر بأنه بخيل، لا يشعر بذلك بل يظن نفسه أسخى الأسخياء، لكنه إذا راجع نفسه لن يذكره الشيطان بما أنفق من ماله إلا ما كان منه في سبيل الله، ومن هنا يستشعر أنه بخيل في التعامل مع ربه الكريم الذي أنعم عليه بأنواع النعم، ولطف به بأنواع الألطاف، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
والصدقة الواحدة يدخل الله بها الجنة عدداً من الناس، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدلنا على أهمية التعاون في الخير، فكل عمل جماعي يشترك فيه الناس يثابون فيه الثواب الجزيل العظيم، فالصدقة التي تخرجها المرأة من بيت زوجها يثاب بها الرجل الذي اكتسبها، والمرأة التي أنفقتها، والرسول الذي بلغها، والخازن الذي كان يحفظها، فكل هؤلاء شركاء في الأجر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( السهم الواحد يدخل به ثلاثة الجنة: الذي اقتطعه، والذي براه، والذي رمى به )، جميعاً يدخلون الجنة بالسهم الواحد يرمى به في سبيل الله، وهذا يدلنا على غنى الله عن خلقه، وأنه لا يريد منكم شيئاً، وإنما يريد منكم أن تقدموا لأنفسكم؛ فلذلك بين أن الاشتراك في الأجر يحصل بمجرد المساعدة على الخير، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الدال على الخير كفاعله )، وقال: ( من سن في الإسلام سنةً حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنةً سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ).
إن المنفق إذا تذكر أنه عندما يدخل يده في جيبه، أو يأخذ قلمه ليوقع العطية التي سينفقها؛ فإن الكريم الوهاب الرحيم الرزاق ينظر إليه في تلك الساعة، وأنه مطلع على ما في قلبه، فإن ذلك يقتضي منه الإسراع والمبادرة قبل أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، فالشيطان لا يعد الناس إلا الفقر، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268]، وهذا عكس ما أمر الله به، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فإذا علم الإنسان عداوة الشيطان له حاول أن يبادر كيده الضعيف، حتى يفوته بما ينفق؛ ولهذا فإن كتمانه لذلك عن نفسه مما يضاعف الأجر: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [البقرة:271].
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة أنه قال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه )، هؤلاء يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
ويختار الصدقة لأنها من الأمور التي يفوت بها الإنسان على الشيطان الفرصة، فالشيطان يحاول مع الإنسان منعه من التصدق من ماله ولو بالتأخير؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم حيلة الشيطان على بعض الصالحين يأتيه فيقول: لا تخرج هذا المال عن الصبية؛ فهم بحاجة إليه، فينازعه، فيقول: لا بد أن أقدم شيئاً لآخرتي، فيقول: اجعله وصيةً بعد موتك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ما هو إلا من البخل، قال: ( فيقول عندما يغرغر: كذا لفلان، وكذا لفلان، وكذا لفلان، وقد كان له )، قد كتب له في القدر؛ لكن ( خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح )، هذه عبارة النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على أن محاولة الشيطان معك إنما تتغلب عليها عندما تكون صحيحاً شحيحاً، فتخرج من مالك الذي تعبت في استخراجه، وأنفقت فيه الأوقات ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى.
ثم إن مكابدة الشيطان ومجاهدته مع الإنسان تقتضي منه إذا أراد الإنفاق وغلبه أنه سيحاول معه أن لا ينفق إلا شرار ماله، وأن لا ينفق خيار ماله وكرائم أمواله، بل يحاول أن يدخر الكرائم، وأن يستخرج المعيب، وهذا ما حذر الله منه في الصدقة الواجبة فقال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] أي: لا تقصدوا السيئ من المال المعيب منه، فتنفقوه في سبيل الله: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267]، لو كنتم تطالبون أحداً بدين فقضاكم بذلك الخبيث لم تكونوا لتأخذوه إلا أن تغمضوا فيه فتتغاضوا عن بعض حقكم، ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : ( إياك وكرائم أموال الناس! واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب )، لكن هذا في حق الساعي المتصدق، الذي سيأخذ من الناس صدقات أموالهم، هذا لا ينبغي أن يأخذ كرائم أموال الناس؛ لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة نفس منه، لكن عليه هو أن تطيب نفسه بما يقدمه لنفسه.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر ).
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو قدمت لآخرتك؟ )، إن مالك هو الذي سيصحبك، ( إذا مات ابن آدم صحبه ثلاثاً: أهله، وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله ).
إن الذين ينفقون هذه الأموال التي هي من حلال يضوون الشيطان ويضنونه، وبذلك يتغلبون عليه، ويفعلون ما أمروا به من عداوته، وقد ذكرت لكم من قبل أن الله جمع الخبر والأمر فيما يتعلق بالشيطان في آية واحدة، فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر:6]، هذا الخبر وهو صدق: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6]، وهذا الأمر، فعلينا تصديق الخبر وامتثال الأمر؛ لكن لا يمكن أن نتخذ الشيطان عدواً إلا إذا جاهدناه، الذي يطيعه فيما يأمره به ليس عدو له قطعاً، بل هو صديق وولي من أولياء الشيطان، والذي يفوت الشيطان بالخير ويجاهده ويراغمه، فينفق دون أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، هذا ليس من أولياء الشيطان قطعاً، بل هو من أعدائه ومن أولياء الله؛ ولهذا فإن المنفق المخلص موفق يوفقه الله، يوفقه الله سبحانه وتعالى، بخلاف المنفق غير المخلص، فإن الله ضرب له مثلاً عجيباً بالصخرة التي يجتمع فوقها التراب، فيأتي المطر فيذهب به؛ فتبقى بارزةً ليس فوقها شيء؛ فكذلك غير المخلص يجتمع حوله المال كالتراب الذي يجتمع على الصخرة، ثم يأتي القدر فيذهب به فتبقى الصخرة ليس عليها ما يرد عنها ويدافع عوامل النحت والتعرية.
إن الإنسان المخلص الصادق يعلم أن الله امتحنه بما جعل تحت يده، وأن عليه أن يقوم لله بالحق فيه، وأن لله حقاً في هذا المال، وهذا الحق لا بد أن يعرفه الإنسان في ماله، وأن يؤديه، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، لا بد أن يعلم الإنسان هذا الحق أولاً ثم أن يؤديه بعد ذلك، فقوله: فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24]، أي: يقدرونه في أنفسهم، ويعلمون الحق الذي عليهم؛ فلذلك يقوم الأغنياء بمسئوليتهم تجاه الفقراء، ولا يعفي هذا الفقراء أيضاً من الإنفاق، بل الإنفاق خطاب عام يستوي فيه الغني والفقير، والجميع مخاطب، لكن كل ينفق على حسب طاقته، لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].
وقد بين أنس رضي الله عنه في الصحيح: أن الفقراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من القراء كانوا يذهبون إلى الجبل في النهار فيحتطبون، فيبيعون الحطب، فيتصدقون بثمنه على الفقراء، وكانوا يقومون الليل، ويعلمون الناس القرآن.
يأخذ أحدهم حبله في الصباح فيذهب إلى الجبل فيأتي بالحطب فيبيعه، فينفق به على أسرة فقيرة، فهنا كان قد زكى نفسه وماله: زكى نفسه بإعمالها في مرضاة الله وتحركها في عمل الخير، وهذه النفوس التي لا تتحرك ستبقى جامدةً، ويركبها الشيطان على ذلك، لكن الحركة في الخير كلها بركة؛ فلذلك يتحرك هؤلاء للزكاة التي قال الله فيها: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [الأعراف:156]، وقال تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:6-7]، فبين أن المرحومين هم المؤمنون الذين يؤتون الزكاة، وأن المشركين المسخوط عليهم الذين لهم الويل والتباب والتبار هم الذين لا يؤتون الزكاة، وهذه الزكاة شاملة للواجبة وغيرها، وشاملة لزكاة البدن، وزكاة المال، وزكاة الوقت، وزكاة الجاه، وزكاة العلم، كل ذلك داخل فيما تجب زكاته وتطلب.
ثم إن الإنسان الذي ينفق ابتغاء مرضاة الله، حتى لو وصلت نفقته إلى من لا يستحقها، فإنه يثاب عليها، ويتقبلها الله منه، وقد حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً من بني إسرائيل قال: لأتصدقن الليلة بصدقة -عاهد الله أن يتصدق بصدقة يخلص فيها-، فجمع تلك الصدقة من ماله والناس نيام فخرج بها فوضعها في يد بغي، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على بغي! فقال: لك الحمد على بغي. ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقته والناس نيام فخرج بها فوضعها في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على غني! فقال: لك الحمد على غني. ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقته فخرج فجعلها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق! فقال: لك الحمد على سارق، فأتاه ملك فقال: إن الله تقبل صدقتك؛ فالبغي ما حملها على البغاء والزنا إلا الجوع، فقد أغنيتها عن ذلك، والغني لم يكن يستشعر أن عليه حقاً، فلما تصدق عليه عرف أنه ينبغي أن يتصدق، والسارق ما حمله على السرقة إلا الجوع، فقد أغنيته عنه )، فتقبل الله سبحانه وتعالى هذا العمل الذي ظاهره أنه وقع في غير محله، ولكن صاحبه كان مخلصاً لله، فأثابه الله على ذلك.
وكذلك فإن هذا الإنفاق إذا وقع في محله فإن له فوائد عظيمةً على المجتمع بكامله، ولذلك تخيل يا أخي! عندما تأخذ المال الذي اكتسبته من حلال، وأخفيته عن نفسك، وعن حوائجك، وآثرت به الآخرة على الأولى، وجعلته في كمك، وخرجت به تلتمس مواقع الحاجة وأهل الفقر الذين هم عيال الله، ( وأحبهم إليه أنفعهم لعياله )، فوجدت أسرةً لا يرى فيها مواقد النار، وليس بها غنىً، وهي من المتعففين الذين لا يتكففون الناس، ( فليس الفقير الذي يتردد على الأبواب ترده اللقمة واللقمتان، والطعمة والطعمتان، إنما الفقير المتعفف )، فالفقير المتعفف إذا وصله خيرك وهو في داره، فتخيل ثواب ذلك وأجره في كفة الحسنات يوم القيامة.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق فيعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كما كان الناس يقولون: ( كان الأعرابي إذا جاء فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى قومه فرفع عقيرته فقال: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ).
ولذلك حين ألجأه الأعراب يوم أوطاس إلى شجرة فأمسكت رداءه قال: ( ردوا علي ردائي، فلو كان عندي مثل سمر تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم لم تجدوني جباناً، ولا بخيلاً، ولا كذاباً ).
وقال للأنصار حين أتوه وتوافدوا عليه وقت الفجر: ( لعله بلغكم أن أبا عبيدة قدم من البحرين بمال، فما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ).
وقال للناس في منصرفه من تبوك: ( إنه ليس لي من مالكم إلا الخمس، وهو رد عليكم )، فهو صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأسخاهم؛ ولذلك قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، فما سئل شيئاً قط فقال: لا، إن كان عنده أعطى، وإلا رد بميسور من القول ).
وهذا الأدب الذي أدبه الله به في قوله: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا * وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:26-29] .
هذا تأديب الله له، فتأدب به صلى الله عليه وسلم كما قال: ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ).
وقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ).
ثم هكذا كان هدي أصحابه، فقد تعلموا إنفاقه صلى الله عليه وسلم وبذله، فهذه عائشة رضي الله عنها تعلمت إنفاق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ( ذبح في بيتي شاة ذات يوم، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بقي عندكم من الشاة؟ قلت: كتفها، فقال: بقيت كلها إلا كتفها )؛ لم يبق في بيتهم إلا الكتف فقال: ( بقيت كلها إلا كتفها )؛ لأنها كلها أنفقت في سبيل الله، تقول مولاة عائشة رضي الله عنها: ( جاء إلى عائشة عطاء وهي صائمة في شدة الحر، وكان العطاء عشرة آلاف درهم، فوزعته في مجلسها، فلم تمسك منه أي شيء، فلما انتهى قلت: رحمك الله، لو أمسكت لنا ما نفطر عليه، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت )، لم تتذكر أنها بحاجة إلى ما تفطر عليه فقط!.
كذلك حال أبو بكر رضي الله عنه الذي أتى بماله كله مرتين يحمله في سبيل الله، فيجعله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخل عليه السرور حتى تبرق أسارير وجهه، فقال له: ( ما تركت لأهلك؟ قال: الله ورسوله )، وهو الذي عندما ارتد العرب عن دين الله، وبلغه الخبر، كسر قراب سيفه، وقال: أينقص هذا الدين وأنا حي؟!، لا يتحمل أن يأتي هذا الدين أي نقص وهو حي؛ لأنه هو وقود للدين، وهو محام عنه ومدافع؛ فلذلك ماله كله في دفاع عن دين الله.
وهكذا كان عمر رضي الله عنه يفعل، وقد سابق أبا بكر فجاء يحمل نصف ماله، فإذا أبو بكر قد جاء بماله كله.
وكذلك ( عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحض على الإنفاق في جيش العسرة جاء بثلاثة آلاف بعير فقال: يا رسول الله! هذا جهاز ثلاثة آلاف مقاتل برواحلها، ومراكبها، ونفقاتها، وسلاحها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم ). فقد حل عليه رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده.
وكذلك عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبئر رومة، وكانت بئراً تستعذب في المدينة أي: ماؤها عذب، قال: ( من يشتري بئر رومة -وكانت ليتيمين-، فيجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين فله الجنة؟ فقال: عثمان : أنا لها، فقام فاشتراها، فلما ساوم أصحابها فيها أغلوا عليه بالثمن فأعطاهم ضعف ذلك، وجعلها في سبيل الله، وجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين ).
وكذلك حال علي رضي الله عنه الذي لم يكن يلقى درهماً ولا ديناراً، وكان يقول: ما لي وما للدنيا، إنني لست من أهلها، ما لي وما للدنيا، إنني لست من أهلها. فقد باع نفسه لله، وخرج من مكة ليس معه إلا سيفه.
وعندما تزوج سيدة نساء العالمين بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها لم يكن له إلا شارفان من الإبل، منحهما إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يخرج بهما إلى الفلاة؛ ليأتي بإذخر فيبيعه، فيجهز أهله من ذلك، ويصدق زوجه بثمنهما، فلما أناخهما بعرصة الدار، وعقلهما، شرب حمزة إذ ذاك الخمر هو وفتية من الأنصار معه، فغنتهم جارية، فحضت حمزة على نحر الناقتين، فقام إليهما فنحرهما، فحرمت الخمر بعد ذلك، وهو مع هذا كان من أشد الناس تعاهداً لقراباته وصلة رحمه الله. وكان رضي الله عنه ينفق على كثير من البيوت، لا يعلمون أن النفقة من عنده.
وعندما مات وهو الخليفة كان قبل موته يقسم كل ما في بيت المال على المسلمين، ويقمه بردائه، وينضح فيه الماء، ويصلي فيه ركعتين، ويشهد فيه على المسلمين.
وكذلك لم يترك إلا أربعين درهماً، ميراث علي جميعاً أربعين درهماً، وله أربعة وعشرون من الأولاد، وله عدد من الزوجات، ومع ذلك لم يترك إلا أربعين درهماً، كان يريد بها رقبةً يعتقها في سبيل الله.
وعندما غنم المسلمون كنوز كسرى وقيصر جيء ببنات كسرى مردفات إلى عمر بن الخطاب ، فتردد عمر في شأنهن: هل يعتقهن، أو يستعبدهن ليكون ذلك نكاية في الفرس، أو ماذا يعمل بهن؟ فجمع أهل الشورى من المهاجرين والأنصار، فقال له عبد الرحمن بن عوف : بعهن واجعل ثمنهن في تجهيز الجيوش؛ فإننا بحاجة إلى ذلك، فعرضهن عمر للبيع، فاشتراهن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بكل ماله، ووزعهن بين أولاد الصحابة، فأعطى إحداهن الحسين بن علي فكانت أم علي بن الحسين ، وأعطى الأخرى لـعبد الله بن عمر ، فكانت أم سالم بن عبد الله ، وأعطى أخرى لـعبد الله بن الزبير بن العوام ، فكانت أم بعض أولاده.
وهكذا كان رضي الله عنه، فقد كان الذين يعرفونه يقولون: والله لهو أجود مما هو أشجع، ولكن شجاعته أذكر في الناس. أي: أشهر في الناس، فهو أجود من ذلك أجود من شجاعته.
وكذلك غير هؤلاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فـعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان تاجر الله في الأرض؛ ولهذا أتته عير في عام المجاعة، وجاءت تحمل أنواع الأرزاق والبضائع، فأتاه تجار المدينة يساومونه بالعير، فقالوا: نجعل لك على الدينار ديناراً، وعلى الدرهم درهماً، فقال: أعطيت أكثر من ذلك، فقالوا: نجعل لك على الدرهم درهمين، وعلى الدينار دينارين، فقال: أعطيت أكثر من ذلك، فقالوا: نحن تجار المدينة وليس فيها من سوانا، فمن أعطاك أكثر من ذلك؟ فقال: ربي أعطاني عشرة أضعاف ما قلتم، فأنفقها بأحلاسها وأقتابها وما كانت تحمله في سبيل الله.
كذلك من بعد هؤلاء من الذين اتبعوا آثارهم من المخلصين في هذه الأمة في كل العصور فهم الذين يتولون الإنفاق على المحتاجين، فكم من نساء هذه الأمة من كانت تقتدي بـزينب بنت جحش التي كانت تكنى بـأم المساكين ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً )، وكانت أطولهن يداً في الإنفاق، وليست أطولهن يداً في الواقع، فكانت أول من التحق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه.
وكذلك كان علي بن الحسين رضي الله عنهما ينفق على مائة بيت من فقراء المدينة، لا يعلمون أنه الذي ينفق عليهم، يأتي في آخر الليل وقد نام أهله، فيحمل الدنانير والدراهم، ويتسور تلك البيوت فيجعلها في البيوت، فيصبح أهلها والدنانير عند رءوسهم لا يدرون من أين أتت؟!
وكذلك كان الحسن بن علي رضي الله عنه وكان مطلاقاً، كان ينفق على مائة مطلقة، فيتولى كل مصاريفها، وكل ما تحتاج إليه من نفقة وسكنى.
وهكذا كان عدد كبير منهم ليسوا معدودين في الأغنياء، لكنهم معدودون في الكرماء، كان عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما ينفق على فقراء المدينة وفقراء مكة، ثم ازداد ماله عن ذلك فأنفق على فقراء الحجيج، ثم أنفق على فقراء أهل الشام، وكان يقول: لو بقي لي عمر لازداد مالي فأنفقت على غيرهم من الفقراء؛ لأنه يعلم أن القضية فقط هي قضية العمر، فهذا المال الذي تحت يده هو إنفاق من الله عليه، فإذا كان أميناً في توزيعه استمر الإنفاق، فما هو إلا بمثابة الصنبور إذا فتح استمر الماء، وإذا أغلق توقف.
فهكذا كان إنفاق أولئك القوم ومن بعدهم: فـمحمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله كان من الأجواد المشاهير، وكان يدان في النفقة على طلاب العلم، فكان يقول: إن هؤلاء قد شغلهم العلم عن اكتساب المال، وإنهم لا يستجدون الناس، فهم أحق بهذه النفقة. فكان ينفق عليهم، وكان إذا أتى المدينة اجتمع عليه طلاب الحديث من أصقاع الأرض، الذين يأتونها فيقضي عنهم كل ديونهم.
وكذلك عبد الله بن المبارك سيد أهل مرو وعالمهم، فإنه رحمه الله كان غنياً؛ لأنه كان مجاهداً في سبيل الله -والجهاد كفيل لصاحبه بالغنى-، فكان إذا رجع من غزوة وأتى بالغنائم يقسمها بين الذين يتأهبون للجهاد ويستعدون، فيقول: هذا المال مال الجهاد، أخذناه منه وسنعيده إليه. يأخذه من الجهاد حين يغنمه فيعيده على الجهاد بتجهيز الجيوش، وكان إذا خرج إلى الحج أخذ من رفقته من الحجاج أموالهم، فقال: هي أمانة عندي أنفق بها عليكم، فإذا رجعوا من الحج، وظنوا أنه قد أنفق عليهم من مالهم، رد عليهم أموالهم جميعاً، فإذا هو كان ينفق عليهم من ماله الخاص!.
إن هذا الإنفاق يحتاج إليه هذا الدين بكامله، فكل مشروع لا يمكن أن يقوم إلا بتموين، وأعظم المشاريع وأكرمها مشروع إقامة دين الله عز وجل، فلا يمكن أن يقام دين إلا بمال؛ لأن كثيراً من الأمور لا توصل إلا به، ولا يمكن سدادها وتقويمها إلا به.
فعلى المسلمين أن يدركوا خطر هذا المال، وامتحانهم به، وأن يقدموا منه لأنفسهم.
في زماننا هذا أيضاً ما زال -ولله الحمد- كثير من الذين يؤثرون الآخرة على الأولى، ويتصدقون بفضول أموالهم، وينفقون، وهم بمثابة الأودية في الأرض، يأتي المطر فينزل على مكان ناءٍ، فتذهب به الأودية، فتسقي به مواقع لم يسقها المطر، فكذلك هؤلاء الأجواد في الأرض يأتي المال، فيجتمع في مكان فينقلونه إلى مكان آخر لم يصل إليه، وهم بذلك أودية الجود في أرض الله عز وجل!.
وإن كثيراً من هؤلاء لهم في هذا المجال باع واسع، ولهم آثار طيبة في الدفاع عن الإسلام، وإعلاء كلمة الله، فأذكر أن تاجراً من التجار أتاه قوم من المجاهدين ذات يوم، فذكروا له ما يعانون من بطش الروس، وراجماتهم بعيدة المدى، وأنهم لا يمكن أن يقارعوهم إلا بصواريخ (سنجر)، وهي غالية ليس لديهم ما يشترونها بها، فتمعر وجه الرجل، وقال: ليس بينكم وبين أن تقاتلوا الروس في ذات الله إلا هذه الصواريخ؟! فقالوا: نعم، فقال: هي علي في سبيل الله! فتهلل المجاهدون لذلك، واستبشروا به في الصفوف، وسمع التكبير في صفوفهم، وفعل الرجل ما وعد، فكان لذلك الأثر البالغ في هزيمة الروس النكراء.
ومثل ذلك أعرف ذات يوم كنا في وقت الظهيرة في شدة الحر مع رجل من قادة المجاهدين الأفغان، وهو عبد رب الرسول سياف ، فكان في وقت المقيل، وكان يتحدث عن بعض الضائقة التي يعانيها المجاهدون في قمم الجبال من بطش الروس، فبينما هو يتحدث ذلك الحديث والناس صائمون في وقت الظهيرة إذ بشاب يطرق الباب، فاستقبله أحد الحاضرين فقال: إن معه أمه، وإنها تريد الشيخ لحاجة ضرورية، فتعجب الناس من هذه العجوز التي تأتي في وقت الظهيرة وتريد الشيخ ليخرج إليها، وهو في وقت شرح حال المجاهدين وبيان حالهم! فما كان من الشيخ إلا أن خرج إليها، فإذا هي جالسة عند الباب، فقالت: إنها عجوز كبيرة السن، وقد ورثت مالاً حلالاً تريد أن تقدمه لآخرتها، وقد جاءت به تحمله تريد رسولاً أميناً يحمله لها إلى الدار الآخرة، فسلمته ليد الشيخ، فجاء الشيخ يبكي وقد ابتلت لحيته من دموعه، وما ذلك إلا لأنه كان يحب أن يكون هو الذي أنفق هذه النفقة، كحال الأشعريين الذين كانوا يحبون الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لهم مال يفعلون ذلك به، فأنزل الله فيهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92] .
كذلك أعرف تاجراً من تجار المسلمين ليس بأغناهم، ولا بأكثرهم فراغاً خرج ذات يوم إلى جامعة أهلية من الجامعات الإسلامية، فرأى فيها الطلاب من مختلف الجنسيات يدرسون العلم، وهذه الجامعة تسعى للتكوين التربوي، فتلزم طلابها بصيام الإثنين والخميس، وقيام الليل، بالإضافة إلى دراسة العلم، فلما حضر معهم الإفطار، ورأى ضآلة طعامهم، وضعف وسائل الجامعة، قطرت دمعتاه، فعرفت أنه مستعد لأن يبذل شيئاً للجامعة، فسألته: هل يريد أن يتبرع للجامعة بشيء؟ فقال: نعم، فقلت: إن أحوج ما تحتاج إليه تلك الجامعة أن يشتري لها مطبخاً كبيراً، فاشترى لها مطبخاً كبيراً من اليابان، ووصل إليها بالفعل، وكان هذا المطبخ فتحاً عظيماً للجامعة، سد حاجة الطلاب جميعاً، وما هو إلا تأثراً من لحظة واحدة تأثر بها الرجل عندما رأى الناس يجتمعون على الإفطار في وسائلهم الضعيفة المتواضعة.
إن الذين يجاهدون في سبيل الله، ويقارعون أعداء الله سبحانه وتعالى في أغلبهم شباب لا يملكون نفقةً، ولا سلاحاً؛ ولذلك هم يحتاجون إلى من يبلغهم أولاً أرض العدو، ومن يشتري لهم السلاح بعد ذلك، فالذين يجاهدون في الشيشان أغلبهم من الشباب الفقراء الذين ليسوا بموظفين ولا بتجار، ولا يقاتلون إلا بأموال تجار المسلمين في مختلف الأنحاء، فليس دولة من الدول الإسلامية تدعمهم مع الأسف مع استحقاقهم للدعم على الجميع، ومع أن منظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة رابطة العالم الإسلامي، والمجمع الفقهي، كل هذه الهيئات قد أصدرت فتوى لجميع المسلمين -وبالأخص لحكومات المسلمين- بوجوب مساعدة هؤلاء، وحرمة خذلانهم، وحرمة إسلامهم للعدو، لكن مع ذلك لم ينالوا دعماً من الدول الإسلامية، وإنما ينالون دعماً من تجار المسلمين، وحتى في بعض الأحيان من فقراء المسلمين.
فأعرف بعض الفقراء يجمع في حيه التبرعات العينية: يأخذ بعض حلي النساء، وساعات الرجال، والنعال وغيرها، فيبيعها بما يزيد فيها من الثمن، ويحل بذلك مشكلات سواءً كانت المشكلات مثل عطش قرية من القرى النائية، أو علاج وباء منتشر في بلد، أو جوع يشمل طائفةً من المسلمين.
والمسلمون اليوم يحتاجون إلى هذا الإنفاق غاية الاحتياج، فقد تكالب عليهم أعداؤهم، وصدق عليهم الوعد، وأنا أعرف في جنوب فرنسا وحدها مخيمات كبيرة أقيمت لأولاد المسلمين في البوسنة، ينصرون فيها وهم من أولاد المسلمين، وتنفق عليهم الكنيسة الأموال الطائلة، فهؤلاء من المسلمين يستشعر حقوقهم عليه، ويستشعر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين ).
إنه من العيب علينا ونحن شعب مسلم، وفينا كثيرون ممن لديهم بلغة تكفيهم وإن لم يكونوا أغنياء، من العيب علينا أن نطلب المساعدات الخارجية، وأن نريد من يكفلون أيتامنا من خارج بلادنا، فأين الذين يكفلون الأيتام، ويتبرعون للفقراء، والمساكين؟! وأين الذين يقومون بالحقوق التي أهل كل بلد يعرفون الحاجة الماسة إليها؟! فأنتم تعرفون في العام الماضي ما حصل في (تشير) وغيرها من القرى التي جاءها المطر الذي هدم البيوت، وأفسد أملاك الناس، وبقي الناس بلا مأوىً تحت رحمة المنظمات التنصيرية، فهل هذا يسوغ في المسلمين؟! هل يسوغ أن يكون بعض الناس ينعم في غاية ما يمكن أن يناله، ويتبع هواه في مبتغاه، وإخوانه المسلمون في أشد الحاجة وأمسها؟! إن هذا مخالف لقيم الإسلام بالكلية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ).
فلذلك لا يحل للمسلم أن يخذل المسلم، ولا أن يسلمه، والنبي صلى الله عليه وسلم بين هذا فقال: ( المسلم أخو المسلم: لا يخذله، ولا يحقره، ولا يكذبه، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاثاً- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه ).
إن كثيراً من المسلمين اليوم يحتاجون إلى نفقاتكم، وهذه النفقات سواءً كانت مباشرةً كحال الفقراء، أو كانت في مقابل ما يحتاجون إليه من الخدمات، فأنتم تعرفون كثيراً من الأحياء الريفية البدوية التي تحتاج إلى تفريغ معلم أو داعية، أو إمام يصلي بهم، ومن لم يكن يعرف ذلك فليأتني فأنا أعرف كثيراً من الأحياء التي ليس فيها من يستطيع القيام بحقوق الله عز وجل.
وذات يوم أتينا حياً من الأحياء البدوية، فأرقني ما قاله عجوز من أهل ذلك الحي حين قام إلينا فقال: يا إخواني! نحن إخوانكم في الله، وأرسل إلينا رسولاً واحداً، فعلمتم بعض ما جاء به وجهلناه، فعلمونا حظنا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ونحن عاجزون عن الاستقرار في ذلك المكان، لكن لو وجدنا حينئذ من يتبرع بالجلوس معهم ولو شهراً أو أقل يعلمهم فقط الفاتحة وقصار السور، ويعلمهم أركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة، ويعلمهم إقامة الصلاة جماعةً، ويعلمهم تجهيز جنائزهم، وإقامة أنكحتهم، وبياعاتهم؛ لكان هذا فضلاً عظيماً نحن بحاجة إليه.
ومن التعاون على البر والتقوى: أن يوجد من يفرغ أولئك الذين يستطيعون الجلوس في تلك الأحياء للتعليم، فيشركهم الأجر، وقديماً في صدر الإسلام كان الرجل إذا غزا يجهزه غيره، فيشركه في الأجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من جهز غازياً فقد غزا ).
إن الذي يفرغ داعيةً أو إماماً أو معلماً -حتى ولو كان معلماً للقرآن فقط، ليس لديه من العلم ما يتوهمه كثير منكم الآن إذا سمع التفريغ- فإنه يشركه في الأجر، وأجرهما واحد عند الله سبحانه وتعالى، ومن الفضل العظيم أن تبقى في مكانك تزاول أعمالك لا يتعطل شيء من منافعك، ويكتب لك أجر ذلك الذي يقطع المسافات الشاسعة، ويغامر، ويقطع السيول، ويجلس في المستنقعات، وفي البيئات الموبوءة؛ ليعلم الناس الخير، وأنت شريك له في الأجر.
كذلك فإن كثيراً من بلاد المسلمين بحاجة إلى الرحلات الدعوية النافعة التي ترد -على الأقل- بعض كيد المنصرين والمهودين الذين يجوسون خلال الديار، وهذه الرحلات غالباً لا يمكن أن تتم إلا بتبرع، فليس لديها جهات رسمية تتبناها وتقوم بأمرها، فأين الذين يسارعون إلى الخير، ويقرضون الله قرضاً حسناً، ويريدون مثل هذا الخير في ميزان حسناتهم؟ فكلما مرت به الرحلة من ذرات الأكسجين، أو من الحصى والتراب يوضع في كفة حسناتهم يوم القيامة، إن هذا أجر عظيم، ويمكن الوصول إليه بالعمل اليسير، والمشاركة اليسيرة، فمن شارك في هذا العمل الطائل الكبير ولو بجزء يسير كتب له الأجر كاملاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من بنى لله مسجداً -ولو قدر مفحص قطاة- بنى الله له به بيتاً في الجنة )، ومفحص القطاة: يعني المكان الذي تستقر فيه، وهذا مبالغة لا يقصد به أن يكون المسجد على قدر مفحص قطاة، وإنما يقصد به المشاركة، فالمشاركة في بناء المسجد ولو بطوبة واحدة قدر مفحص قطاة، يبنى لك به بيت في الجنة.
وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( والله لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها )، وعندما جاء خالد بن الوليد بـأكيدر دومة ، وكان ملكاً من الملوك، عجب المسلمون من حسن ملابسه، وكان يلبس الديباج الأبيض، فجعلوا يلمسون ملابسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من ملابس هذا ).
فلذلك على الإنسان أن يعلم أن بيوت الجنة يمكن أن تبنى بهذا العمل اليسير، وما أحوجنا إلى أن تكثر بيوتنا في الجنة، ما أحوجنا إلى أن تكون لنا القصور الشاهقة في الجنة في الفردوس الأعلى تحت عرش الرحمن، وإن الأمر ميسور سهل، وبالإمكان أن نصل إليه بتقديم الشيء اليسير، فمن كان لديه مال فإنه ينال ذلك بماله، ومن لم يكن لديه مال فإنه ينال ذلك بنيته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالاً، وآتاه علماً، فهو ينفق المال فيما أمر بإنفاقه فيه، فهو بأعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو كان لي مال لفعلت فيه مثل ما يفعل هذا، فهو مثله في الأجر، ورجل آتاه الله مالاً ولم يعطه علماً فهو ينفق المال في غير حله، فهذا بشر المنازل، ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه مثل ما يفعل هذا، فهو شريك له في الوزر )، نسأل الله السلامة والعافية.
فلذلك فإن النية الصادقة يبلغ بها الإنسان المبالغ العالية، حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً من بني إسرائيل خرج ذات يوم فمر بكثيب أهيل من الرمل، فقال: لو أن لي مثله سويقاً؛ فأنفقه في سبيل الله، فلما مات عرض الله عليه صحيفة عمله، فإذا فيها كثيب أهيل من السويق متقبل عند الله، فقال: يا رب! من أين لي هذا وما رأته عيناي قط؟ قال: إنك مررت ذات يوم بكثيب رمل، فقلت: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله فقد قبلته منك ).
فنية المؤمن أبلغ من عمله، ومن لم يكن لديه ما ينفقه فلينو إذا نال ما ينفقه أن يتصدق وينفق، وعليه ألا يخلف الوعد، وأن يتذكر حال المنافقين الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77] .
إن على الإنسان إذا عاهد الله مثل هذا العهد أن يفي لله بعهده؛ حتى لا يكون منافقاً مسخوطاً عليه، لا يتقبل الله منه عملاً.
وعلى الإنسان كذلك إذا رأى حاجة الناس أن يعلم أنها فرصة عرضت له، فإما أن يبادر فينجح، وإما أن تفوته الفرصة.
واذكر فضيلة صنع إذ جعلت إليك لا لك عند الناس حاجات
فالإنسان الذي للناس حاجات إليه هذه نعمة ابتلاه الله بها، وامتحان امتحنه به، وبالإمكان أن يجعل له هو حاجات لدى الناس، ولكن الله شرفه عن ذلك، فجعل الناس يحتاجون إليه، ولا يحتاج إليهم، وهي نعمة عظيمة، بالإمكان أن يتذكرها الإنسان إذا كان يسلك الطريق في سياراته، وهو يرى الواقفين على الطريق الذين لا يجدون ما يوصلهم إلى حاجاتهم، فيتذكر هو نعمة الله عليهم، ويتذكر قول الله تعالى: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94] ، فيبادر لحمل أولئك. إذا كان في بيت يكنه من الحر والبرد، ويجد فيه الهدوء والراحة، عليه أن يتذكر حال آخرين في خيام تحطهم الرياح أين شاءت، وتتصرف فيها، فيرحمهم، ويعلم أن حاله كان كذلك من قبل. إذا وجد ما يكفيه ويسد خلته، ويجنبه ما كان يخشاه من الجوع فليذكر حال آخرين ما زالوا في أمس الحاجة إلى ذلك، وهم جميعاً عباد لله، وأولئك من عياله الذين امتحنه بهم: هل يؤدي إليهم حقهم أو لا يؤديه؟!
واذكروا الثلاثة الذين حدثنا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعمى والأقرع والأبرص، فإن أولئك امتحنهم الله تعالى بالرسول الذي أرسل إليهم، فاللذان أنكرا النعمة ولم يعرفاها امتحنهم الله فردهما إلى حالهما، والذي عرف النعمة وأدى حقها أدام الله عليه نعمته وتقبل منه.
إننا بحاجة إلى أن نتعرف على نعمة الله علينا، وألا ننكر هذه النعمة، ولنتذكر حال المشركين الذين يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل:83].
إن علينا أن نشكر هذه النعمة، وأن نقيدها، ولا يكون قيدها إلا بشكرها لله، وقد تعهد الله بالزيادة لمن شكر فقال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] .
فعلينا أن نذكر لله نعمته، فنشكرها، وأن نؤدي الحقوق التي علينا، وأن نعلم أن ما ننفقه منها، وما نقدمه منها لم يضع، وإنما هو محسوب مكتوب نجده يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30] .
إن من فضل الله علينا حين سلط علينا الشهوات، وجعلنا عرضةً لاستخفاف الشيطان، ولم يجعلنا معصومين أن يسر لنا ما نفتدي به، ونتصدق به؛ حتى تكفر عنا سيئاتنا، وتحط عنا خطايانا، فما منا أحد إلا وهو مقصر مفرط في جنب الله، يتذكر ذلك كثيراً، وإذا نسيه فإن الله لم ينسه، ومع ذلك فقد آتاه الله ما يكفر به ما مضى، ويغسله به، ويزيله، وما ذلك إلا بصدقته التي يخلص فيها لله، فإنها مزيلة لآثار تلك الآثام التي قد ذهبت لذاتها، وبقيت تبعاتها، وهي شر الذنوب، فشر الذنوب ذنوب ذهبت ملذاتها، وبقيت تبعاتها، فهي مخلدة في الصحائف يجدها الإنسان يوم القيامة، وقد ذهبت لذتها في الدنيا وانقطعت، فهذه شر الذنوب وإنما تكفر بمثل هذا العمل الصالح الذي يقدمه الإنسان إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] ، ( أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ).
إن المنفقين يضع الله لهم القبول في الأرض؛ وما ذلك إلا بسبب القبول في السماء، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا أحب الله عبداً نادى جبريل : إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل ، ثم ينادي به في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل : إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل ، ثم ينادي به في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع عليه البغض في الأرض )، نسأل الله السلامة والعافية.
فأصحاب الجود والسخاء قد وضع الله عليهم القبول والمحبة في الأرض، مما يدل على محبتهم في السماء وقبولهم؛ فلذلك علينا أن نحاول أن نلتحق بهؤلاء، فتخلقوا إن لم تكونوا مثلهم.
فليحاول كل إنسان منا أن يعد من المنفقين، والأمر ميسور، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـسعد رضي الله عنه: ( إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك ).
فلذلك على الإنسان أن يحاول أن يكتب في مساء هذا اليوم الذي ستغرب فيه الشمس، وترفع الأعمال فيه إلى الله من المنفقين المتصدقين، وأن يحسب كذلك في كل يوم، وألا يطمس اسمه من لائحة المتصدقين المنفقين، وأن نتذكر آيات سورة الحديد وما ذكر الله فيها من الترغيب في الإنفاق في سبيله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى، وأن يجعلنا أجمعين هداةً مهديين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجنبنا الشيطان وخطواته، وأن يعيننا على البر والتقوى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر