إسلام ويب

أهمية العمل بالعلمللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مرحلة العمل لا تقل خطورةً عن مرحلة العلم، وعلى الإنسان بداية أن يجتنب السيئات، وفي جانب الأفعال يهتم أولاً بالحسنات الأخروية كالفرائض والسنن والمندوبات وقيام الليل وقراءة القرآن وبر الوالدين، وثانياً بالجانب العملي في معاشه، فلا يكون سلبياً في هذه الحياة، بل لابد أن يكون ممن يستغل ثروات الأرض، ويسعى للإصلاح فيها.

    1.   

    الحاجة إلى العمل في حياة الإنسان

    بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد: فكان الحديث سابقاً عن المرحلة الأولى من مراحل الخطة الربانية لعمر الإنسان في هذه الحياة، وهي مرحلة العلم؛ أن يتعلم ما أمر الله بتعلمه، وإن شاء الله سيكون الحديث عن المرحلة الثانية، وهي مرحلة العمل، أي: أن يعمل الإنسان بما علمه واقتنع به، وهذه المرحلة لا تقل خطورةً عن سابقتها؛ لأن العلم كما سبق سلاح ذو حدين؛ إن لم يستعمله الإنسان ويعمل به كان حجةً عليه بين يدي الله عز وجل؛ ولذلك فإن الله تعالى يقيم الحجة على أهل النار بأمرين: الأمر الأول: العمر. والأمر الثاني: العلم.

    فيقول تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37]. (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) هذا الأمر، (وجاءكم النذير) هذا العلم من عند الله، فبهذين الأمرين تقوم الحجة على أعداء الله عز وجل، ومن هنا احتاج الإنسان إلى أن ينتهز الفرصة في عمر العمل قبل انقضائه.

    1.   

    الحث على العمل في الكتاب والسنة

    وقد حض رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة عنه، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال: ( بادروا بالأعمال ستاً -فذكر منها-: طلوع الشمس من مغربها، وخسفاً بالمشرق، وخسفاً بالمغرب، وخسفاً بجزيرة العرب، وخروج المسيح الدجال.. ) إلى آخر الأشراط التي ذكرها في هذا الحديث.

    وصح عنه كذلك في سنن الترمذي وأبي داود وغيرهما أنه قال: ( بادروا بالأعمال ستاً، فهل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فـالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر ).

    وقد أمر الله سبحانه تعالى بالمبادرة بالأعمال، فقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وقال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، وقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وقال تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

    ولذلك لابد أن يبادر الإنسان إلى العمل قبل أن يفوت الأوان.

    1.   

    الصوارف الحائلة بين الإنسان والعمل

    والإنسان الآن في هذه الحياة بالإمكان أن يقول: لا إله إلا الله، وسيحال بينه وبينها فلا يستطيع أن يقولها، فعليه أن يبادر لذلك قبل أن يحال بينه وبين العمل، وهذه الحيلولة أنواع:

    الموت والعجز والهرم

    فمنها: الموت، وهو الذي يقطع طريق الأمل بالكلية كما بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الخطا الذي سبق، وقد أخرجه البخاري في الصحيح.

    ومنها: العجز، وهو ما يأخذه الله من قوى الإنسان، فيكون عاجزاً عما كان قادراً عليه، إما بأخذ سمعه أو بصره أو قواه.

    ومنها كذلك الهرم، فمن عاش مات، ومن مات فات، وما كل ما هو آت آت، فالإنسان لا يمكن أن يمتع بعافيته أبد الآبدين، لابد أن يموت، أو أن يهرم، وحينئذٍ سيضعف عقله وتضعف قواه بالكلية، كما قال الحكيم:

    يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائم ألوانا

    سوداء حالكةً وسحق مفوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا

    والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا

    فسواد الشعر هو أول عمامة من العمائم الثلاث، ثم (سحق مفوف) أي: الشمط الذي فيه اجتماع السواد والبياض، ثم بعد ذلك البياض الخالص (وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا) أي: أبيض.

    الغفلة

    ومن وسائل الحيلولة دون العمل: الغفلة، فالإنسان قد يبتليه الله سبحانه وتعالى بالغفلة عن منهج الله.

    وكثير من المعرضين لا يدور أمر الآخرة في خلد أحد منهم، يعيش حياته يتصرف في أمور هذه الحياة الدنيا، ولكنه لا يستشعر اليوم الذي يؤتى به فيه، فيوقف بين يدي الملك الديان وتعرض عليه أعماله، ولا يدور أمر الآخرة في خلجه بوجه من الوجوه، ولا يستحضر يوم يموت ويحمل على الرقاب إلى قبره، ولا يستحضر تلك الضجعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( عندما حضر جنازةً فوضع الميت في لحده، فأشار بيده أن كفوا، ثم قال: أي إخواني أعدوا لمثل هذه الضجعة )، كثير من الناس لا يخطر أمر ذلك على خلجه أصلاً، ولا يفكر فيه، ويظن أنه سيبقى على حاله وهيئته، وأن الزمان غير متسارع، وأنه سيصل إلى مبتغاه في هذه الحياة، وهذا من غرور هذه الحياة الفانية.

    الفراغ

    ومن وسائل الشغل أيضاً: ما يعرض من الأعمال التي تحول دون الفراغ، ولهذا أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ). فالصحة وقتها محدد، ولكل جارحة أجل كأجل الإنسان، والفراغ كذلك من النوادر التي تقع في الزمان، فالإنسان تتراكم عليه الأشغال من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر، فلذلك إذا وجد صحةً وفراغاً فهي نعمة عظيمة عليه أن ينتهزها قبل أن تفوت.

    من صوارف الحج

    ثم بعد ذلك من هذه الشواغل ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الحج، فقد أخرج أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أراد الحج فليبادر؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتأتي الحاجة )، هذه صوارف تصرف عن الحج، وكذلك قال: ( حجوا قبل ألا تحجوا. قالوا: وما بال الحج يا رسول الله؟ قال: يجلس أعرابها على أذناب أوديتها -وفي رواية:- على أعقاب أوديتها، فلا يصل إلى البيت أحد ).

    من صوارف الهجرة

    ومثل ذلك ما ذكره صلى الله عليه وسلم في الهجرة عندما أتاه رجل يبايعه على الهجرة بعد فتح مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مضت الهجرة لأهلها )، فقد انتهت الفرصة التي كانت متاحةً لأن يكون الإنسان من الرعيل الأول في الإسلام، وهم المهاجرون والأنصار بمجرد فتح مكة مضت الهجرة لأهلها، ( ولا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا ).

    ولذلك فإن وقت المؤمن في أوقات الأزمات والضوائق عندما يضعف الإسلام، ويضعف الإقبال عليه، وتضعف دعوة الإسلام، فرصة سانحة مواتية ليتقرب إلى الله بإعلاء كلمته ودعوته إلى سبيله قبل أن يفتح الله للإسلام بابه، فالله سبحانه وتعالى لابد أن يعز هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، ولا يمكن أن تستمر الضائقة بالإسلام وأهله، بل لا يمكن أن تأتي إلا امتحاناً وتمحيصاً لمدة محسوبة معدودة ثم تزول، ولذلك قال الله تعالى في نذارة موسى عليه السلام: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وقال في نذارة داود عليه السلام: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:105-106]، وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، وقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:39-41]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

    والله عز وجل لا يخلف الميعاد، فلابد أن يتحقق ما وعد به، ولذلك فقد جعلها الله سنةً كونيةً لا تقبل التغيير، فقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، فما يأتي من الضائقات والمشكلات إنما هو امتحان وتمحيص، وسرعان ما يذهب ويزول، فإذا حصل شيء من ذلك فهي فرصة المسلم للتعبير عن ولائه لله، وصدقه مع الله، ودعوته إلى منهج الله، قبل أن يحصل الفتح، فإذا حصل الفتح لا يمكن أن يكون أجر الذين سبقوا الفتح وأنفقوا وجاهدوا من قبل الفتح كأجر الذين لحقوا من بعد، ولذلك قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10].

    وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـخالد بن الوليد حين خاصم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وعبد الرحمن هو خامس من أسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنفق من قبل الفتح وقاتل، فخاصمه خالد بن الوليد، وخالد أسلم في العام السابع بعد صلح الحديبية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، فأولئك الذين تقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح مد أحدهم من الشعير أو من التمر يتصدق به خير من إنفاق مثل جبل أحد من الذهب فيما بعد الفتح، ولاحظوا هذا الربح الطائل.

    والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى مساعدة أحد من خلقه، وإنما يبتلي عباده ويمتحنهم؛ ولذلك فأبرك الغزوات وأكثرها تأثيراً في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ليست غزوة بدر ولا أحد ولا الغزوات التي أريقت فيها الدماء، وبذلت فيها الأرواح، بل هي غزوة الحديبية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بايعه أصحابه على الموت فيها أنزل الله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [الفتح:18-19]. وهنا كانت جائزة الله كبيرةً فائقةً للتصور، بدايتها رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، فقد سبقت مغفرة الله سيئاتهم، فلا تقع سيئاتهم إلا مغفورةً، وسبقها رضوان الله. ثانيها: تجنيب الفسق بالكلية، إن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين، وقد رضي عنهم، فلا يمكن أن يكون فيهم فاسق. وثالثها: السكينة التي نزلت في قلوبهم، فلا يمكن أن يشك أحد منهم في أمر الإيمان بوجه من الوجوه، والسكينة إذا حلت في قلب مسلم لا يمكن أن يشك في أمر من أمور الدين.

    وبعد ذلك الفتح الذي وعدهم الله الفتح القريب، والفتح الذي بعده، والفتح القريب: فتح خيبر، والفتح الذي بعده وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا [الفتح:21] وهي فتح مكة؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهوا من البيعة كما في حديث جابر في صحيح مسلم نظر إلينا فقال: ( أنتم خير أهل الأرض ).

    وكذلك في الصحيحين: ( أنه صلى الله عليه وسلم أتاه عبد لـحاطب بن أبي بلتعة قد جوعه يشكوه إليه، فقال: يا رسول الله! والله ليلجن حاطب النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، والذي نفس محمد بيده لا يلجن النار أحد بايع تحت الشجرة ).

    إذاً دل هذا على أن الله سبحانه وتعالى إنما ينظر إلى القلوب، فإذا نجح الإنسان في امتحان القلب حتى لو لم يبذل جهداً مادياً، ولو لم يتعرض لأي خطر فقد نجح عند الله، ولذلك نجح هؤلاء بمجرد البيعة، فبمجرد أن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة نجحوا، فكانوا في أعلى درجات الإيمان، وأعلى درجات الرضا، فلذلك لابد أن يستشعر الإنسان ما يحصل من الصوارف التي تصرفه عن هذا العمل.

    ومن هذه الصوارف: النوم مثلاً، وقد سبق في المخاطر التي هي محدقة بنا.

    فتنة المال والأهل

    ومنها كذلك المال والأهل، فهما فتنة تشغل الإنسان عن العمل، وقد جاء في الأثر: ( الولد مجبنة مبخلة )، أي: مدعاة للجبن عن الجهاد في سبيل الله، ومدعاة للبخل بالمال.

    وقد جاء عن عمر رضي الله عنه وأخرج ذلك البخاري تعليقاً في الصحيح أنه قال: تعلموا قبل أن تسودوا. وهذا معناه: أن الإنسان ينتظره كثير من الأعمال التي قد تشغله عن التعلم، وعن معالي الأمور، وعن العمل الصالح.

    واختلف أهل الحديث في شرح قول عمر: (قبل أن تسودوا)، فقال طائفة منهم: قبل أن تسود لحاهم، أي: أن يتعلم الإنسان في شبابه وهو أمرد.

    وقالت طائفة: المقصود بذلك قبل أن تزوجوا؛ لأن الإنسان إذا تزوج أصبح سيد بيت.

    وقالت طائفة أخرى: بل المقصود: قبل أن تسودوا في المجتمع، فإن الإنسان إذا كان حليماً كبيراً سيكون سيداً في قومه أو في المجتمع الذي هو فيه؛ ولذلك قال: قبل أن تسودوا. وكل هذه الاحتمالات واردة، وعموماً فإن تفسير السلف للنصوص الواردة لا يقصد به حصر معانيها في معنىً واحد، بل إنما يقصد به المثال.

    وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله قاعدةً جليلةً فيما يتعلق بتفسير السلف، قال: إن تفسيرهم مثاله مثال من سألك عن الخبز: ما هو؟ فرفعت له خبزةً فقلت: هذا الخبز، فإنه سيفهم معنى الخبز، لكنه أيضاً سيفهم أنك أنت لا تدعي أن ما في علم الله من الخبز محصور فيما رفعت، ولذلك إنما قالت عائشة رضي الله عنها في تفسير قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، قالت: المؤذن يقول: (إنني من المسلمين) حين يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، و(دعا إلى الله) حين قال: حي على الصلاة، حي على الفلاح، و(عمل صالحاً) حين قال: الله أكبر الله أكبر، فليس معنى هذا أن هذه الآية محصورة في المؤذنين، بل كل من دعا إلى الله بقول أو عمل أو قدوة حسنة فهو داخل في عموم الآية.

    1.   

    حوافز العمل

    وهذا العمل الذي يحتاج الإنسان إلى إدراك خطره من مهمات الإنسان فيه: أن يراجع الحافز الذي يدعو إليه، والحافز الذي يدعو إلى العمل حافزان: حافز قبلي، وحافز بعدي.

    الحافز القبلي الذي يدعو الإنسان للعمل هو الدافع العقدي، أن عقيدتك تدعو منك أن تعمل، فأنت تؤمن بأن الله يستحق العبادة، وأنه خلقك لعبادته، وأمرك بها، فعليك أن تعمل بمقتضى عقيدتك؛ لأن كل قناعة لا يصحبها عمل فهي زائلة، وصاحبها مخالف لقناعته.

    أما الحافز البعدي فهو النظر إلى الكفتين يوم القيامة، فأنت تعلم أنه لا محالة أمامك كفتان: كفة للحسنات، وكفة للسيئات، وأنه سيوضع الميزان بالقسط بين يديك، ولا يمكن أن تزيد كفة على أخرى إلا بترجيح، ولذلك تحتاج إلى أن تنظر إلى أي عمل تقوم به في أي الكفتين هو، هل سيكون في كفة الحسنات أم في كفة السيئات؟ فإذا حققت أن هذا العمل سيكون في كفة الحسنات فاعلم أنه ربح لا محالة؛ لأنه سيرجح كفتك التي برجحانها تسمو وترتفع، وإذا عرفت أنه أيضاً سيكون في كفة السيئات فلتحذر منه، ولتفر منه فرارك من الأسد؛ لأنك تعلم أنه خطر عليك.

    وهذا الدافع يقتضي منك دائماً العرض على الكفتين، فالميزان يوم القيامة له كفتان ولسان، وقد بين الله حاله فقال: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:102-104].

    1.   

    أقسام الأفعال والأعمال

    ثم بعد هذا لابد أن تحدد أنواع العمل المطلوب منك، وأنواع العمل إما فعل وإما ترك، فالعمل كله أفعال أو تروك، والأفعال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أفعال قلب، وأفعال لسان، وأفعال جوارح.

    أفعال القلب

    فأفعال القلب هي الإيمان والإحسان، فالإيمان بالأركان الستة السابقة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبتفصيلاتها وما يتعلق بها مما جاء عن الله، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وكذلك الإحسان كإخلاصك لله، ونيتك في العبادة، وحضورك فيها، وارتضائك لوجه الله، ومحبتك له، وخوفك منه، ورجائك لما عنده، وتوكلك عليه، فكل ذلك من إحسان العبادة له سبحانه وتعالى، وهو من عمل القلب.

    أعمال اللسان

    ثم بعد هذا عمل اللسان، وهو من المخاطر العظيمة كما في حديث معاذ عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ( قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ )، فاللسان له خطر عظيم، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة الواحدة من رضا الله لا يلقي لها بالاً يرفع بها الدرجات العلى من الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة الواحدة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم )، الكلمة الواحدة.

    ولذلك لابد أن يدرك الإنسان خطر هذا؛ ولهذا جاء في أثر الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال: من احتسب كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه.

    وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، هذا من حسن إسلام المرء.

    وهنا نبه النبي صلى الله عليه وسلم على أمر عجيب فيما يتعلق بالعمل، فالإسلام له أصل وله حسن، فأصل الإسلام هو إيمانك أنت وقناعتك، وكبريات الأمور التي تقوم بها، لكن يضاف إليها حسن الإسلام، وحسن الإسلام شرط في تكفير السيئات؛ لما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان سلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، إلا أن يتجاوز الله عنه ).

    ومن هنا لابد أن نحسن إسلامنا، ولا يكفي مجرد أن يعد الإنسان في جملة المسلمين، بل لابد أن يحسن الإنسان إسلامه.

    أعمال الجوارح

    ثم بعد هذا الجانب الثالث وهو عمل الجوارح، ويدخل فيه عمل المال، والتصرفات الأخرى، فكلها داخلة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( استحيوا من الله حق الحياء، أتدرون ما حق الحياء من الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: من حفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وآثر الآخرة على الأولى؛ فقد استحيا من الله حق الحياء )، (من حفظ الرأس وما وعى) أي: ما جمع، فيدخل فيه الأذنان والعينان والأنف والفم، حتى التفكير، (والبطن وما حوى) أي: ما حوله، فيدخل فيه أيضاً الفرج، (وآثر الآخرة على الأولى؛ فقد استحيا من الله حق الحياء) من الأدب من الله سبحانه وتعالى أن تستحي منه حق الحياء، ولا يكون ذلك إلا بحفظ هذه الجوارح.

    1.   

    تقديم التروك على الأفعال

    ثم بعد هذا لابد أن ندرك أن التروك مقدمة على الأفعال، أي: أن جانب الترك مقدم على جانب الأمر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )، فليبدأ الإنسان أولاً بتأمين كفة السيئات؛ وألا يصل إليها شيء ما استطاع، ثم بعد ذلك ما استطاع من الحسنات أوصله إلى كفة الحسنات، لكن لابد أن يبدأ بالانقطاع عن جانب النهي بالكلية، وأن يحذر الإنسان غاية الحذر أن يقع في القاذورات التي حرمها الشارع، وذكرت في حديث عبادة بن الصامت، فهذه القاذورات من أصاب منها شيئاً فأوخذ به في الدنيا فذلك جزاؤه، ومن لم يعاقب به في الدنيا فإنه سيحاسب عليه يوم القيامة بين يدي الحكم العدل الذي لا يظلم عنده أحد.

    ولذلك لابد أن يحرص الإنسان على أن يبتعد عن القاذورات التي هي كبائر الإثم والفواحش، والله تعالى يقول: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ [النجم:32]، وهذه الآية قسمت الذنوب إلى ثلاثة أقسام: كبائر الإثم، ثم الفواحش، ثم اللمم وهو الصغائر، فالصغائر يكفرها الله باجتناب الكبائر، كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً [النساء:31]، أي: الصغائر، ولذلك لابد أن يجتنب الإنسان الكبائر مطلقاً، والفواحش ما ظهر منها وما بطن.

    1.   

    الأفعال التي يراد بها حسنة للمعاد

    ثم بعد هذا يأتي الجانب الثاني وهو جانب الأفعال، وهذا الجانب ينقسم إلى قسمين: إلى حسنة للمعاد، ودرهم للمعاش، فعمل الإنسان فيه إما حسنة للمعاد، وإما درهم للمعاش.

    التركيز ابتداء على الفرائض

    فحسنة المعاد أولى ما يتقرب به إلى الله منها ما افترضه على الإنسان، وكل فريضة خصها الله بوقت فلا يعدلها شيء في ذلك الوقت، فالصلاة لوقتها لا يعدلها شيء في ذلك الوقت، وهكذا في كل عبادة من العبادات، وبهذا يجمع بين الأحاديث الكثيرة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الأعمال، فكل عمل سئل عنه فذكر أنه أفضل الأعمال، فالمقصود بذلك ما كان وقتياً منها، وفي حق السائل أيضاً، فالصلاة لوقتها قد حدد الله لها وقتاً، وقال فيه: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103]، ومثل ذلك حقوق الآدميين، ومثل ذلك الصوم عند وقته، والحج عند وقته، والجهاد عند وقته، والزكاة عند وقتها، فهذه الفرائض هي أولى ما يتقرب به إلى الله؛ لقول الله تعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ).

    الانتباه لسياج الفرائض

    لكن هذه الفرائض جعل الله لها سياجاً هو بمثابة لحاء الجذع، أي: القشر الذي على الجذع، فإذا انتزع ذلك القشر يبس ما يقابله من الجذع، وهذا اللحاء هو السنن، وأيضاً هذه وقايتها هو المندوبات، وإذا تجاسر الإنسان على ترك المندوبات فسيتجاسر على ترك السنن، وإذا تجاسر على ترك السنن فسيتجاسر على ترك الواجبات، وبعد ذلك يتجاسر على أصل الإيمان، نعوذ بالله، ولهذا لابد أن يحفظ الإنسان هذه الأسوار الثلاثة:

    السور الأول: فرائض الله.

    السور الثاني: السنن التي أكدها الشارع وحض عليها.

    السور الثالث: المندوبات والمستحبات التي يستغل فيها الإنسان وقته، وهذه هي حقوق الأوقات.

    والحقوق تنقسم إلى قسمين: حق للوقت، وحق في الوقت.

    فحق في الوقت معناها حق حدد الشارع له وقتاً يؤدى فيه كالزكاة والصلاة والصوم.. إلى آخره.

    وحق للوقت، أي: أن الوقت الفارغ الذي أنعم الله به عليك، وأنعم عليك بالعافية فيه يستحق أن تشكره لله بعبادة فيه، أياً كانت تلك العبادة صلاةً، أو صوماً، أو ذكراً، أو قراءة قرآن، إذا لم يكن فيه واجب، وكنت فيه فارغاً صحيحاً معافىً فاعلم أن حق هذا الوقت أن تقدم فيه قربةً تتقرب بها إلى الله.

    ولذلك قال المواق رحمه الله: حقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها، إذ ما من وقت يمر إلا ولله عليك فيه خطاب جديد، وأمر أكيد، فكيف تؤدي فيه حق غيره وأنت لم تؤد حق الله فيه، ولهذا لابد أن تستغل هذه الأوقات كنعم أنعم الله بها عليك قبل أن تفوت، فكل يوم من أيامك هو عمر لك تطوى صحائفه كما سبق، وكل لحظة كذلك هي عمر قد انقضى وانتهى وولى.

    فلابد أن يحرص الإنسان على استغلال هذا الوقت قبل فوات الأوان.

    ترتيب الحسنات الأخروية على الأوقات

    وهذه الحسنات الأخروية لابد أن يرتبها الإنسان على الأوقات، فمثلاً: أنعم الله علينا بتقسيم الصلاة في الأربع والعشرين ساعة إلى خمس صلوات، وهذه الصلوات الخمس لا ندرك نحن لماذا حددت لها هذه الأوقات، لكن من حكم ذلك العجيبة: تجديد ذكر الله في الأوقات، وتجديد الصلة به، فالصلاة صلة بين العبد وربه، ومن حكمة الله التي لا نطلع نحن عليها أن هذا الوقت بالذات وقت العصر أو وقت المغرب أو وقت العشاء أو وقت الفجر هذا الوقت تحتاج أنت فيه إلى صلة بالله، ولولا أنك محتاج إلى هذه الصلة لما فرضها الله عليك، ولذلك حدد الشارع فيه هذه الصلة.

    وأيضاً حدد المطلوب منك هل هو ركعتان، أو أربع ركعات، أو ثلاث ركعات بحسب ما يقتضيه ذلك الوقت، وأنت لا تستطيع أن تصل إلى ذلك بعقلك أبداً، ولا باجتهادك، وهذا هو مصلحتك بعينها، ولو وضع مكانه غيره لما أدى هذه المصلحة بوجه من الوجوه، ومثل ذلك الصوم فقد حدد الله له شهراً واحداً في السنة، ولو وضع هذا الصوم في غير هذا الموضع لما أدى ذلك، فالله هو الحكيم الخبير، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وقد علم مصلحتنا في تحديد الصوم بشهر ولم يحدده بشهرين، ولا بثلاثة، ولا بخمسة عشر يوماً، ولا بأسبوع، بل حدده بشهر في السنة، وحدد ذلك الشهر لنا، ومثل ذلك وقت الحج، وهكذا في كل الأعمال، فما حدده الشارع منها هو المصلحة بعينها.

    الحرص على نوافل الصلاة

    ثم ما سوى ذلك من النوافل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الرواتب بالنسبة للصلاة، فكل فريضة تحتاج أنت في تحضير نفسك فيها وخشوعك فيها إلى أن تهيأ نفسك بصلاة قبلها وبعدها كذلك، ولهذا شرع لنا ركعتين قبل صلاة الصبح، وهما خير من الدنيا وما فيها، وكذلك أربع ركعات للضحى أو ست ركعات أو ثمان ركعات، وكذلك أربع ركعات قبل الظهر، واثنتان بعدها أو أربع أيضاً، وكذلك ركعتان أيضاً قبل العصر، وأيضاً لو صليت أربعاً قبل العصر فلا حرج، وقد ورد في ذلك حديث أخرجه الترمذي وصححه، لكن له علة: ( رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً)، ثم ركعتان بعد المغرب في بيته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، ثم ركعتان بعد العشاء في بيته، وركعتان بعد الجمعة في بيته، فإن صلاها في المسجد كانت أربعاً، فهذه رواتب كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليها، ويظهرها في الملأ، وهي قطعاً تتميم للفرائض وعناية بها، وتجهيز للنفس للقاء الملك الديان.

    التقرب إلى الله بقيام الليل

    وكذلك مثلها قيام الليل، وهو من أقرب ما يتقرب به إلى الله، ولذلك عده النبي صلى الله عليه وسلم في كبريات الأعمال فقال: ( صلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17]، ويضحك الله إلى المصلي في جوف الليل ).

    وقيام الليل أثره على الإيمان عجيب جداً، وهو نور يستضيء به الإنسان في حياته كلها، والإنسان لا يستغني عنه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـحفصة: ( نعم العبد عبد الله -أي: عبد الله بن عمر- لو كان يقوم من الليل، فما ترك عبد الله بعد قيام الليل حتى لقي الله ).

    ولذلك فإن سلفنا الصالح رحمهم الله كانوا يحافظون على قيام الليل من أشد مما يحافظون على نفقاتهم، وقد خرج أبو حنيفة رحمه الله فمر بصبيان يلعبون، فقال أحد الصبيان: هذا أبو حنيفة لا ينام من الليل إلا قليلاً، فقال أبو حنيفة: والله لا يتحدث بها الصبيان وهي كذب، فما نام بعد ذلك من الليل إلا قليلاً.

    وهذا القيام فيه تعرض للنفحات الله عز وجل، وإذا تذكر الإنسان أن من حوله منهم من شغل بالنوم، ومنهم من شغل بالكسل، ومنهم من شغل بالغفلة، ومنهم من شغل بالجهل، وقد أذن له هو في طرق باب الملك الديان في هذا الوقت، وبالأخص إذا كان ذلك في الوقت الفاضل وقت نزول الرب جل وعلا إلى سماء الدنيا وهو ينادي: ( ألا من يدعوني فأستجيب له، ألا من يسألني فأعطيه، ألا من يستغفرني فأغفر له )، فهذا أمر عظيم جداً.

    ولذلك قال الإمام عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أوديةً ولا رفع شعاباً.

    وهذه المزية العظيمة في قيام الليل والناس نيام سر لاستجابة الدعاء، وسهام الليل لا تخطئ، وكذلك فإن الأنبياء جميعاً كانوا يحافظون عليها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن أفضل قيام الليل قيام داود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه )، وهذا الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.

    وقال أهل العلم: المقصود بالليل ما بعد صلاة العشاء؛ لأن ما قبل صلاة العشاء غير داخل في هذه القسمة أصلاً، فلا يمكن أن ينامه الإنسان، بل قد جاء في كتاب عمر إلى عماله: فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه. أي: من نام قبل العشاء؛ ولذلك يحتاج الإنسان إلى أن يكون له ورد من قيام الليل يحافظ عليه، وإذا كان الإنسان لم يأطر نفسه على ذلك ولم يتعود عليه من قبل فليأخذ بالشيء اليسير السهل، وليحافظ على ركعات قليلة يستطيعها، ثم بعد ذلك يزيد، فإذا أصبح هذا عادياً في حياته يزيده، ولا حصر للعدد، بل قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64]. وقال إبراهيم النخعي: أقل قيام الليل قدر ما تحلب فيه شاة. ( وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً بأصحابه ثلث الليل، ثم قام بهم الليلة الأخرى ثلثيه، ثم قام بهم الليلة الثالثة فقال أبو ذر: حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قالوا: وما الفلاح يا أبا ذر؟ قال: السحور ). وفي رواية في هذا الحديث أنهم قالوا: ( وددنا لو نفلتنا ليلتنا هذه )، انظروا إلى جلد الصحابة على الطاعة، قالوا: ( وددنا لو نفلتنا ليلتنا هذه )، ودوا أن يصلي بهم إلى الفجر.

    ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التكلف وعن الأمر غير الدائم، فالأمر الذي يتقطع هذا ليس فيه فائدة كبيرة، فالأصل أن يكلف الإنسان من العمل ما يطيق، ففي حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: ( أنها دخلت عليها الحولاء بنت تويت وهي امرأة من بني تيم بن مرة، أي: بنت عم لـعائشة، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فسألها: من عندها؟ فعرفته بهذه المرأة تذكر من صلاتها وصيامها، فقال: مه، اكلفوا من الأعمال ما تطيقون؛ إن الله لا يمل حتى تملوا ).

    فينبغي للإنسان أن يكلف فقط ما يطيق، الشيء الذي يطيقه هو الذي يحافظ عليه، والتكلف الزائد على ذلك لا خير فيه؛ لأنه يقتضي الانقطاع؛ ولهذا أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر، قال: حدثنا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة )، فيحاول الإنسان التسديد والمقاربة، وألا يكون من الذين يبالغون في القيام في بعض الليالي ثم ينقطعون، وذلك ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( فأوغلوا فيه برفق )، وقال: ( فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى ).

    ثم بعد هذا: على الإنسان أيضاً أن يعلم أنه ما لم يصل هذه الرواتب وشيئاً من قيام الليل فإنه لم يملك ذلك اليوم ولا تلك الليلة، وليحاول أن يملك زمام اليوم بركعات يصليها فيه، ويملك زمام الليلة بركعات يصليها فيها، فلا يملك زمام يومه ولا ليلته إلا بعمل صالح يتقرب به إلى الله.

    تعاهد القرآن وقراءته

    ثم بعد ذلك: قراءة القرآن، وهذا القرآن كلام الله عز وجل ونوره وهدايته، وهو هدىً للعالمين كما وصفه الله بذلك، قال: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، وهو حبل الله المتين، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره، وفيه كل ما يحتاج إليه الناس، فيه خبرنا، وخبر من قبلنا، وخبر من بعدنا، وفيه ما ارتضاه الله لعباده، وهو أحدث الكتب بالله عهداً كما أنزل، ولا تفنى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الترديد.

    ولذلك يحتاج الإنسان إلى أن يكون له ورد من القرآن واتصال به، والذي يعيش وفي بيته مصحف لكنه لا يجد في وقته جزءاً مخصصاً للقراءة في هذا المصحف، أو لا يجد في جدوله اليومي وقتاً للقرآن، فهذا منقطع عنه وقد تركه ظهرياً، وقد قال الله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].

    ولذلك لابد أن يكون الإنسان له ورد يومي من القرآن، قل ذلك الورد أو كثر، وأقل ما يجزئ منه بالنسبة لحفظة القرآن جزء في الأربعة والعشرين ساعة، أي: أن يختمه في الشهر، وهذا الجزء يمكن أن يقرأه في النهار، ويمكن أن يصلي به في الليل، ويمكن أن يجمع بينهما إذا استطاع، لكن لابد من جزء، ويزداد تأكيد ذلك في رمضان، ففيه أنزل القرآن، وفيه كان جبريل يدارس رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، كما في حديث ابن عباس: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة )؛ ولذلك لابد أن يجعل المسلم جزءاً من وقته لمدارسة القرآن.

    والذي لا يحفظه لابد أن يجعل برنامجاً لحفظه، وهذا البرنامج يأخذه بالشيء اليسير المتقن فذلك أولى من الكثير غير المتقن، فالحفظ المتقن الثابت خير من الحفظ الكثير الذي لا يثبت، ولهذا على الإنسان أن يعلم أن آيةً واحدةً يحفظها ربح ليس وراءه ربح، ولذلك فتجزئة القرآن بالسور وبالآيات، وتعشيره وتثمينه فيما فعل التابعون فيما بعد كل ذلك معين على الحفظ، والله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر:17]؛ ولهذا يسهل على الإنسان أن يجعل لنفسه برنامجاً لحفظ القرآن، ويكون كالراقي في السلم، في كل يوم يرتقي على درجة من درجات السلم، وهذا هو مثاله في الآخرة (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ ورتل وارق كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية ترتلها ).

    وكذلك إذا كان الإنسان قد حفظ القرآن فليعلم أن نسيانه خطر عظيم، ولذلك قال الله تعالى: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:126-127].

    وعلى من حفظ شيئاً من القرآن أن يحافظ عليه، وألا يدع مجالاً لنسيانه بوجه من الوجوه، والنبي صلى الله عليه وسلم حض على معاهدته فقال: ( تعاهدوا القرآن؛ فلهو أشد تفلتاً من صدور الرجال من الإبل في عقلها ).

    ومن عجائب القرآن: أن الإنسان إذا انقطع عنه ولو لوقت يسير فلابد أن يبدأ يتفلت شيئاً فشيئاً من صدره، وكذلك إذا لم يحافظ على آدابه كالطهارة مثلاً فذلك سبب لتفلته، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه صلى بأصحابه، فالتبست عليه آية، فلما سلم قال: إن منكم من لم يحسن الوضوء )، وذكر أن عدم إحسان الوضوء سبب لما يحصل في قراءة الإمام، أي: ما يحصل في قراءة الإمام هو بسبب عدم إحسان بعض المصلين للطهارة، وهذا عجيب جداً في ارتباط صلاة المأمومين بصلاة الإمام، فقد يخلط على الإمام في قراءته بسبب عدم إحسان بعض المصلين للوضوء، وهذا عجيب جداً.

    وكذلك لابد أن يكون الإنسان ساعياً لتعليم القرآن، ولو كان مشغولاً بأشغاله وأعماله الكثيرة فلابد أن يجعل نفسه من معلمي كتاب الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم أثنى على متعلميه ومعلميه، فقال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، وكثير منا يحفظ القرآن، لكن قليل منا من يحفظه حتى لأولاده، وقليل منا من يسعى لتحفيظه للآخرين، ولذلك إذا راجعنا أنفسنا كثير منا يجد أنه من النادر جداً في حياته اليومية أن يكتب للصبيان ليحفظهم القرآن، أو أن يستمع إلى قارئ ليصحح له، وهذا الذي يندرج به الإنسان في جملة معلمي كتاب الله.

    النفقة والإنفاق

    ثم بعد هذا: لابد أن يعلم الإنسان أن للمال أثراً بالغاً فيما يتعلق بترجيح كفة الحسنات، وبالأخص إذا كان من حلال، فالإنفاق من أعظم القربات، لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وفي الحديث: ( وكل سلامى من الناس -أي كل مفصل- عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس )، فليحاول الإنسان كذلك أن يكون من أهل الصدقة، وأن يعلم أن (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)، وليحاول الإنسان أن يكون له كسب من حلال ليتصدق منه، فلا يعدل ذلك شيء.

    ثم بعد هذا: كذلك لابد أن يحاول الإنسان ما يتعلق بالحج، والجهاد في سبيل الله، وتعليم العلم، وغير ذلك من الأعمال الكبيرة التي هي من مهمات الأمة أن يكون للإنسان فيها مشاركة، فذلك مما يرجح كفة الحسنات.

    الانشغال بالذكر

    وإذا وزع الإنسان وقته بين هذه الأمور فليعلم أن جزءاً أيضاً مهماً من أجزاء عمله الأخروي يسمى جزء الذكر، لابد أن يكون مستغلاً، وهذا الذكر منه الأذكار المرتبة كأذكار النوم والاستيقاظ، والدخول والخروج، والأكل والشرب، والصباح والمساء، وغير ذلك، وما من حدث في حياة المسلم إلا وفيه ذكر مشروع، فهذا الذكر لابد أن يكون منه أيضاً إضافة إلى هذه الأذكار المرتبة أذكار أخرى يشغل بها الإنسان أوقاتاً فاضلةً من المطلوب أن تشغل بالذكر، كأوقات الصباح والظهيرة والمساء، وآناء الليل وأطراف النهار، والذكر يستحق درساً مستقلاً.

    1.   

    الأفعال التي يراد بها درهم للمعاش

    نعود إلى القسم الثاني وهو: درهم المعاش.

    فالعمل منه درهم المعاش، ولا يطلب من الإنسان أن يكون متفرغاً فقط لحسنة المعاد، وأن يكون سلبياً ليس له مشاركة في شأن هذه الحياة، بل المسلم لابد أن يكون ممن يستغل ثروات الأرض، ويسعى للإصلاح في هذه الأرض، ويطلب منه تحصيل المال.

    والنظرة التي لدى بعض المتحجرين أن المسلم ينبغي أن يكون فقط منكفئاً على أمور الآخرة ويقولوا: نحن نريد صلاح الآخرة ولا نريد صلاح الدنيا، ولا علاقة لنا به، هذا غير صحيح، هذه رهبانية لم يشرعها الله عز وجل، ولا رضيها للمؤمنين بوجه من الوجوه، بل المطلوب من المؤمن أن يكون منتجاً، لكن لا يأخذ المال إلا من حله، ولا يضعه إلا في محله.

    أوجه التعامل مع المال

    والمال له وجهان: وجه جمع، ووجه صرف، وكل واحد منهما تحكمه قواعد شرعية، ففلسفة المال أصلاً هو أن يعلم الإنسان أن كل ما في الأرض من الأرزاق خلقه الله في اليوم الرابع من أيام الكون، فقد قال تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:9-10].

    فكل الأرزاق خلقت في تلك الأيام الأول من هذه الحياة.

    وإذا كان الحال كذلك فلتعلم أنك لا يمكن أن تزيد أرزاق أهل الأرض، ولا أن تفتح باباً لم يخلقه الله من الرزق، كل الأمور كانت موجودة، وكل ما في الأرض من المال يتوزعه الناس، يجمعه هذا حتى يجتمع عنده منه الكثير، ثم يموت عنه فيفرقه ورثته، ثم يجتمع لدى شخص آخر، ثم يموت عنه فيفرقه ورثته، أو يفرقه هو، فهو فقط مجرد عملي جمع وتفريق.

    ولذلك مثل بعض أهل العلم للمال بآلات اللعب، فهي آلات محصورة، لكن يفرقها اللاعبون، ثم تجتمع لدى بعضهم، وكذلك المال، أو هي كأوراق اللعب، يتعب الإنسان في جمعها، ثم يتعب أيضاً في تفريقها، لكن الواقع أنه هو هو، يتداوله الإنسان فيما بينهم.

    أمانة المال

    ثم بعد هذه لابد أن يدرك الإنسان أن المال ليس منحةً ولا هبةً للناس، بل هو أمانة عندهم، هو ملك لله عز وجل وحده، وأنت مؤتمن عليه كالوكيل ينتظر العزل في كل حين، ولهذا قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، فلم يقل: أنفقوا من مالكم الذي ملككم، بل قال: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، فأنت مستخلف كالوكيل ينتظر العزل في كل حين، والوكيل معزول عن غير النظر، وكل ما ليس فيه نظر ولا مصلحة فالوكيل معزول عنه، ومن هنا فلابد من الرجوع إلى الوحي في كل تصرف، فأي تصرف في المال انظر هل أذن المالك به أو لم يأذن؟ فإذا كان غير مأذون فيه ولم يأذن به المالك فاعلم أنك ليس لك الحق فيه، وهذا التقييد للحرية مهم جداً، والذين يدعون إلى الحرية المطلقة سيصلون إلى نظرية سارتر الوجودية؛ لأنه ما من حرية غير مقيدة إلا وفيها اعتداء على حريات الآخرين.

    ولذلك لابد أن يدرك الإنسان أنه لابد من هذه القيود، وأن تصرفه في ماله ليس حراً بالكلية، بل هو مربوط بإذن المالك؛ فما أذن فيه من التصرف فلك الحق فيه، وما لم يأذن فيه فلا حق لك فيه.

    القواعد الخمس لجمع المال

    ثم بعد هذا القواعد الخمس للجمع بينها عثمان بن عفان رضي الله عنه بياناً عجيباً، وعثمان من تجار الإسلام، الذين أخذوا المال من حله، وجعلوه في محله، وهذه القواعد الخمس عجيبة جداً في كلامه هو، وقد قيل له: هاجرت مع إخوانك المهاجرين وأنتم فقراء، فكنت أغناهم فلم؟ قال: (كنت أعالج وأنمي، ولا أزدري ربحاً، ولا أشتري شيخاً، وأجعل الرأس رأسين). هذه خمس قواعد:

    القاعدة الأولى: المعالجة أن يعمل الإنسان ويبذل جهداً في إصلاح الشيء، فإذا كان الإنسان كلما تعطل شيء من أمور الدنيا نبذه وتركه، هذا لا يمكن أن يكون غنياً، فلابد أن يكون الإنسان ممن يعالج ويحاول الإصلاح؛ لأن الدنيا امتحان؛ ولذلك لابد فيها من معالجة.

    القاعدة الثانية: (وأنمي) لابد أن يحرص الإنسان على نماء المال، فالذي لا يحرص على تنمية موارده وما عنده لا يمكن أن يكون غنياً أيضاً؛ لأنه لابد أن يصاب بالاتكال على الآخرين وجهدهم وتنميتهم، فلابد أن يكون الإنسان منمياً لموارده وما آتاه الله.

    القاعدة الثالثة: (ولا أزدري ربحاً) أي: لا أحتقر ربحاً أياً كان، فالمال جمعه مبني على الحركة، ولا يطلب فيه الربح المضاعف أضعافاً مضاعفةً، بمعنى: أن يحتكر الإنسان تجارته وتبقى محتكرة حتى ينال فيها السعر الذي يحلم به قد يجده وقد لا يجده، هذا غير معقول، إنما المعقول أن يشتري الإنسان بثمن محدد، وأن يبيع بما فوق ذلك الثمن، أي: ربح فوق ذلك هذا محرك للسوق، ومحرك للبضاعة، ومشرك للآخرين فيها؛ ولذلك قال: (ولا أزدري ربحاً).

    القاعدة الرابعة: (ولا أشتري شيخاً) كل ما لا مستقبل له في التجارة لا يشتريه الإنسان للتجارة، لابد أن ينظر الإنسان إلى ما له مستقبل، فالشيء الذي ليس له مستقبل لا يشتريه أحد في آخر عمره، والناس قد أدبروا عنه، ولم يعد مرغوباً فيه لا يشتريه الإنسان، ولذلك قال: (ولا أشتري شيخاً).

    القاعدة الخامسة: (وأجعل الرأس رأسين) أن يحاول الإنسان ألا يجمع البيض كله في سلة كما يقولون، فإذا كان يستثمر في مشروع فلا يجعل فيه كل ماله لئلا يخسر دفعةً واحدة، ولذلك يقال: إن تاجراً من التجار خرج مع آخر إلى قبرص لشراء البضاعة، فهذا التاجر كان أعقل من صاحبه، وهما يتنافسان في التجارة، فالعاقل اشترى بضاعته فوزعها بين السفن التجارية المنصرفة، أي: أن كل سفينة جعل فيها جزءاً من تجارته، والآخر جمع تجارته جميعاً في سفينة واحدة، وهي أرخص لا محالة للنقل لكنها غرقت، فكان الذي فرق تجارته أربح، وإن كان ما فعله أغلى بالمنظور المادي.

    ولذلك لابد أن يدرك الإنسان هنا أن المخاطرة فيما يتعلق بالمال قضية غير صحيحة، بل لابد أن يستشعر أن أي مشروع سيدخله لابد أن يدرك أنه على خطر يمكن أن ينجح، ويمكن ألا ينجح، ومن هنا لا يجعل فيه كل أمله ولا كل رأس ماله، ومثلاً في الحيوان، إذا كانت لديه فرس يبيعها فيشتري منها اثنتين دونها، إذا ماتت إحداهما بقيت الأخرى، وهذا النماء، وكذلك في الحيوان الآخر.

    القواعد الخمس لتفريق المال

    ثم قواعد التفريق -أي الصرف- وهي خمس أيضاً، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في قصة قارون، فذكرها في نصيحة قومه له، فإنه لما آتاه الله من الخزائن الشيء الكثير خاطبه قومه بهذه القواعد الخمس:

    أول قاعدة فيما يتعلق بصرف المال: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76]، فاعلم أن ما أتاك عرضة للزوال، ومن هنا فلا تفرح به؛ لأن ذلك سيزيدك طغياناً، وسيخلفك؛ لأن الدنيا لا يمكن أن تستمر على وتيرة واحدة.

    القاعدة الثانية: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [القصص:77]، أي: أن يشعر الإنسان وهو يجمع الدنيا أن هذه الدنيا فقط مطية للآخرة، وأنه يريد منها ما ينجيه بين يدي الله، ولا يريد منها ما ينفقه، فلذلك قال: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [القصص:77]، ومن كان كذلك هو الذي يستطيع أن ينفق من طيب كسبه، ومن خياره، وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267].

    القاعدة الثالثة: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا [القصص:77]، أي: لابد أيضاً أن يدرك الإنسان أن هذا المال إنما جعل تحت يده امتحن به فعليه أن يستغله، فإن الله تعالى يحب أن يرى آثار نعمته على عبده؛ ولذلك قال أهل العلم: لباس الغني لباس الفقير مجرحة في الشهادة، فالغني الذي لا يلبس إلا لباس الفقراء هذا جرح في شهادته.

    وقال محمد مولود رحمه الله في الكفاف:

    لباس موسر لباس معسر شح

    لباس الفقير في ثياب الغني هذا سرف

    وضده ثوب السري على الدني خيلا

    والضد مهانة والمستجاد القصد

    والعلماء يندب حسن الزي لهم ليعظموا لكف الغي

    وحسنه يندب للمصلي وللمؤذن وذات البعل

    وعلى الإنسان إذا وسع الله عليه أن يوسع على نفسه، وأن يعلم أنه لو كنز هذا المال فإنه إنما يجمعه لورثته من بعده، ولم ينتفع هو بشيء منه، فعليه أن يستغل منه ما يحتاج إليه، وألا يشح عن نفسه بذلك، وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا [القصص:77].

    وأهل التفسير يختلفون في تفسير هذه القاعدة، فمنهم من يقول: (نصيبك من الدنيا) أي: الحنوط والأكفان، ومنهم من يقول: (لا تنس نصيبك من الدنيا) أي: لا تنس أن نصيبك منها مكتوب محدد، لا يزيد ولا ينقص، وعموماً فهذا مثل ما ذكرنا في أقوال السلف في التفسير أنه يمكن الجمع بينهم.

    القاعدة الرابعة: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77] أي: كما أنعم الله عليك اعلم أنك رسول لتؤدي هذه النفقة إلى الغير، وأن الملك الديان أرسل معك رسالةً إلى عياله الفقراء فأدها، (يا ابن آدم! أنفق أنفق عليك)، أي نفقة تنفقها فسيعوضها الله، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، ولذلك لابد أن تستشعر في قواعد الصرف أن ما عندك هو أمانات للناس، فأنت بمثابة درجة من درجات تسليك المياه، وإذا أغلقت الماء عن غيرك سيغلق عنك أنت، توقف الماء هنا، لكن ما دام الطريق سالكاً فسيزداد، ولهذا قال أهل العلم: أهل السخاء بمثابة الأودية في الأرض، فالأودية تحمل السيول فتسقي بها أرضاً لم يسقها المطر، والأراضي التي سقاها المطر يجتمع ماؤها فتحمله السيول فتسقي به أراض أخرى لم يسقها المطر، هؤلاء هم أهل السخاء.

    القاعدة الخامسة: وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77]، وهذه من أعظم قواعد الصرف في المال، على الإنسان ألا يفسد في الأرض، وهذا الإفساد أنواع كثيرة جداً، منه إفساد السمعة، فالإنسان إذا كان محل ثقة من الآخرين فيقترضون منه ويقرضونه، فإن من الإفساد في الأرض أن يفسد سمعة نفسه، وإذا لم يؤد الحق إلى أهله أليست سمعته تتحطم؟ هذا إفساد في الأرض.

    ومن الإفساد في الأرض: السرف، فالسرف هو أيضاً مما حذر الله منه، ولذلك قال محمد مولود رحمه الله:

    والسرف السرف إن السرف عنه نهى الله تعالى وكفى

    ولا يحب المسرفين كافي في كف كفك عن الإسراف

    وكذلك الإفساد في الأرض منه الإفساد على الآخرين، فالناس منهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومنهم مفاتيح للشر مغاليق للخير، وإذا كنت أنت من الذين يريدون أن يربحوا ويربحوا من سواهم فهذا إصلاح في الأرض، ولكن إذا كنت تريد أن تربح أنت ويخسر الآخرون فهذا إفساد في الأرض.

    وكثير من الناس يريد أن يأخذه ويستغل إذا استغل أي أمر يريد أن يأخذ كل ما فيه، وأن يستخرج نهايته حتى لا ينتفع منه أحد بعده، وهذا من الإفساد في الأرض المذموم شرعاً.

    فالإفساد في الأرض أنواع كثيرة جداً، منه الإفساد الحقيقي، والإفساد الاعتباري، والإفساد المعنوي، والإفساد الحسي، وكل ذلك داخل في قوله: وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ [القصص:77]، والمنهي عنه هنا مجرد أن يبتغي ذلك الإفساد ولو لم يفعله، فمجرد أن تكون أنت ممن يبتغي الفساد في الأرض فقد خالفت قواعد الصرف في المال، ولو لم تفعل ذلك، وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].

    فهذه إذاً هي القواعد فيما يتعلق بدرهم المعاش.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم.

    نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السموات والأرض أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أولادنا.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا.

    اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداةً مهديين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا مجاهداً إلا أيدته ونصرته، ولا عدواً إلا كبته وخذلته، ولا أسيراً إلا أطلقته، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، واجعل الدائرة عليه، اللهم أدخله في ردغة الخبال، اللهم سلط عليه الذل والوبال، اللهم اسلل سيف القهر على كل من ناوى هذه الدعوة، اللهم اسلل سيف القهر على كل من ناوى هذه الدعوة إلى سبيلك.

    اللهم وفقنا لما يرضيك، واجعل عملنا خالصاً لوجهك الكريم، ولا تجعل فيه لأحد حظاً ولا نصيباً، اللهم اجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، واحشرنا تحت لوائه، وابعثنا في زمرته، واسقنا من حوضه بيده الشريفة شربةً هنيئةً لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وآتنا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا، وجوزنا على الصراط كالبرق الخاطف يا أرحم الراحمين.

    اللهم اجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وأهدنا إلى سواء الصراط.

    اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقام فيه حدودك يا أرحم الراحمين.

    اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغاً إلى حين، اللهم إن بالعباد والبلاد والخلائق والبهائم من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    765223880