بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن القرآن كلام الله جعل الله تعالى فيه الهدى والنور، وجعله مائدته في الأرض، وآخر الكتب المنزلة من عنده؛ فلا تفنى عجائبه ولا تنقضي علومه ولا يشبع منه العلماء، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره، وقد نزله الله تعالى ليعمل به في النهار ويقام به في الليل؛ ليكون حكماً على الناس مهيمناً عليهم أجمعين، وليقام به في الليل فيتقرب إلى الله تعالى بتلاوته وتدبره وتعاهده، وقد حض الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك في كثير من الأحاديث وحض الله تعالى على تدبره في كثير من الآيات، وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث سهيل بن أبي صالح السمان عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).
وإن سماع كلام الله تعالى يقتضي منا التدبر فيه والتفهم وأن نعلم أنه كلام الله فنحبه؛ لأنه آت من الله؛ ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبون هذا القرآن حباً شديداً، حتى إن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه عندما حضره الموت أخذ المصحف، فكان يمره على خده ويبكي ويقول: (كتاب ربي.. كلام ربي). وإن كل متعامل مع كتاب الله عليه أن يستيقن أنه كتاب، أي: رسالة أرسلها الله إليه هو بالخصوص، فيتشرف بذلك ويحاول تطبيقه تماماً، فإذا سمع منه أمراً عرضه على نفسه، فإن كان ممتثلاً؛ فليحمد الله على ذلك، وإن كان غير ممتثل بادر إلى الامتثال قبل أن يسخط الله عليه، وإن وجد فيه نهياً عرضه على نفسه، فإن كان منتهياً عنه مجتنباً له حمد الله على ذلك واستمر عليه، وإن كان غير مستند لهذا النهي بادر بالتوبة إلى الله قبل أن يسخط عليه، وإن سمع فيه وعظاً اتعظ به؛ فكثير من القلوب لا يجد الوعظ إليها سبيلاً؛ فتكون مختوماً عليها ميتة، فيقرأ عليها القرآن الذي يقول الله فيه: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21]، ومع ذلك لا تخشع القلوب لشدة قسوتها.
وكذلك إذا وجد فيه قصصاً من أخبار السابقين أيقن صحتها، وعلم أنها درس وعبرة لمن يعتبر بها، فإن كانت في قصص الصالحين سأل الله أن يلحقه بالصالحين وأن يجعله منهم، وحاول الامتثال بما في تلك القصص من أحوال الصالحين؛ ولذلك قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: (حكايات الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده). ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ[هود:120].
كذلك إن كان فيه من أحوال أعداء الله تعالى الذين انتقم منهم وأيام الله تعالى ومثله في السالفين، فعلى الشخص أن يخاف منها وأن لا يقول: أنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله، وهؤلاء القوم الذين أهلكهم الله كانوا يكفرون بالله؛ لا، بل عليك أن تخاف مكر الله؛ فما أمن مكر الله مؤمن، عليك أن تخاف مكر الله على كل حال، وأن تعلم أن هؤلاء القوم لم يهلكوا لمجرد كفرهم؛ فالكفار كثير، وإنما أهلكوا بسبب المكر الذي أتوا به زيادة على ذلك؛ فالأمم التي أبادها الله وأهلكها كان إهلاكها بسبب الكفر وبسبب غيره من الأعمال الزائدة، فيمكن إذا لم يكفر الشخص ولكنه اقترف بعض الأعمال التي اقترفتها تلك الأمم، أن يواجه سخط الله فينتقم الله منه، وحينئذ يحل به مقت الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
لهذا كان علينا إذا سمعنا القرآن أن نتفهم فيه ونتدبره كما أمرنا الله؛ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[محمد:24]، ثم بعد ذلك إذا فهمنا منه شيئاً عملنا به وإذا لم نفهمه آمنا به، وهذه حقيقة التعامل مع القرآن أن ما فهمته منه عملت به وطبقته، وما لم تفهم منه آمنت به وصدقته وأحببته.
ويجب عند الاستماع إلى القرآن أن يتذكر الشخص عظمة الله عز وجل الذي وجه إليه هذا الكلام، وأن يعلم أن ما فيه كله لمصلحة الناس؛ قال ابن عباس : (إذا سمعت الله يدعوك؛ فاعلم أنه إما إلى خير يقدمك إليه أو إلى شر يصرفك عنه) فإذا سمعت: (يا أيها الذين آمنوا)، ( يا أيها الناس)؛ فاعلم أن الخطاب موجه إليك من ربك الذي خلقك وسواك، فبادر إلى التفهم والتلقي عن الله؛ لهذا فإن المستمع إليه ينبغي أن يعتقد أنه يستمع من ربه عز وجل، ولهذا يثاب المستمع لتلاوة القرآن حتى لو لم يقرأ هو، والذي لا يحفظ شيئاً من القرآن إذا استمع إلى قارئ بقصد العبادة كتب كالقارئ، وإذا سجد القارئ في موضع سجدة يأتم به؛ لأنه بمثابة القارئ؛ فهو أحد القارئين، فلهذا كان مستمعه كقارئه، فلا ينبغي أن يلغو ولا أن يلهو، وعليه أن يتحلى بالسكينة والوقار عند سماع كلام الله.
في هذه الآيات الكريمات بين الله تعالى أوصافاً لقوم رضي أوصافهم، وبين جزاءهم وبين كثيراً من أحوالهم المرشدة إلى التحلي بها، وهذه الآيات ليست منزلة لتقرأ فقط دون أن تطبق، بل إذا وجدت مثلاً لقوم رضي الله عنهم فاعلم أن ذلك إرشاد لك؛ لأن تلتحق بهم وتطبق ما طبقوه وتعمل بما عملوه.
افتتح الله تعالى هذه الآيات بقوله جل ذكره: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا[الفرقان:63]، والواو هنا عاطفة، واختلف أهل التفسير هل هي من عطف الجمل أو من عطف المفردات، ولعل الراجح إن شاء الله تعالى أنها من عطف المفردات، ولكن المعطوف عليه متقدم قد حال دونه آيات متعددة، والمعطوف عليه هو ما سبق في قول الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا[الفرقان:59]، ثم عطف عليه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ[الفرقان:63]؛ فلهذا يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الرحمن، وأن كل ما سواه عباد الرحمن، لكن هؤلاء العباد منهم الممتثل المجتنب، الذي يستحق أن يوصف بهذا الوصف الشريف، ومنهم من لا يستحق ذلك، منهم من هو عبد لهواه أو شيطانه، ومنهم من هو عبد للدنيا يلهث وراء الدراهم والدنانير، ومنهم من هو عبد لله خالص، أخلص العبودية لله فاستحق الشرف أن ينسب إلى عبودية الله.
وفي المقابل ذكر الذين لا يعبدون الله بعد هذه الآيات فقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا[الفرقان:60]؛ فهؤلاء لا يستحقون أن يوصفوا بأنهم عباد الرحمن؛ لأنهم يقولون: (وما الرحمن؟) ما عرفوه، ولم يشتغلوا بمعرفة الله ولم يشتغلوا بعبادة الله؛ فلم يستحقوا هذا الوصف الشريف بأن يكونوا من عباد الله؛ فلهذا نعى عليهم هذا سبحانه وتعالى فقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا[الفرقان:60].
ثم أثنى على عباده الذين يستحقون هذا الوصف الشريف فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ[الفرقان:63]، والعبودية هي أفضل وصف يوصف به المخلوق، وأبلغ ثناء على الله أن يوصف بأنه رب العالمين؛ ولهذا افتتح الثناء بذلك في الفاتحة: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2]، وأبلغ وصف يمدح به المخلوق أنه عبد لله؛ ولهذا افتتح الثناء على محمد صلى الله عليه وسلم به في قوله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى[الإسراء:1]، ولم يقل: سبحان الذي أسرى برسوله، ولا بخليله ولا بنبيه، بل قال: (بعبده).
والعبد في اللغة تطلق على أربعة أمور:
تطلق على المحب؛ فيسمى عبداً؛ لأنه تعلق قلبه بمن يحبه، وهذا من العبودية النازلة جداً بحسب المعبود، فإذا كان الشخص يحب الله تعالى ويتعلق به محبة شديدة فهو عبد لله عبودية المحبة، وهذا هو المذكور في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[البقرة:165]، وإذا كان يحب غير الله ويتعلق به فهو عبد لذلك الذي يحبه، ومن ذلك قول الشاعر:
يا عمرو ثأري عند زهراء يعلمه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
نعوذ بالله!
القسم الثاني: عبودية الخلق؛ فكل مخلوق عبد لمن خلقه، وهذا يشمل الكافر والمؤمن، والحي والميت؛ فكل شيء مخلوق لله تعالى فهو عبد لله، فيطلق هذا على الجبال وعلى السموات وعلى الأرضين وعلى بني آدم مسلمهم وكافرهم؛ فهم جميعاً كلهم آتيه يوم القيامة فرداً، يشهدون له بالألوهية جميعاً يوم القيامة.
القسم الثالث: عبد النعمة، وهو الذي أنعم عليه بنعمة امتلكت لبه، مثل من كان أسيراً فأطلق إساره؛ ولهذا يقول العرب: (غل يداً معتقها). ومثل من أنعم عليه الشخص نعمة أياً كانت؛ فإن شكره لتلك النعمة يسمى عبودية، وكفره بها يسمى كفراناً، ومن ذلك قول عنترة :
نبئت عمراً غير شاكر نعمتي والكفر مخبثة لنفس المنعم
فعبودية النعمة بمعنى الإحسان، والله سبحانه وتعالى هو الذي تأتي منه النعم كلها؛ فلا متفضل بخير إلا هو؛ فهو وحده الذي يستحق الشكر؛ لأنه ما من نعمة أياً كانت إلا هو المنعم بها والمتفضل بها؛ فيتفضل قبل المسألة ويجيب الداعي إذا دعاه بعد المسألة؛ فمن لم يسأله أعطاه ومن سأله أعطاه؛ فبذلك يستحق الشكر على النعمة، وهي عبودية النعمة.
القسم الأخير من أنواع العبودية: العبودية بسبب الملك، ولا شك أن الله مالك للكون كله؛ فكل ما في الكون عبد لله بمعنى مملوك له، والعبد يطلق في اللغة على المملوك، وهذا هو الإطلاق الرابع.
هذه الإطلاقات الأربعة كلها صحيحة في قول الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ[الفرقان:63]؛ فهم محبون لله، وهم قد أنعم الله عليهم، وهم مخلوقون لله، وهم مملوكون لله؛ فهذه المعاني الأربع بأيها فكرت بها في قوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ[الفرقان:63] فقد أصبت.
واختار الله تعالى هنا هذا الاسم العظيم من أسمائه وهو (الرحمن)، وهو اسم يتضمن صفة من أعظم صفات الله، وهي صفة الرحمة؛ فهي التي كتبها الله على نفسه؛ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[الأنعام:54]، وهو وزن مبالغة يقتضي التفضيل؛ ولذلك لا يجوز أن يسمى به غير الله، ولا أن يوصف به، نعم يمكن أن يوصف شخص بالرحيم؛ لأنه رحيم على أولاده أو رحيم على أصدقائه، ولكن لا يوصف بأنه (رحمن)؛ لأن (الرحمن) غاية المبالغة في الرحمة، وهذه من خصوصيات الألوهية، لكن الله وصف بــ(الرحيم) بعض عباده في كتابه؛ فقال في محمد صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128]، وهكذا؛ فـ(الرحمن) لا يوصف بها إلا الله، وهي مقتضية لهذه الصفة العظيمة التي كتبها الله على نفسه، وقد أثبت رسوله صلى الله عليه وسلم كثيراً من معاني هذه الصفة؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: ( إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فادخر عنده تسعة وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها )، فتجد الأسد يدافع عن أولاده وهو أشرس البهائم وأسوأها خلقاً، وتجد الأتان تلد ولدها الأول وهو بكرها في خلاء من الأرض، فتدافع عنه وترفع عنه رجلها وترضعه ولا تذهب عنه يميناً ولا شمالاً وترعاه؛ كل ذلك من رحمة الله، وهكذا؛ فهذه الرحمة العجيبة التي تشمل جميع الخلائق جزء واحد من رحمة واحدة، وفي المقابل تسع وتسعون رحمة لعباده المؤمنين في الجنة؛ ولذلك بالغ الله سبحانه وتعالى في هذه الرحمة الأخروية كما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، فلا يمكن أن تفكر فيه ولا أن تحيطه بأي شيء، وتستشعر عظمته عندما تلاحظ أن ما تراه اليوم مما يعيش فيه الناس والبهائم والدواب والأشجار والنبات ومن في السموات ومن في الأرضين كله جزء واحد من رحمة واحدة، وأن ما يعيش فيه أهل الجنة تسع وتسعون رحمة كاملة؛ فتلاحظ هذه العظمة التي لا تناهي لها ولا حصر لها.
هذه الرحمة صفة من صفات الله، وهذا الاسم الكريم من أسمائه، لكنه من نوع من الأسماء يسمى "أسماء التعلق والتخلق" فأسماء الله تنقسم إلى قسمين: أسماء للتعلق فقط، وأسماء للتعلق والتخلق، فالأسماء التي هي للتعلق فقط هي التي يُسْأل الله بها، ولكن لا يمكن أن يتحلى بها المخلوق مثل "الله" لا يمكن أن يتحلى المخلوق بهذا الاسم، لكن يسأل الله به، ومثل "الصمد" لا يمكن أن يتحلى المخلوق بهذا الاسم لكن يسأل الله به، ومثل "الجبار" فالكبرياء رداء الله؛ فلا يمكن أن يتحلى بها المخلوق، وإذا سولت له نفسه ذلك كان ظالماً لنفسه، لكن "الرحمن" هذا من الأسماء التي هي للتعلق والتخلق، يسأل الله به؛ قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[الإسراء:110]، ويتخلق بها بمعنى: أن الله يرضى لعباده أن يتصفوا بصفة الرحمة؛ ولهذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، وهذا الحديث هو المشهور عند المحدثين بالحديث المسلسل بالأولية، فهذه الرحمة رضيها الله لعباده، ورضي لهم أن يتراحموا فيما بينهم وأمرهم بذلك، وهذا التراحم يشمل أصناف المخلوقات حتى الجمادات؛ فعلى الشخص أن يكون لطيفاً في التعامل معها ورفيقاً بها، حتى إن الفقهاء نصوا على أن الملابس التي يلبسها في النهار ينبغي أن يريحها في الليل، وأن الفراش الذي يتفرشه في الليل ينبغي أن يريحه في النهار، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( قد اسود هذا الحصير من طول ما لبس )، فكل هذا من الرحمة حتى بالجمادات.
وكذلك البهائم التي تذبحها، والكفار الذين تقاتلهم لا بد أن يكون ذلك برحمة؛ ولهذا روى شداد بن أوس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )، والرحمة للكفار هي بالحرص على هدايتهم والسعي لإرشادهم، وكذلك الرحمة على العصاة من المسلمين هي للسعي إلى هدايتهم وعدم إعانة الشيطان عليهم؛ فهم مبتلون، وأحق الناس بالرحمة المبتلى، فأهل البلاء هم أحق الناس بالرحمة، وشر البلاء البلاء في الدين؛ ولذلك أخرج مسلم في الصحيح من حديث ابن عمر و مالك في الموطأ من حديث يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله؛ فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى؛ فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية). "فارحموا أهل البلاء" مطلقاً، يشمل هذا البلاء في الدين والبلاء في البدن والبلاء في المال والبلاء في الأهل والبلاء في الأقارب، هؤلاء يستحقون الرحمة؛ فارحموا أهل البلاء، لكن رحمتهم تتفاوت؛ فرحمة المبتلين في الدين هي بالحرص على هدايتهم وإرشادهم ونصيحتهم، ورحمة المبتلين بالمال بمساعدتهم في المال، وهكذا.
ثم قال بعد هذا في وصف هؤلاء العباد الذين رضي عملهم: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا[الفرقان:63]، وهذا يناقض الوصف السابق الذي حكاه عن أعدائه الذين إذا قيل لهم: اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ [الفرقان:60] بالغوا في التكبر والتجبر حتى تجاهلوا الرحمن جل وعلا؛ فقالوا: وَمَا الرَّحْمَنُ[الفرقان:60]، وسألوا عنه بصيغة "ما" الاستفهامية التي يسأل بها عن غير العاقل، فكان في المقابل أن عباد الرحمن الذين رضي حالهم متصفون بالتواضع والرحمة؛ فهم يمشون على الأرض، لا يتكبرون ولا يتجبرون على عباد الله ولا يركبون أعناق الناس للوصول إلى أهدافهم وأغراضهم، بل يعلمون أن الناس جميعاً خلق من خلق الله، فلذلك لا يريدون التكبر ولا الفساد في الأرض ولا التجبر فيها، وهؤلاء هم الذين كتب الله لهم العاقبة؛ كما قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[القصص:83]، الدار الآخرة المقصود بها نعيمها، نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[القصص:83]، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لا يبغي أحد على أحد ).
فالتواضع وصف محمود، وهو دليل على الإيمان، فإذا وجدت مستكبراً؛ فاعلم أن إيمانه ناقص، وإذا وجدت متواضعاً لله متواضعاً للناس؛ فاعلم أن إيمانه طيب، ولهذا شرع من المؤمن أن يعالج الكبر عن نفسه دائماً، وكان من أمراض القلوب التي يجب علاجها، أمراض القلوب ليست مثل أمراض الأبدان، أمراض القلوب كلها يجب دواؤها، وأمراض الأبدان منها ما يجب دواؤه ومنها ما يندب ومنها ما يجوز، فتعتريها أحكام الشرع، فالكبر والعجب من أخطر الأمراض وأسوئها؛ ولذلك يجب علاجه وهو الذي أخرج إبليس من الجنة، وأدى به إلى لعنة الله تعالى؛ فلذلك ينبغي أن يراجع الشخص نفسه دائماً في تعامله مع الناس هل هو مستكبر، وقد لا يشعر بذلك، قد لا يشعر بكبريائه، وخير الخلق وأشرفهم على الله محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان تأتيه الأمة، فتأخذ بيده حتى يقضي لها حاجتها، ويأتيه الأعرابي الجلف البادي، فيجذبه بثوبه حتى يؤثر في صفحة عنقه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم؛ فيقول: ( يا رسول الله! أو: يا محمد! مرني بشيءٍ من مال الله الذي تحت يدك )، فيبتسم صلى الله عليه وسلم ويأمر له بشيء من المال.
وكذلك فإنه وصفه الذين وصفوه بأنه كان من وصفه في التوراة أنه ليس فاحشاً ولا متفحشاً ولا مستكبراً ولا جواضاً، هذه أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة؛ كما ثبت ذلك في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب المتواضعين؛ فقد ثبت عنه في سنن الترمذي بإسناد صحيح أنه قال: ( ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون )، هؤلاء هم أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقربهم منزلاً منه يوم القيامة، هم جيران محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة.
وبذلك فإن التواضع مقتض منا أن نراجعه في أنفسنا دائماً، وهو متكامل مع الرحمة التي سبقته؛ فصفة الرحمة السابقة التي ذكرت في قولنا: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ[الفرقان:63] يكملها أيضاً وصف التواضع والمشي على الأرض المذكور في قوله: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا[الفرقان:63]، وهذا جاء في وصية لقمان لابنه، حيث قال فيما حكى الله عنه: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا[الإسراء:37]، فإذا علم الشخص أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً، اقتضى منه هذا التواضع والمشي على الأرض هوناً.
وفي قوله عز وجل: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا[الفرقان:63] إشارة إلى مشروعية العمل والاكتساب والتحرك للخلافة في هذه الأرض، وهذا مبدأ مشروع لبني آدم؛ فإن الله عز وجل جعل الإنسان خليفة في هذه الأرض وأمره بتسخير خيراتها واستغلال ما فيها، وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ[هود:61]؛ فلذلك قال: يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا[الفرقان:63]، والمشي هنا هو الضرب في الأرض؛ لقصد استغلال ما فيها من الخيرات، سواءً كانت فيما يتعلق بالمنافع الدنيوية، أو فيما يتعلق بالمواعظ التي ترقق القلوب وتزيد الإيمان؛ فكل هذا مما يتطلب في مناكب الأرض؛ ولهذا أمرنا الله تعالى أن نمشي في مناكبها وأن نبتغي من رزقه؛ كما في آية سورة الملك: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ[الملك:15].
ثم قال: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا[الفرقان:63]، وصف هؤلاء العباد الذين رضي حالهم بأنهم أهل عفة لسان وأهل صبر وحلم وأناة، وهذا الوصف محمود عند الله، مرضي عند رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـأشج عبد القيس : ( إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة )، هاتان الخصلتان يحبهما الله ورسوله، وهما يدلان على العقل، فالحليم الذي لا يغضب والمتأني الذي لا يعجل، هذا دليل على عقله ووفور حكمته؛ فلذلك وصف هؤلاء العباد بأنهم إذا خاطبهم الجاهلون يقولون سلاماً، والخطاب في الأصل مراجعة الكلام بين متكلم ومجيب، خاطبهم معناه: بكلام لا يصلح، بأن كان كلاماً قبيحاً أو كان رداً عليهم فيما هم فيه، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا[الفرقان:63].
وقد اختلف أهل التفسير في معنى قوله: ((قَالُوا سَلامًا))، هل معناه: أنهم يقولون هذا اللفظ؛ فيقولون: "سلاماً" معناه: تسلمون منا ونسلم منكم، أو أن معناه: أنهم قالوا كلاماً طيباً مثل السلام مثلاً، وهذان قولان لأهل التفسير، ولكن معناهما متقارب؛ فحتى لو كان الأمر متعلقاً بلفظ "سلاماً" هذه، فإنها مصدر منصوب، والمصدر المنصوب يقتضي الندب دون الوجوب؛ ولذلك قال الله تعالى في قصة إبراهيم حين أتاه الملائكة: قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ[هود:69]؛ فالمصدر المنصوب يقتضي الندب، والمصدر المرفوع يقتضي الوجوب؛ فالسلام الأول الذي افتتح به الملائكة للندب فقط، فالقادم على جماعة يسن له أن يسلم عليهم، لكن يجب عليهم أن يردوا السلام؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النساء:86]، فلهذا إذا جاء المصدر منصوباً دل على الندب وإذا جاء مرفوعاً دل على الوجوب، فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ[الذاريات:25]، فكذلك هنا "سلاماً" هذا مصدر منصوب؛ فهو يدل على الندب فقط لهذه الكلمة، لكن هذا الندب يشمل ما يشبهها من الكلام الطيب.
ثم بعد هذا ذكر صفة أخرى وهي قوله: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[الفرقان:64]، قد سبق في الآيات السابقة أن الله وزع الزمن إلى قسمين: إلى ليل ونهار، وجعل كل واحد منهما موزعاً إلى ساعات؛ كما قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان:61-62]، فبين هنا أن هؤلاء العباد يستغلون هذا الوقت؛ فالليل يستغلونه في علاقتهم بالله والنهار يستغلونه في علاقتهم بالناس ولا ينسون أيضاً علاقتهم بالله، فلذلك قال: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[الفرقان:64]، "يبيتون" المقصود بذلك المكث ليلاً ولا يقصد به مكث الليل كله، بل المطلوب قيام جزء من الليل يتفاوت طولاً وقصراً، بحسب انشغال الشخص وراحته وسقمه وصحته وغير ذلك؛ ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا[المزمل:1-4]، فلهذا لا يقصد بقوله: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[الفرقان:64] مبيت الليل كله، بل جزء منه يسمى "قياماً".
وقد اختلف العلماء في حكم قيام الليل؛ فذهب جمهورهم إلى أنه مندوب لكل أحد في الحضر والسفر، وأنه لا يترك في السفر كما تترك النوافل النهارية، وذهب بعضهم إلى وجوب قيام الليل بقدر ما تحلب فيه شاة، وكان هذا مذهب أهل العراق، واستدلوا بأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله زادكم صلاة ثابتة وهي الوتر )، فعلى هذا يجب من قيام الليل قدر حلب شاة فقط، ولكن المذهب الأول هو الراجح وهو مذهب الجمهور أن قيام الليل سنة، وهو مما تحتاج إليه القلوب في حياتها؛ فإذا تركه الشخص مات قلبه؛ لأن مما يحيي القلوب أن يتجافى الشخص عن مضجعه، ويقوم لله تعالى في وقت نوم الناس؛ ولهذا قال الله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[السجدة:16-17]، وكذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في أول مجيئه للمدينة في حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه حين دخل عليه سمعه يقول: ( أيها الناس! أطعموا الطعام وصلوا الأرحام وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تلجوا الجنة بسلام )، فهذا من أسباب دخول الجنة.
وهو من أخص النعم على العباد؛ فالعبد الذي ينعم الله عليه بأن يأذن له في أن يطرق باب المسألة في وقت قد شغل الناس فيه عن هذا الباب، فأذن له فلم يغلق دونه باباً ولا أسدل دونه حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً، وفي نفس الوقت يتذكر أن له إخواناً صرفهم الله تعالى عن هذه الصلاة وعن تعليق الحوائج بالله ومسألته؛ فمنهم من شغل بالكفر، ومنهم من شغل بالفسق، ومنهم من شغل بالإعراض عن الله تعالى والغفلة، ومنهم من شغل بالمرض ومنهم من شغل بالنوم، فإذا أذن الله لك من بينهم أن تخر ساجداً بين يديه تسأله حوائجك، وتسبحه وتهلله في وقت نام الناس فيه عن هذا؛ فاعلم أنها نعمة عظيمة تحيي القلوب؛ ولذلك كان قيام الليل من أقوى وسائل حياة الإيمان في النفوس، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[الفرقان:64].
إن الصلاة أعظم العبادات التي يتصل بها القلب ببارئه وفاطره؛ فلذلك اشتملت على أنواع متعددة من العبادات، وهذه الأنواع منها أفعال ومنها أقوال، وأفعالها منها قيام ومنها سجود وبينهما ركوع وجلوس، فالقيام هو الطرف الأعلى والسجود هو الطرف الأسفل، وبينهما ركوع وجلوس؛ فَذُكر الطرفين، الطرف الأعلى وهو الانتصاب قائماً والطرف الأسفل وهو السجود فقال: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[الفرقان:64]، فدخل بين هذا الركوع والجلوس.
والقيام والسجود اختلف فيهما أيهما أفضل؛ ولذلك تقرءون في مختصر خليل رحمه الله تعالى: (وهل الأحب كثرة السجود أو طول القيام) فهذه مسألة مختلف فيها بين العلماء، والسبب هو أن القيام يقرأ فيه الشخص القرآن كثيراً ويكثر فيه من تلاوته وتدبره، والسجود لا يقرأ فيه القرآن، ولكن يكثر فيه الشخص من التسبيح والذكر، والله تعالى ذكر أن الذكر مما شرعت له الصلاة؛ فقال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ[العنكبوت:45]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( أقرب أحوال العبد من ربه وقت سجوده )، فوقت العبد ساجداً هو أقرب أحواله من ربه؛ ولهذا شرع له التسبيح فيه وأن يعرض فيه حوائجه على الله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ( أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه لأنفسكم بالدعاء فقمن أن يستجاب لك )، ووقت استجابة قد رفع فيه الحجاب، فاسأل ما شئت؛ فهنا جاء الترتيب بالبدء بالسجود قبل القيام؛ فقال: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[الفرقان:64]؛ فأخذ من هذا طائفة من العلماء أفضلية السجود على القيام؛ لأنه بدئ به قبله وليس أعلى منه، لأن الأعلى في أوصاف الصلاة والأول فيها هو القيام لا السجود، فلما بدئ بالسجود قبل القيام على عكس الترتيب المعقول في الصلاة كان ذلك لا بد مشيراً إلى نكتة فقال العلماء: النكتة التي يشير إليها هذا هي أفضلية السجود على القيام، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[الفرقان:64].
قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[الفرقان:65]، وإن من أفضل القربات وأحبها إلى الله الدعاء؛ ولذلك قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، وروي عنه أيضاً أنه قال: ( الدعاء مخ العبادة )، وقد رضيه الله لعباده فقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَهمْ يَرْشُدُونَ[البقرة:186]، وكذلك قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[غافر:60]؛ فالله يرضى لعباده أن يسألوه، وهو يعطيهم قبل المسألة ويعطيهم إذا سألوه، وهذا مقتض من عباده أن يعلقوا به حوائجهم وأن يسألوه كل أمورهم، وقد كان سلفنا الصالح يسألون الله كل شيء، حتى الملح للطعام، فكان عروة بن الزبير إذا سجد سأل الله كل حوائجه حتى الملح لطعامه، حتى يجد قلبه معلقاً بما عند الله غنياً عما عند الناس، وهذه هي الموازنة التي ينبغي أن تكون بين أيدينا؛ فالناس بخلاء وفقراء لا يملكون نفعاً ولا ضراً، والله هو الغني الحميد الكريم، الذي يرضى لك المسألة؛ كما قال الحكيم:
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
وأول ما ينبغي أن يسأله الله عز وجل هو الفوز، والفوز إنما يكون بالتزحزح عن النار ودخول الجنة؛ كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ[آل عمران:185]؛ فلذلك كانت مسألة هؤلاء الذين رضي الله عنهم في بداية سؤالهم أن يسألوا الله أن يزحزحهم عن النار، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ[الفرقان:65]، معناه: يكثر ذلك في كلامهم؛ ولهذا جاء بصيغة الفعل المضارع ولم يأت بصيغة الفعل الماضي، لم يقل: (والذين قالوا ربنا) بل قال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ[الفرقان:65]؛ فيسألون الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم ولم يقولوا: اصرفنا عن عذاب جهنم، وهذا أبلغ في المسألة؛ لأن صرف عذاب جهنم عنهم معناه أنهم لا يسمعون حسيسها، وأنهم مبعدون عنها، وأما صرفهم عن عذاب جهنم، فيشمل دخولهم ثم خروجهم، وهذا ما سيحصل لكثير من الناس يدخلون النار بسيئاتهم، ويخرجون منها بإيمانهم؛ فلذلك قال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[الفرقان:65].
و"جهنم" اسم من أسماء النار أجارني الله وإياكم منها، واختلف هل هو اسم عربي أو اسم أعجمي أو اسم مشترك من كل اللغات، ولكن حروفه تدل على التجهم والتجهم معناه: عبوسة الوجه وعدم الاطمئنان، فهذا الاسم يطلق عليها للتنفير منها والتحذير منها، رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ[الفرقان:65]، والعذاب المقصود به: أصنافه التي فيها، وهي أنواع متعددة؛ ولذلك جاء التعريج على بعضها في هذه الآيات.
إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[الفرقان:65]، هؤلاء أعلنوا مسألتهم صرف عذاب جهنم عنهم بأن عذابها كان غراماً معناه: ملازماً، والغرام هو الملازم، ومنه الحب الشديد يسمى "غراماً" لأنه يلازم صاحبه، و "الغريم" معناه صاحب الدين؛ لأنه يلازم صاحبه، و "الغرم" الذي استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم معناه: الضمان حيث يلزم الشخص غريمه حتى يقضيه؛ فلذلك قالوا: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[الفرقان:65]، معناه: ملازماً - نعوذ بالله - لمن دخله، ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته: (واعلموا أنه لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجنة) ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا حالاً فيصبغ صبغة واحدة في النار، فيقال له: يا عبد الله! أرأيت خيراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت خيراً قط )، ينسى كل نعيم كان مر عليه في حياته، ( ويؤتى بأسوأ أهل الدنيا حالاً فيرى الجنة ويصبغ فيها صبغة يجد من هوائها وروحها فيقال له: يا عبد الله! أرأيت سوءاً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت سوءاً قط )، وهذا يدلنا على أن هذه الدنيا ينبغي أن لا تؤدي إلى الهلع والطمع، ولا إلى الانكسار أيضاً والجزع على المصائب؛ فليست بشيء، هذه المصائب إذا كانت بعدها الجنة؛ فإنها لا ألم في فقدها ولا حزن عليها، وإن كانت بعدها النار فالذي يحزن عليه هو الدخول في النار، هو المصيبة العظمى التي ينقضي كل ما كان قبلها من المصائب ومن النعيم أيضاً، إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[الفرقان:65].
ثم قال: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا[الفرقان:66]، وصفوا النار بهذا الوصف البليغ: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا[الفرقان:66]، معناه: كانت غاية في السوء، وهذا الفعل من أفعال الذم، ساء كذا معناه: أنه وصل إلى الدرجة القصوى من الذم، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا[الفرقان:66]، معناه: مكاناً يدخل قليلاً، فمثلاً من دخلها ولو طرفة عين ساءت مستقراً بالنسبة إليه، وَمُقَامًا[الفرقان:66]، معناه: المكان الثابت الذي يقام فيه أبد الآبدين، وهذا أيضاً ساءت مقاماً، وهذا يدلنا على أن أهل النار قسمان: قسم تكون النار لهم مستقراً، معناه: يستقرون فيها ولو لحظة عين، وهذا يتفاوت، والقسم الثاني - نعوذ بالله - تكون النار لهم مقاماً، يثبتون فيها فلا يخرجون منها، فلذلك قال: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا[الفرقان:66]، والمستقر يذكر معه المقام ويذكر معه المستودع، فهنا ذكر معه المقام، وفي آية سورة هود ذكر معه المستودع في قول الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا[هود:6]، فـ(مستقرها) معناه: المكان الذي تعيش فيه في حياتها الدنيا، و (مستودعها) المكان الذي تكون فيه بعد موتها، والأرض: كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا[المرسلات:25-26]؛ ففوق ظهرها تكفت الأحياء، وفي بطنها تكفت الأموات، فتكفتهم جميعاً فيتلاحقون فيها، فالنار ساءت مستقراً ومقاماً.
أقف على هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر