إسلام ويب

عظمة اللهللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تتجلى عظمة الله وجلاله من خلال النظر في آثارها ومظاهرها المبثوثة في الكون وفي القرآن والسنة، والتي تعمق الإيمان في القلب وتصله بالله فلا يلجأ لأحد سواه، ولا يعبد ولا يدعو ولا يرجو إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا إياه؛ لأنه المتفرد بالجلال والكبرياء والعظمة.

    1.   

    أهمية التدبر في مظاهر عظمة الله تعالى

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

    فما أحوج المخلوق إلى أن يدرك جزءاً من عظمة خالقه ديّان السماوات والأرض، الملك الجبار، ما أحوج المخلوق لهذا لأنه محتاج إلى معرفة الله، محتاج إلى أن يتعرف عليه في الرخاء ليعرفه في الشدة، محتاج إلى أن لا يشرك به شيئاً ولا يجعل له نداً، محتاج لأن يقصده في كل أموره، محتاج إلى أن يتعبده العبادة التي من أجلها خلقه.

    ما أحوج المخلوق لأن يتدبر في هذا الكون العجيب حتى يدرك بعض عجائب عظمة الجبار الذي أبدعه من غير مثال سابق، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، خلق هذا الكون العجيب فأبدعه وصوره تصويراً.

    ما أحوج المخلوق لأن يمتلئ قلبه من عظمة الله عز وجل حتى يحول ذلك بينه وبين معصيته. ما أحوج المخلوق أن تباشر عظمة الله شغاف قلبه حتى يحبه حق محبته. إننا محتاجون إلى استشعار هذه العظمة، وإن الله عز وجل قد بين لنا كثيراً من تجلياتها ومظاهرها في عجائب خلقه حين علم أنه: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الأنعام:103]، وأننا لا يمكن أن نعرفه من خلال مثال نراه فـ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11]، أبدع هذا الكون ليكون دليلاً على عظمته وجلاله:

    ففي كل شيء له آية تدل على أن واحد

    إن هذا الكون بكل ما فيه؛ بكل جزئية منه؛ كبيرة كانت أو صغيرة، تدل على مبدع أحاط علمه بجميع الكائنات على وجه الإجمال والتفصيل، ورتب هذا الكون بتدبير عجيب، لا اختلال فيه ولا انفطار؛ ولهذا فإن نظرت إلى أبسط جزئية منه وجدتها تدلك على هذه العظمة العجيبة.

    1.   

    من مظاهر عظمة الله في الآيات المنظورة

    ولتبدأ بنفسك التي هي أقرب شيء إليك؛ فإنا ستجد فيها عظمة الله عز وجل، ستجد ذلك في كل أجهزتك المختلفة، ستجده في مفاصلك التي تنيف على ثلاثمائة مفصل، وستجده في عروقك التي تزيد على ثلاثة آلاف عرق، وتجده في نبضات قلبك التي لا تتوقف إلا بالموت، وتجده في دمك المؤلف من سبعة عشر عنصراً، وتجده في هذا الهواء الذي يدخل نقياً عن طريق معدة له فيدخل الأكسجين إلى الرئتين، ويخالط جميع الدم حتى لا تبقى شعرة واحدة من البدن إلا ودخل فيها، ثم يعود هواءً ملوثاً ويخرج بهواء الزفير الذي صار ثاني أكسيد الكربون.

    من مظاهر عظمة الله في أجهزة جسم الإنسان وحواسه

    تجد هذه العظمة في بصرك الذي تدرك به دقائق الأشياء وترى جزئيات هذه العين العجيبة التي جعل الله تعالى النظر فيها في هذه القرنية المحتوية على ماء سيال، وهذا الماء به إدراك هذه الأشياء الدقيقة، تجده في سمعك الذي تسمع به هذه الأصوات التي تنقلها هذه الأمواج المعدة لها التي تحيط بهذه الأرض وتسير وترتفع حتى تخرق الفضاء الخارجي.

    إن هذه الأمواج عجيبة جداً، ولا يمكن إدراكها إلا إذا كثفت وكانت مضمنة بالأصوات، فهي قادرة بإذن الله تعالى على نقل الأصوات ونقل الإشارات الكهربية لمسافات بعيدة شاسعة، ولهذا فإن السنة الضوئية تنقل هذه الإشارات الكهربية في مسيرة ألف سنة من سنوات الزمان في دورة دائمة، وكل هذا لا توقف فيه ولا انقطاع، وهذا يدل على عظمة الباري سبحانه وتعالى حين أبدعه ورتبه هذا الترتيب العجيب، حين جعل هذه الأمواج تنقسم إلى أمواج أرضية وأمواج سماوية أو أمواج عرضية وأمواج طولية، وجعل الأمواج الطولية تنقسم إلى قسمين: أمواج تردها طبقة من الفضاء هي طبقة اليونيسفير، فترجع إلى الأرض مضمنة بما فيها ويحصل الفوت في الصوت بين هذا وهذا، وأمواج سماوية تخترق اليونيسفير ولا يردها إلا جسم في الفضاء الخارجي. تجد هذا العجب العجاب، في عقلك الذي تفكر به من أين أتى؟ وكيف تفاوت الناس فيه؟ وكيف رضي كل شخص عن الله بعقله؟ وكان يظن أنه أكمل الناس عقلاً، تجده في هذا البدن المليء بالأجهزة، الذي فيه جهاز للذاكرة، وجهاز للمفكرة، وجهاز مرتب للتوازن حتى تستطيع المشي به، وجهاز مرتب للسيطرة على الجوارح وجهاز مرتب لحركة العضلات بالجسم، وجهاز مرتب لتقويم العظام، وتركيبها، وجهاز مسيطر على أجهزة الهضم، وأجهزة العمليات الأخرى التي تؤدي إلى الإفرازات في الجسم، وهذا كله محصور في أم الدماغ الصغيرة، تجد صورة من جسمك في كل ذرة من ذراتك، فلو أخذت جزءاً ولو بسيطاً من جلدك أو من عظمك أو من شعرك ستجد فيه صورة كاملة لك، ستجد خلية في داخلها نواة وفي داخلها أجسام مختلفة، مثل أجسام جولجي ومثل غشاء سيتوبلازم وغير هذا فتكون مثالاً كاملاً للإنسان، تجد هذه الجزئيات الدقيقة في كل جهاز من هذه الأجهزة.

    فمثلاً: في الجهاز الهضمي تجد هذه الأضراس المعدة لتدقيق الطعام وإذابته حتى يتهيأ لأن يذاب بالأحماض التي في داخل المعدة، بعد هذا تعد له الطريق الموصلة عبر هذه الأنبوبة إلى مستقر في المعدة، بعد هذا تأتي هذه الأحماض التي تتقلب في الثانية الواحدة ثلاثة ملايين مرة في داخل معدة كل إنسان، فتذيب كل ما يأتي فيها حتى العظام القوية التي لا تستطيع الأضراس كسرها، فإنها إذا وصلت إلى المعدة أذابتها؛ لئلا يحصل الضرر بابن آدم، تجد بعد هذا طريقاً لإخراج هذا من أسفل بعد أن يُستغنى عنه ويأخذ البدن ما فيه من الخير، يخرج الله تعالى ما لا نفع فيه منه ويجعل له طريقاً للخروج.

    كذلك تجد في عضلاتك ترتيباً عجيباً لتحريك هذا الجسم الثقيل الذي هو محتاج للحركة فتجده موثقاً للسير إلى جهتين فقط إلى الأمام وإلى الخلف، ولا يمكّن من السير إلى اليمين ولا إلى الشمال ليتم توازنه؛ لأن الثقلين في التنفس في جهازي الرئة؛ فالرئة قسمان: قسم إلى اليمين، وقسم إلى الشمال، فلو سار الشخص إلى أحدهما لاختل توازن تنفسه، وكان ذلك خطيراً في حياته، فلهذا جُعل ذهابه إلى الأمام أو إلى الخلف فقط.

    تجد هذه الأجهزة الأخرى التي تتابع هذه الأجهزة وتنظفها مثل هذا الجفن، الذي يفيض بدمعٍ لا يُدرك ولا يخرج من العين إلا عند التأثر بالحزن أو بالسرور، وتجد حركته الدائمة تنظف هذه العين المعرضة لكثير من الأوساخ في هذا الأكسجين الذي نتنفسه، فلولا هذا الغسيل الدائم لاتسخت كما تتسخ المرآة إذا كانت بالشارع، حيث تمر بها الأوساخ وتلتصق بها وبالأخص إذا كانت مبللة، لكن الله جعل لها هذا الجفن الذي يتحرك بصفة دائمة؛ ليستخرج كل وسخ مضر عنها ويزيله.

    تجد كذلك هذه التجاعيد العجيبة في هذه الأذن، ويظن كثير من الناس أنها لا فائدة فيها والواقع أنها لو قطعت لكان الصوت مضراً؛ لأنه لو يصل بالمباشرة فيقرع السمع فيؤثر في الدماغ ويوبس بعض مكوناته، فهذه التجاعيد العجيبة تمر معها الأصوات حتى تصل إلى مستقرها بالتدريج؛ فلا تأتي الأصوات أكبر من طاقة السمع.

    كذلك تجد هذه التراكيب الرقيقة جداً في داخل الأنف ليمر معها التنفس حتى يوصل ذرات الأكسجين إلى الدم، فيوصله إلى كل مكان في الجسم، حتى الشعرة الواحدة تتنفس عن طريقها، فلو كان الأنف مخروقاً خرقاً كبيراً لوصل هذا الهواء بصفة لا يمكن التحكم بها، ولكن الله جعل ذلك في منخرين يستقبلان الهواء في وقت واحد، ويخرجانه أيضاً في وقت واحد، بعملية عجيبة لا يشعر بها الشخص إلا إذا أصيب بزكام أو نازلة، فإن إحداهما ستنسد وسيجد أنه يعاني تعباً شديداً؛ لأن بعض مواقع الدماغ لا يصل إليها نصيبها من الأكسجين.

    كذلك في هذا النخاع العجيب الذي يسيل من أم الدماغ حتى يصل إلى نهاية العصعص الذي هو عجب الذنب، ومنه خلق الإنسان ومنه يركب، وهو الذي لا يبلى، ( كل ابن آدم يبلى إلا عظماً واحداً منه خلق ومنه يركب )، فهذا النخاع أمره عجيب جداً، فالأسلاك الدقيقة فيه تخرج من بين فقرات الظهر، ولو انقطع واحد منها لحصل الشلل لأجهزة الحركة في الإنسان، ومع ذلك أحيطت بهذا العظم المركب تركيباً ليناً يستطيع معه الإنسان أن ينثني وأن يستقيم، ليرعى هذا العظم المركب بهذا التقطيع العجيب طريقة انحناء هذا النخاع وطريقة استمراره في البدن، فلو كان عظم الظهر كمخ الساق أو كمخ الفخذ مثلاً لكان الإنسان لا يستطيع المحافظة على هذا النخاع، ولما استطاع أيضاً الانثناء والحركة على المستويات المختلفة التي يحتاج إلى الخروج منها والدخول.

    كذلك فإن هذا الإحساس الذي جعله الله في الطبقة العليا من الجسم التي تمارس الأشياء وتمسها إحساس عجيب، وقد ركزه الله في اليدين فقط، ففي بياض اليدين -أي: في باطنهما- تجد هذا الإحساس مركزاً جداً، فتدرك به البرودة والسخونة والنعومة والخشونة، وتدرك به مقادير الأشياء ضخامة وصغراً، وهذا الإحساس كذلك يوجد في الطبقة العليا من الجسم، فتحس به بالألم، فإذا قرصك قارص أو أمسكك شيء أحسست به؛ لأن هذا الإحساس في الطبقة العليا من الجسم، ولو سلخ شيء من الجلد لزال الإحساس عما تحته.

    وكذلك تجد تقوية الأطراف لتحمل الدفاع عن الجسم، فاليدان فيهما قوة ليست فيما تحتهما من الأضلاع، والجنب والفخذان والرجلان والساقان في هذه المجموعة فيها من القوة ما ليس في البطن والأمعاء، فهي مقصودة للدفاع عنها ترد عنها المهاجم أياً كان. كذلك في باطن الرجل تقوية عجيبة من أمر الله تعالى، تجعل الإنسان يتحمل التركيز عليها، فإن الإنسان لو ضغط على أذنه ضغطة شديدة لتألم منها، ولو ضغط على أنفه ضغطة شديدة لتألم منها، لكنه إذا وطئ رجله بكل ثقله لا يتألم من ذلك؛ لأن الله قوى هذه الرجل لتكون محل ارتكاز الإنسان ومحل قوة الثقل فيه، كل هذا من عجائب صنع الله تعالى في الإنسان.

    من مظاهر عظمة الله في الروح

    ما سبق كان في الأمور الظاهرة التي ليست من عالم الغيب ونحن نراها ونشاهدها فكيف بالأمور الغيبية العجيبة؟ الأمور المتعلقة بالروح، فهذه الأرواح أمرها عجيب جداً، ولا نطلع من علمها إلا على الشيء القليل كما قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85]. هذه الأرواح نفخة من أمر الله تعالى يرسل بها ملكاً إلى الجنين في بطن أمه، فيأمره أن ينفخ فيه بمقدار علمه الله تعالى من هذه النفخة من أمر الله، وهذا المقدار متفاوت تفاوتاً عجيباً، فمن الناس من تكون روحه كبيرة فيمكن أن يستوعب كثيراً من المعلومات، ويمكن أن يستغل كثيراً من الطاقات، ويمكن أن يؤثر في نفسيات الآخرين، ومنهم من تكون روحه صغيرة فتكون همته متدنية ويكون ناقص التحمل، فهذا كله من أمر الله العجيب.

    تجد هذه الروح عندما تنفخ في هذا البدن تكون الحياة في البداية تابعة للبدن فقط -أعني الروح تابعة للبدن- والبدن هو المؤثر عليها في حياة الجنين في بطن أمه، ثم إذا خرج الجنين من بطن أمه كذلك كانت حياة الأبدان غالبة على حياة الأرواح، فإذا مات الإنسان ووضع في قبره وانفصلت روحه عن جسمه كانت حياته حياة روحية وكان الجسم تابعاً للروح فقط، ثم بعد ذلك إذا حشر في اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين تكون الحياة حقيقية يستوي فيها الجسم والروح، فالحياة الأولى الغالب فيها الجسم، والحياة الثانية في البرزخ الغالب فيها الروح، والحياة الأخروية يستوي فيها الأمران: الجسم والروح، ولهذا قال الله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت:64]، فهي الحياة الحقيقية التي يقع فيها التوازن بين هذين الشقين.

    كذلك من هذه العجائب الباطنة هذه الأرواح التي تحس باللذة والألم بحيث لا يشعر الشخص بذلك، فتجد شخصين قد ناما في فراش واحد، وأحدهما بات في غاية اللذة والآخر بات في غاية الحزن والألم، ولا يصل شيء من لذة هذا إلى هذا، ولا شيء من حزن هذا إلى هذا، بل أعجب من ذلك أن القبر الواحد تختلط فيه عظام المنعمين والأشقياء، فيكون مستقراً لأهل الجنة وأهل النار، وتختلط عظامهم وذرات أبدانهم، ويكون أحدهم في غاية النعيم، والآخر في غاية العذاب، فلا هذا يدرك شيئاً من عذاب هذا حتى ينغص ذلك عليه عيشه، ولا هذا يصل إليه شيء من نعيم هذا حتى ينقص ذلك عذابه في قبره، بل الجميع لا يدرك إلا ما هيئ له فقط.

    ولهذا تجد الشخصين يجلسان في الصف أطرافهما متماسة، المنكب إلى المنكب والساق إلى الساق، لكن أحدهما مغضب إلى النهاية والآخر مسرور إلى النهاية، تجد أحدهما يخشع لله تعالى وقلبه منشغل عن هذه الدنيا، لا يدرك شيئاً مما فيها؛ لأنه قد غاب في ذات الله، والآخر يفكر في أبسط شيء من أمور الدنيا وتفاهاتها، ومع ذلك لا يصل شيء من حال هذا إلى هذا، ولا شيء من حال هذا إلى هذا؛ فهذه الأحوال نفسية مقسومة هذه القسمة العجيبة.

    كذلك في التأثرات التي ندركها من أحوال النفوس ما يرتبط بالأبدان وهذا أمر عجيب جداً، فإن الغضب الذي ترونه من العوارض الآدمية، وقد حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في صحيح البخاري أن رجلاً أتاه فقال: ( يا رسول الله! أوصني؟ فقال: لا تغضب، فردد مراراً قال: لا تغضب )، تجد أن في الإنسان غدة تسمى: الغدة الكظرية، وهي في الخصر، وهذه الغدة إذا تأثرت النفس من أمر تكرهه أفرزت سائلاً بسيطاً جداً هو الذي يسميه أهل العلوم بسائل الأدرينالين، وهذا السائل يخالط الدم فيجعله يغلي، وكأن الدم أشعل بشعلة، فتجد وجه الإنسان يحمر، وأوداجه تنتفخ، ولا يتمكن من تركيز أطرافه حيث ترتعش ويرتعد، هذه عوارض رتبها الله تعالى على انبعاث هذا الجزء البسيط من سائل الأدرينالين في دمه.

    من مظاهر عظمة الله في الكبد

    كذلك من هذه العجائب العجيبة هذا الكبد الذي يصفي كثيراً مما يحتاج الإنسان إليه، فهو بمثابة النار التي يوضع عليها الطعام فتنضجه، هذا الكبد جزئياتها مركبة من ألياف دموية وفي داخلها أوردة تنقل الدماء من مكان إلى مكان وترجع معها الدماء بصفة عكسية، فتجد العرق الواحد فيه أنبوبان: أحدهما ينقل الدم والآخر يرده في نفس الوقت، وليس بينهما حاجز إلا برزخ من علم الله تعالى، برزخ من علم الله تعالى يقسم كل عرق مهما كانت دقته حتى يستخدم لخروج الدم إلى جهة ورجوعه إلى جهة، فيجتمع الضدان فيه.

    مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من عل

    يجتمع الضدان في كل جزئية من جزئيات الإنسان.

    وكذلك في هذه الكلى ذات الأمر العجيب التي يمر بها البول، فيخرج ما فيه ضرر على الإنسان وتصفي الدم منه وفي داخلها هذه الألياف العجيبة المترددة، فأنت عندما تقطعها تجد ألوانها مختلفة وأنت لا تدرك أنها تراكيب متباينة، فتصفي هذا البول وتخرجه إلى المثانة عبر الحالب الأيمن والحالب الأيسر، فيخرج وفق تقدير أعده الله تعالى له بصورة عجيبة جداً، وينعزل الدم فيرجع إلى مكانه ويذهب البول في مكانه، وإذا أراد الله تعالى تعطيل هذه الكلى بقي الدم ملوثاً بالبول، فكان ذلك تسمماً للإنسان يؤدي إلى مرض شديد فيه، وكذلك لو حصل شق بسيط -حين يريده الله تعالى- في أي عرق من عروق الكلى، فيتسرب منه ذرات قليلة من البول داخل الدم فيتسمم الإنسان بها فيحتاج إلى عملية غسيل للدم.

    من مظاهر عظمة الله في الأجنة

    وكذلك في الأجنة -وحدث ولا حرج عن الأجنة- فإن الله عز وجل ذكر لنا تسع مراحل يمر بها الجنين عجيبة جداً، فقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ[المؤمنون:12]، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ[المؤمنون:13]، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[المؤمنون:14]، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ[المؤمنون:15]، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:16]، هذه تسع مراحل عجيبة جداً:

    أولها: ما خُلق منه آدم من هذا التراب اللزج الممزوج بالماء حتى تخثر، وحتى صار صلصالاً منتناً، ثم خلق منه هذا الإنسان وبقي عنصراً أساسياً في تركيبه، وأنت لو نظرت إلى الحيوان المنوي الذي لا يرى بالعين المجردة -ففي القطرة الواحدة ملايين من الحيوانات- فستجد فيه كل خصائص الإنسان بكامله وأصل تركيبه كاملاً، وكل عناصر الوراثة التي فيه حتى الألوان وطول القامة وقصرها، والفهم والذكاء والبلادة وحتى النهم وحب الأكل، وغير ذلك من الخصائص الوراثية ستجدها جميعاً ملتئمة في هذا الحيوان البسيط، الذي لا يرى بالعين المجردة.

    وكذلك بعد هذا تأتي المرحلة الثانية: وهي قوله: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ[المؤمنون:13]، هذه (النطفة) الماء الدافق الذي يخلق منه الولد، إذا أراد الله تعالى تكوينه فإنه عندما يصل إلى المهبل ينتقل بواسطة قناة هي قناة فالوب، حتى تنقله إلى البويضة التي تنزل من عنق الرحم، والرحم له عنقان عنق في اليمين وعنق في الشمال، وفي كل شهر ينتج عنق الرحم بيضة واحدة، فإذا تم تكاملها نزلت إلى قاع الرحم، فحينئذٍ إما أن تلقح إذا علم الله أنها مخلقة، وإما أن تصير دماً إذا علم الله أنها غير مخلقة، وحينئذٍ يأتي الحيض بهذا، ثم يبدأ الطرف الآخر وهو عنق الرحم الآخر في تكوينه البويضة الأخرى بأمر الله، ثم يكتب عليها هل هي مخلقة أم غير مخلقة؟ فإذا كانت مخلقة فستلقح حينما تصل إلى قاع الرحم عن طريق هذا الحيوان الذي يصل عبر المهبل، ثم عبر قناة فالوب حتى يصل إلى هذه البويضة ويدخل فيها أو يعلق بها، فيكون علقة فترة معينة، ثم يدخل بها ثم يتكون، وإذا علم الله أنها غير مخلقة، وكتب عليها ذلك فستصير دماً وهو الحيض، وهكذا ففي كل شهر يشتغل أحد المصنعين ويستريح الآخر، فهما مصنعان كاملان لإنتاج البيض، مصنع في اليمين ومصنع في الشمال.. وهكذا.

    ثم إذا قدر الله أن هذه النطفة مخلقة فستمكث أربعين يوماً نطفة، ثم بعد ذلك تكون علقة أربعين يوماً، ثم تكون بعد ذلك مضغة، ثم تكون بعد ذلك في بداية الخلق عظاماً، وتكسى هذه العظام بلحم ويبدأ تكوين الإنسان بالتدريج، فيكون في الأصل ذا فرعين أي طرفين فقط، ويلتوي هذان الجذعان إلى الأمام فيتكون الظهر من العصعص، وهو أول ما يتكون من الإنسان، فأول ما يتكون في الرحم العصعص أي آخر الظهر، وهو آخر ما يبقى في القبر من الإنسان، ( كل ابن آدم يبلى إلا عظماً واحداً منه خلق ومنه يركب )، فيبدأ هذا في التمدد، وإذا أراد الله أن يكون الجنين توأماً فإنه يدخل حيوانات منوية في نفس الوقت إلى البويضة أو أكثر، فإذا دخلا تكونا في داخلها، فتنشطر هذه البويضة ويحول بينها حاجز من أمر الله تعالى، فتكون البيضة الواحدة بيضتين بحيث لا يشعر بذلك ولا يدرك إلا بعد انفصالهما تماماً.

    وكذلك مما هو أعجب من هذا أن هذا الملك الذي ينفخ فيه الروح سيكتب هل هو شقي أو سعيد؟ وسيكتب رزقه وأجله وعمله، يكتب ذلك فيبقيه معه، وهذا بعد أن يطلع عليه الملك المرسل لذلك، أما علم الله تعالى فهو سابق، فقد علم في الأزل وكتب في الصحف التي عنده فوق عرشه كل ما هو كائن إلى نهاية الكون كله، لا يختلط عليه شيء من المعلومات، ولا يمكن أن يلتبس عليه جل وعلا هذه الحيوانات الدقيقة التي تكون في القطرة الواحدة من المني مثلاً وهي عشرة ملايين حيوان منوي فلا يلتبس عليه الحيوان الذي قدر أنه سيخلق منه بشر والحيوان الذي لا يخلق منه شيء، والحيوان الذي يخلق منه سعيد والحيوان الذي يخلق منه شقي.. إلى آخره، لا يلتبس عليه هذا أبداً، ولهذا قال الله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:49-50]، إن هذا من علمه وقدرته أمر عجيب جداً، فمن الناس من يهب له الإناث فقط، ولا يرزقه بالذكور لحكمة بالغة علمها الجبار جل وعلا، ومنهم من يرزقه الذكور ولا يرزقه الإناث لحكمة بالغة كذلك، ومنهم من يرزقه القسمين جميعاً ذكوراً وإناثاً، ومنهم من يجعله عقيماً، وهذه أربع صور حاصرة لا يمكن أن تجد قسماً خامساً من البشر، إما أن يكون ممن رزق ذكوراً، أو ممن رزق الإناث، أو ممن رزق الجميع، أو ممن منع الجميع، لا يمكن الاجتماع؛ ولهذا قال السيوطي رحمه الله تعالى: إن من حنث لا كلم ذكراً ولا أنثى، يحنث إذا كلم الخنثى؛ لأن الله عز وجل جعل الإنسان إما ذكراً أو أنثى، فهي في علم الله إما ذكر وإما أنثى، ولهذا قال أحد علمائنا:

    وحالف لا كلم الذكور أو الإناث أمداً مذكوراً

    قال الجلال: حانث بالخنثى إذ هي إما ذكر أو أنثى

    ولهذا فإن من العجائب في هذا المجال أن يكون التوأم آخذاً لبعض صفات الوراثة، والتوأم الآخر آخذاً لبعض صفات الوراثة الأخرى، فلو كان الجنين واحداً لأخذ جميع خصائص الوراثة، لكن عندما تنشطر هذه البويضة ويذهب طرف في اليمين وطرف في الشمال، فإن هذه البويضة ستكون خصائص الوراثة منقسمة بينها، فتجد التوأمين بينهما مشابهة، لكن كثيراً ما تجد أحدهما ذكياً والآخر بليداً، أو تجد أحدهما قوي الجسم والآخر ضعيفاً، وكل هذا من تدبير الله تعالى حين انشطرت هذه الوظائف وقسمها بينهما، وتجد أحدهما ذكراً والآخر أنثى وهما من بطن واحد.. وهكذا.

    من مظاهر عظمة الله في القلب

    كذلك من عجائب هذا الباطن أمر هذا القلب، هذه المضغة التي جعل الله فيها تياراً كهربائياً متحركاً بقدر الله تعالى وأمره، وهذا التيار لا يستوي فيه اثنان من البشر، والبشر الآن أربعة مليارات وزيادة، ومع ذلك لا يشتبه اثنان منهم في دقات القلب أبداً، فكل شخص منهم له دقة مختصة به، ومثل ذلك البصمات في الأصابع، فإن الله تعالى لم يجعل اثنين متشابهين في بصمات الأصابع أبداً، وهذا العالم كله كل شخص فيه قدر على هيئة معينة تختلف عن ما سواه، وهذا أمر عجيب جداً، فدقات القلب مثلاً مؤثرة حتى في حركات الإنسان، فإذا أردت أن تكتب كتابة معينة فإن دقات القلب تؤثر في هذه الكتابة، فإذا كتبت الألف من (الناس) يكون (الألف) إذا كتبته في أعلاه تركيز وفي أسفله تركيز ومنهم من يكون في وسطه تركيز فقط أي نقطة واحدة من تركيز دقات القلب، ومنهم من يكون فيه ثلاثة مواضع من التركيز، ومنهم من يكون فيه أربعة، ولهذا أصبح بالإمكان الآن أن يكتشف صاحب الخط من خلال دقات القلب فقط، فبالإمكان أن يعرف خط من هذا؛ لأن الخطوط تتشابه؛ لكن المميز بينها هو دقات القلب، فإذا كتبت كتابة فكل شخص كتب حرفاً واحداً يتميز هذا الحرف عن غيره من الحروف؛ لأن فيه تركيزاً في دقات القلب في مواطن معينة، لا يمكن أن يحاكيه فيها من سواه.

    هذا القلب فيه أذينان يتحركان بهذا التيار الكهربائي دائماً، يرتفع أحدهما فينخفض الآخر، وينخفض هذا فيرتفع الآخر بصفة دائمة، لا يمكن أن ينخفضا جميعاً ولا أن يرتفعا جميعاً، وعلى هذا يكون سير الدم في الإنسان في دورته الكاملة حتى يغذي كل شعرة من شعره، وكل ظفر من أظافره، وكل ذرة من ذراته يصل إليها حظها من الرزق.

    كثير من الناس إذا فكر في رزق الله تعالى ظن أن الرزق هو ما ينتفع به في الظاهر فقط مثل المأكولات والمشروبات والملبوسات، فظن أن تقسيم الرزق يكون بين الناس فقط، هذا مرزوق وهذا محروم، لكن الواقع أن الإنسان الواحد يقسم عليه الرزق على مستوى شعره وعلى مستوى ذراته، فكل نسيج منه مكتوب له رزق يختلف عن رزق النسيج الآخر، وكل خلية من خلايا النسيج الواحد يكتب لها رزق يختلف عن رزق الخلية الأخرى، وكل جزء من تلك الخلية أيضاً له رزق يختلف عن رزق بقية أجزائها كالنواة أو أجسام جلجلي، أو السيتوبلازم، أو غير ذلك من مكونات الخلية الواحدة، فهذا من عجائب تقسيم الله تعالى للرزق، فمثلاً تغذية هذا الدم، هذا الدم الذي يغذي أطراف البدن يوزعه الله تعالى توزيعاً عجيباً بقدره، فيكون نصيب بعض الأطراف منه أكبر فينتفخ ويقوى، ونصيب بعض الأطراف أقل، فيبقى على حاله، ولذلك تجدون بعض الناس تتضخم رءوسهم فيكون الإنسان ذا رأس كبير وذا هامة كبيرة، وبعضهم يكون رأسه صغيراً، وبعضهم يكون رأسه مستطيلاً، وبعضهم يكون معترضاً، وبعضهم يكون مدوراً، كل هذا بقسمة رزق قسمه الله تعالى بينهم في القدر الذي يصل إليه الدم من تكوين هذه العظام؛ لأن هذه العظام الرقيقة جداً، أعني: غشاء الرأس عظام رقيقة جعلها الله تعالى متفاصلة، ليس بينها رابط من العظم يربطها، وإنما بينها عصب دقيق وعضلات ضئيلة فهي قابلة للحركة فتتحرك وتتمدد، ولهذا تجدون أن الناس يسمونها: دمحايض، أي أن كل واحدة ذات كيان مستقل يمكن أن تتحرك، والعجيب في هذا أن هذا التكوين الذي نجده لرأس الإنسان هو نفس التكوين للكرة الأرضية، فالكرة الأرضية عبارة عن دمحايض، كل واحدة تتحرك دائماً، وقد جعل الله بينها برزخاً من البحار، وهذه البحار تضيق وتتسع، ويكون ذلك في كل سنة بمقدار معين مثل متر واحد أو خمسين سنتيمتراً إلى آخره.

    فهذه القارات التي ترونها دائماً في حركة دائمة، مثلاً: أفريقيا تقترب إلى المشرق، والجزيرة العربية أيضاً تتحرك إلى المشرق والهند تتحرك إلى المغرب.. وهكذا، فهذه أمور عجيبة جداً نلاحظها في هذا الكون.

    إننا لو ذهبنا نتابع أي مخلوق من مخلوقات الله تعالى مهما كان هذا المخلوق فسنجد فيه من العجائب أكثر من هذا مما يدلنا على عظمته سبحانه وتعالى دلالة قاطعة.

    1.   

    من مظاهر عظمة الله في الآيات المسطورة

    كذلك إذا تركنا الآيات المنظورة وذهبنا إلى المسطورة -فالآيات المنظورة هي هذه التي كنا نتحدث فيها في هذا الكون، والآيات المسطورة هي آيات كتاب الله تعالى- فسنجد أن هذه الآيات أمرها عجيب جداً في الدلالة على عظمة الله، فالله تعالى عندما أنزل هذا الكتاب جعله محصوراً بين دفتين، محفوظاً في الصدور، لا يتجاوز عدد سوره مائة وأربع عشرة سورة، ولا يتجاوز عدد آياته ستة آلاف ومائتين وأربع عشرة آية، وكذلك حروفه معدودة تختلف باختلاف الرسم بين المصاحف العثمانية، ومع ذلك جمع فيه كل شيء، قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[النحل:89]، فكل شيء مبين في هذا العدد القليل، فالفكرة الواحدة لا يستطيع الإنسان التعبير عنها إلا بجملة، وهذه الجملة قد تطول، وتزداد متعلقاتها، فتزداد المنصوبات -أعني: منصوبات الأسماء مثل: الحال والتمييز والاستثناء والمفعولات.. إلى آخره- ومع ذلك تبقى القيود ناقصة، ويبقى الكلام ممكن الغلط، ويمكن أن يضاف إليه قيد آخر أو أن ينزع منه قيد آخر؛ ولهذا قال الجاحظ : إنه ما من شخص يكتب كتاباً في وقت معين، فيراجعه في وقت آخر إلا قال: ليتني جعلت هذا مكان هذا، وهذا مكان هذا، وأضفت هنا زيادة ونقصت هنا نقصاً وهكذا.

    لكن كلام الله تعالى غير قابل لهذا، وهذا الفرق بينه وبين كلام المخلوق، فلو أخذت أي لفظ منه، وحاولت أن تبدله بأي لفظ آخر ليقوم مقامه ويؤدي معناه لكان هذا ضرباً في حديد بارد، ومحاولة فاشلة محكوم عليها بالفشل، فكل لفظ منه لا يصلح لموقعه إلا هو، ولو أتيت بأي لفظ آخر فلا يمكن أن يؤدي معناه، ولهذا قال العلماء: تستحيل ترجمة القرآن. وكثير من الناس يظن أن القرآن بالإمكان أن يُترجم، ولكن الواقع أن ترجمته مستحيلة حتى باللغة العربية، لا يمكن أن يترجمه أحد باللغة العربية، فضلاً عن اللغات الأخرى؛ لأن الله اختار له هذه الكلمات التي لا يؤدي معناها سواها، وهي معجزة بلفظها ومعجزة بترتيبها ومعجزة بمعانيها الدقيقة، ومعجزة بقيودها العجيبة.

    كل هذه أوجه من أوجه الإعجاز في آيات كتاب الله تدل على عظمة من تكلم به وهو الباري سبحانه وتعالى.

    من مظاهر عظمة الله في السموات والأرض من خلال القرآن

    إن هذا الكتاب قد جاء فيه كثير من الآيات فيها التصريح بمظاهر من مظاهر هذه العظمة، فإن قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الزمر:67]، تجلٍ بارز من تجليات عظمة الله تعالى في هذا الكون.

    إن هذه الأرض التي يعلم الشخص انبساطها وامتدادها، وأنها جعلها الله تعالى كفاتاً، أحياءً وأمواتاً، وأنها تحمل فوق ظهره هذا الثقل العجيب من البشر ومن المعدات ومن الزراعات ومن المباني ومن البحور والمياه ومن المعادن الصلبة، ومن الجبال الشامخة، وغير هذا من المخلوقات العجيبة التي تسكن في هذه الأرض وتثقل عليها، ومع ذلك تحمل أوزار بني آدم زيادة على هذه، وأوزار بني آدم وذنوبهم أثقل على الأرض من كل ما فوقها، وهذا ما جاءت الإشارة إليه في عدة آيات من القرآن، منها قول الله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ[النحل:61]، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ[فاطر:45].

    وهنا تلاحظون أمراً عجيباً في هاتين الآيتين اللتين وردتا لمعنى واحد، لكن من إعجاز القرآن فيهما أن الظاء جاءت في إحداهما في كلمة، ثم جاءت الظاء في الأخرى في كلمة أخرى ولم تجتمعا في آية واحدة، فلم يقل: ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة؛ لئلا يجتمع ظاءان في آية واحدة، ففي الآية الأولى قال: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا[فاطر:45]، وفي الآية الثانية قال: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ[النحل:61]، فهذا من الإعجاز العجيب، ونظيره كثير جداً في القرآن.

    إذاً: أوزار بني آدم وأثقالهم على هذه الأرض أعظم من كل ما عليها من الثقل، حتى إن الملائكة شكوا ذلك إلى الله تعالى فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا[البقرة:30]، فيهلك الحرث والنسل وهذا من العجائب.

    إن هذه الأرض بانبساطها وبكل ما عليها تكون يوم القيامة خبزة يتكفأها الجبار بيمينه نزلاً لأهل الجنة؛ لأن الله تعهد بأن يورثها للمتقين، فيجعلها خبزة يتكفأها بيمينه كما يتكفأ أحدكم خبزته، ويعدها نزلاً لأهل الجنة.

    إذاً: هذه الأرض بحذافيرها بشرقها وغربها وبحارها وجبالها ومعادنها، وكل ما فيها يجعلها خبزة واحدة يتكفأها بيمينه على خفتها وبساطتها.

    إن من عرف هذا أدرك عظمة جبار السموات والأرض، وخصوصاً حين يدرك أن هذه السبع الطباق التي جعلها الله ساتراً فوق الأرض؛ سماء فوق سماء وفوقها سماء أخرى حتى تكتمل السبع الطباق، كل واحدة منها لا تساوي شيئاً إذا قورنت بالكرسي، والكرسي لا يساوي شيئاً إذا قورن بالعرش، والله أكبر، فهذه السموات السبع في الكرسي كالسبع الدراهم نثرتها في ترسٍ، أي: مثل سبع عشرينات من الأوقية جعلتها في صحن كبير، وهذه السموات لا يمكن أن نصل إليها مهما كان، فمسافة ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة للحجر الضخم المنخفض من علو، ومسافة ما بين كل سمائين خمسمائة سنة للحجر الضخم، وسمك كل سماء خمسمائة سنة للحجر الضخم، ولذلك لا يمكن أن يخرق الإنس ولا الجن أقطارها، يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ[الرحمن:33]، ومع ذلك لا تساوي شيئاً من المخلوقات الأخرى، ولا تصل في مقابل الكرسي إلا إلى الدراهم في مقابل الصحن الكبير، والترس هو المجن الذي يدفع الشخص به النبل والرماح.

    من مظاهر عظمة الله في الملائكة من خلال النصوص الشرعية

    إن أنواع خلق الله تعالى العجيبة إذا فكرت فيها رأيت العجب العجاب، فالملائكة أجسام نورانية خلقوا للطاعة ولم تسلط عليهم الشهوة، لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، أعدادهم عجيبة جداً، ( أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها مغرز إبرة إلا وملك لله تعالى فيه راكع أو ساجد)، السماء أطت وحق لها أن تئط، ما فيها موقع -أياً كان- مغرز إبرة إلا وفيه ملك راكع أو ساجد، ومع ذلك لاحظوا أن البيت المعمور الذي في السماء السابعة يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يدخلونه بعد ذلك. وكذلك كل إنسان واحد حسب استقصاء العلماء كلف الله به واحداً وعشرين ملكاً، فلاحظوا عدد بني آدم وكثرتهم، فكل إنسان واحد كلف الله به واحداً وعشرين ملكاً، فهل يستطيع هذا الإنسان أن يتخلص من عبوديته لله وعليه واحد وعشرون ملكاً؟! فمنها المعقبات التي تحفظه من بين يديه ومن خلفه، ومنها الملكان اللذان يكتبان عن اليمين وعن الشمال، فصاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات، ومنها القرين الذي يدله على الخير وهو القرين الملكي، وغير هذا من الملائكة بالإضافة إلى القائمين بوظائف عامة، مثل الذين يتعاقبون بالليل والنهار، والسياحين في الأرض وملائكة السؤال، وملك الموت الذي يقبض الملايين من الأرواح في اللحظة الواحدة، وتأملوا لو أن قرية نمل كان فيها الملايين من النمل، فجاءها إنسان قوي فإنه لا يستطيع أن يهلكها في لحظة واحدة، لكن ملك الموت يسر الله له قبض أرواح المخلوقات في المشارق والمغارب وفي أعماق البحار، وفي كل أرض؛ أرواح بني آدم وأرواح البهائم، وأرواح النمل، وأرواح الحشرات، يقبض ذلك كله في لحظة واحدة.

    من مظاهر عظمة الله في تقليب القلوب وعزائمها من خلال النصوص الشرعية

    وأعظم من هذا أن قلوب الجميع بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء -اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك- فهذه القلوب كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فتجد الشخص الآن مسروراً وفي اللحظة الموالية تجده محزوناً، وفي هذه اللحظة تجده غضباناً وفي اللحظة الأخرى تجده مبسوطاً جداً وهكذا التقلبات العجيبة، يقلب الله تعالى القلوب كيف يشاء، ومن هنا اشتقاق (القلب)، فالقلب متقلب لا يثبت على صورة واحدة، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

    (أحبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما).

    فالقلوب متقلبة، والله سبحانه وتعالى يقلبها كيف يشاء لا معقب لحكمه.

    وكذلك من أعجب العجائب هنا أن مظاهر هذا التقليب لا ترى، فلا يرى لها أثر ولا يُعلم لها مصدر مادي في الحياة العضوية للإنسان، فتجد الإنسان كان يفكر في موضوع معين، وهذا الموضوع سيحيله إلى موضوع آخر، وذلك الموضوع يحيله إلى موضوع آخر إلى بعد خمس دقائق، فتسأله عن الموضوع الذي يفكر فيه الآن من أين جاءه؟ فيرجع ويتذكر أن هذا الموضوع ذكره به الموضوع الفلاني، والموضوع الفلاني ذكره به الموضوع الفلاني، ويبدأ التداعي حتى يصل إلى الأصل الذي منه انطلق، فيجد هذا التقلب العجيب خلال خمس دقائق فقط، فقد مر بكثير من الموضوعات، ومر به كثير من الأفكار، وكله من تقليب الله لقلبه وهو لا يشعر، ولو أن شخصاً منكم كان خالياً بنفسه يفكر، فأراد أن يحاسب نفسه وأن يرجع من أين جاءه هذا الموضوع الذي يفكر فيه الآن؟ بل في بعض الأحيان ينسى بعض المراحل التي مر بها، فينقطع ذهنه لا يدري ما الذي ذكره بهذا الموضوع المعين، وقد تكون بداية التفكير خيطاً بسيطاً كهذه الذبابة التي تمر بيننا، تأخذ بقلب الإنسان فيفكر في طيرانها، ثم ينتقل إلى موضوع آخر يتعلق بالهواء أو بالطيران أو بالجراثيم وهكذا مما يذكره به طيران هذه الذبابة، وتبدأ الموضوعات تتداعى بأمر الله تعالى وتقليبه للقلوب.

    وهذا التقليب يشمل الهداية والشقاوة، فتجد الشخص الذي كان غاية في الشقاوة في هذه اللحظة يملأ الله قلبه من الهداية خلال ثانية واحدة، فيتقلب وتتغير حياته تماماً ويعود إنساناً غير الإنسان الأول، والعكس صحيح أيضاً فتجد الشخص الذي كان مستقيماً على الطريق ملتزماً به فترة طويلة، ثم يقلب الله قلبه نعوذ بالله ويصرفه ولم يكن بينه وبين الجنة إلا ذراع أو باع، فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها، هذه تقلبات عجيبة لا يمكن أن نجد لها تفسيراً في حياة الناس العضوية وواقعهم إلا أننا نعلم أنها من تقليب الله للقلوب وأنه يقلبها كيف يشاء.

    كذلك من عجائب ما نراه في تقليب القلوب أمر العزائم، فهذا الشخص يعزم عزماً مؤكداً على أن لا يتنازل عن حق معين، أو على أن يفعل الفعل الفلاني، ثم يصرفه الله عنه بأبسط الأسباب وهو لا يشعر بذلك، فتجده يسارع في خلاف ما كان عازماً عليه، ولهذا يقول الحكماء: أول ما تعرف به ربك نقض العزائم، أي: تقليب الله تعالى لعزيمة الإنسان بعد أن أكدها وقواها يقلبها الله عز وجل فتنصرف إلى خلاف ما كانت عليه.

    كذلك تغيير الصفات الباطنة من أمور هذه النفوس، حيث أن لها صفات تتصف بها، وهذه الصفات يقلبها الله عز وجل تقليباً عجيباً فينام الرجل النومة وهو خال من الفتنة، فيستيقظ وقد ملئ قلبه من الفتنة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف فتن آخر الزمان: (يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي كافراً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).

    وكذلك انتقال الأمانة فإن (الأمانة أنزلت في جذر قلوب الرجال، فتعلموا من القرآن وتعلموا من العلم، ولكن الرجل في آخر الزمان ينام النومة فينزع الله الأمانة من قلبه، فيستيقظ وفي قلبه كالوكت، كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفق فتراه منتبراً وليس فيه شيء)، فمكانها موجود ولكنها هي غير موجودة، وهذا ما تشاهدونه اليوم؛ ففي كثير من الناس نزعت الأمانة من قلوبهم، فأصبحت لا تأمن أحداً منهم على شيء، ولذلك قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: ( لقد حدثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، فقال: لقد مضى علي زمان لا أبالي من بايعت منكم، إن كان مؤمناً رده علي إيمانه، وإن كان ذمياً رده عليّ ساعيه، ولقد أصبحت وأمسيت ولا أبايع إلا فلاناً وفلان)، لأن الأمانة نزعت، وكذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنها ستنزع وتقل حتى يقال: في بني فلان رجل أمين)، فالقبيلة الكاملة يكون فيها رجل واحد أمين، ويكون هذا غير مجزوم به، بل يقال فقط، وبالإضافة إلى هذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في الأيام التي تأتي، الأيام الشديدة التي بين يدي الساعة: (يؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين)، فتنقلب الموازين على الناس وهم لا يشعرون بها، وكل هذا من تقليب الله العجيب، وهذا يدل على عظمة الله عز وجل.

    من مظاهر عظمة الله في قبض السموات من خلال النصوص الشرعية

    كذلك في هذه الآيات المسطورة قبضه للسماوات السبع على عظمتها وهزه لها يوم القيامة، كما ثبت في حديث الحبر، الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمر قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم به أصحابه، فذكر ( أن الله عز وجل يجعل السموات على إصبع، والأراضين على إصبع، والبحار على إصبع والأشجار على إصبع، والحيوانات كلها على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ) والجبارون والمتكبرون لا يجيبون إذ ذاك، فالسماوات السبع على إصبع واحد، والأرضون السبع على إصبع واحد، والأشجار كلها على إصبع واحد، والمياه كلها على إصبع واحد، والجبال والحيوانات على إصبع واحد، فيهزهن ويقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟

    إن هذا المظهر من مظاهر العظمة العجيبة، ولذلك قال الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الزمر:67].

    من مظاهر عظمة الله في الأوامر الكونية من خلال النصوص الشرعية

    كذلك من هذه المظاهر العجيبة في الآيات المسطورة ما بينه الله عز وجل في كتابه من أوامره الكونية التي لا حصر لها، فكلمات الله الكونية هي التي بها يُسير هذا الكون كله، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[النحل:40]، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82]، هذه الكلمات لا حصر لها ولا نهاية، وهي الكلمات الكونية حيث قال الله فيها: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا[الكهف:109]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ[لقمان:27]، إن هذه الكلمات التي لا يتعداها بر ولا فاجر، فلا يستطيع أن يقول لها: لا، فإذا قال للكافر: مت، فلا يستطيع أن يقول: لا.

    أما الكلمات التشريعية فيقف عندها البر ويتعداها الفاجر، وهذه حكمة عجيبة من حكم الله، فإذا قال للمؤمن: صلّ، وفقه لذلك فصلى، وإذا قال للكافر: صلّ، قال: لا، امتنع، فالكلمات التشريعية يقف عندها البر ويتعداها الفاجر، والكلمات الكونية لا يتعداها بر ولا فاجر.

    من مظاهر عظمة الله في تقدير الكون من خلال النصوص الشرعية

    كذلك من عجائب هذه الآيات المسطورة تقدير هذا الكون هذا التقدير العجيب الذي جعله الله تعالى ركناً من أركان الإيمان، فشرط في الإيمان أن يؤمن الشخص بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وهذا القدر أمره عجيب جداً، فهو من البواطن المخفية التي لا يطلع عليها إلا الله عز وجل، وقد جعله المولى سبحانه أربع مراتب:

    المرتبة الأولى: علم الله السابق، بجميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً في الأزل.

    المرتبة الثانية: كتابة كل ذلك عنده، وهاتان المرتبتان يقول الله فيهما: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[الأنعام:59].

    المرحلة الثانية: توزيع ما هو كائن على الزمن، فإن الله جعل الزمان مرتباً، فوزع عليه ما هو كائن بحكمة بالغة، فقسم الزمن إلى ليل ونهار، كما قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا[الفرقان:61]، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان:62]، وكتب ما هو كائن في السنة بكاملها في ليلة واحدة منها، فينزل ذلك: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا[الدخان:4-5]، ومع ذلك كتب على كل شخص حظه، فمثلاً: الجنين في بطن أمه يكتب عليه رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وكذلك في كل سنة يكتب من يموت فيها، وهل يموت في ليل أو نهار؟ في بر أو في بحر، أو في جو؟ في أي مكان يموت؟ فموعده مع ملك الموت محدد، وكذلك رزقه محدد من أين يأتيه وكيف يأتيه.

    من مظاهر عظمة الله في الرزق والأجل من خلال النصوص الشرعية

    وهذان الأمران من عجائب التجليات في عظمة الله: الرزق والأجل، فالرزق من عجائب تجليات عظمة الله سبحانه وتعالى، حيث يدبر كل هذه الكائنات ويأتيها برزقها في المكان الذي هي فيه، لا يخفى عليه شيء من ذلك ولا يختلط، ولا ينال أي منها أكثر من رزقه المكتوب له، يحفر أحدكم حفيراً في الأرض حتى إذا بلغ الأعماق وجد فيه دوداً يأتيه رزقه في مكانه، ويتنفس في ذلك المكان ويجده صغير اللون سميناً لا يدري من أين يأتيه هذا.

    بعض الأسبقين أرسل طيراً في الهواء للصيد فأتاه بسمك من الهواء فتعجب من ذلك، فقيل له: إن الذي جعل السمك في الماء قادر على جعله في الهواء.

    كذلك فإن أرزاق هذه الكائنات الحية كلها جعلها الله تعالى مربوطة بأسباب، فتجد الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً، وترى المطر ينزل من السماء لتشربه الأرض، فهو رزق الأرض ثم الأرض تخرج الزرع، فالرزق من رزقه أخرجته الأرض، ثم يكون ذلك الزرع مقسماً بين أنواع الكائنات؛ فحظ منه للجراد، وحظ للنمل، وحظ للوحوش، وحظ لبني آدم ، وحظ للحيوانات، وكذلك تجد الرياح ترسل إليه لتفسد بعضه وتسقطه لضعاف الحيوانات التي لا تسطيع الوصول إليه، فإذا أراد الله أن يرزق بعض ضعاف الحيوانات بالتمر الذي على رأس النخل الباسق، أرسل له الرياح فأسقطته، وهكذا إذا أراد أن يرزق الحيوانات الضعيفة من الحيوانات الكبيرة سلط عليها الموت فوقعت على الأرض فأخذت حظها منها.. وهكذا.

    فهذه الأرزاق عجيبة، ومن أعجب ما فيها أن هذه الأسباب التي رتبها الله عليها، لا يمكن أن يجمع بها أكثر مما كتب، فكثير من الناس يتقن الأسباب، ولكنه لا يمكن أن ينال أكثر من رزقه، فتراه يعيش عمراً طويلاً ولم يُبقِ تسبباً من التسببات المألوفة المعروفة بين الناس إلا قام به، ومع ذلك يموت فقيراً، وأنتم قد شاهدتم كثيراً من الناس كذلك، قد قطع البحار وركب السفن، وغامر كثيراً من المغامرات من أجل الحصول على الغنى، ومع ذلك يموت فقيراً، وتجدون آخرين يتصرفون تصرفاً بسيطاً جداً في وقت قليل فينالون الغنى الطائل، والدنيا إذا أقبلت جرها الخيط، إذا أقبلت معناه كتبت رزقاً لشخص جرها الخيط لأنها مقدرة له، وهذا يدلنا على عظمة الله في تدبير هذا الرزق، ويدلنا على أنه ليس عن طريق الكد، ولا عن طريق العقل والاكتساب، إنما هو بقسمة قسمها الجبار بين عباده، ولهذا يقول الحكيم:

    مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك

    أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك

    ويقول الآخر:

    باتت تعيرني الإنكار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما

    بل لرأيك ما الأرزاق عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما

    وكذلك يقول الآخر:

    كأنما هو في حل ومرتحل موكل بقضاء الله يذرعه

    إذا الزمان أراه في الرحيل غنىً ولو إلى السند أضحى وهو يقطعه

    وما مكابدة الإنسان بجالبة رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه

    قد قسم الله رزق الناس بينهم ما يخلق الله من خلق يضيعه

    لكنهم كلفوا رزقاً فلست ترى مسترزقاً سوى الغايات يقنعه

    والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه عفواً ويمنعه من حيث يطمعه

    كذلك الأمر الثاني: وهو هذه الآجال فهي عجيبة جداً، فتجد الأقوياء، أقوياء الأجسام من بيننا اليوم الذين ينظر إليهم كثير من الناس على أنهم لهم مستقبل في الحياة، وأن أعمارهم ما زالت مستمرة، كثير منهم يموت بلا سبب معروف، يضطجع على فراشه قوياً ممتعاً بعقله وجسمه، فيقبض الله روحه ويرسل إليه ملك الموت فيأخذ الروح دون مشاورة، ودون دراسة دنيوية لهذا الأمر، وتجد الضعيف المريض بأنواع الأمراض الخطيرة يعيش زماناً طويلاً، فيبتلى بذلك المرض فترة ثم يزول عنه، ولا يقربه هذا من الموت، بل كثير منا يشاهد الموت عياناً، في كثير من الأحيان، إما أن يقع عليه حادث سير مثلاً فيشاهد الموت، أو أن يعطش حتى يخاف على نفسه من الموت فيشاهده، أو أن يخاطر ويغامر بنفسه فيشاهد الموت، ولكنه لا يتعظ إلا تلك اللحظة، ويسأل الله أن يمد له في عمره، ليحسن فيما بقي منه؛ لأنه لا يأسف على عمره إلا لأنه لم ينفقه في طاعة الله، ولكن عندما يزول ذلك المشهد من مشاهد الموت يرجع كأن شيئاً لم يكن، ويقبل على ما كان فيه، إن هذا من عجائب أمر هذه القلوب والبواطن، ولهذا كان الجبر فيها بالاختيار، فتسيير الأمور في البواطن باختيار الشخص بحسب الظاهر، فهو مجبر باختياره، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[التكوير:29]، أي: يفترض أن يفعل فعلاً باختياره فليس مكرهاً على أن يسافر في هذه الطائرة حتى تتحطم به، ولم يضرب حتى يركب هذه السفينة لتغرق به، بل فعل ذلك باختياره وطواعيته، فكان مكرهاً بالاختيار، وهذا من العجائب.

    إذا ما حمام المرء كان ببلدة دعته إلى حاجة فيطير

    وهذه الآجال فيها فوائد كثيرة، فكثير من الناس يستفيد من انتهاء أجله؛ لأنه كان مفسداً، فكلما ازداد في هذه الحياة ازدادت لعنة أهل هذه الحياة له، فتلعنه الملائكة، وتلعنه الدواب والبهائم، وتلعنه الأشجار، لكنه إذا انقطع ومات انقطع تكذيبه، فخف عليه ذلك.

    وكذلك في موته توسعة على من يأتي بعده، ولهذا يقال في حديث ضعيف: ( إن الله عز وجل أرى آدم ذريته فرآهم خلقاً كثيراً، فقال: يا رب! كيف تتسع الأرض لهؤلاء؟ فقال: إني خالق موتاً، فقال: يا رب! إذاً لا ينعم لهم بال في هذه الحياة، إذا علموا بالموت، فقال: إني خالق أملاً )، فأملهم يقتضي منهم أن يتوقعوا أنهم يعيشون زماناً طويلاً، فيسعون للكسب ويستمرون في الحياة، وأجلهم سيقطع ذلك الأمل فتتسع الأرض لهم، فلهذا كان من عجائب الكون أن الآجال والموت أيضاً فيه فوائد كثيرة لبني آدم ، حتى تتسع لهم الأرض وتتسع لهم الأرزاق، فهذا من العجب العجاب.

    إن هذه المظاهر التي ذكرناها كلها من مظاهر الدنيا المنقطعة الزائلة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلننصرف عنها إلى مشاهد القيامة التي تدل على عظمة الله دلالة كبرى.

    1.   

    من مظاهر عظمة الله تعالى في أحوال القيامة

    إن أول مشهد من مشاهد القيامة: هو هذا الموت، هذا الموت الذي ينتقل به الشخص من دار إلى دار، ويتحول به من حال إلى حال، هذا الجسم كان يتصرف ويتحرك وأصبح هامداً لا حراك فيه، أصبح معرضاً للتلوث وللانتفاخ وللدود وللحشرات، بعد أن كان يقتل الأسود ويجابه الأبطال، أصبح اليوم عرضة لأكل النمل والحشرات والدود، هذا الموت له سكرات: (إن للموت لسكرات)، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ[ق:19]، هذه السكرة مثلها عمرو بن العاص كما في صحيح البخاري تمثيلاً عجيباً، فإنه حين أدركه الموت أتاه ابنه عبد الله فقال: يا أبت! إنك كنت تتمنى أن تجد رجلاً جلداً عاقلاً يموت حتى يصف لك الموت، فصف لنا الموت؟ فوصف أنه يشعر كأن السماء وضعت على الأرض ووضع هو بينهما، وكأن شاباً جلداً يجر غصناً شائكاً من داخل عظامه. فالشوك يجر داخل عظامه، وكأن نفسه تجمع في صدره لتخرج من خرم إبرة، هذه سكرات الموت.

    من مظاهر عظمة الله في القبر

    بعدها ينتقل الإنسان إلى القبر، إلى المساكن الأخرى، وهذا القبر هو أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله وأعظم منه كل ما بعده، ( ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة ).

    هذه الليلة يضج منها أصحاب القبور: وَبَدَا لَهمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47]، يشاهد الشخص أعماله التي كان يظن أنها بأمثال الجبال فيرى وزنها، ويرى مقعده من الجنة أو مقعده من النار، ويرى حال أهل القبور على وجه لم يكن يتصوره، فإن كثيراً من الناس يظن الآن أن أهل القبور دائماً في نعيم لا انقطاع له ويسميهم الصالحين، وكثير من الناس يقول: نحن ماضون للصالحين، وهذا تفاؤلٌ طيب، لكن كثيراً من الناس لا يطلع على أن حال هؤلاء بعيد مما يتصوره الناس، فهم أسارى ذنوب لا ينفكون، وأهل قرابة لا يتزاورون، كل منهم مشغول بما يعنيه، لا يمكن أن ينفع نفسه فكيف ينفع غيره، مشغول غاية الانشغال، وتحصل الحساب عن أمر واحد: ما ربك؟ يسهل عليك وأنت حي أن تقول: ربي الله، لكن ماذا تقول وأنت ميت؟ هل تتصور أن حالك في الموت هو مثل حالك في الحياة؟ شتان وهيهات بين الحالتين: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27].

    بعد هذا تأتي ضمة القبر التي هي إعداد لاستقبال الملائكة، فالملائكة عالم يختلف عن عالمنا هذا، ويصعب على الإنسان أن يكون جالساً على سريره فيأتيه ملك فيستقبله، هذا ليس أمراً بسيطاً، فأنتم مثلاً تشاهدون الرعد والبرق فترتجف فرائصكم خوفاً وهذا ملك واحد، فكيف بملائكة السؤال المفظعين؟! كيف إذا أتاك ملكان بهذه الصورة المفظعة منكر ونكير؟! لا يمكن أن تستقبلهما إلا إذا هيئت نفسياً لذلك، ولا يهيأ الإنسان إلا بالروعات؛ لأن الروعات هي التي تقوي الشخصيات وتجعل الإنسان قادراً على تحمل المسئوليات، لاحظوا أن هذه الحفرة الموحشة المظلمة كثير من الناس لو خير في مكان يستقر فيه لما اختاره، وكثير من الناس لو قيل له: ما رأيك أن تبيت في هذا المسجد، لكن سنقطع عنك الكهرباء، وسنغلق عليك الأبواب وسيكون المكان موحشاً مظلماً، فهل ترضى بذلك؟ لا يرضى به، وإنما هي ليلة واحدة، فكيف بالسنوات التي لا حصر لها في حفرة مظلمة موحشة، ( إن هذه القبور مظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم ودعائي )، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الشاعر :

    أنى حللت وكنت جد فروقة بلداً يحل به الشجاع فيفزع

    ولقد تركت صغيرة مرحومة لم تدر ما جزع عليك فتجزع

    فإذا سمعت أنينها في ليلها طفقت عليك شئون عيني تدمع

    هذه المرأة كانت مدللة لا تستطيع أن تبقى في مكان موحش، ولا أن تجلس وحدها، ومع ذلك أصبحت في جدث موحش مظلم بين الجنادل والطوب والحجارة، فقال:

    أنّى حللت وكنت جد فروقة بلداً يحل به الشجاع فيفزع

    بعد ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل يأتي الملكان بصورة مفظعة، فيجلس الإنسان فيسألانه: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاهٍ هاه! لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته! شتان بين هذين الحالين وشتان بين ما بعد ذلك، فالمؤمن يقول له الملكان: صدقت وبررت. ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، ويقولان له: نم نومة العروس، والمنافق يقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن.

    ثم بعد ذلك يملأ عليه قبره من أنواع عذاب القبر: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ[السجدة:21]، فيملأ عليه قبره من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، عذاب القبر بالعطش والتنانين والروائح المفظعة، ( ويأتيه عمله فإن كان مؤمناً أتاه عمله في صورة رجل جميل متطيب مضيء الوجه، فيذاكره ويفاكهه ويبشره فيقول: أبشر بخير! فيقول: مثلك الوجه الذي يبشر بخير، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك، وأنا أنيسك في قبرك، وأما العاصي فيأتيه عمله في صورة أقبح رجل وأنتنه، فيقول: أبشر بشر! فيقول: وجهك الوجه الذي لا يبشر بخير، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك). إن هذا المظهر يدل على عظمة الله سبحانه وتعالى وملكه لعباده الذي لا يمكن أن يتخلص منه أي أحد منا.

    من مظاهر عظمة الله في الحشر والحساب

    بعد هذا المظهر يأتي مظهر آخر وهو مظهر الحشر، إن النفخ في الصور النفخة الأولى مقتضٍ لموت كل من على وجه الأرض، بأن يصعقوا جميعاً، فيفنوا جميعاً في لحظة واحدة، ثم ينفخ فيه بعد ذلك فإذا هم قيام ينظرون جميعاً، وقد جاء ذكر نفخة أخرى وهي نفخة الفزع، نفخة يفزعون لها فزعاً شديداً، ثم بعد هذا ينادى فيهم: أيها الناس! هلموا إلى ربكم. فتشقق السماوات من فوقهم وتطوى الأرض من حولهم، ويحشرون إلى الساهرة سراعاً، فإذا اجتمعوا فيها في أقل من لحظة عين حفاة غرلاً ليس مع أحد منهم إلا عمله، أحيط بهم من كل جانب، يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بهم من كل جانب، وتدنو الشمس حتى تكون كالميل أو أقرب من ذلك، ثم يجيء الجبار جل وعلا على عرشه، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ[الحاقة:17]، ثمانية بين شحمة أذن أحدهم وظلفه مثل ما بين السماء والأرض خمسمائة عام للحجر الهاوي، بين شحمه أذنه وظلفه فقط، وهم ثمانية يحملون عرش الجبار (جبار السماوات والأرض) ويحصر جنوده من الملائكة صفاً صفاً: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ[الفجر:22-26].

    إن هذا أعظم مظهر من مظاهر العظمة حين يتجلى الباري سبحانه وتعالى على عرشه: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ[الحاقة:17]، إن هذا المظهر هو أعظم ما يمكن أن يتصوره الإنسان من عظمة الجبار جل وعلا.

    بعد هذا يظل الله أقواماً بظله يوم لا ظل إلا ظله، ويرفع آخرين درجات فيكونون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، ويطول الموقف والمحشر بالناس حتى يلجمهم العرق، فمنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه إلجاماً، هذا العرق المنتن الذي يجتمع فيه عرق الناس جميعاً، وقد حشر معهم جميع الكائنات من الحيوانات والسباع والدواب والحيات والعقارب وغير ذلك، كل هذا يحشر في صعيد واحد.

    يطول هذا المحشر، ثم إذا أذن الله في انفراجه فأذن بالشفاعة الكبرى وخرجوا منه نجد العظمة أيضاً تتجلى في إجابته لمحمد صلى الله عليه وسلم، عندما ينزله المقام المحمود فيقول: ( يا محمد ارفع رأسك، واشفع تشفع واسأل تعطه)، ثم بعد هذا يؤذن للناس إلى الحساب، ويبدأ فصل الحساب الذي يشيب له الرضع، يأتي فصل الحساب فيعدل فيه بين الناس وبين كل الكائنات حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء، ولا يبقى لأحد حق يطالب به إلا ناله في هذا الوقت.

    إن الناس في هذه الدنيا يتغاضون عن بعض حقوقهم، بل كثيراً ما يتغاضون عن بعض حقوقهم لأخلاق لديهم أو لأنهم في غنىً عنها، ولكنهم في ذلك الوقت قد شاهدوا ما شاهدوا وتقطعت الأسباب والأنساب بينهم فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ[المؤمنون:101-105]، فهذا مظهر عجيب من مظاهر كبرياء الله وعظمته بالقصاص بين الناس وبين الكائنات كلها، فيقاد لكل مظلوم ممن ظلمه، ويستخرج لكل مظلوم حقه ممن أخذه، فلا ينسى حق أياً كان.

    إن هذا مظهر من مظاهر العظمة العجيبة، هذا العلم الشامل بتصرفات الكائنات كلها حتى لا ينسى أن شاة نطحت شاة في غابر الزمان، ولا ينسى أن شخصاً تكلم بكلمة واحدة في شخص غائب عنه في غابر الزمان، ولا ينسى أن شخصاً أخذ درهماً واحداً من شخص في غابر الزمان، إن مالك هذا الحق قد نسيه ولكن الله لم ينساه، ولهذا يبسط الله كنفه على عبده المؤمن فيقول: أي عبدي! أتذكر يوم كذا، إذ فعلت كذا وكنت قد نهيتك عنه؟ فيقول: بلى يا رب! وكنت قد نسيته، فيقول: لكنني لم أنساه. إن هذا المظهر عجيب جداً، لكن لدينا مظهراً من مظاهر الدنيا يذكر به وهو أنه لا يشغله سماع صوت عن صوت فهو مدرك للصوت، لا تختلط عليه اللغات، ولا تلتبس عنده الطلبات، فطلب كل شخص لا يلتبس عليه مع طلب آخر، فيسمع جميع اللغات في وقت واحد وهي لغات مختلفة، بألسنة متفاوتة، بل يسمع ذكر الجمادات والأموات وتسبيح الحصى والشجر والأوراق، ومن سواها ممن يسجد له، وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[الرعد:15]، وكذلك يسمع تسبيح كل من يسبح له، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ[الحج:18].

    من مظاهر عظمة الله في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

    كذلك من مظاهر العظمة في مشاهد القيامة: تجليه جل وعلا بعد هذا لأهل الجنة بعد أن يستقروا فيها، فبينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم، فإذا الباري جل وعلا يخاطبهم من فوقهم: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58]. إن هذا المظهر من مظاهر العظمة والجبروت عجيب جداً، فأهل الجنة بلغوا ذروة ما يمكن أن يصلوا إليه من النعيم، ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، ومع ذلك عندما يتجلى عليهم الباري جل وعلا من فوقهم لا ينظرون إلى شيء مما هم فيه من النعيم، فيذهب عنهم كل هذا النعيم عندما يسطع لهم نور الجبار، هذا النور الذي به نور السماوات والأرض: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[النور:35]، هذا النور الذي به قذف الإيمان في القلوب: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ[النور:35]، هذا النور الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر في صحيح البخاري : (قيل له: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)، هذا النور الذي لو كشف الحجاب عن السماوات والأرض لحظة واحدة لاحترقن بما فيهن من سبحات وجهه سبحانه وتعالى.

    إن هذه هي العظمة، ولو استفضنا في تقصي بعض تجليات ومظاهر هذه العظمة لطال بنا الحديث، وأنتم تعلمون أن الآجري رحمه الله تعالى ألف كتاب العظمة وهو كتاب مطبوع في ثلاث مجلدات، جمع فيه بعض مظاهر عظمة الجبار جل وعلا.

    1.   

    آثار التدبر في عظمة الله تعالى

    ونحن لا نستطيع أن نحيط بهذه المظاهر مهما قلنا ومهما كتبنا، ومهما فكرنا، لكن المهم عندنا هنا، والذي من أجله أردنا اللفتة والتنبيه إلى تذكر عظمة الباري سبحانه وتعالى هو هذا الأمر الذي نريد الوصول إليه، وهو أن من عرف عظمة الله وعرف عظمة علمه، وأقر بذلك في صلاته حيث قال: الله أكبر، فملأت ما بين السماء والأرض، كيف يعصي الله؟ كيف يجد جوارحه مطيعة له إلى معصية الله وهو يدرك هذه العظمة بكل تجلياتها ومظاهرها: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )، إن من استشعر عظمة ديان السماء والأرض وعلم هذه المظاهر وتذكر ساعة العرض على الله لا بد أن يجد في نفسه وازعاً يحول بينه وبين معصية الله.

    كذلك فإن هذه العظمة داعية لمحبة الله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[البقرة:165]، إن كثيراً من الناس لا يجد في عاطفته مكاناً لمحبة ديان السموات والأرض؛ لأنه لم يمتلئ قلبه بعظمة الله، لكن من استشعر عظمة الله وجلاله امتلأت شغاف قلبه بمحبة الله عز وجل، فشغله هذا عن محبة ما سواه، وقدم أمره على أمر من سواه، ( فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ).

    إن من استشعر عظمة الله وكبرياءه كيف يعلق الحوائج في من سواه؟ وكيف يجعل لله نداً وهو يعلم عظمته وجلاله؟ وكيف يدعو أحداً مع الله وهو يعلم أنه هو ذو العظمة والجلال؟ وكيف يتعلق قلبه بمن دونه وبمن سواه وهو يعلم أنه الغني الحميد؟ هو يعلم أن الله كاف عبده ومع ذلك نجده يدعو من سواه ويعلق به الحوائج، بل ربما يصرف إليه بعض خصائص الألوهية كالعبادات من النذر والدعاء والأقسام والأيمان وغير ذلك، فنجد كثيراً من الناس يصرفها لغير الله، ألا يستشعر هذا عظمة الله؟! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه أعرابي فقال له: ( يا رسول الله! إنا نستشفع بك إلى الله ونستشفع بالله عليك، فقال: ويلك اعرف ما تقول، إن شأن الله أعظم من هذا، لا يستشفع على الله بأحد من عباده).

    إن من لم يدرك كبرياء الله وجلاله وعظمته معذور إذا وقع في هذه الأمور، لكن المؤمن الذي يقول: الله أكبر، ويعرف معناه ويدرك تجليات هذه العظمة في الكون كله غير معذور إذا جعل لله نداً، ولا يمكن أن يعذر في دعائه لغير الله أو مسألته غير الله، أو عبادته لغير الله، أو تعلق قلبه بغير الله أو محبته لغير الله حباً ينغص حبه لله، إذا عرف عظمة الله وجلاله.

    إن كثيراً من الناس تغيب عنه هذه العظمة وهذا الجلال في كثير من الساعات فينسى عبد من هو؟ وينسى لمن يكون ولاؤه؟ ينسى لمن تكون طاعته؟ فنجده يبحث عن مخلوق يواليه، فيبيع ذلك بالولاية لله عز وجل، فيوالي مخلوقاً في مقابل ولائه لله تعالى، ويشتري بذلك عداوة الله.

    كذلك نجده في كثير من الأحيان عندما ينسى قلبه هذه العظمة وهذا الجلال يذهب فيطلب التشريع والأمر والنهي من مخلوق مثله عاجز فقير، إذا قورن ما لديه بمظهر واحد من تجليات عظمة الله عز وجل فإنه لا شيء، ( يؤتى بالرجل السمين الضخم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضه )، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إن هذه العظمة مقتضية بأن يعرف العباد حق ربهم، وأن يعبدوه لا يشركوا به شيئاً وأن يرفعوا إليه وحده حوائجهم وأن لا يدعو من سواه، وأن لا يحب ولا تتعلق قلوبهم إلا به، وكذلك أن لا يطلب التشريع والحكم إلا منه، وكذلك أن لا يوالوا وأن لا يعادوا إلا على أساس ولاية الله وعدائه، إن هذا من لوازم الإحساس بهذه العظمة وإدراكها.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    الأسئلة

    الاكتشافات العلمية الحديثة التي تدل على عظمة الله والتي وردت في القرآن

    السؤال: هذا يسأل عن بعض الاكتشافات العلمية الحديثة التي تدل على عظمة الله عز وجل الواردة في محكم التنزيل؟

    الجواب: قد ذكرنا بعض هذا فذكرنا السنة الضوئية وعروج هذا التيار ورجوعه في قدر ألف سنة مما تعدون، وهذا يفهم من قول الله تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[السجدة:5]، ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ[السجدة:6]، وغير هذا كثير جداً، فمثلاً هذه المجموعات الشمسية والمجرات التي تكتشف كل يوم والتي يكون فيها آلاف النجوم، وبالإمكان أن يكون كوكب واحد منها قدر الأرض عشر مرات، وكذلك حرارة هذه الشمس التي تقدر بأربعة عشر مليون درجة حرارية، وأنتم تعلمون أن الدرجات الحرارية التي تبلغ حد الانصهار هي مائة درجة حرارية وهي تؤدي إلى ذوبان الحديد، فكيف بأربعة عشر مليون درجة حرارية؟ إن هذه حرارة الشمس فقط فكيف بحرارة جهنم؟ هذه أمور قليلة جداً من مظاهر عظمة الله سبحانه وتعالى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    765175215