إسلام ويب

في ظلال القرآنللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ففي ظلم الليل الدامس, يشع نور ساطع يهدي الناس إلى الصراط المستقيم, إنه نور الله المبين, إنه القرآن الكريم فيه خبرنا وخبر ما قبلنا وخبر ما بعدنا, فلنعش في ظلاله, ولنجني من ثماره, فإنه السبيل حيث انقطعت السبل والموصل إلى جنات النعيم.

    1.   

    فضل القرآن الكريم وخصائصه

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما بين يديه من الحق ومهيمناً عليه، وقد تضمن ما يحتاج إليه البشر من أمور دينهم ومن أمور دنياهم، ومن أخبار أخراهم، قص علينا خبر ما مضى وبين لنا خبر ما يأتي، وفيه فصل ما بيننا، وقد ضرب الله فيه من الأمثلة والآيات ما تقوم به الحجة على الخلائق جميعاً؛ ولهذا كان معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة؛ فرسل الله ما منهم أحد إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، أي: قامت به الحجة على جميع الخلائق، وقد كانت حجة محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن الذي تحدى الله به الثقلين - الإنس والجن - أن يأتوا بسورة من مثله، وقد عجزوا عن ذلك، وبين الله سبحانه وتعالى أنه جعله هدىً للمتقين، وأنه هدىً للناس، وكذلك يقتضي التماس الهدى منه والاتصال به في كل الأحوال، وأخذ جميع الأحكام منه والأخلاق، والتحاكم إليه بالأمر كله، كل ذلك من حقوق هذا القرآن.

    حفظ القرآن الكريم

    وهذا القرآن هو أحدث الكتب بالله عهداً، وهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم ومن تركه من جبار قصم الله ظهره. وقد بين الله سبحانه وتعالى فضله ومنزلته؛ من ذلك أن الله تولى حفظه بنفسه ولم يكله إلى البشر؛ فالكتب السابقة كان البشر يستحفظونها؛ فيتولون حفظها، وهذا القرآن تولى الله حفظه بنفسه، فلم يكل حفظه إلى أحد من الناس، وقد قال الله تعالى في الكتب السابقة في ذكر التوراة: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ[المائدة:44]، وهذا القرآن قال فيه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، فتولى الله حفظه بنفسه ومنعه من غشيان الباطل مطلقاً؛ فقال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42].

    أجر تلاوة القرآن الكريم

    وجوب التحاكم إلى القرآن الكريم

    حجة القرآن الكريم

    وقد جعله الله سبحانه وتعالى حجة على كل من بلغ؛ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ[الأنعام:19]؛ فكل من بلغه القرآن فقد قامت الحجة عليه، وبين الله أنه يبعث في موازاته من الآيات الكونية ومما يطلع عليه الناس من عجائب الكون ما يدل على صدق القرآن ويركز فهم الناس له؛ فقال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّهُ الْحَقُّ[فصلت:53]، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ[فصلت:53]: في أقطار السموات والأرض، وَفِي أَنْفُسِهِمْ[فصلت:53]: مما يكتشفونه من الطاقات وبديع صنع الله سبحانه وتعالى في البشر، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّهُ[فصلت:53]، أي: القرآن، الْحَقُّ[فصلت:53]، وهذا التبين مانع للشك والريب، وإنما هو لأهل الإيمان كما قال الله تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[البقرة:1-2]؛ فهدايته مختصة بمن كان من أهل التقوى والإيمان؛ كما قال الله تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11].

    1.   

    أصناف الناس في تعاملهم مع القرآن الكريم

    وهذا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى بلغه أتم تبليغ وبينه أتم بيان؛ كما أمره الله بذلك؛ فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ[المائدة:67]، وبينه أتم بيان؛ كما قال الله له: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ[النحل:44].

    لكن الناس في تعاملهم مع القرآن على أقسام:

    المعرضون عن القرآن بالكلية

    فمنهم المعرضون عنه بالكلية، كأن القرآن ما قصدهم وما أنزل ليتعلموه ولا ليتدبروه؛ فبينهم وبينه غشاوة وقد حيل بينهم وبينه بالكلية، وهؤلاء المعرضون عن القرآن لا يحكمون به في النهار ولا يقومون به في الليل؛ فهو شاهد عليهم يأتي يسوقهم يوم القيامة حتى يكبهم على وجوههم في النار، وهو حجة الله الناطقة عليهم؛ فهم يسمعونه حجة قائمة عليهم، ولكن قلوبهم قد عميت عنه فلا يمكن أن يباشرها لأنها رجس, والله تعالى لا يمكن أن يجعل الوحي في مكان نجس متقرف؛ فالذين قلوبهم قد ملئت بالرجس والأوساخ والأدران والذنوب لا يمكن أن يكونوا أهلاً لهذا القرآن ولا أن يعتنوا به ولا أن تصل إليه أفئدتهم، بل لا بد أن يبقوا محرومين منه محجوبين عنه، لا ينتفعون به بحال من الأحوال، وأولئك هم خصوم القرآن الذين يخاصمهم يوم القيامة، ولا شك أنهم مغلوبون؛ فالقرآن غالب لدى الله سبحانه وتعالى، وهو حجة قائمة على الجميع.

    المعرضون عن القرآن إعراضاً جزئياً

    وكذلك الدرجة التي بعد هذه قوم لا يعرضون عنه في كل أعمارهم, ولكنهم ما داموا في كفالة غيرهم؛ كما داموا صغاراً لدى آبائهم وأمهاتهم وربما تعلموا بعضه، ولكن إذا قاموا بأنفسهم وتمت قواهم انفصلوا عن القرآن؛ كأنهم استغنوا عنه، وهؤلاء يظنون أن القرآن إنما هو للصغار وناقصي العقول، وبذلك لا يقدرون القرآن قدره ولا ينزلونه منزلته؛ فهم المغبونون الخاسرون، تمضي عليهم الليالي والأيام وهي غرور، يظنون أن ما فرط من أعمارهم وما مضى منج لهم، وهيهات هيهات! فقد غسلت آثار القرآن بما جاء بعد تعلمه من الذنوب، وبما اسودت به البصائر من بعده.

    المتعلمون لحروف القرآن دون حدوده

    وقوم آخرون يتعلمون حروفه دون حدوده؛ فبغيتهم وقصارى أمرهم في القرآن إذا حفظوا بعضه أو حفظوه كله فيحفظون ألفاظه دون تفهم معانيها ودون تدبرها ودون العمل بها؛ فهم معرضون عن معانيه وحدوده، وإن كانوا مقبلين على ألفاظه، يقرءونها ويدرسونها، ولكن قراءتهم لها لا تتجاوز نحورهم أو تراقيهم، وهؤلاء قد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من حالهم، وبين أنهم على خطر عظيم؛ فهم مشتغلون بالحروف دون الحدود، وقد قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[ص:29]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[محمد:24]، وقال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ[الحشر:2]، وكل ذلك يقتضي التدبر في معانيه والتفكر فيها.

    والذين يشتغلون بحفظ الحروف دون الحدود آيتهم وعلامتهم أنهم يتأثرون بالقرآن إذا سمعوه بصوت شجي رقيق، فتعجبهم الأصوات دون أن يصلوا إلى المعاني وما وراءها، ويتأثرون بسماع صوت القارئ المجود أو القارئ حسن الصوت ولكنهم لا يتفهمون المعاني ولا يهتمون بها؛ فلو قرأوها من تلقاء أنفسهم أو قرأوها بالمصاحف، أو سمعوها من غير تحسين للصوت لم يتأثروا بها، ولم تباشر أشغفة قلوبهم، وهؤلاء هم مرضى القلوب، بغيتهم النشيد والغناء، لا يريدون من القرآن إلا ذلك، فيجعلون منه زخارف تزين منها البيوت، وتعاويذ تعلق على رقاب المجانين والمعتوهين، وأناشيد يسمعونها بالأشرطة أو يرددونها دون أن يباشر شيء من ذلك أشغفة قلوبهم ودون أن يصل إلى مكان العمل منهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسند الإمام أحمد وغيره إنه ( في آخر الزمان يقدم القوم الرجل ليس بأعلمهم ولا بأفضلهم، ما قدموه إلا ليغني لهم )، يختارون الإمام لا يختارونه إلا ليغني لهم، ليس بأعلمهم ولا بأفضلهم، وهذا دليل على أن هذا من المنكرات وأن الذين حظهم من القرآن كذلك هم من المغبونين أيضاً.

    المتدبرون لبعض معاني القرآن عند المصلحة

    كذلك من الناس من يتدبر بعض معانيه إذا أراد في ذلك مصلحة له؛ فإن وجد فيه ما يدل على ما هو عليه على نحلته أو على دعواه فرح بذلك فرحاً شديداً، وإذا وجد فيه ما يخالف هواه وما يخالف مراده أعرض عنه، وهؤلاء هم المنافقون الذين بين الله حالهم في سورة النور: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور:48-52].

    المتدبرون للقرآن وقراءته في المواسم

    ومستوىً آخر من الناس يقرءونه ويتدبرونه لكن ذلك نادر في حياتهم؛ فهم لا يعرفون القرآن إلا في رمضان أو في مواسم من السنة، فإذا مات ميت أقبلوا على المصاحف، وإذا مرض مريض أقبلوا على المصاحف، وإذا دخل شهر رمضان أقبلوا على المصاحف، لكن فيما سوى ذلك كأن القرآن لا يعنيهم ولا يعنونه، هو في واد وهم في واد آخر، وإن كان في متناول أيدهم؛ فالمصحف في المكاتب والبيوت، ولكن لا تصل إليه الأيدي ولا يفتح، والمصحف بذلك يضج إلى الله تعالى ويشكو إليه من جواره لأولئك السيئين، الذين لا يجلونه في منزلته ولا يقدرونه قدره؛ فلا يمدون إليه أيدي التوقير والإجلال، ولا يقرءونه بوجه من الوجوه وهم عنه معرضون، نسأل الله السلامة والعافية!

    الرجوع إلى القرآن عند أهل الكهانة والعرافة

    وكذلك آخرون إنما يرجعون إلى المصاحف وهم يريدون بها خوارق العادات والاستفتاح؛ فيبحثون فيها كما يبحثون لدى الكهان والعرافين، يتطلعون على الغيوب، فيفتحون المصحف فإذا قرأ أحدهم أو وقعت عينه على آية فيها إرشاد للعمل بادر إلى فعل ذلك الفعل وإلا تركه، وهؤلاء من المتطيرين، الذين لم يعرفوا القرآن ولم يعرفوا أنه لم ينزل لهذا؛ وإنما أنزل حكماً بين الناس، حكماً عدلاً، فيه عدل الله سبحانه وتعالى بين عباده وخلقه.

    أهل القرآن الذين يحفظون حروفه وحدوده

    أما أهل القرآن؛ فهم الذين يسعون لحفظ حروفه وحدوده، يتدبرونه كأنه رسالة من عند الله خاصة جاءت إلى أحدهم؛ فإذا تناولت يد الإنسان المصحف عرف أنه نال خيراً عظيماً حين أذن له بمناجاة الرب وقراءة كلامه، وتفهمه وتدبره. أليس من المزيات الكبار لو أن شخصاً منا الآن قدر له مثلاً أن يلقى الخضر أو أن يلقى مالك بن أنس أو أن يلقى الشافعي أو أن يلقى أحد الأئمة الأعلام ويجلس في مجلسه ويتعلم منه؟ إنها مزية عظيمة، وقد كان من زينة الدنيا أن يقول الرجل: (أخبرنا مالك ) فإذا كان الحال كذلك فكيف بالتلقي عن رب العزة والجلال؟!

    إن الذي يقرأ القرآن ويتدبره ويتفهم معانيه إنما هو في مناجاة الله ومجالسته؛ ولذلك فأهل القرآن هم أهل الله، حملة القرآن هم أهل الله وخاصته من خلقه، اختارهم الله تعالى حين جعلهم محلاً لهذا الوحي المنزل، الذي لم يكن الله ليجعله بدار هوان ولم يكن ليأتمن عليه المفلسين، ولم يكن ليجعله بمكان قذر متعفن متسخ، فلا يمكن أن يجعله إلا في مكان متطهر؛ لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ[الواقعة:79]؛ فهؤلاء يباشر هذا القرآن شغاف قلوبهم، فهم محبون لهم غاية المحبة، ويلجئون إليه في كل أمورهم، فإذا حزبهم أي أمر بحثوا عن الفرج في كتاب الله، وإذا حلت بهم آية نازلة عدلوا إلى كتاب الله، وإذا استيقظوا من نومهم فأول ما يتذكرون عهدهم بالقرآن، يخافون أن يكون محي من صدورهم أو طمس من مصاحفهم، وإذا قاموا في أي أمر من الأمور وجدوا القرآن أمام أعينهم؛ فهو الحكم الذي يقودهم حتى يوصلهم إلى جنات النعيم، يتتبعون آثاره ويتتبعون تلاوته، كل يوم يحاولون الازدياد منه.

    1.   

    حال الصحابة الكرام مع القرآن الكريم

    إن كثيراً من الناس عندما يقرأ القرآن في صباه صغيراً يظن أنه قد أكمل الغاية ولا يريد الزيادة منه بعد، فما قرأ عليه من اللحون أو من الأخطاء سيبقى معه حتى ينقل به إلى الدار الآخرة وحتى يدفن تحت التراب، وهذا غلط كبير.

    وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أشد حرصاً منا على القرآن؛ فكانوا كل يوم يزدادون منه، حتى إن عثمان بن عفان الذي حفظ القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملاً وبين النبي صلى الله عليه وسلم له منزلة قراء القرآن؛ فقال له: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، لم يزل يزداد من القرآن؛ فكان له مولىً من حفظة كتاب الله، فكان يعطيه المصحف ويجعله في حجره و عثمان يقرأ، فيصحح له ويراجعه في الآية عدة مرات؛ لأن عثمان يريد أن يتفهمها ويريد أن يقرأها بكل وجه أنزلت به.

    وكذلك حال بقية الصحابة؛ فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه يجمع أهل الشورى من الأمة الإسلامية يسألهم عن سورة واحدة من القرآن هي ثلاث آيات: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:1-3]، يسألهم عن سبب نزول هذه الآية وعن معناها، فيخوض فيها كبار أهل بدر الذين حضروا نزولها وحضروا نزول ما قبلها وما بعدها من القرآن، ولا يقنع عمر بذلك حتى يأتي عبد الله بن العباس بن عبد المطلب فيسأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( ما تقول في هذه السورة؟ فيقول: هي نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول عمر : وهكذا فهمت منها ) فيوافق عمر ابن عباس في فهمه، ويلقبه فيما بعد بــ(ترجمان القرآن) وكان كلما أشكلت عليه آية منه أو كلمة جمع الناس يسألهم: هل مع أحد منهم علم حتى يصل إلى علم ذلك، فقرأ عمر ذات يوم سورة النحل؛ فلما وصل إلى قول الله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ[النحل:47] جمع المهاجرين والأنصار يسألهم عن التخوف ما هو؟ فجاءه رجل من هذيل فقال: هذه من لغتنا، والتخوف: الأخذ بالتدريج، شيئاً فشيئاً؛ كالنحت، فسأله عن شاهد ذلك من أشعارهم فأنشده إياه.

    وكذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما يحرص على شواهد اللغة العربية التي يفهم بها معاني القرآن، وعندما أتاه نافع بن الأزرق كان يسأله عن كلمة من القرآن؛ فيجيبه ابن عباس بمعناها؛ فيقول نافع : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فينشده شاهدها من العربية، وقد سأله عن قول الله تعالى: لَهمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ[فصلت:8] قال: غير مقطوع، قال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: أما سمعت قول الحارث بن حلزة اليشكري :

    فترى خلفها من الرجع والوقع منيناً كأنه إهباء

    فسأله عن تفسير قول الله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى[طه:118-119]، قال: ما معنى (تضحى)؟ قال: تبرز للشمس، أما سمعت قول المخزومي بالأمس، وهو عمر بن أبي ربيعة :

    رأت رجل العمى إذا الشمس عارضت فيضحى وعمى بالعشي فيخصر

    فكانوا يتعلمون هذا القرآن وهم أشد ما يكونون حرصاً على تفهم معانيه وتدبرها، ثم على مبادرة العمل بها، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي ، وهو من كبار التابعين: أخبرنا الذين كانوا يعلموننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر منهم: عثمان و علياً و ابن مسعود و أبا هريرة و أبي بن كعب و زيد بن ثابت و ابن عباس ، قالوا: ما كنا نقرأ عشر آيات من القرآن فنتجاوزها حتى نتعلم ما فيها من العلم وحتى نعمل بها، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل؛ ولهذا فإن الذي يريد أن يقرأ القرآن فيؤدي حقه إليه لا بد أن يحرص على تعلم أحكام النطق به وتجويده، ثم على تفهم معانيه؛ فيكون اللفظ يوصل إلى الأذن والأذن توصل إلى القلب، والقلب يوصل إلى الجوارح، فما سمعته الأذن نقلته إلى القلب، والقلب يوزعه عملاً بين الجوارح؛ فتبادر الجوارح للطاعة وتعمل بمقتضى ما قامت به الحجة.

    من القرآن على الناس؛ ولهذا فإن هذه القراءة هي التي ينتفع بها صاحبها فيكون متطفلاً على الله سبحانه وتعالى ومتأدباً بآدابه ومنتفعاً بكلامه، ومحباً له وهو يزداد منه، كلما قرأه ازداد منه علماً لم يكن يناله من قبل، وبذلك يعيش مع القرآن في كل أوقاته؛ فهو في ظلاله في كل ساعات ليله ونهاره، إذا جاءه أمر بادر إلى القرآن فيجد فيه حل ذلك, وإذا حلت به مصيبة أو نازلة لم يجد أسوة ولا قدوة إلا ما يجده في كتاب الله فيبادر إليه.

    1.   

    ما يجنيه قارئ القرآن حين قراءته

    التسلية والتعزية بقصص وأخبار الأمم السابقة

    ومن هنا فإن هذا القرآن تضمن من القصص وأخبار الماضين السالفين ما يجعله تسلية وتعزية عن كل مصيبة تصيب الإنسان؛ فالإنسان إذا كان في ضيق وشدة فقرأ القرآن فتذكر ما أصاب الأنبياء من قبلنا وما حل بالأمم السابقة عرف أن ما أصابه هو لا يصل إلى مستوى ما أصاب أولئك وأنه دون المقام الذي وصلوا إليه؛ فلهذا يتسلى ويتعزى بأخبار السالفين؛ كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في سورة هود بعد أن قص عليه قصص الأنبياء من قبله، قال: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود:120]، فما يجده النبي صلى الله عليه وسلم من العناء في تبليغ رسالات ربه وما يجده كذلك من إعراض قومه يسليه عنه ما يقرأه في القرآن من قصص الأنبياء السابقين؛ فإنه لم يمكث في الدعوة إلا ثلاث عشرة سنة، وقد مكث نوح في قومه في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً، وقد أوذي نوح بأنواع الأذى، وكذلك إذا وجد أذىً من المنافقين بعد الهجرة وقد كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قرأ أيضاً ما آذى به بنو إسرائيل موسى عليه السلام؛ فيكون ذلك تخفيفاً وتسهيلاً لهذا الأذى، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً أتاه وهو يقسم قسمة، فقال: يا رسول الله! اعدل، فإنها لقسمة ما أريد بها وجه الله! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ويلك! ومن يعدل إن لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! رحم الله أخي موسى ! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر )، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم: ( كان ذات يوم يقرأ سورة يوسف فقال: رحم الله أخي يوسف ! لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته )، فهو يعيش مع القصص الذي في القرآن، وهذا القصص هو تسلية وتعزية، وبيان لحال السابقين من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

    الانتفاع بالأمثال المذكورة في القرآن

    وكذلك فإنه فيه أيضاً الأمثال التي ضربها الله للناس، وهذه الأمثال هي بيان لسنن الله سبحانه وتعالى في الكون، ولا يمكن أن يفهم الإنسان حقائق هذا الكون إلا بتدبره للسنن التي بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه، لكن هذه الأمثال التي ضرب الله مختصة بأهل التدبر والتفهم، كما قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، فلا يمكن أن يتعقل هذه الأمثال ولا أن ينتفع بها إلا من كان من أهل العلم والتفهم والتدبر.

    العمل بالأحكام الواردة في القرآن

    وكذلك فإن هذا القرآن أيضاً مليء بالأحكام؛ فقد أفرد الله فيه خمسمائة آية للأحكام، وفيه كثير من الآيات الأخر التي تؤخذ منها الأحكام، وهذه الآيات فيها بيان لحقوق الله على عباده، ولحقوق بعض العباد على بعض، ولما ينظم علاقاتهم فيما بينهم من الأخلاق والمعاملات، ولبيان الحدود والتركات وغير ذلك مما يحتاج الناس إليه، فلم يبق شيء يحتاج الناس إلى بيانه إلا جاء تفصيله في القرآن؛ ولهذا قال الله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[الأنعام:38]وقال تعالى: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[النحل:89]، أي: أن هذا القرآن تبيان لكل شيء مما يحتاج الناس إليه، وهذا التبيان يتفاوت؛ وذلك بحكمة الله البالغة؛ فمنه ما يكون متضحاً لا إشكال فيه ولا خفاء في دلالته، ومنه ما يكون مجملاً ومنه ما يكون متشابهاً؛ فهو في وقت من الأوقات خفي الدلالة ثم تتضح دلالته فيما بعد وتظهر؛ وذلك لئلا يبقى قوم لا حظ لهم من القرآن؛ فلو جاء القرآن جميعاً متضح الدلالة لفهمه الصحابة وبقينا نحن من المتطفلين، ولم يكن لنا حظ من القرآن إلا باجترار ما فهمه السابقون، لكن بقي هذا القرآن لكل عصر من العصور فيه مأخذ، ويمكن أن يرزق فيه الإنسان ما لم يرزقه من سبقه؛ فكل إنسان حتى لو كان مستواه في العلم ضعيفاً فبالإمكان أن يزرق في فهم القرآن ما لم يفهمه من سبقه، وبالإمكان أن ينال هو فيه أيضاً بعض الأمور التي هو بحاجة إليها، ولو كان الآخرون قد فهموها من قبل، ولكن يرزقها هو من القرآن مباشرة دون أن يطلع عليها في كتب السابقين؛ فيكون ذلك أبلغ لاتصاله بها وعنايته بها، ومن هنا فإن كل إنسان منا مطالب بأن يطلب حظه من القرآن وأن يطلب رزقه فيه لعل الله يفتح له من مفاتيح خيره في هذا القرآن ما لم يفتح لمن سبقه، وقد قال ابن مالك رحمه الله في مقدمة التسهيل: (وإذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية؛ فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين) وقال العلامة ابن متالي رحمه الله:

    وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل

    فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل

    1.   

    واجبنا نحو القرآن الكريم وكيفية العيش معه

    القراءة الدائمة للقرآن الكريم بروح المحبة والعزة

    ولهذا فإن علينا جميعاً أن نحرص على أن نعيش مع هذا القرآن عيشاً حقيقياً؛ بأن نتصل به يومياً؛ فلا بد أن يكون لكل إنسان منا حزبه اليومي من القرآن قل ذلك الحزب أو كثر، لا بد كذلك أن يتفهمه وأن يقرأه بروح المحبة، فلو أن إنساناً منكم جاءته رسالة من والده العزيز بعدما مكث سنوات وقد انقطعت عنه أخباره، أليس سيقدرها ويحترمها، ويقرؤها عدة مرات؟ وإذا جاءته رسالة من أحد السلف السابقين، كذلك أليس سيقدرها ويحترمها؟ وإذا جاءته رسالة من عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب ، أليس سيقدرها ويحترمها؟ فكيف إذا جاءته رسالة من محمد صلى الله عليه وسلم عليها ختمه وطابعه، وهي مرسلة إليك أنت باسمك ، أليست محل تقدير واحترام؟! فهذه رسالة من رب العزة والجلال إلى الناس كافة، وكل إنسان منا قد خاطبه الله بها وله حظه منها، وهو داخل في عمومات النداء في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، وفي قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ))، وغير ذلك من الخطاب الذي يخاطب الله به عباده: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ[الزمر:53]، فندخل جميعاً في عموم هذه الخطابات؛ ولذلك يستشعر الإنسان طعم العزة إذا أحس أنه داخل في خطاب الله؛ فنحن نغبط موسى بن عمران عليه السلام إذا تذكرنا أن الله اتخذه كليماً فكلمه كفاحاً دون ترجمان، ولكن إذا قرأنا نحن آيات القرآن؛ فإننا نعلم أن الله يخاطبنا بها؛ فكأننا يكلمنا الرحمن جل وعلا كفاحاً دون ترجمان؛ وبهذا ترتفع معنويات الإنسان وتعلو شخصيته حين يكون أهلاً لأن يخاطبه الرحمن جل جلاله، وأن يوجه إليه كلامه, وأن يخاطبه بعلمه سبحانه وتعالى، وقد أنزل الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم سورة البينة وأمر النبي أن يقرأها على أبي بن كعب ؛ فدعاه فقال: ( إن ربي أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، قال أبي : أوسماني لك؟! قال: نعم )، فبكى أبي حتى كاد يغشى عليه من البكاء، حين علم أن الله سماه للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه سورة من القرآن.

    ولهذا علينا أن نستشعر هذا المعنى في قراءتنا للقرآن.

    تحسين قراءة القرآن الكريم وتجويده

    ثم بعد هذا لا بد أن تكون قراءتنا له على الوجه الصحيح؛ فيحاول الإنسان في كل قراءة أن يزيدها حسناً، كلما قرأ آية يحاول أن يزيدها حسناً وإتقاناً بتجويدها وتفهمها وتدبرها ومواقفها؛ فيتعلم مكان الوقف حيث ينتهي المعنى ويتعلم مكان الابتداء، ويحسن قراءته في كل مرة، وهذا مطلوب لا محالة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرب أصحابه عليه، وكان يعجب بقراءة بعضهم؛ لإحسانهم لهذه القراءة وتجويدهم لها؛ فقد قال: ( من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل؛ فليقرأ بقراءة ابن أم عبد )، أي: ابن مسعود ، وكان ابن مسعود من أحسن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قراءة للقرآن، يقف في مواقفه ويبتدئ بابتداءاته، فيفصله تفصيلاً على حسب المعنى؛ ( ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأ عليه القرآن، قال: يا رسول الله! كيف أقرأه عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء، حتى إذا وصلت إلى قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا[النساء:41-42]، فقال: حسبك! فنظرت فإذا عيناه تذرفان )، إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يبكي تأثراً بهذا القرآن.

    وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعجب بقراءة أبي موسى الأشعري لما كان يقرأ القرآن في الليل في المسجد؛ ( فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إليه بحجرة عائشة ، وهو يعجب بتلاوته، فلما أصبح قال: لو رأيتني أستمع إليك البارحة! قال: لو كنت أعلم أنك تستمع إلي لحبرته لك تحبيراً )، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود )، وكان أبو موسى رضي الله عنه إذا قرأ القرآن عرف أنه يخاف الله، وهذه علامة إحسان قراءة القرآن، ليس عن حسن الصوت وإنما هو من إذا سمعته يقرأ عرفت أنه يخاف الله تأثراً بما يقرأ وتأدباً بآدابه.

    العمل بما في القرآن الكريم من الأوامر والنواهي

    وكذلك فإن من العيش مع القرآن أن يجعله الإنسان حكماً عليه فيكون وقافاً عند كتاب الله، إذا جاءه أمر بادر إليه وإذا جاءه نهي انزجر به مباشرة دون مراجعة؛ كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في حديث ابن عباس في الصحيح: أن عيينة بن حصن الفزاري نزل على ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من أصحاب مجلس عمر ، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ، فقال: اشفع لي عند هذا الرجل، فجاء الحر إلى عمر وأتاه بعمه عيينة يريد مناجاة عمر ، فلما بقي معه قال له عيينة : (هيه يا ابن الخطاب ! فإنك لا تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل) فغضب عمر حين سمع الكذب حتى هم به، فقال له الحر : ( يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى يقول: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين) فوالله ما تعداها عمر حين سمعها، وكان عمر وقافاً عند كتاب الله، فهذا الذي يلزم كل مؤمن أن يكون وقافاً عند كتاب الله، إذا جاءه القرآن كان حكماً مانعاً من التعدي والتجاوز؛ ولذلك فإن محمد بن طلحة بن عبيد الله وكان مشهوراً بـالسجاد رضي الله عنه كان يقرأ القرآن في كل أحيانه، فلما كان يوم الجمل وهو اليوم الذي قتل فيه رضي الله عنه ما خرج إلا مكرهاً لإرضاء أبيه؛ فكان إذا قاتله رجل يقول: (بيني وبينك "حــم" بيني وبينك "حــم") أي: سورة (حــم) فيتركه حتى جاءه رجل من المنافقين فقتله، وأنشد فيه:

    وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم

    خرقت له بالرمح طرف ردائه فخر صريعاً لليدين وللفم

    يناشدني حـم والرمح شاجر فهلا تلا حــم قبل التقدم

    على غير شيء غير أن ليس تابعاً علياً ومن لا يتبع الحق يندم

    فلما وقف عليه علي بن أبي طالب ورآه قتيلاً وقد كان نهى عن قتله، قال: ( السجاد ورب الكعبة!).

    الحرص على الازدياد من القرآن الكريم

    وكذلك فإن من العيش في ظلال هذا القرآن والعيش معه أن يحرص الإنسان أيضاً على الازدياد منه؛ فإذا كان كلما عرض عليه شيء منه استمع إليه, وكلما سمع قارئاً يقرؤه استمع إليه, وكلما وجد تفسيراً احتاج إلى أن يقرأ فيه؛ فهذا هو الدليل على أنه متعلق القلب بالقرآن، يريده في كل الأحيان؛ فإذا سمعه في شريط تأنى حتى يسمعه، وإذا سمع قارئاً يقرؤه تأنى حتى يسمعه؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم؛ ( فقد خرج ذات ليلة في المدينة فسمع امرأة من الأنصار تقرأ قول الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ[الغاشية:1]، فلما قرأت ذلك بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: نعم أتاني.. نعم أتاني )، فلا بد أن يكون الإنسان متأثراً به، وهو يريد الازدياد منه ويحرص على سماعه ولا يمل منه بحال من الأحوال؛ فهو مع التكرار لا يزداد إلا حسناً وبهاءً؛ ولهذا قال الشاطبي رحمه الله:

    وإن كتاب الله أوثق شافع وأغنى غناء واهباً متفضلا

    وخير جليس لا يمل سماعه وترداده يزداد فيه تجملا

    وحيث الفتى يرتاع في ظلماته من القبر يهنيه سناً متهدلا

    هنالك يهنيه مقيلاً وروضة ومن أجله في ذروة العز تجلا

    يناشد في إرضائه لحبيبه وأخلق به سؤلاً إليه موصلا

    فيا أيها القارئ متمسكاً مجلاً له في كل حال مبجلا

    هنيئاً مريئاً والداك عليهما ملابس أنوار من التاج والحلا

    فما ظنكم بالنجل عند جزائه أولئك حزب الله والصفوة الملا

    أولو البر والإحسان والجود والتقى حلاهم بها جاء القران مفصلا

    عليك بها ما دمت فيها منافساً وبع نفسك الدنيا بأنفسها العلا

    تطبيق القرآن الكريم في الواقع

    كذلك من العيش في ظلاله أن يكون الإنسان يطبقه على حياته وحياة واقعه وأمته؛ فإذا كان الإنسان مع القرآن فعلاً فسيجد فيه الحلول لكل مشكلاته وما يعرض له من النوازل وما يحل بأمته من الكوارث والمشكلات؛ فيتدبر قصص الماضين وكيف كانت هلكة الأمم وكيف دخل الخلل للأمم السابقة، وما هو العلاج، وكل ذلك يجده الإنسان في القرآن بيناً واضحاً، والإنسان بهذا يجد الحل لكل مشكلاته في القرآن؛ فإذا كان معه في كل أحيانه فهو لا شك في سعادة لا تعدلها سعادة؛ كما قال ابن تيمية رحمه الله لما آذاه حكام زمانه: (ما يفعل أعدائي بي؟! إن قتلي شهادة وسجني خلوة ونفيي سياحة، جنتي في صدري) فالقرآن في صدره؛ فهو جنته يقرؤه، فكلما وجد ضيقاً من أمور الدنيا وجد سعة في القرآن؛ ولهذا لا يمكن أن يخلو به إنسان في أي وقت من الأوقات ولو كان ذلك الوقت يسيراً ضئيلاً إلا وجد فيه من العجائب ما لم يكن يخطر له على بال من قبل؛ ولذلك فهو تسلية عما يفوت الإنسان من الأهل والمعارف والأصدقاء وعما يتقوض من هموم دنياه وشئونها؛ فإنه باتصاله بالقرآن يتسلى عن ذلك كله وينساه. وأذكر أن بعض السجناء كانوا إذا أغلقت عليهم الأبواب, وكان الناس في السجون في زنازين انفرادية، كل إنسان في غرفة وحده؛ فإذا أغلقت عليه الغرفة وانقطعت الأصوات وبدأ يقرأ القرآن تمنى أن لو طال ذلك سنوات وسنوات؛ لأنه سيجد فيه أمراً عجيباً يشده إليه شداً، ولا يحس بشيء مما وراء الجدران؛ كأن الدنيا كلها قد اجتمعت في داخل الغرفة.

    التدبر في عجائب القرآن الكريم

    ومن هنا فإن كثيراً من الناس وجدوا فهماً في كتاب الله في أوقات خلواتهم وسجونهم لم يجدوه حتى في الكتب، فكثير من إعجاز القرآن لم يكتشف إلا في مثل هذه الأمور؛ ولذلك لم أكن من قبل من الذين يعتنون كثيراً بعد حروف القرآن ولا كلماته ولا بعد آياته إلا بما ورد من ذلك في كتب التفسير، وفي السجن وجدت أن بعض أحزاب القرآن فيها إعجاز عددي عجيب؛ فمثلاً هذا الحزب الذي بدايته سورة الجمعة هو عبارة عن خمس سور، السورتان الأوليان سورة الجمعة وسورة المنافقون، كلتاهما إحدى عشرة آية، والسورة الوسطى سورة التغابن ثماني عشرة آية، والسورتان الأخريان سورة الطلاق وسورة التحريم كلتاهما اثنتا عشرة آية؛ فكان هذا من الإعجاز العددي العجيب في القرآن. والحزب الذي بعده أيضاً السورة الأولى منه سورة الملك ثلاثون آية, والسورة الأخيرة منه سورة نوح ثلاثون آية بالعد الكوفي أيضاً، والسورتان اللتان تليان السورة الأولى وهما سورة ن وسورة الحاقة كلتاهما اثنتان وخمسون آية، والسورة الأخرى هي سورة المعارج وهي أربع وأربعون آية؛ فهذا الإعجاز العددي عجيب جداً، فهذان حزبان متواليان كلاهما خمس سور، وبين كل سورتين تناسب في العدد، فهذا النوع هو من عجائب القرآن التي لا يجدها الإنسان ما دام مشغولاً بهموم الدنيا وأمورها، ولكن عندما يخلو بالقرآن يجد فيه كثيراً من العجائب من أمثال هذا وما هو أرفع منه وأسمى.

    وكذلك - نسأل الله السلامة والعافية - هو حجة أيضاً على الذين خالفوه؛ فإنهم كثيراً ما يسمعون ما يكون حجة عليهم بقراءته، وقد كان رجل آمن في أيام الخلفاء الراشدين وحفظ القرآن ثم تنصر وهرب إلى الروم، فأسر؛ فسئل: هل بقي معك شيء من القرآن؟ قال: لم يبق معي منه إلا جملة واحدة، قيل: وما هي؟ قال: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ[الحجر:2]، محي القرآن من صدره وبقيت معه هذه الجملة؛ لأنها حجة قائمة عليه: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ[الحجر:2]، وهذا من عجائب القرآن. ومثل ذلك أيضاً ما حصل لبعض الذين يدعون من دون الله أنداداً؛ فقد كان يدعو امرأة، ينادي، ويستغيث بها من دون الله تعالى، وكان في طريقه إليها ثم بدأ يقرأ سورة النساء وهو يقطعها بنداء تلك المرأة من دون الله، حتى إذا وصل إلى قول الله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا[النساء:117]، إذا هو مباشرة كان يدعو تلك المرأة قبل قراءة هذه الآية؛ فتدبر ذلك فكأنها قارعة نزلت عليه من السماء فخر مغشياً عليه وهو يتدبر معنى قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا[النساء:117-118]، فكأنما هذا القرآن ينطق عليه حجة مفصلة لواقعه وحياته وما يقوله الآن في هذه اللحظة.

    وكذلك كثير من الذين تقوم عليهم الحجة بالقرآن ينطقونه فيقرءونه بألسنتهم وهو يلعنهم؛ فيا رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، وكثير هم أولئك الذين يقرءونه والحجة قائمة عليهم به، ويريدون الاستدلال به فلا يهدون إلا إلى ما هو حجة عليهم، وكل ذلك من عجائبه.

    تذكر الإنسان بأن القرآن حبل بينه وبين الله تعالى

    كذلك فإن من العيش في ظلاله أن يتذكر الإنسان أن فهذا القرآن حبل بينه وبين الله، فهذا حبل طرفه إلى الله وطرفه إلينا نحن، أنزله إلينا؛ فهو صلة متصلة بالله سبحانه وتعالى، ومن هنا فهو العروة الوثقى والاتصال بالرب الكريم، ونحن من تمام محبتنا لله أن نحب ما يوصلنا إليه، وإذا عرفنا أن صلتنا بالله سبحانه وتعالى إنما تتحدد من خلال كلامه وقرآنه؛ فعلينا أن نحب هذا القرآن حباً شديداً؛ كما كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه عند موته يقلب المصحف على خديه، ويقول: (كلام ربي.. كتاب ربي) حتى مات، وتوفي والمصحف على خديه يقلبه ويقول: كلام ربي.. كتاب ربي؛ محبة للقرآن.

    وكذلك فإن هذا الاتصال بالله سبحانه وتعالى إنما يستحليه الإنسان إذا كان في صلاة الليل والناس نيام، يستحليه استحلاءً عجيباً؛ حتى إنه يمكن أن يقرأ آية واحدة فتمضي الساعتان والثلاث ساعات وهو يتدبر في تلك الآية وحدها ولم تنته معانيها؛ كما قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بآية واحدة، وهي: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة:118]، فهذه الآية وحدها قام بها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة كاملة في قيام الليل.

    الاعتبار بما ورد في القرآن وعرضه على حال أمتنا اليوم

    كذلك لا شك أن الإنسان في كثير من الأحيان قد يصاب بإحباط أو بشكوك وأوهام أو بوساوس، أو بهزيمة أمام الواقع الذي يعيش فيه، وهذا ما يحتاج فيه الإنسان إلى العيش مع القرآن لأنه يزيل عنه ذلك بالكلية؛ فالذي يسمع الآن طغيان قوى الشر وتكالبها على هذه الأمة الإسلامية، ويسمع حال الفلسطينيين الذين يؤذيهم اليهود، إخوان القردة والخنازير في البلاد الطاهرة المقدسة، التي بارك الله حولها، ويتذكر أيضاً حال المسلمين في العراق وما يلقونه من الأذى على أيدي زبانية الأمريكان العتاة الطغاة، ويتذكر ما يلقاه أيضاً المسلمون في أفغانستان من تهديم بيوتهم بطائرات الغزو الأمريكي، ويتذكر حال المسلمين أيضاً في كشمير والهند وما يلقونه من أذى الهندوس، ويتذكر حال المسلمين أيضاً في الجمهوريات الإسلامية تحت وطأة الروس وما يلقونه من الأذى هنالك، ويتذكر حال المسلمين حتى في البلاد الإسلامية التي يعيش فيها, وضعف عنايتهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, وانقطاعهم عن هذا الوحي وانهزامهم أمام الإغراءات المادية، وخنوعهم وذلتهم أمام أعداء الله سبحانه وتعالى، كل ذلك إذا تذكره الإنسان فقرأ في هذا القرآن زال عنه ما يجده من الضيق والمأساة, وانقلب ذلك إلى شجاعة وقوة.

    وأذكر أن رجلاً سألني عن واقع هذه الأمة في وقت عصيب من أوقاتها، وقد كان ذلك في وقت حرب من هذه الحروب الطاحنة؛ فقلت: استمع! سأقرأ عليك سورة من كتاب الله، وتدبر فيها، وإذا وجدت فيها الحل فلن تتجاوزها؛ لأنه لا أحد أصدق من الله؛ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا[النساء:122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا[النساء:87]، وهذا كلامه بين يديك وأنت مؤمن به، فقرأت عليه سورة القمر: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ[القمر:1-3]، حتى قصصت عليه قصة نوح وتكذيب قومه له وانتصاره بالله تعالى: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ[القمر:10]، وقصة هود وتكذيب قومه له، وانتصاره بالله تعالى، وتسخير الله للريح العقيم على قومه ثمانية أيام حسوماً، وتكذيب قوم صالح له، وإهلاك الله لهم بالحاصب الذي شق أشغفة قلوبهم، وتكذيب قوم لوط له وما لقيه من الأذى منهم، وأخذ الله لهم، وتكذيب فرعون وجنوده لموسى عليه السلام وما لقيه من الأذى منهم، وأخذ الله لهم، بعد ذلك جاءنا الخطاب بقول الله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:43-45]؛ فهذه الآيات هي ختام لهذه القصص وخلاصة لها، يقول الله فيها: (أَكُفَّارُكُمْ) أي: هل الكفار الذين تخالطونهم وتخافونهم من الأمريكان وغيرهم (خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ) هل هم خير من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم موسى ؟ هل هم أقوى منهم؟ هل هم أطول منهم أعماراً؟ (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ)، ثم بعد هذا انتقل الخطاب بالالتفات إلى الكفار أنفسهم بعد أن كان الخطاب لنا نحن معاشر المؤمنين! انتقل الخطاب إلى الكفار تكبيتاً وتهديداً لهم؛ فقال: (أَمْ لَكُمْ) أيها الكفار، (بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ)، هل لديكم براءة من الله تعالى في الكتب المنزلة ألا يأخذكم بمثل ما أخذ به السالفين السابقين؟ ليست لهم براءة من الله، ثم بعد هذا قال: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ)، إذا كان اعتمادهم واتكالهم على الدعاية الإعلامية وعلى التضليل والخداع يقولون: (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ)، فما هي النتيجة وما هي سنة الله الماضية؟ (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)؛ فهذه سنة الله الماضية في كل من وصل إلى هذا المستوى من الطغيان، (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)، قال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ[القمر:46]، فما يلقونه من الهزيمة في هذه الحياة ومن تحطيم قواهم ليس شيئاً مما ينتظرهم في الدار الآخرة من أنواع الذل المهين، (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)؛ فقال الرجل: كأنني ما سمعت هذه الآيات قط! كأنه ما سمع هذه الآيات من قبل.

    وأذكر آخر جاء أيضاً من فلسطين، من مدينة قلقيليا، وكان يحدث عن حال المسلمين هناك وما يلقون من الأذى من قبل أعداء الله إخوان القردة والخنازير؛ فكان ذلك في مجلس فتأثر به كثير من الناس تأثراً شديداً وأحزنهم ذلك وأقلقهم؛ فلما وصل الكلام إلي قلت لهم: إن هذا من لطف الله ورحمته وفضله بهذه الأمة، فقالوا: كيف ذلك؟! فقلت: من حكمة الله في اليهود أنه خلقهم للأذى، ولو سلطهم على شعب من شعوب الأرض غير الشعب الفلسطيني لانصاع لهم وذل تحت سلطانهم ولهلك أمامهم، ولن تبقى منهم باقية، والدليل على ذلك أن الله وصف سكان فلسطين بقوله: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ[المائدة:22]، حكاية وحكاية الله للأمر تصديقاً له، فهم قوم جبارون أي: أهل قوة.. قوة عقول وقوة قلوب وقوة أبدان؛ فالجبار في الأصل هو جذع النخلة الغليظ، ومنه قول الشاعر:

    وجنة ما يذم الدهر حاضرها جبارها بالندى والحمل محتزم

    فالجبار هو الغليظ القوي؛ فشعب فلسطين قوم جبارون، فلو أن اليهود مثلاً احتلوا بلادنا هذا أو إندونيسيا أو أي بلد من أنحاء العالم الإسلامي وطرف من أطرافه لذلت الشعوب أمامهم؛ لأنها شعوب ضعيفة، ذليلة بطبعها بخلاف الشعب الفلسطيني؛ فهم شعب جبارون.

    والأمر الثاني: أنهم أيضاً لم يرد الله لهم أن يحتلوا طرفاً من الأطراف فينسى كما نسيت الأندلس وقبرص وغيرهما وصقلية، وغير ذلك من الأمصار الإسلامية التي احتلها الصليبيون، فلو احتل اليهود أي مكان آخر غير فلسطين لترك لهم، ولتركته الأمة لهم، لكن لما كانت فلسطين قلب العالم الإسلامي ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهاجر أبيه إبراهيم ، ومنزل المسيح ابن مريم ومكان تجديد الدين، ومكان العلماء في كل العصور ومكان الخلافة الإسلامية من قبل، وكانت مكاناً تهوي إليه أفئدة المؤمنين من كل مكان لم تكن هذه الأمة لتنسى تلك البلاد، بل لا بد أن تدافع عنها إلى آخرها؛ فتعجبوا من هذا لأنهم كانوا يظنون هذه نقمة وبلاءً عظيماً؛ فانتقل إلى رحمة من عند الله سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا بتدبر قليل في القرآن، بآيات قليلة من القرآن يتدبرها الإنسان فيجد فيها كل ما يحتاج إليه مما يقوي شخصيته أو يزيل عنه الحزن والأسى.

    تخلق الإنسان بما في القرآن من الأخلاق والآداب

    كذلك فإن من العيش مع هذا القرآن أن يتخلق الإنسان بما فيه من الأخلاق والآداب؛ فهذه الأخلاق هي القيم التي بعث الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد مصدر أوثق ولا أغنى بالقيم من هذا القرآن؛ ففيه كلما يحسن بالإنسان أن يفعله، وفيه بيان طرق فعله وبيان ما يدل على ذلك الفعل من الأمور الواقعية؛ فإن الأمور إذا كانت نظرية دون أن تطبق كان بالإمكان أن يعترض الناس في أدائها وتطبيقها، لكن إذا جيء بها وجيء بوسائل تطبيقها وذكر أمثلة الذين طبقوها كان ذلك كافياً للاتباع، وقد كنت يوماً في تدبر الفاتحة؛ فوجدت فيها سؤالاً يحتاج إلى الجواب، وهو حكمة التكرار في قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:6-7]، لماذا لا تكون الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؟ أو: اهدنا الصراط المستقيم الذي اخترته للذين أنعمت عليهم؟ لماذا هذا التكرار؟ فلم أجد في كتب التفسير جواباً له، ولكنني وجدت أن جوابه أنه لو قال: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم أو نحو ذلك؛ لكان الحق يعرف بالرجال، لكن الصراط المستقيم إنما يعرف من خلال سلوك الناس، وهذا غير صحيح؛ فالحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق؛ فلذلك قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6]، فلما عرفناه باستقامته جاء بعد ذلك وصفهم هم وتعريفهم هم بأنهم الذين سلكوه؛ فقال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7]؛ فكان هذا من الإعجاز العجيب في هذه السورة التي هي خلاصة القرآن جميعاً؛ فالقرآن جميعاً إما ما يتعلق بالربوبيات وبيان حقوق الله سبحانه وتعالى على عباده، والإيمان بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وكل ذلك في قول الله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:2-3]، وإما ما يتعلق باليوم الآخر وما اشتمل عليه؛ وكل ذلك في قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4]، وإما ما يتعلق بالعبادة؛ وكل ذلك داخل في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ[الفاتحة:5]، أو ما يتعلق بالمعاملة؛ وكل ذلك داخل في قوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، أو ما يتعلق بالدعاء وبيان شأن الماضين والسابقين؛ وكل ذلك في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:6-7]؛ فهذا اختصار لكل قصص القرآن، لأخبار اليهود والنصارى في القرآن، كل ذلك في قوله: غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7]، هذا اللفظ وحده اختصر قصص اليهود والنصارى جميعاً؛ فالحكم عليهم كله جاء بكلمة واحدة؛ فاليهود حكم عليهم بأنهم المغضوب عليهم، والنصارى حكم عليهم بأنهم الضالون؛ فهذا الحكم كاف لأنه نتيجة لكل ما سبق من القصص ولكل ما جاء في القرآن من أخبارهم, ونتيجته هي: غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7].

    وكذلك من العيش في ظلاله أن يكون الإنسان حريصاً على أن يتخلق بما جاء فيه؛ فإذا كان الإنسان كلما وجد فيه آية ففهمها فرح بها فرحاً شديداً وكانت محل الإعجاب منه؛ فذلك ساع لأن يعمل بها وأن يتخلق بها في خاصة نفسه وأن يدعو إليها؛ ولهذا فإن: عائشة رضي الله عنها (لما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان خلقه القرآن )، أي: من أراد وصفه وبيان خلقه فليقرأ القرآن، فقد رباه الله سبحانه وتعالى على الأخلاق الكريمة؛ فقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[الإسراء:23-24]، وبعد هذا بين حقوق غير الآباء والأمهات من الأقارب؛ فقال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهمْ قَوْلًا مَيْسُورًا[الإسراء:26-28]، ثم بين أيضاً الوجه الأعدل في الإنفاق؛ فقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا[الإسراء:29]؛ فبين الحد الوسط في الإنفاق، كما بين هذا الخلق أيضاً في خواتم سورة الفرقان: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا[الفرقان:63-77]، فهذه القيم والأخلاق لا بد من تحلي الإنسان بها وأن يتطلبها في القرآن، والإنسان الذي هو مولع بالقرآن ويعيش معه يتطلب فيه أموره كلها؛ فإذا كان في أية مشكلة بحث عن حل لها في كتاب الله ولم يتعده؛ لأن كل علم الأولين والآخرين خلاصته هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهكذا في كل شئون حياته؛ ففيه الشفاء لكل الأمراض، سواءً كانت أمراضاً قلبية أو أمراضاً بدنية؛ كما قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[الإسراء:82].

    حرص الإنسان على الازدياد من علوم القرآن الكريم

    وكذلك فإن من العيش في ظلاله ازدياد الإنسان من علومه؛ فالإنسان الذي يحرص على الازدياد من علوم القرآن يتعلم تجويده ويتعلم رسمه وضبطه وتفسيره وعلومه الأخرى، ويتعلم الناسخ والمنسوخ منه، ويتعلم لغته ومفرداته، ويتعلم كذلك أوجه التدبر والتفهم فيه، وهذا لا شك سيزداد حباً للقرآن وتعلقاً به؛ فيعيش معه في كل أوقاته.

    ومن هنا فإن عيش الإنسان مع القرآن خلق لديه يمكن أن يكسبه أهل بيته وأن يتركه لهم بعده، وأذكر أن أختاً لنا قد توفيت، وقد كانت من التائبات العابدات، ونسأل الله أن يتقبل منها وأن يرحمها، وقد حرصت على تعلم القرآن, ولكن كانت تعيش معه في ليلها ونهارها، وقد حدثتنا أمها أنها حببت إليها القرآن، وأمها قد كانت من قبل قرأت القرآن في زمان صباها، ولكن ازدادت محبة للقرآن بسبب تعلق ابنتها به واتصالها به؛ فزادت هذا القرآن حباً لديها وتعلقاً به وإقبالاً عليه؛ ولذلك فقد كانت تعزيتها بعد موت ابنتها هذه هي هذا القرآن بين يديها؛ فهو تسلية وتعزية عن كل ما ينوب الإنسان من المصائب والمشكلات.

    والإنسان الذي يورث أولاده وأهل بيته محبة القرآن والاتصال به وتدبره وتفهمه فقد أورثهم غنىً لا ينفد أبداً؛ ولهذا على كل إنسان منا أن يحرص على أن يورث من حوله محبة القرآن والخوف منه؛ فهذا القرآن ينبغي أن يخاف منه الخوف الشديد؛ لأنه خصم الذين لا يعملون به يوم القيامة؛ كما قال أبو الدرداء : (إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله، ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني، فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرة فلم تأتمر به، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي). وقال أيضاً: (إن أخوف ما أخافه يوم القيامة أن يقال له: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟) فيحتاج الإنسان إلى الخوف الشديد من القرآن, وأن يأتي يوم القيامة ماحلاً مصدقاً عليه؛ فكل ذلك هو من العيش في ظلاله وتدبره.

    الاستفادة من آيات القرآن في حل المشكلات وإزالة أكدار الدنيا

    هذه الحياة الدنيا مليئة بالكدر والمشكلات، والإنسان فيها محتاج إلى ما يطهره من أقذارها وشئونها وأكدارها، وإذا أقبل على القرآن كان طهرة له، وبه يسمو عن أمور الدنيا؛ فلا يتعلق قلبه بشيء منها؛ لأنه أوتي ما هو خير من ذلك؛ ولهذا إذا قرأت إحدى النساء, وقد حرمت شيئاً من أمور الدنيا, قرأت في سورة النمل قصة سليمان عليه السلام فوصلت إلى قول الله تعالى: فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ[النمل:36]، لا يمكن أبداً إلا أن تفرح بما آتاها الله من الإيمان وفضله وهو القرآن؛ فقد قال الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[يونس:58]، ففضل الله هو القرآن ورحمته محمد صلى الله عليه وسلم، قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[يونس:58]، وقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:131-132].

    وإذا عاش الإنسان في وقت فتنة من الفتن أو شدة من الشدائد فقرأ في سورة الأعراف مثلاً قصة موسى عليه السلام حتى وصل إلى قوله تعالى: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ[الأعراف:155-157]، فهذه أبلغ تسلية وتعزية، وفيها تعامل الأنبياء مع الفتن, وكيف قال موسى عليه السلام: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ[الأعراف:155].

    ومثل ذلك إذا كان الإنسان في سراء، ونال بعض نعمة الله عليه فقرأ في سورة النمل قصة داود و سليمان حتى وصل إلى قول الله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ[النمل:16-19]، عرف كيف يتعامل الأنبياء مع النعم؛ فهذا نبي الله سليمان عليه السلام، الذي هو نبي ملك، أنعم الله عليه بأنواع النعم وعلمه منطق الطير وآتاه من كل شيء، وآتاه الفهم والعلم، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا[الأنبياء:79]، وسخر الله له الريح تجري به رخاءً حيث أصاب، غدوها شهر ورواحها شهر، وأسال الله له عين القطر، أي: النحاس، وآتاه من أنواع الخيرات ما آتاه؛ ومع ذلك تعظ هذه النملة هذه الموعظة فيتأثر بها سليمان عليه السلام، فيتبسم ضاحكاً من قولها، ويقول: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ[النمل:19].

    وإذا قرأ بعدها قصة الهدهد تعجب؛ فهذا المخلوق الصغير الضعيف، مع هذا يقول لنبي الله سليمان : أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ[النمل:22-24]؛ فيجد أن هذا المخلوق الضعيف العاجز مع هذا لديه غيرة على دين الله واهتمام به؛ فقد جن جنونه حين رأى شركاً، حين رأى قوماً يعبدونها من دون الله؛ فأراد تغيير حالهم وهو مستعد لحمل الرسالة إليهم، فحمل كتاب سليمان حتى ألقاه إلى ملكتهم؛ فهذه الإيجابية العجيبة في هذا المخلوق تقتضي منا نحن البشر الذين آتانا الله السمع والبصر والأفئدة وأنعم علينا بالعقول أن نحرص على الإيجابية وأن نكون منتجين، وأن نهتم بأمر الدين ونشره ونصره؛ كما اهتم به هذا الهدهد.

    كل هذه الأمور إذا عاش الإنسان في ظلال القرآن يتعلمها منه؛ فيكون في مدرسة لا انقضاء لمناهجها، ولا فترة في تعلمها، ولا تناقض في شيء من مقرراتها؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82]، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (عليكم بهذا القرآن؛ فإنه أحدث الكتب بالله عهداً، فيه خبركم وخبر ما قبلكم وخبر ما بعدكم).

    فهذا القرآن فيه تفصيل لكل ما نحتاج إليه من الأمور؛ فعلينا أن نعيش جميعاً في ظلاله وأن نعتني به وأن نتدبره وأن نقرأه جميعاً قراءة تأمل وتدبر، وأن نحكمه في حياتنا، وأن نكون من الذين يحكمون محكمه ويؤمنون بمتشابهه، ويطبقونه في النهار ويقومون به في الليل، وهؤلاء هم الذين ينتفعون بهذا القرآن؛ فيأتي يوم القيامة شاهداً لهم لا عليهم، ويأتي وتتقدمه البقرة وآل عمران كالغمامتين، يجادل عن صاحبه ويشفع له، ويقال لقارئ القرآن يوم القيامة: ( اقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية ترتلها )، فأولئك هم الذين يقرءون القرآن فيرقون به ولا يشقون، وهم الذين ينتفعون بشفاعته يوم القيامة فيشفع لهم، فيظلهم كالغمامتين في وصف البقرة وآل عمران، ويشفع لهم حتى يدخله الجنة.

    نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يقرأ القرآن فيرقى، وألا يجعلنا ممن يقرأ القرآن فيشقى، ونسأله أن يجعل القرآن حجة لنا لا علينا، وأن يجعله شافعاً لنا لا ماحلاً علينا، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وجلاء همومنا وغمومنا، اللهم علمنا منه ما جهلنا وذكرنا منه ما نسينا، واجعله لنا إماماً شافعاً، ولا تجعله علينا ماحلاً مصدقاً، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك يا أرحم الراحمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    765221504