الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد انتهينا من معاني فعِل بالكسر، ونصل الآن إلى معاني (فعلل) التي هي أول الأوزان، وقد أخرها ليجمعها مع (فعَل) بالفتح؛ لاشتراكهما في بعض المعاني، فقال:
وصوغ أولها مما يناسبه من اسم عين لمعنى كالأخير جلا
و(صوغ أولها) وهو فعلل بالفتح، وقد (أخره للجمع مع النظير)، الحسن هنا يقول: (وأخره للجمع مع النظير) يقصد: أخرته، لكن كأنه شارح، فعبر عن نفسه بضمير الغائب، وفي رواية أيضًا من الطرة: (أُخِّر للجمع مع النظير)، (أخر) فقط.
بدأ بما يتعلق ببناء فعُل؛ لأن الأبنية مقدمة على المعاني، فقال:
وصوغ أولها مما يناسبه من اسم عين لمعنى كالأخير جلا
يقول: إن فعلل تصاغ مما يناسبها، معناه: من اسم، تصاغ فعلل من اسم يناسبها، معناه: في الوزن، (في كونه رباعي الأصول، مجردًا أم لا)، معناه: سواء كان مجردًا، أو غير مجرد، فتصاغ منه فعلل، فالأصل أن الاسم الرباعي، سواء كان مجردًا من الزوائد، أو كان مزيدًا فيه، إذا كان أصله رباعيًا أصله على أربعة أحرف، يمكن أن تصاغ منه فعلل، فالمجرد مثل: (قمْطَر) بمعنى: عمل قِمطرًا، و(القِمطر): وعاء الكتب، فـ(قِمَطر) أليس اسمًا رباعيًا مجردًا من الزائد؟ بلى، فتصوغ منه فعلل، تقول: (قمْطَر) بمعنى: عمل قمطرًا، و(الغلصمة): هي الحجرة، فهي اسم رباعي، لكنه غير مجرد؛ لأنه التحقت به تاء التأنيث، فتصوغ منها فعلل، فتقول: غلصمه، بمعنى: أصاب غلصمته.
فلذلك قال: (مما يناسبه)، معناه: (من اسم عين) (يناسبه في كونه رباعي الأصول)، سواء كان (مجردًا أم لا)؛ دلالة على (إفادة معنًى من المعاني التي يذكرها قريبًا إن شاء الله) في هذه المعاني، (كالأخير)، معناه: كما أن الأخير كذلك، (الأخير): الذي هو فعل بالفتح، وهو الرابع من هذه الأوزان، (كذلك) معناه (يصاغ من اسم عين ثلاثي الأصول، سواء كان مجردًا أم لا؛ لإفادة معنًى) من هذه المعاني، كما سنبينه إن شاء الله في المعنيين اللاحقين، في قوله:
فاعمل به وأصب مع الأخير وخذ أنل به مفرداً تمرته نزلا
(جلا بالجيم)، معناه: (ظهر في لسان العرب)، أو (حلا) بالحاء بمعنى: (حلا في أفواههم)، معناه: سهل عليهم أن يقولوه، معناه: (وصوغ أولها) جلا، معناه: ظهر في لسان العرب مما يناسبه من اسم عين لمعنًى، (كالأخير)، أو (وصوغ أولها): حلا في أفواه العرب من اسم عين لمعنًى، (كالأخير): فرتب على هذا، هذا فيما يتعلق بصياغة فعلل وفعَل، أنهما تصاغان من اسم عين، فتصاغ منه فعلل؛ للدلالة على عمله، أو عمل به، أو إصابته، أو إصابة به، وتصاغ منه فعَل، للدلالة على عمله، أو عمل به، أو إصابة به، أو إصابته؛ فلذلك قال: (فاعمل به وأصب مع الأخير)، (فاعمل به) أي: الأول، وهو فعلل، والمقصود: (جئ به دالًا على عمل ما صيغ منه)، وذلك مثل: (قنطر) بمعنى: (عمل قمطرًا)، والقِمَطر: وعاء الكتب، ومنه قول الراجز:
ليس بعلم ما حوى القمطر ما العلم إلا ما حواه الصدر
ليست هي العلم، إنما العلم المحفوظ.
(ليس بعلم ما حوى القمطر)، معناه: وعاء الكتب، (ما العلم إلا ما حواه الصدر): وهو المحفوظ، وهذا مثل قول الشافعي:
علمي حيث ما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق
ومثل قول ابن حزم:
فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري
وكذلك (قرمص) فهي فعلل أيضًا، مصوغة من اسم عين وهو القرموص؛ للدلالة على عمله، و(القرموص): حُفْرة يستدفئ فيها الصرد في الشتاء إذا جاء البرد الشديد، سكان البادية الذين ليس لهم مأوًى، يحفرون حفرًا يستدفئون فيها، هذه تسمى القرموص، وقرمص بمعنى: اتخذها، ومنه قول الشاعر:
جاء الشتاء ولما أتخذ ربضًا يا ويح كفي من حفر القراميص
(وأصب)، معناه: (وجئ به دالًا على إصابة ما صيغ منه)؛ أي: (جئ) بفعلل (دالًا على إصابة ما صيغ منه)؛ لأننا ذكرنا أنه يصاغ من اسم عين للدلالة على معنًى، هذا المعنى إما العمل كما ذكرنا، وإما على إصابة ما صيغ منه، فالإصابة مثل: (غلصمه)، معناه: أصاب غلصمته، و(عرقبه)، معناه: أصاب عرقوبه، (وكإصابته إصابة به): هذه الإصابة، التي قلناه: (وأصب)، معناه: جئ به دالًا على إصابة ما صيغ منه، كذلك جئ به دالًا على الإصابة بما صيغ منه، (وكإصابته إصابة به)، معناه: أن فعلل تأتي مصاغة من اسم عين رباعي الأصول؛ للدلالة على الإصابة به، لا على إصابته، وهذا معنى قوله: (وكإصابته إصابة به): كإصابته في ذلك، إصابة به، كـ(قحزنه)، معناه: (أصابه بقحزنته)، والقحزنة: العصا، (وعرجنه) معناه: (أصابه بعرجونه)، والعرجون: هو سيف النخلة الذي يشبه السيف من أعواد النخل.
(مع الأخير): (مع) هنا للدلالة على المشاركة، والمقصود: أن الأخير الذي هو فعل بالفتح يشارك فعل في هذين المعنيين، وهما: (العمل، والإصابة)، معناه: (مع مشاركة الأخير فيهما؛ أي: العمل، والإصابة)، فتأتي فعَل للدلالة على العمل، على عمل ما صيغت منه، وذلك مثل: (بئر بئرًا) معناه: حفرها، (وعصد عصيدًا)، معناه: عمل عصيدًا، والعصيد: هو ما يستعمل بعد أكل التمر من النشا، والعرب إذا أكلوا التمر يستعملون بعده ساخنًا، وهذا الساخن يسمى عصيدًا، ومنه قول الراجز:
أعجبه السخون والعصيد والتمر حبًا ما له مزيد
هذا للدلالة على عمله.
قال: (وكـرآه وكلاه): الكاف هنا لتغيير الأسلوب، خرجنا عما كنا فيه، فقد كنا في العمل، وانتقلنا إلى الإصابة، فعبر عن ذلك بالكاف، في قوله: (وكرآه): (رآه) معناه أصاب رئته، (وكلاه)، معناه: أصاب كليته، ومنه قول الشاعر:
فكلَا بعضها وبعضًا رآه وانبرى في القفار كالمصباح
هو يصف حمار وحش، أو ثور وحش، أرسل عليه الصائد الكلاب، فجعلت تطرده، فلما أدركته كر عليها بقَرْنه، (فكلا بعضها)، معناه: أصاب كليتها، (وبعضًا رآه)، معناه: أصاب رئته، وانبرى في القفار كالمصباح.
(وعضده)، (عضده)، معناه: أصاب عضده، وهذه كلها فعل بالفتح، صيغت من اسم عين؛ للدلالة على إصابته.
قال: (ومن الملاحن أن تقول لمن بلغته مساعدتك عدوه: ما عضدته)، هذا نكتة ذكرها الحسن هنا، قال: (من الملاحن)، الملاحن: هي الكلام الخفي الذي يفهمه العقلاء، ولا يفهمه من سواهم، وهي من اللحن وهو الكلام الخفي المعنى، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحنا لي لحنًا أفهمه، ولا تفتا في أعضاد الناس)، (من الملاحن أن تقول لمن بلغته مساعدتك عدوه ما عضدته) إذا ساعدت عدوًا لإنسان، فغضب حين سمع ذلك، فأردت أن ترضيه، تقول: ما عضدته، وأنت تقصد ما ضربت عضده وهو سيفهمها: أن معناها أنك ما ساعدته، هذا من اللحن، معناه: من الكلام الخفي المعنى، لحن له لحنًا، معناه: قال له قولًا يفهمه، ويخفى على غيره.
(وكإصابته إصابة به): مثل ما ذكرنا من قبل في فعلل، كذلك في فعل تصاغ من اسم عين؛ للدلالة على الإصابة به لا على إصابته، وذلك مثل: (رمحه)، معناه: أصابه برمح، و(عصاه)، معناه: أصابه بعصًا، (وكعمله عمل له) يعني: أن فعل بالفتح تصاغ من اسم عين؛ للدلالة على قيام صاحب ذلك الاسم بعمل معروف له، وليس على الدلالة على العمل به، وذلك مثل: (كلبه الكلب) معناه: أصابه وعضه، (وبعضه البعوض) معناه: أصابه أيضًا؛ فلذلك قال: (وكعمله عمل له، كـنملته نملة، وكلبه الكلب، وبعضه البعوض)، (نملته النملة) معناه: لَسَعَتْه.
نحن نقصد أن يكون العمل للشيء نفسه، مثل: (كلبه الكلب) و(بعضه البعوض)، (نملته النملة)، (سبعه السبع).
(وخذ أنل بذا مفردًا تمرته نزلًا) يقول: وخذ بذا مفردًا وأنل بذا مفردًا، يقصد: أن فعل بالفتح يأتي مفردًا عن الأول، معناه: مما يختص بفعَل من المعاني، أنها تأتي للأخذ، وتأتي للإنالة، وهذان معنيان تنفرد بهما فعَل عن فعلل، فقد سبق العمل والإصابة، وذكرنا أنهما لفعلل وفعل، وأما الأخذ والإنالة، فإنهما من معاني فعل، وليسا من معاني فعلل؛ فلهذا قال: (وخذ أنل بذا مفردًا)، معناه: (وخذ وأنل بذا الأخير) الذي هو فعل (مفردًا عن الأول)، فيهما؛ أي: الأخذ والإنالة، (فالأول)- وهو الأخذ- (كثلث المال إلى عشره)، تقول: ثلث المال، معناه: أخذ ثلثه، وربعه؛ أي: أخذ ربعه، وخمسه: أخذ خمسه، وسدسه: أخذ سدسه، وسبعه: أخذ سبعه، وثمنه: أخذ ثمنه، وتسعه: أخذ تسعه، وعشره: أخذ عشره؛ فلذلك قال: (كثلث المال إلى عشره).
(وهي كنصر إلا حلقيها فعلى القياس): هذه الأفعال كلها كنصر؛ أي أن مضارعها بالضم، فتقول: ثلث المال يثلثه، وخمسه يخمسه، وسدسه يسدسه، وثمنه يثمنه، وعشره يعشره، (إلا حلقيها)، معناه: إلا ما كان حلقيًا منها، معناه: لامه حرف حلق، وهو ربع، وسبع، وتسع، فهذه الأفعال الثلاثة مضارعها بالفتح، فتقول فيها: سبعه يسبعه، وربعه يربعه، وتسعه يتسعه؛ لأن حرف الحلق جانب من جوانب الفتح في المضارع، في (فعَل) بالفتح كما سيأتي؛ فلذلك قال: (وهي كنصر إلا حلقيها فعلى القياس)، والقياس سنذكره إن شاء الله؛ لأن الحلقي قياسه الفتح.
قال: (وكخصاه وقلب النخلة)، (وكـ): الكاف هنا لتغيير الأسلوب، قلنا في الأخذ، معناه: أخذ جزء شاع من الشيء مثل: ثلثه، وربعه، لكن قد يكون الأخذ لعضو من أعضاء الشيء، مثل: خصاه، وكذلك: (قلب النخلة)، معناه: أخذ قلبها، (وقلب النخلة): هو ما يكون في مكان التفرق إلى أغصانها في داخل جذعها، فإنه يكون فيه لب أبيض لين، فيه حلاوة، وهو رأس النخلة، وقلب النخلة، وإذا أخذ ماتت، ويأكله الناس في أيام الجوع، فينحرون النخلة، ويأخذون منها هذا القلب الذي يشبه الشحم، فيأكلونه في أيام الجوع، (قلب النخلة): وهذا القلب هو الذي يسمى بالجمَّار، وفي حديث ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بجمار، فقال: إن من الشجر شجرة لا يتحات ورقها، أنها مثل المؤمن، فما هي؟ فوقع في قلبي أنها النخلة، وضرب الناس في الشجر البوادي).
والثاني كقوله: (تمرته نزلًا)، والثاني: وهو الإنالة، المعنى الثاني وهو الإنالة، مثل: (تمرته نزلًا)، معناه: أنلته تمرًا، (نزلًا): والنزل ما يقدم للضيف عند نزوله، ومنه قول الشاعر، وهو طفل صغير من العرب يخاطب أمه، يريد عشاءه:
يا أم يا أم نادي راعي الإبل فقد تأخر عن أوقاته نزلي
خير العطية ما كانت معجلة وأكرم الناس من يعطي على عجل
حكيم هو.
فيقال: (تمَره) معناه: أناله تمرًا، و(لبَنه) معناه: أناله لبنًا، و(لحَمه) معناه: أناله لحمًا، ومنه قول كعب بن زهير رضي الله عنه:
يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما عيشهما لحم من القوم معفور خراديل
ويقال: (لبَنه) معناه: أناله لبنًا، ومنه قول الشاعر:
إذا نحن لم نقر المضاف ذبيحة تمرناه تمرًا أو لبناه راغيا
(تمرناه تمرًا) معناه: أنلناه تمرًا، (أو لبناه راغيًا) معناه: أنلناه لبنًا راغيًا.
(يلحم ضرغامين) معناه: ينيلهما اللحم.
(ثم استطرد ذكر بعض معاني فعل المصوغ من اسم المعنى)، فقال: (استطرد) يقصد نفسه في (ذكر بعض معاني فعل المصوغة من اسم المعنى، فقال:
واجمع وفرق واعط وامنعن وفه واغلب ودفع وإيذاء به حصلا
بدأ يعد معاني (فعل) بالفتح المصوغة من اسم المعنى، وقد كنا ذكرنا (فعل) المصوغة من اسم العين، فالعمل، والإصابة، والأخذ، والإنالة، هذه المعاني الأربعة من معاني فعل المصوغة من اسم العين؛ لأنها تشترك مع فعلل في أنها تصاغ من اسم العين كما ذكرنا، والاسم كله ينقسم إلى هذين القسمين: إما اسم عين، وإما اسم معنًى.
فمن معاني فعل المصوغة من اسم المعنى، وهذا الأكثر في الأفعال كلها، أن تصاغ من اسم المعنى، أما صياغتها من اسم العين فهي قليلة، مثلما سنذكر.
فعل المصوغة من اسم المعنى من معانيها الجمع، وهو المشار إليه بقوله: واجمع، وذلك مثل: (جمع)، و(نظم) و(وعى)، كلها بمعنى الجمع، وكلها على وزن فعل بالفتح، (وفرق)؛ أي: إن من معاني فعل بالفتح المصوغة من اسم المعنى التفريق، وهو المشار إليه بقوله: (فرق)، وذلك مثل: (فرَق) و(فصَل) و(قسَم) كلها للدلالة على التفريق، لكن الفرق بين (فرق) ما هو؟ أن (فرَّق) في الحسيات وفَرِق في المعنويات، فيقال: الفرق بين المعنيين، ويقال: التفريق بين الحسيين، التفريق بين الزوجة وزوجها: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ[البقرة:102]، لم يقل: ما يفرُقون به، لكن الفرق معناه: أن تفرق بين الشيئين المعنويين، تحس الفرق بينهما، كما قال الشاعر:
دقيق الفرق بين المعنيين
هذا فرق لا فريق.
وفصل بينهما فصلًا، وقسم الشيء، يقسمه، قسمًا أيضًا، كل ذلك يدل على التفريق، (وأعط)؛ أي: جئ بفعل دالة على العطاء، فهو من معانيها الإعطاء، وذلك كـ(منح) و(نحل) و(وهب)، كلها على وزن فعل بالفتح، وكلها بمعنى الإعطاء، (منحه) معناه: أعطاه، و(نحله) معناه: أعطاه، و(وهبه) معناه: أعطاه.
وامنع عنا؛ أي: إن من معاني فعل بالفتح أنها تدل على المنع.
نعم، كـ(منع) و(حول) و(حظر) و(حرم) وغيرها من فعل، (حوله) و(حظره) كلها بمعنى المنع، فـ(حظره) معناه: جعله في حظيرة؛ فمنعه من الخروج، وكذلك حوله، معناه: منعه أيضًا من الخروج، منعه من أي شيء، وقول الشاعر:
ولن ترى بعلًا ولا حلا إلاكه ولاكهن إلا حاولا
أي: مانعن لهن من الخروج.
(وفه)؛ أي: من معاني فعل بالفتح المصوغة من اسم المعنى الدلالة على النطق، وذلك مثل: (نطق) و(صرخ) و(بكى) و(صاح) وغيرها من المعاني كلها، على وزن فعل بالفتح.
(واغلب): يقصد أن من معاني فعل بالفتح الدلالة على الغلبة، وذلك كـ(غلب) و(قهر) و(قسر) كلها بمعنى: غلب، كلها للغلبة.
(ودفع وإيذاء به حصلا): دفع حصل به؛ أي: إن فعل بالفتح أيضًا تدل على معنى الدفع، وذلك مثل: (دفع) و(درأ) و(كف)، كلها بمعنى: الدفع، (دعه) و(دفعه) و(وكزه) و(كفه) كلها بمعنى الدفع، وكلها على وزن فعل بالفتح.
(وإيذاء به حصل)؛ أي: إن فعل أيضًا تدل على الإيذاء، وذلك مثل: (لسع) و(لدغ) و(لذع)، فكلها على وزن فعل بالفتح، فلسعه: بمعنى آلمه، ولدغه: إذا كان من ذوات السموم، ولذعه معناه: بالنار.
(إعجام الحرفين مهمل كإهمالهما): وإعجام الحرفين وهما: الدال، والعين، مهمل إعجامهما، أن تقول: لذغ، هذا مهمل في لسان العرب، لا يوجد في لغة العرب، كإعجامهما، إهمال الحرفين مهمل كإعجامهما، لا يعجم الحرفان، ولا يهملان، ولا يقال: لدع، ولا يقال: لذغ، كل ذلك مهمل في العربيَّة، إذا نقطت الأول فأهمل الثاني، وإذا أهملت الأول فانقط الثاني، هذا يقول فيه السيوطي:
ولدغ لذي سمي بإهمال أول وللنار بالإهمال للثان فاعرفا
وزنه قبيح.
والاهمال في كل كالإعجام فيهما من المهمل المتروك حقًا بلا خطأ
هذا نفس المعنى ... محمد البابا بقوله:
في لذعنا يهمل التالي فقط بعكس ذي سم فيهمل الوسط
وفي اللسان ورد وما سمع إهمال أو إعجام كل فاتبع
به تحول وحول واستقر وسر واستر وجرد وأصلح وارم من نبلا
(به تحول)، يقول: إن فعل تأتي أيضًا للدلالة على التحول، وذلك مثل: (رحل) و(ذهب) و(مضى)، كلها بمعنى: التحول من مكانه، (رحل) و(نزح) و(شل) عن مكانه، بمعنى: ارتحل، ومثل ذلك: (ذهب) و(مضى)، كلها بمعنى الخروج، خرج أيضًا، هذا من معاني فعل بالفتح، (وحول): كذلك من معاني فعل بالفتح أنها تدل على التحويل، وذلك مثل: (قلب الشيء)، و(صرفه)، و(نسخ الكتاب) معناه: نقله من مكانه و(نقل الشيء)، كلها بمعنى التحويل، (واستقر)؛ أي: جئ بفعل بالفتح دالة على الاستقرار، فهو من معانيها، وذلك مثل: (سكن) و(قطن) و(عدن) و(ثوى)، كلها بمعنى واحد: الاستقرار، (عدن) بمعنى: استقر في المكان، ومنه: جَنَّاتِ عَدْنٍ[التوبة:72]، الخلود: الدوام.
(وسر): كذلك تأتي فعل بالفتح للدلالة على ضروب السير، مثل: (رسم) و(ذمل) و(جمز)، كلها ضروب من السير، (الرسيم)، و(الذميل) و(الجميز) ونحوه، كلها ضروب من السير، (جمز) أيضًا: ضرب من السير.
(واستر): كذلك من معاني فعل بالفتح أنها تدل على الستر، وذلك مثل: (ستر) و(حجب) و(خبأ) ونحوها، كلها تدل على الستر، (وجرد): من معاني فعل أنها تدل على التجريد، وهو ضد الستر، فكثير من هذه المعاني متعارضة مثل: (واجمع) و(فرق) و(أعط) و(امنع عنا) و(تحول) و(حول) و(استقر) و(سر) و(استر) و(جرد)، فالتجريد، مثل: (سلخ) و(كشط) و(قشر) ونحوها، كلها من فعل بالفتح، (سلخ الجلد) معناه: أزاله عن صاحبه، و(كشطه) كذلك، و(قشر القشرة)، كلها بمعنى: التجريد.
(وأصلح): كذلك من معاني فعل بالفتح أنها تدل على إصلاح الشيء، مثل: (نسج الثوب)؛ لأن هذا من إصلاحه، ومثل: (رفأه) معناه: أصلح الشق الذي فيه، ومثل: (خاطه) معناه: أصلحه كلها بمعنى: الإصلاح، كـ(نسج) و(رفأ) و(خاط) ونحوها.
(وارم من نبلا)؛ أي: إن فعل بالفتح تدل أيضًا على الرمي، فمن معانيها الرمي، (من نبلا) معناه: من رماك بنبل، وذلك مثل: (خذف)، الخذف هو: الرمي بين الأصابع، و(قذف) معناه: رمى أيضًا، سواء كان ذلك برمي حسي، أو رمي معنوي، ومنه: القذف في الأنساب، و(رجم) كذلك، و(نبل) معناه: رماه بالنبل؛ إذًا هذه معاني فعل بالفتح، وذكرها استطرادًا بعد أن دخل في الكلام على ما تجتمع فيه هي وفعلل، مع أن هذه المعاني لا تشترك فيها فعلل مع فعل؛ فلهذا قال: (فما استطرد في ذكر معاني فعل المصوغة من اسم المعنى).
قال:
وبالمقدم حاك واجعلن وبه أظهر أو استر كـ(قرمدت البناء طلا)
يقول: (وبالمقدم): الذي هو فعلل، (حاكِ)؛ أي: جئ بفعلل دالًا على محاكاة ما صيغ منه لما نسب إليه، أن يكون ما صيغ منه محاكيًا لما نسب إليه، فاعلًا كان كـ(علقم طبعه)، علقم طبعه، معناه: كان كالعلقم، فما نسب إليه هنا محاك لما صيغ منه؛ أي هنا غلط في الطباعة، فجيء به دالًا على محاكاة ما نسب إليه لما صيغ منه، تقديم وتأخير، على محاكاة ما نسب إليه لما صيغ منه، (علقم طبعه)، فالطبع هو الذي يحاكي العلقم، والطبع هو الذي نسب إليه الفعل، والعلقم هو الذي صيغ منه الفعل، فإذا كان الإنسان مرير الطبع، يقال: (علقم طبعه)، صار كالعلقم، هذا إذا كان فاعلًا، أو إذا كان مفعولًا كـ(عقربت المرأة الصدغ)، معناه: لوته حتى صار كذنب العقرب؛ فالصدغ هنا مفعول وليس فاعلًا مثل الطبع، و(عثكلت الشعر) معناه: أرسلته كالعثكول.
قال: (وبه) يقصد وفعلل؛ أي: إن من معاني (فعلل) الدلالة على الفعل؛ أي: جعله في شيء، كـ(نرجس دواءه) معناه: جعل فيه النرجس، و(زعفره) معناه: جعل فيه الزعفران، (زعفر طعامه) معناه: جعل فيه الزعفران، و(فلفله) معناه: جعل فيه الفلفل، و(كزبره) معناه: جعل فيه الكزبرة، فتصاغ فعلل من اسم العين للدلالة على جعله في الشيء.
(وبه أظهر أو استر)، يقول: إن (فعلل) أيضًا تدل على الإظهار والستر، فالأول كـ(برعمت الشجرة)، و(عسلجت) معناها: أظهرت البرعوم والعسلوج، العسلوج هو: ما لان واخضر من الشجر في بداية النبات، فيكون لينًا سهلًا في بداية نباته، فهذا للإظهار. أما العثاكيل: فهي التي تخرج من الشجر عندما تثمر.
والثاني كقولك: قرمدت البناء طلا، وهذا هنا فيه خطأ أيضًا، وفيه إضافة هذه، كقوله ليست من الطرة، والتالي (كقرمدت البناء طلا)، الكاف هنا التي بعدها قوله: (قرمدت البناء طلًا) معناه: سترته بالقرمد، (طلاء)، (طلًا) معناه: طلاءً، معناه: جعلته طلاءً له، والقرمد بالفتح هو: الطلاء الأبيض، هذا الطلاء الأبيض يسمى القرمد بالفتح، ومنه قول طرفة:
كقنطرة الرومي أقسم ربها لتكتنفن حتى تشاد بقرمد
معناه: حتى تطلى بالقرمد، وهو الصبغ الأبيض.
وبرقعتها، معناه: ألبستها البرقع، وهو ما تستر المرأة به وجهها، وسربلته، معناها: ألبسته السربال، وهو ما يستر الرجل به كتفيه وظهره، ومنه قول لبيد رضي الله عنه:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وقول الله تعالى: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ[إبراهيم:50]، نسأل الله السلامة والعافية.
و(سردقت البيت) معناه: جعلت له سرادق، وهذا في المظلات التي تبنى، فيجعل لها السرادق، وهو ما يحجز بعضها عن بعض، ومنه قول الشاعر:
هو المنزل النعمان بيتًا سماؤه نحور الفيول بعد بيت مسردق
يصف كسرى، يقول: إنه هو المنزل النعمان بن المنذر، بيتًا سماؤه نحور الفيول بعد بيت مسردق، فإن كسرى أخذ النعمان، فوضعه للفيول حتى وطئته بأخفافها فقتلته، وهذه شر قتلة، بعد أن كان ملكًا يسكن في البيوت المسردقة، أسكنه كسرى بيتًا سماؤه نحور الفيول، وسقفه نحور الفيول، بعد بيت مسردق.
ولاختصار كلام صيغ منفرداً من المركب بسمل إن وبا نزلا
يقول: وصيغة الأول الذي هو (فعلل) حال كونه منفردًا عن الأخير في ذي الخمسة، هذه المعاني الخمسة انفرد فيها عن الأول، وهي: المحاكاة، والجعل، والإظهار، والستر، واختصار الكلام، فهذه المعاني الخمسة انفرد بها (فعلل) عن (فعل)، كما أن (فعل) انفرد عنه أيضًا بما سبق.
و(صيغ منفردًا) وصيغ (فعلل) حال كونه منفردًا، (لاختصار كلام)، معناه: للدلالة على اختصار حكاية كلامه من المركب، فتصاغ (فعلل) هنا من المركب؛ وعلى هذا تعلم أن (فعلل) إما أن تصاغ من اسم عين- مثلما سبق- وإما أن تصاغ من المركب، من الجملة، فتصاغ منها مثل: (بسمل) هذه ليست مصوغة من اسم عين، ولا من اسم معنًى، وإنما هي مصوغة من جملة معناها: قال: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لذلك قال: من المركب.
(بسمل إن وبًا نزل)، قل: بسم الله الرحمن الرحيم إن نزل وباء، وهذا مثال للمقصد (بَسْمِل)، هذا فعل أمر من (بسمل) التي هي (فعلل)، وهذا المقصود، فهي للدلالة على اختصار الكلام، اختصار حكاية الكلام، (إن نزل وبًا)، معناه: وباء، كذلك (حسبِل) من (حسبَل)، و(سبحِل)، معناها: قل: سبحان الله أيضًا كذلك، و(حوقِل) من حوقَل، و(حيعِل) معناها: قل: حي على الصلاة، أو حي على الفلاح، كلها تسمى الحيعلة.
قال:
لقد بسملت هند غداة لقيتها فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل
هذا من شعر عمر بن أبي ربيعة، فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل، معناه: الذي قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا هو المنحوت؛ لأن الفعل صيغ من جملة.
قال:
فبان مما ذكرنا أن بينهما وجهي عموم وتخصيص لمن عقلا
فبان مما ذكرنا أن بينهما: أن بين (فعل) و(فعلل)، (وجهي عموم وتخصيص لمن عقلا): أن النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص الوجه، فيشتركان في العمل والإصابة، وتنفرد (فعل) بالأخذ، والإنالة، والجمع، والتفريق، والإعطاء، والمنع، والنطق، والغلبة، والدفع، والإيذاء، والتحول، والتحويل، والاستقرار، والسير، والستر، والتجريد، والإصلاح، والرمي، وتنفرد (فعلل) بالمحاكاة، والجعل، والإظهار، والستر، والاختصار؛ فإذًا يشتركان في شيء، وتنفرد كل واحدة منهما في شيء، وهذا معنى نسبة العموم والخصوص؛ لذلك قال: (فبان مما ذكرنا أن بينهما)؛ أي: بين المقدم والأخير؛ لأن المقدم الذي هو (فعلل)، والأخير الذي هو (فعل)، (وجهي عموم وتخصيص لمن عقلا)، بمعنى: عقل هذا واستوعبه.
الاختصار، ذكرنا أنه تصاغ (فعلل) من جملة للدلالة على اختصار الكلام مثل: (بسمل) و(حسبل) و(سبحل)، (حوقل) و(حيعل)، كلها للاختصار.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر