بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد أقسم في كتابه أحد عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه، وعلى خسران من دساها، وأهملها، فقال جل من قائل: بسم الله الرحمن الرحيم: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:1-10].
إن هذه الأقسام كلها من رب العزة مؤذنة بأهمية هذا الأمر والعناية به، فالله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من خلقه، على من شاء، وإذا أقسم بشيءٍ من خلقه، دل ذلك على عظمة ذلك الخلق المقسم به.
وقد أقسم هنا بهذه الشمس التي جعلها الله آية من آيات وحدانيته، وملكه لهذا الكون، وميزها عن غيرها من الكواكب المحيطة بها، بهذه الحرارة الشديدة، حيث تبلغ درجة الحرارة على سطحها ما يقارب أربعة عشر مليون درجة حرارية، وأقصى ما يمكن أن تبلغه درجة الحرارة على هذه الأرض أن تتجاوز الخمسين بدرجتين أو ثلاث، والشمس تصل إلى أربعة عشر مليون درجة حرارية، وهي مع ذلك عقيرة في النار يوم القيامة، وقبل ذلك يكورها الله فيجعل ظهرها قبالة بطنها، وظهرها أحر من بطنها، فتكون كالميل في المحشر يوم القيامة.
ثم أقسم بعد ذلك بضحاها: وهو انتشار ضوئها، فإن الشمس إذا كانت تحت الأفق بثماني عشرة درجةً يطلع الفجر، فإذا تعالت فوقه بثماني عشرة درجة ينتشر ضياؤها، ويقع الإشراق المبيح للنفل عندما تصل إلى قدر الرمح، وهو قيد اثنا عشر شبراً من الوسط.
ثم بعد ذلك قال: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس:2]، فهذا القمر العظيم الذي هو أيضاً خلق من خلق الله، وآية من آيات وحدانيته، يتصرف في هذا الفلك طلوعاً وأفولاً وزيادةً ونقصاً، وإذا بلغ تمامه بدأ في النقص، وهذا دليل على عظمة تدبير الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، وأخر القمر عن الشمس؛ لأن الشمس أعظم منه، فهذه الأرض كلها قدر الربع من الشمس تقريباً، وبعد ذلك فإن هذا القمر أيضاً تدبيره في تصرفه في الأفق، زيادةً ونقصاً وطلوعاً وأفولاً هو مثل عمر الإنسان، يبدأ بالضعف والصغر، ثم يتنامى حتى يصل إلى التمام، ثم يبدأ في النقص ويصل إلى الضعف والشيبة، ولذلك روي عن علي رضي الله عنه، أنه لما رأى الهلال قال: " أيها الخلق المتردد في منازل التقدير"، أي: في هذه المنازل، وهي ثماني وعشرون منزلة، كل منزلة ثلاث عشرة ليلة، إلا إذا كانت السنة كبيسة، تزيد منزلة واحدة يوماً واحداً، "والمتصرف في فلك التدبير: المتصرف، أي: الذي يطلع ويغرب ويذهب وينقص ويزيد، والمتصرف في فلك التدبير، أي: في هذا الفلك الذي دبره الله فجعله على الأبراج الاثني عشر، وفي هذه المنازل الثمانية والعشرين.
"والمتصرف في فلك التدبير، آمنت بمن نور بك الظلم، وأسفر بك البهم، وجعلك آيةً من آيات وحدانيته، وعلامات من علامة سلطانه، وامتحنك بالزيادة والنقصان، والطلوع والأفول، والإنارة والكسوف، وفي كل ذلك أنت له مطيع، وإلى أمره سريع، فسبحان الذي خلقك وخلقني وقدرك منازل".
ثم بعد هذا قال: إِذَا تَلاهَا [الشمس:2]، أي: إذا جاء هذا الشمس، جاء القمر بعد الشمس، فإن الله سبحانه وتعالى يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، فلا يمكن أن يدرك القمر الشمس، مع أنه يسير سيراً حثيثاً في أثرها، لكن لا يمكن أن يجتمعا إلا عند طلوع الشمس من مغربها عندما يجمعهم الله عز وجل، بعد أن تحبس الشمس ثلاثاً وتؤمر أن ترجع من حيث أتت، فتقترن بالقمر إذ ذاك إذا تلاها.
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا [الشمس:3]، أقسم أيضاً بالنهار إذا جلى الشمس فأظهرها، فإن الشمس إنما تتضح إذا تربعت في وسط السماء، وهذا هو النهار، عندما يبهر ضوؤها الأشياء، وهذا وقت انكشاف الأشياء كلها وظهورها، فقد جعل الله سبحانه وتعالى الليل ظلاً؛ لأن الشمس يحول بينها وبين الأرض سواها من الأجرام فيعلوا هذه الأرض الظل، وتحتجب الشمس، وقد جعل الله الشمس علامة على الظل، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا [الفرقان:45-46].
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس:4]، ثم أقسم بهذا الليل العظيم الذي يغشاها فيسترها، ويحجبها وهو الظل المستمر، وهذا الليل كما قال مالك رحمه الله: خلق عظيم، فهو كافر ما فيه، أي: ساتر له .
ثم بعد ذلك قال: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5]، فهذه السماء التي هي سقف مرفوع، بناها الله سبحانه وتعالى ورفعها من غير عمد، وجعل هذه السماء سطحاً لهذه الدنيا السفلية، وظلاً لها، فجعل كل ما في هذه الدنيا داخلاً تحت ظل السماء، وقد جعل الله السماء سبعة طرائق، كل واحدة منها عرضها خمسمائة عام للحجر الصلد الهاوي، وما بين كل سماءين، كذلك أي مسيرة خمسمائة عام للحجر الهاوي، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام للحجر الهاوي، ومع ذلك فهذه السموات السبع في الكرسي كسبعة دراهم في ترس، والترس الذي يتوقى به النبل، والكرسي في العرش، كحلقة في فلاة، فهذا يدل على عظمة عرش الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقبض هذه السموات السبع والأرضين السبع بيمينه، فيهزهن ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ويجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والبحار على إصبع، والأشجار على إصبع، والحيوانات كلها على إصبع، يوم القيامة، فهذا هو تمام العظمة.
ثم بعد ذلك قال: وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا [الشمس:6]، فهذه الأرض أيضاً خلق عظيم من خلق الله، جعلها مهاداً كفاتاً أحياءً وأمواتا، فجعل ظهرها مستقراً للإحياء، وسخر فيه من الهواء والماء والنبات والغذاء ووسائل العيش كلها ما يحتاج إليه سكانها، وجعل بطنها كذلك كفاتاَ للأموات، فهم يقبرون فيه، وهي تستر ما في بطنها، ثم بعد ذلك يقبضها الجبار بيمنيه يوم القيامة، يتكفأها كما يتكفأ أحدكم خبزته نزلاً لأهل الجنة، وتتبارك الأرض حينئذٍ ببركة يمين الجبار سبحانه وتعالى، فتكون خبزة يرثها أهل الجنة، فهم الذين يرثون الأرض، كما بين الله ذلك في كتابه وكتبه في الزبور من بعد الذكر، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].
فهذه الأرض العظيمة يكفي من عظمتها أنها نزل أهل الجنة، وأن الجبار سبحانه وتعالى يخبزها كما يتكفأ أحدكم خبزته بيمنه، فيجعلها نزلاً لهم، وقد جعلها الله سبحانه وتعالى مهاداً للناس، بما سخر فيها من السبل والطرق، وبما رفع فيها من الجبال، وبما أغار فيها من الأودية، وبما رفع فيها كذلك من التلال، وجعل تدبير الرياح عليها تابعة لتضاريسها، وجعل الحر والبرد، كذلك الوافدان إلى هذه الأرض، لا يفدان إليها بصورة غزو ماحق؛ لأن ذلك مهلك لشئون الحياة التي عليها، فلو جعلت الأرض سطحاً مستوياً لأهلك أهلها ما يفد إليها من حرارة الشمس وأشعتها، ولأهلكهم ما يفد إليها من برد الكواكب الأخرى، عندما تقترب من الأرض، لكن الله جعل فيها هذه التلال وهذه الجبال، وهذه الأودية، ليكون الحر والبرد بقدر، يأتي البرد في وقت الشتاء، ويأتي الحر في وقت الصيف، وكل ذلك بتدبير الحكيم الخبير.
ثم بعد هذا قال: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، هذا قسم آخر بأمر عظيم من خلق الله، وهو أنفس البشر، فإن هذه الأنفس، وهي أقرب شيء إليك، تعرج وتستقر وتفهم وتقبل وتدبر وتعرض، ومع ذلك أنت مؤمن بها جازم بوجودها، ولا تراها، ولا تحس بها، بل لا تبحث أصلاً عن كيفها، وهذا أمر عجيب جداً، ودليل من أدلة وحدانية الله، فكما تؤمن بالله سبحانه وتعالى بنفسه وبصفاته، وتؤمن باتصافه بصفات الكمال، وأنت تعلم أنه لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وتعلم أن الأوهام لا يمكن أن تصل إلى كنهه، فإن دليلك على ذلك هذه النفس التي بين جنبيك، وأنت لا تبحث عن ماهيتها، ولا عن كيفيتها، ولا عن لونها، وما وجدنا أحداً في ما مضى من الدنيا يحاسب نفسه عن طولها وقصرها، ولونها وفخامتها وسمنها، ونحافتها، لا أحد يبحث عن نفسه، وهو مؤمن بها جازم بها، لكنه لا يبحث عنها لعلمه بقصور نفسه وقصور عقله، وتصوره عن إدراك ذلك، وكان الأولى بالإنسان كله أن يقف دون التفكر في ذات الله، كما يقف بالأولى دون التفكر في ذاته هو وصفات هذه الروح، لكن الشيطان هو الذي يجعله يتفكر فيما لا يبلغه، ولا يصل إليه علمه بحال من الأحوال، ولو أدرك الإنسان أمر نفسه، وهي أقرب شيء إليه، لعرف عجزه الكامل عن تصور ذات الله وصفاته، وأنه لا ينبغي أن يشتغل أصلاً بالتفكير فيما هنالك، كما لا يتفكر في نفسه هو وصفاتها، ولهذا قال ابن أبي زيد رحمه الله: "يعتبر المتفكرون بآياته، ولا يتفكرون في ماهية ذاته"، يقفون دون التفكير في ماهية ذات الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن تبلغه أوهامه، ولا عقولهم.
وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، فهذه تسمية عجيبة أيضاً، تستحق التنويه بها، فكل نفس لها بصماتها الوراثية المختصة، وهي مناسبة لبدنها، فكل بدن من الأبدان التي ترون على اختلاف درجاتها، طولها، وعرضها، واستقامتها، وعوجها، وألوانها، وضخامتها، وصغرها، روحها، روح ذلك الجسم مناسبة له، ولو جعلت في غيره لما كان وعاءً لها مناسبا، وهذه الأجسام أيضاً جعلت على هذا التقويم العجيب، فالعينان متساويتان والأذنان متساويتان، والمنخران متساويان، والشفتان على الطبق، والأسنان متقابلة، والذراعان واليدان والرجلان، والفخذان والساقان، كل ذلك على السواء، فهذا هو إحكام التقدير، والتسوية: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7].
ثم بين بعد ذلك ما يتعلق بإدراك النفس، فقال: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [:8]، إن الهداية والإيمان ليس مما يمكن أن يصل إليه الإنسان بقناعته، أو يدركه عن طريق الوراثة، أو يصل إليه بما يرى من المغريات، أو من وسائل الضغط، بل لا يمكن أن يؤمن إنسان، إلا إذا وهبه الله الإيمان، فالإيمان منحة ربانية يهبها الله لمن يشاء من عباده، ويمنع منها من يشاء، فكثير من الناس رأوا الآيات البينات، ومع ذلك لم يؤمنوا، فبنو إسرائيل الذين شاهدوا رفع الجبل فوق رؤوسهم، ورده إلى الأرض، وشاهدوا كذلك المائدة تنزل أربعين يوماً، لا يطلب أحد طعاماً إلا وجده فيها ثم ترتفع، وشاهدوا التابوت تحمله الملائكة فيه بقية مما ترك آل موسى، وآل هارون، وشاهدوا ميلاد عيسى من غير أب، وكلامه في المهد، وشاهدوا إحياءه للموتى، وإبراءه للأكمه والأبرص، ومع ذلك لم يؤمنوا وكانوا قوماً بهتاً، فدل هذا على أن الإيمان لا يكون إلا منحة ربانيةً يهبها الله لمن يشاء، ولهذا قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:109-111]، وكذلك قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100]، فالذين لا يهديهم الله يصرفهم عن الآيات، ولو شاهدوها ورأوها، فلذلك قال: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8]، فالاستقامة على طريق الحق، والميل عنه لا يكونان إلا بالإلهام، فالله سبحانه وتعالى من علم فيه الخير يرشده إلى هذا الخير، ويهديه هداية التوفيق.
والهداية تنقسم إلى قسمين:
إلى هداية إرشاد، وهداية توفيق.
أما هداية الإرشاد: فهي إقام الحجة على الإنسان بتعليمه طريق الحق، كإقامة الحجة على الناس بإرسال الرسل، فهذه هداية توفيق، وقد أثبتها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52-53]، وهي التي بين أنه هدا إليها ثمود قال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17].
وأما هداية التوفيق: فهي إلهام الهداية، وأن يأخذ الله بناصية العبد إلى ما يرتضيه منه، فلا يستطيع الميل يميناً ولا شمالاً أصلاً، ولا يفكر في ذلك، فهذه الهداية: هي التي نسألها الله في صلاتنا، فنقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهي التي نفاها الله، نفى الله القدرة عليها عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، فالهداية المثبتة للنبي صلى الله عليه وسلم هي هداية الإرشاد، والهداية المنفية عنه القدرة عليها هي هداية التوفيق.
ثم بين سبحانه وتعالى المقسم عليه، فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، هذا المقسم عليه، وهو فلاح من زكى نفسه، والفلاح معناه: صلاح الأمر كله دنيا وأخرى، واستقامة وثباتاً ورسوخا، فالفلاح مقتضٍ لحصول العلم بما يريده الله، ولحصول العمل على وفق العلم، ولحصول الدعوة، ولحصول الصبر، وهذه الأمور الأربعة هي خطة المسلم في حياته، فالمسلم المستقيم، هو الذي يقسم وقته في هذه الأمور الأربعة:
أولاً: تعلم ما أمر الله بتعلمه.
ثانياً: العمل بمقتضى ما تعلمه في أمور دينه ونياه، وأخلاقه وعبادته ومعاملاته.
الثالث: الدعوة إلى ما تعلمه وعمل به؛ لتحقيق قناعته التي أيقن بها.
الرابع: الصبر على طريقة الحق حتى يلقى الله.
ولذلك تضمنتها سورة العصر التي قال فيها الشافعي : "لو لم ينزل من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم إلا سورة العصر لكفت حجة على الناس" ، فقد قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:1-3]، ولا يتم هذا إلا بتعلم ما أمر الله به، بأن الإيمان لا يكون إلا على وفق ما أنزل الله به الوحي، فلا يمكن أن يدرك الإنسان ما يؤمن به، دون تعلم هذا الوحي، ثم قال: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:3]، وهذا العمل، ثم قال: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [العصر:3]، وهذه الدعوة، ثم قال: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، وهذا الصبر على هذا الطريق.
وهي كذلك وصية لقمان لابنه، كما بين ذلك ربنا سبحانه وتعالى بقوله: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، ثم بعد ذلك قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]، فقوله: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وما بعدها هذا تعليم له، ثم قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17]، وهذا العمل، ثم قال: وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ [لقمان:17]، وهذه الدعوة، ثم قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]، وهذا الصبر على هذا الطريق، فمن جمع هذه الأربع اجتمع له الصبر واليقين؛ لأن اليقين لا يتم إلا بالمراحل الثلاث التي هي: العلم والعمل والدعوة، ومن جمع هذه الثلاث كان موقناً، ومن جمع إلى اليقين الصبر، كان إماماً في الدين، ولذلك قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين، والإمامة في الدين لا يمكن أن تتم إلا بعد أن يتعلم الإنسان، وبعد أن يهتدي ويعمل بما تعلم، وأجرها عظيم؛ لأن المؤتمين به، يكتب له أجر عملهم جميعاً دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً )، وفي الحديث الآخر أيضاَ في الصحيحين: ( من دعا إلى هدى كان له أجره، وأجر من عمل به إلى بوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ).
فلهذا قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، هذا الفلاح الجامع لخيري الدنيا والآخرة، إنما يحصل عليه من زكى نفسه، والتزكية تطلق على معنيين في اللغة: تطلق على التطهير، وتطلق على النماء، فزكى الشيء يزكو إذا طهر، فيقال: هو زاك، وزكي، بمعنى طاهر، وزكى المال بمعنى: نما، فتطلق الزكاة إذاً على الأمرين معاً، فتزكية النفس إما أن تكون تطهيرها من الأدران والصفات الذميمة، وإما أن تكون زيادة الخير فيها، وكلا الأمرين مطلوب شرعاً، ولا تتم تزكية النفس إلا بهذين الأمرين، بالتخلية عن صفات المنافقين، وعن كل الصفات المذمومة، والتحلية بكل الصفات المحمودة وهي صفات الإيمان، فأول ما يتخلى عنه الإنسان: الشرك بالله سبحانه وتعالى، ومظاهره كلها، ثم بعد ذلك ما يلحق بالشرك من الأعمال البغيضة المذمومة عند الله سبحانه وتعالى المكروهة عنده، ثم بعد ذلك يتحلى بالصفات المحمودة عند الله التي ندب إليها المؤمنين ووصفهم بها، وندبهم إليها رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا أحرز الإنسان ذلك فإنه ينال هذا الفلاح الذي أقسم الله عليه.
ثم بين الشق الثاني، وهو ضد هذا، فقال: وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:10]، والخيبة بطلان العمل، أن يبذل الإنسان جهداً كثيراً، فلا يصل إلى نتيجة، فالذي عاش في هذه الحياة، أليس قد ألهم فجوره وتقواه، أليس قد قامت عليه الحجة؟ ألم يعطَ وسائل الهداية؟ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، ألم يعمل طيلة عمره؟ فإذا ختم له بخاتمة السوء، واتجه ذات الشمال إلى النار، فإنه خاب وخسر، وكل عمله قد صار هباءً منثورا، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]، فلذلك خاب من دساها، أي: أهمل نفسه، ولم يزكها، ولا يتم تحقيق المعنى الأول الذي هو إثبات الفلاح لمن زكى نفسه، إلا بنفي المعنى الثاني، إلا بإثبات المعنى الثاني، وهو خسران وخيبة من دسا نفسه وأهملها.
وقوله: دَسَّاهَا [ الشمس:10]، تشمل كذلك إغراقها وإدخالها في الرذيلة، وذلك من التدسيس، فيقال: دس الشيء، يدسه، إذا ستره وأخفاه، كأن الإنسان أخذ نفسه وهي طاهرة على الفطرة التي فطر الله الناس عليها من توحيده والإيمان به، فأدخلها في وحل الشرك والمعصية والخزي والهوان، فدساها بذلك، ويمكن أن تكون أيضاً بمعنى إغراقها في تحملها لما تطيق من السيئات، فإن الإنسان إذا حمل الأوزار أرهق نفسه، وحملها ما لا تطيق، فيأتي يحمل وزره ووزر من اقتدى به في ذلك، إلى يوم القيامة، كما قال الله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13]، فالذين يظهرون السيئات، ويدعون إليها يحملون أنفسهم من الأوزار ما لا تطيق، ويحملون أوزارهم وأوزار من اقتدى بهم في ذلك إلى يوم القيامة نسأل الله السلامة والعافية.
إن هذه النفس التي يدرك صاحبها أن مصيرها الحتمي، إما إلى جنة وإما إلى نار، وأن الناس يوم القيامة ينقسمون إلى قسمين فقط، فمنهم شقي وسعيد، لا بد أن يحاول الإنسان من اليوم أن يتعرف على مصيره، وأن يعلم أن هذا المصير الذي ينتظره يحتاج منه إلى معرفة، وإلى عمل بتلك المعرفة، فإذ كان الإنسان يريد حرث الآخرة، فعليه أن يسعى لذلك من الآن، وإذا كان يريد حرث الدنيا فهو ساعٍ لذلك الآن، ولاشك أن العاقبة متباينة، مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20]، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19]، فلا شك يتباين الناس هذا التباين العظيم بسبب سعيهم وعملهم في هذه الحياة، فلذلك لا بد يا أخي أن تقف وقفة محاسبة مع نفسك، أن تنظر أولاً لماذا أتيت هنا؟ فأنت غريب في هذا الكون، وفي هذا العالم، لست في الأصل من أهله، وإنما أهبط إليه، فأنت غازٍ، أنت بمثابة الشيء المستورد الذي خرج عن معدنه وأصله، فقد أهبط الله أبانا آدم وأمنا حواء إلى هذه الأرض، وليسا من سكانها الأصليين، وأهبط البشر إل هذه الأرض لمهمة نبيلة، لم توكل إلى عقولهم، وأهوائهم، بل بينت لهم بالوحي المنزل من عند خالقهم الذي أنزلهم، فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فأنت يا أخي عرفت لماذا خلقت؟ ولماذا أتيت هنا؟ فأول ما تحاسب عليه نفسك، ماذا قمت به من تكاليف؟ فنحن جميعاً موظفون في ديوان الخدمة عند الله، وكلنا ينال راتبه على حسب عمله، فالذي يريد أن يكون في أعلى درجة من درجات الامتياز في التوظيف، لا يمكن أن يتكل على مجرد الأماني والظنون، بل لا بد أن يجتهد ويجد للوصول إلى ذلك.
ومن كانت همته دنية، وكانت نفسه رذيلة، فأنه يرضى بالدون، وسيصرف عن طريق الهداية، حتى يفوته أوان الاستقامة، ولذلك فعلى من كانت همته علية، يطمح للمراتب العالية عند الله سبحانه وتعالى، والوظائف العظيمة أن يبادر قبل فوات الأوان، وأن يسأل نفسه: ماذا عملت مما خلقت من أجله، ثم بعد هذا عليه أن يعلم أن هذه الدنيا محراب للتعبد، ونحن جميعاً فيه، فكما تجلس هنا في المسجد لتعبد الله سبحانه وتعالى، كذلك نومك على فراشك في بيتك، وكذلك عملك في متجرك، وكذلك حياتك كلها، وكذلك مواقفك وحبك وبغضك وولاؤك وبراؤك، كل ذلك عبادة لمن خلقك وسواك، فلا بد أن تحسنها وتتقنها، وأن تنظر إلى هذه الدنيا التي تعيش فيها، على أنها محراب كبير جعله الله تعالى مكاناً لعبادته، ويسر لك سبل الاستقامة فيها والهداية، فحاول أن لا تكون من المتقاعسين، وأن تكون من الذين يستغلون هذا المحراب في ما يرضي الباري سبحانه وتعالى، إن نظرك إلى ما قدمته مما خلقت من أجله، يقتضي منك نظراً آخر، وهو نظرك إلى نعمة الله عليك.
فإذا علمت أنك كنت عدماً، فخلقك الله وصورك وعدلك في أحسن صورة، ثم بعد ذلك نفخ فيك الروح، وجعلك تتحرك، ثم بعد ذلك امتن عليك بالعقل، الذي هو مناط التكليف، وبالحواس كلها، ثم بعد ذلك هداك للإسلام، ثم بعد ذلك أراك طريق الحق، ثم جعلك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأرسل إليك أفضل الرسل بخير الكتب، وشرع لك أفضل شرائع الدين، وجعلك من المسلمين، كل هذا من النعم التي لا يمكن أن تحصى، ولا أن تعد، ولا أن تقابل باللؤم، فالذي ينظر إلى هذه النعم جميعاً ويقر بها، ثم يقابلها باللؤم والبخل على الله سبحانه وتعالى، ولا يعامله المعاملة الحسنة بالأدب مع الله سبحانه وتعالى، وبالتعرض إلى نفحاته وبالقيام بحقه، هذا هو الخاسر؛ لأنه لم يجد لهذه المحاسبة أثرا، ولم تؤثر في حياته، إن هذه المحاسبة تقتضي منك أن تعد الدقائق، بل الثواني التي تعيشها في هذه الحياة، وأنت تتحاسب مع نفسك عليها؛ لأنه رأس مالك وأصل متجرك، فكل دقيقة أو ثانية تمر عليك، إذا لم تصرف في العبادة التي من أجلها خلقت، فهي خسارة ما مثلها خسارة.
إن كل ثانية تمر على الإنسان سيحاسب عليها، فإنه كتبت أنفاسه وآثاره، وستعرض عليه جميعاً، عندما توزن الأعمال بمقاييس الذر على الموازين التي توضع بالقسط ليوم القيامة، وإذا رأى الإنسان الأعمال توزن بمقاييس الذر، فإن من لم يكن موقناً بذلك من الكفرة، يقول: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح، أن الله سبحانه وتعالى يقول: ( يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم أيها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد عير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).
إن هذه المحاسبة ينبغي أن تكون ورداً ثابتاً في حياتك، وإذا مرت بك أية مرحلة، فلا بد أن تحاسب نفسك، كالتاجر الأمين الذي يعمل ولا يحب الخسارة، ويجتهد في أكبر ربح يمكن أن يجنيه، فلا بد أن يجعل لنفسه كل أربعة شهر، أو كل ستة أشهر، وقتاً للمحاسبة ليرى هل هو ناجح في تجارته رابح فيها، أو هو مخفق فاشل، فكذلك أنت لا بد أن تحاسب نفسك في مسيرة حياتك.
إن هذه المحاسبة لا تختص فقط ببدنك وروحك وعلمك وعقلك، وما أوتيته من جاه ومكانة، بل تتعدى ذلك حتى تحاسب على أهلك وعلى الأوقات كلها، وهي من هذه النعم التي يغفل عنها كثير من الناس، وقد أخرج البخاري في الصحيح، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )، فهذه الصحة التي أوتيت، فما من عضلة في بدنك، ولا شعرة، ولا عرق، ولا ذرة، ولا كرية من كريات الدم البيضاء، أو الحمراء، إلا وهي نعمة خاصة من رب العزة أنعم بها عليك، وهذه النعمة لو فقدت شيئاً منها لعرفت الخطر والضرر الماحق الذي يتعلق بك عندما تفقد شيئاً من هذه النعم، فلذلك عليك أن تحاسب نفسك حساب التاجر الشحيح، لمن يخالطه ويبايعه، وإذا فعلت ذلك رجي لك أن تدرك مكان تفريطك في جنب الله، وأن تدرك حاجة نفسك إلى هذه المتابعة الدقيقة؛ لأن هذه النفس ميالة وراء الهوى، ومنساقة وراء ما يقدمه إبليس وجنوده من الشبهات والشهوات، وهي أمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي، فأنت محتاج إذاً إلى أن تجعلها في قفص الاتهام، وأن تسائلها في كل أوقاتك، وهذا هو الهدي النبوي، وهو الذي ربى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، رضي الله عنهم، ولذلك ثبت أن عمر رضي الله عنه دخل على أبي بكر رضي الله عنه، فإذا هو ممسك بلسانه يجذبه، فقال: مه؟ فقال: إن هذا أوردني الموارد، يرحمك الله! ما أوردك إلا موارد الحق والصدق، لكنه كان يخاف الله، فكان يخاف أن يورده لسانه موارد السوء، وهو الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة بالتعيين، وهو أفضل هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يخاف من لسانه، إن هذا هو النجاح في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث معاذ : ( أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن أعمال البر والخير، فختم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: أولا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، وقال: أمسك عليك هذا، فقلت: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس في النار على وجوهم، أو قال: على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم )، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أنه قال: ( ما من يوم تطلع فيه الشمس، إلا والجوارح تؤثم اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإننا بك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ).
هذه المحاسبة للجوارح كلها، لا بد منها، ولا يمكن أن يستقيم حال الإنسان إلا إذا كان كذلك، فالذي لا يحاسب نفسه، ويضع الخطة لجوارحه، لا بد أن يسير في الظلام، ولا بد أن يتجه إلى الاتجاهات المعاكسة، لكنه إذا كان لا ينظر إلا إلى ما أحل الله له النظر إليه، ويحاسب نفسه على النظرة، ولا ينطق إلا بما أحل الله له، ويحاسب لسانه على النطق، ولا يسمع إلا ما أحل الله له سماعه، ويحاسب مسمعه على ما يسمع، ولا يفكر إلا فيما أحل الله له التفكير فيه، ويحاسب عقله على ذلك التفكير، وهكذا في كل جوارحه، فهذا الذي ستستقيم له جوارحه، وتكون نفسه، منساقة وراء أمر الله سبحانه وتعالى، إن هذه النفس على علاتها، إذا دربت قبلت التدريب، وإذا ربيت قبلت التربية، وما من نفس إلا وفيها عناصر كثيرة للخير يمكن البناء عليها، من أعظم هذه العناصر: الفطرة التي فطرها الله الناس عليها، فالله فطر الناس جميعاَ على توحيده والإقرار بربوبيته، وألوهيته، وفطرهم جميعاً على الخوف منه، ورجائه، وفطرهم جميعاً على الرغباء فيما عنده، فهذه الفطرة الأصلية، هي من أهم العناصر التي يعتمد عليها في تربية النفس، ثم بعد ذلك ما تتعلمه النفس من الوحي، فهو عنصر مهم في تقويمها وتربيتها؛ لأن هذا الوحي القادم من خارج النفس من عند الله سبحانه وتعالى، يدل النفس على المواقع التي لا يمكن أن تصل إليها بالتفكير والعقل، فكل مكان لا يصل إليه العقل، ولا يمكن أن يتعلق به، يأتي بيانه في الوحي.
ثم بعد ذلك العنصر الثالث: هو العقل الذي يدرك به الإنسان مصالحه ومفاسده، فلا شك أن الإنسان الذي يؤمن بالجنة والنار، يرغب في الجنة، ويخاف النار، ولا شك أن الإنسان الذي يعلم أنه محاسب مجزي وأن له كفتين يوم القيامة، يرغب في رجحان كفة الحسنات، ولا شك أن الإنسان الذي يؤمن أن معه صاحب اليمين، وصاحب الشمال، يكتبان كل ما يلفظ به وما يفعله، لا شك أنه يرغب في كتابة زيادة حسناته، وفي نقص السيئات، فهذا مقتضى العقل أصلاً، وإذا لم يعمل بمقتضاه كان هذا العقل حجة عليه لا له.
ثم إن هذه المحاسبة تقتضي من الإنسان كذلك مقاطعة الغفلة، فإن مما يحوج الإنسان إلى المحاسبة، الغفلات التي تنتابه، فالإنسان كثير النسيان، وكثير النوم والغفلة، وانشغالاته المتوافرة المتواترة تعطله عن كثير من أعماله، فيحتاج بين الفينات أن يراجع هذه الغفلات حتى لا ينساق وراء أمر يقتنع بأنه الضرر اللاحق به.
إن الإنسان تعرض له ثورات من الشهوة، ويعرض له كذلك جهل أصلي فيه، فيجهل مصلحته أو يركب شهوته، وهو يعلم أنها ضرر به، لكنه إذا تذكر رجع، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202]، فالذين اتقوا يمكن أن يستزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، لكن لا يستمرون على استدلاله، بل سرعان ما يتذكرون الله سبحانه وتعالى ومراقبته، فيرجعون إليه ويتوبون: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، فلذلك يحتاج الإنسان إذا أحاط به كثير من الملمات، وادلهمت في وجهه هموم هذه الدنيا، أن يجعل لنفسه ساعة راحة، ولا تكون إلا بالمحاسبة، وهذه المحاسبة هي التي يمكن من خلالها تقويم العمل، فإبراهيم عليه السلام عندما كان يبني الكعبة، كان كلما رفع البناء، نزل فنظر إليه؛ حتى يرى استقامته، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله: "إن من الصفوة أقواماً منذ استيقظوا ما ناموا، ومنذ ساروا ما توقفوا، كلما قطعوا شوطاً نظروا فرأوا قصور ما كانوا فيه فاستغفروا"، فأولئك القوم يسيرون على طريق الهداية، ومنذ عرفوا طريق الهداية لزموه، ولم يتركوه، ولم يتوقفوا فيه لحظةً، فهم مستمرون في هذا الطريق، لكنهم كلما قطعوا شوطاً نظروا، فأدركوا قصور ما كانوا فيه فاستغفروا وتابوا إلى الله سبحانه وتعالى من ذلك القصور، وبهذا يستمرون في عملهم إلى الأمام، فمسيرة الإنسان كلها مقتضية منه للمواصلة والاستمرار على طريق الحق.
ثم إن الله سبحانه وتعالى أعاننا بعناصر خارجيه غير هذه العناصر الداخلية على محاسبة النفس ومراقبتها:
ومن أهم هذه العناصر استشعار وجود الملائكة الكرام: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ [الرعد:11]، فهؤلاء الملائكة الكرام لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، وهم محيطون بالإنسان من عن يمينه وشماله، وأمامه، فعن يمينه وشماله الكاتبان، ومن أمامه المعقبات من بين يديه ومن خلفه، من أمامه ومن خلفه كذلك، فاستشعار الإنسان لهؤلاء الملائكة الشهود، ولكتابة ما يكتبون؛ ولأنه سيعطى ذلك الكتاب ويجيء يحمله في عنقه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14]، هذا مقتضٍ من الإنسان أن يحاسب نفسه قبل تلك المحاسبة، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا.
ثم بعد هذا مراقبة الرقيب الشهيد، فإن الإنسان لا بد أن يدرك أن الله سبحانه وتعالى مطلع على أحواله، لا تحجب عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، فالله سبحانه وتعالى يبسط كنفه على عبده المؤمن يوم القيامة، فيقول: ( أي عبدي أتذكر يوم كذا، إذ فعلت كذا، وكنت قد نهيتك عنه، فيقول: يا رب أذكره وكنت قد نسيته، فيقول: لكنني لم أنسه )، وهذا مع ستره وبسطه لكنفه سبحانه، ما أحلمه وأكرمه! وأما أعداء الله سبحانه وتعالى والفجار الذين لا يبالون، فإن الله يفضحهم على رؤوس الأشهاد، ويقيم عليهم الحجة، ( ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ينادى عليه على رؤوس الأشهاد: هذه غدرة فلان بن فلان )، فالفضيحة لا يرضاها الإنسان في ملأٍ من أهل الدنيا، ولو صغر ذلك الملأ، فكيف يرضى بفضيحة في الملأ الأعلى بين يدي الديان، وبشهود الملائكة المقربين والأنبياء والصالحين، والخلائق أجمعين، إنها الفضيحة الكبرى التي ما بعدها فضيحة، فلذلك لا بد أن يحاسب نفسه الآن، وأن يتذكر هذه المراقبة الربانية، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ثم بعد هذا على الإنسان أن يدرك أيضاً أن لله شهوداً من نفسه، فهذه الجوارح ستشهد على الناس بما جنوا، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ المُبِينُ [النور:24-25]، فلو كان الإنسان كتلة واحدة لأمكن أن لا يشهد بعضه على بعض، أو أن لا يتصور ذلك، لكن الله جعله شعباً وأطرافاً، وجعلها شهوداً عليه، عندما يختم على لسانه، فتتكلم جوارحه، يتكلم شعره، وبشره، ويداه، ورجلاه، تتكلم كل جارحة بما اقترفت، فإن الإنسان إذا تذكر ذلك المشهد، حاول أن يثني جوارحه؛ حتى لا تكون من الشهود عليه يوم القيامة.
ثم من هذه الوسائل الخارجية كذلك: شهادة الناس، فإن الناس شهداء الله، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عندما مر عليه بجنازة، فـأثنى الناس عليها خيراً، قال: وجبت، ثم مر بأخرى فـأثنوا عليها شراً فقال: وجبت، فقال عمر : وما وجبت؟ قال: أنتم شهداء الله في أرضه، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، من أثنيتم عليه بشر، وجبت له النار )، فالناس شهداء الله، ولذلك قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة:105]، فشهادة الناس لا بد من تقديرها، وأعظم الشهداء من الناس، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أعمال أمته تعرض عليه في قبره فيسر بحسنها، ويساء بسيئها، ويشهد عليهم يوم القيامة: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا [النساء:41-42]، فإذا كنت تهاب الكبراء، وتهاب العظماء، أليس جديراً بك أن تهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الذي تعرض عليه أعمالك، أليس جديراً بك أن تهاب شهود الله في الأرض الذين يشهدون على أعمالك كلها؟
ثم بعد هذا من الشهداء: هذه الأرض، وهذه السماء، وهما من العوامل الخارجية المساعدة على مراقبة النفس، فهذه الأرض تضج إلى الله من العمل السيء عليها، وهذه السماء تشهد كذلك بما يعمل تحت أديمها من الأعمال السيئة.
والحيتان في الماء، والخلائق والنبات، كل ذلك يتأثر بالإعمال السيئة، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، فكل ذلك من شهود الله سبحانه وتعالى.
ثم من هذه العوامل الخارجية: ساعات الزمن، فكل ساعة تمر عليك، هي عمر كامل، فإذا انقضى ذلك العمر ختم على أعماله ولن تنشر إلا عند العرض على الله، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30]، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، إن كل ساعة تمر علينا في هذه الدنيا، هي عمر كامل يختم على عمله، وتودع صحائفه، ولذلك يتعاقب فينا ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار )، فهؤلاء الملائكة يشهدون، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا [النساء:79]، يرفعون التقارير إلى الله سبحانه وتعالى بأعمال العباد، ثم إن هذه التقارير محفوظة لا يمكن أن يعتريها تبديل ولا تغيير، إلا ما غفره الله من السيئات، وتجاوز عنه من الخطايا، فهو الحليم الحكيم الكريم، الذي يغفر ما شاء، إلا الشرك به سبحانه وتعالى.
ثم إن من العوامل الخارجية كذلك المعينة على مراقبة النفس ومتابعتها: ما يعرض للإنسان من الأمراض والذكر والعبر، فلو كان الإنسان منذ ولد، إلى أن انتهى عمره في صحة جيدة، ولم تعتره حمى، ولا صداع، ولم يشك أي ألم، ولم يتضرر بأي ضرر، يمكن أن يغفل، لكن هذه الأعراض إن أخطأه هذا أصابه هذا، وهي محيطة به من كل جانب، فإذا لم تمرض اليوم بهذا المرض، فأنت عرضة لمرض آخر، كل ذلك بدبير الله وتقديره، فلهذا لا بد يا أخي أن تدرك أن كل عرض من أعراض الدنيا، وكل مرض يصيبك هو تنبيه من عند الله لك، إن هذا التنبيه هو بمثابة تكبير الإمام، فإذا صليت الصلاة كما صلينا الآن، فدخلت ووقفت بين يدي الملك الديان، تناجيه وتثني عليه وتعرض عليه حوائجك، وتتعرض للخير من عنده، ربما شرد ذهنك، وربما غفلت، فإذا انتهى ذلك الركن رفع الإمام صوته الله أكبر، فتراجع نفسك، وتعود إليك بعد أن شردت وذهبت يميناً أو شمالا، ثم تبدأ ركناً جديداً فيه خطاب أكيد غير الخطاب السابق، فإذا شردت نفسك، أو زال عنك خشوعك أو حضورك، قال الإمام: الله أكبر؛ تنبيهاً أيضاً، فتعود النفس هكذا حتى تنتهي الصلاة، يرفع الإمام صوته بكل تكبيرة، وبكل تسميعة، وبالسلام لانتباه الحاضرين، ولمراجعتهم مناجاة الله سبحانه وتعالى، ولتذكيرهم بجلال من يناجون، فهم يناجون الملك الديان سبحانه وتعالى.
إن هذه المذكرات الكثيرة التي تذكرك بالانتقال من هذه الدار من أعظم المذكرات الخارجية منها: الموت الذي هو سيد الواعظين، وكفى بالموت واعظا، فلذلك إذا تذكرت الموت والبلاء، وانتقالك من هذه الدار، وما يقوله الناس عن دبر منك، هل يثنون عليك بخير أو بشر؟ وما يشهدون به عليك، وبماذا ستذكر في الملإ الأعلى، وماذا سيثنى به عليك في الملإ الأسفل، كل ذلك مقتضٍ منك أن تهتم بشأنك، وأن تعلم أن القبر الذي أمامك، هو أول منازل الآخرة، ( إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته )، وأول ما تلقاه فيه ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، ثم بعد ذلك سؤال الملكين اللذين يجلسان الإنسان في قبره، فيقولان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا واتبعنا، وأما المنافق أو المرتاب لا أدري أي ذلك قالت أسماء : فيقول: هاه هاه، لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، شتان بين هذين الجوابين، ثم بعد ذلك إن كان مؤمناً صادقاً مصدقا، قالا له: صدقت، وبررت نم نومة عروس، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً.
وأما المنافق أو المرتاب، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمرزبة معهما، لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها، وفي حديث أسماء : ( ويضربانه بمطارق بين فوديه، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الإنس والجن )، فإذا أدرك الإنسان انتقاله، وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الأعراف:185]، وهو مؤمن بهذا الانتقال لا محالة، وعارف أنه لو عمر عمر نوح، لا بد أن يأتي بعد ذلك الموت، وأن هذا الموت مصير حتمي لا بد منه لجميع الناس، يستوي فيه الرؤساء والمرؤوسون والكبار والصغار.
لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيب
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب
فالجميع سائرون على هذا الطريق، منطلقون إليه بجد، وهم مجتهدون في عملهم يتسابقون إلى الموت، فهذا الزمن الذي يحب الإنسان الازدياد منه، ويفكر بالشهر القادم، وفي الأسبوع القادم، وفي اليوم القادم، كل ذلك اقتراب من الأجل، وإسراع في القدوم إلى الدار الآخرة، وإلى الانتقال من هذه الدنيا، فهذا الموت الواعظ الذي ينتظرنا جميعاً، ولا ندري من وفد الغد؟ ولا من وفد ما بعده؟ لكننا موقنون بأننا جميعاً سائرون إلى ما هنالك، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا
لابد أن يكون ذلك معيناً للإنسان على المحاسبة، وأن يكون الموقن بهذا الموت، والموقن بالقبر وما وراءه، متهيئاً له متأهباً له، ولذلك قال بعض من حضر خطبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
وجدتك لم تشهد وصاة محمد رسول الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا
إن هذه العوامل كلها معينة للإنسان على محاسبة نفسه، وبالأخص إذا راجع جزئياتها، فعندما تلبس ثوباً أنعم الله به عليك، وتذكر الذكر الوارد في لبس الثوب، فتقول: الحمد لله الذي كساني ما أستر به عورتي، وأتجمل له في حياتي، ينبغي أن تجعل منه شاهداً على نفسك مراقباً لها، فلا تعص الله وأنت تلبس هذا الثوب الذي كساك، وإذا جلست مجلساً أياً كان، وأنت بعافية في جسمك وأمن في سربك، لا تشكو مذلةً ولا هوانا، فعليك أن تتذكر أن هذه النعمة لا يحل أن تصرف فيما لا يرضي الله عز وجل، فيكون ذلك داعياً منك لتمام المراقبة والمحاسبة، إذا اضطجعت على فراشك في وقت النوم، وأغمضت عينيك بعد أن ذكرت الله، وختمت بخير، تذكرت أنك الآن مقبل على موتة لا تدري هل ستقوم من هذه الضجعة أم لا تقوم؟ وحاسبت نفسك على أربع وعشرين ساعة مضت، ثم إذا انصدع المنذر وطلع الفجر تذكرت أنك قد دخلت عهداً جديداً وعمراً غير العمر السابق، و أتيحت لك فرصة أخرى للنجاة، قد لا تتكرر، كما قال الماوردي رحمه الله:
أقبل على صلواتك الخمس كم مصبح وعساه لا يمسي
واستقبل اليوم الجديد بتوبة تمحو ذنوب صحيفة الأمس
فليفعلن بوجهك الغض البلى فعل الظلام بسورة الشمس
إنك يا أخي إذا جعلت هذه المحاسبة من اهتماماتك وأمرك، سهلت عليك كثيراً مما تتطالب فيه نفسك من الالتزام، إن كثيراً من الناس يشكون أنهم يعزمون على مواصلة الالتزام، ولكنه سرعان ما تنخرط عزائمهم، وتوهى ويرجعون إلى مالا يرضي الله، وكثير من الناس يعاهدون الله على الالتزام بما يرضيه في المناسبات كرمضان وغيره، ولكنهم سرعان ما ينسون ذلك العهد، ويتراجعون عنه، والسبب إهمال المراقبة والمحاسبة، لكن إذا حضرت هذه المحاسبة في الذهن، فكان الإنسان إذا تذكر قوة من قواه: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17]، إذا تذكر أي نعمة من نعم الله ذكر من أين أتت؟
وأنتم تعلمون أن الناس في النعم أربعة أقسام:
قسم لا يعرفون النعمة بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، ما دام أحدهم لا يشكو سرطاناً في كبده، ولا يشكو قصوراً في قلبه أو كلاه، ولا يشكو أي ألم في ضرسه أو أذنه أو عينه، لا يشعر بهذه النعمة، لكن إذا جاء المرض وأمسك في العنبر على سرير المستشفى، تذكر ما كان فيه من العافية، وقد فات الأوان، لم يكن ليستغلها، ولا ليستعملها فقد ذهبت، وإذا كان لديه مال وأهل لم يتذكر هذه النعمة حتى تزول، فإذا أجيح ماله، أو أخذ منه أهله، وما كان ينعم به، تذكرت الحال الذي كان فيه، فندم حيث لا ينفع الندم، إن هذا النوع من الناس هم أصحاب خسران؛ لأن النعم كانت حجة عليهم لا لهم، فلم يعرفوها أصلاً لوجودها، وإنما استشعروها بزوالها.
النوع الثاني، القسم الثاني من الناس: الذين يعرفون النعمة بوجودها، ولكنهم لا يعرفون من أين أتت؟ يعرفون أنهم فضلوا على من سواهم، أن لديهم علماً ومالاً وجاهاً، وقوةً، وثقافةً، ومنصباً، ومكانةً، لكنهم لا يدرون من أين أتت؟ ولذلك يغفلون عن شكرها، فتكون حسرة عليهم ووبالا، وهؤلاء هم أمثال قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ [القصص:78]، إن أولئك يظنون أن ما بأيديهم، إنما هو من كسبهم وكدهم واجتهادهم، وهذا غاية في الضياع والانحراف، كما قال الشاعر:
باتت تعيرني الإقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما
تباً لرأيك ما الأرزاق من جلدٍ ولا من الكسب بل مقسومة قسما
فكلها من قسمة الله سبحانه وتعالى، وتدبيره.
النوع الثالث من أنواع الناس: الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون من أين أتت؟ وأنها من عند الله، ولكنهم لا يشكرونها، بل ينشغلون بالنعمة عن شكرها، ينشغلون بتدبير المال، وزيادته وإصلاحه، وبالعناية بالبدن بنظافته، وطيبه، وادهانه، وبالعناية بالأهل، وبالعناية بكل ما هم فيه من النعم عن شكر تلك النعم, وهذا الذي حذر الله منه في كتابه فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11]، وقد نعى الله على الأعراب انشغالهم بذلك فقال: سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا [الفتح:11]، فهؤلاء عرفوا النعمة بوجودها، وعرفوا أنها من عند الله، ولكن النعمة شغلتهم عن عبادة الله، ولذلك فإن هذه النعم، جبهة من الجبهات الخمس المفتوحة على الإنسان.
كما سنبينها بعد استكمال النوع الرابع من أنواع الناس في النعم.
وهم الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون أنها من عند الله، ولا ينشغلون بالنعمة عن شكرها، بل يصرفونها في مرضات الله وشكره، وهؤلاء هم أقل عباد الله: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، قليل من الناس الذي يصرف وقته فيما خلق من أجله، ويصرف قوته فيما خلق من أجله، ويقول صادقاً: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163]، قليل من الناس من يكون صادقاً إذا قال ذلك، وأشهد الله عليه: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].
إن الإنسان قد فتح عليه خمس جبهات في حياته الدنيا، وهو محتاج لعناصر تقوية، تقويه في وجه هذه الجبهات الخمس:
الجبهة الأولى: الشيطان: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6].
والجبهة الثانية: إخوان السوء، الذين يصرفون الإنسان عن طاعة الله ويشغلونه بما لا يعنيه، وهم عدوه يوم القيامة: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:27-29].
والجبهة الثالثة: النفس الأمارة بالسوء.
والجبهة الرابعة: نعم الله على الإنسان إذا لم يصرفها في الشكر، فهي جبهة مفتوحة على الإنسان كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:14-15].
الجبهة الخامسة: هذه الدنيا فهي دار الغرور، وهي ضرة الآخرة، مشغلة عنها، ولهذا لا بد أن ينتبه الإنسان لهذه الدار حتى لا تغره، فليست دار بقاء، ولا دار استمرار، بل هي عرض فان، وبقاء الحال من المحال، كل ما فيها زائل، فكل رفيع فيها سيستحيل وضيعاً، كان حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه.
إن أهم ما يتنافس الناس فيه، وأغلاه من أمور الدنيا سيصير بعد مدة يسيرة هباءً يرمى في القمامات، فالسيارات الفارهة التي يبذل فيها الناس الأموال الطائلة، والملابس الثمينة التي يتغالى فيها الناس، وأنواع المتاع الثمين الذي يتنافس فيه الناس، ما مصيره بعد استعماله، أليس سيرمى في القمامة، ويتأذى الإنسان من رؤيته، إن هذا حال الدنيا كلها، حتى الإنسان إذا مات أحب الناس إليه، وأقربهم إليه، هو الذي يبادر في تجهيزه ودفنه في الأرض، لو كان شيء في الدنيا مستمراً، لكان الإنسان بعد الموت محبوباً إلى أهله، فلا يدفنونه، يتركونه معهم في بيته على فراشه، هل يرضى أحد أن يترك قريبه الميت على فراشه معه في بيته، حتى تتناثر عظامه، لا يرضى بهذا أحد، بل هو غاية للإنسان في المذلة والهوان؛ لأن الله أنعم عليه بأن أماته فأقبره، أي: جعله ممن يقبر، فهذا كله يدلنا على أن هذه الدنيا ليست دار قرار، ولذلك كان الملوك الأقدمون يكتبون في مجالسهم: لو دامت لغيرك ما وصلت إليك، لو كان الملك يدوم لما وصلت إليك أنت أيها الملك، أو الرئيس الذي تجلس على الكرسي، فقد جلس على هذا الكرسي من قبلك رؤساء وملوك، وتداولته الأملاك، وأنت أخذته فترةً لا تدري طلولها، وستنتقل وتتركه لمن وراءك، فهذا مقتضٍ منك للمحاسبة، إن على الإنسان إذا شغل أية وظيفة، سواء كانت رسميةً، أو اجتماعيةً، أو وظيفة عادية، أن يتذكر أن شغله لتلك الوظيفة كجلوسه على كرسي الحلاق ليحلق له رأسه، ثم هو سيقوم عنها ويتركها لمن وراءه، لا محالة، لا يمكن أن يتقدم ولا أن يتأخر إذا جاءته رسل الله، إذا قيل له: هلم إلى الآخرة، لا يمكن أن يمانع، ولا أن يتخذ قراراً ولا أن يجمع البرلمان، أو الحكومة حتى يتخذ قراراً بالمشاورة في الأمر، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
فلذلك لا بد أن يتأهب الإنسان لهذا الأجل المحتوم، وأن يحاسب نفسه هذه المحاسبة على جلائل الأمر وصغائره.
إن كثيراً من الناس يمكن أن يحاسب نفسه على جلائل الأمر، لكنه يغفل عن الصغائر، وهذا الحال الذي يحصل لكثير من الناس، فيظنون أنهم على خير ما داموا قد اجتنبوا الوقوع في كثير مما يقع فيه الناس، لكن هؤلاء وقعوا في أمر كبير آخر، وهو الغرور بالله وأمن مكره، إن الذي يقع في معصيةٍ ولو كانت صغيرة، عليه أن يخاف؛ لأنه فرط في جنب الله، وخالف أمره، ووقع فيما نهى عنه، ولو كانت تلك المعصية صغيرة، ولذلك على الإنسان إذا نظر إلى الآخرين أن لا تكون نظرته إليهم بقصد محاسبتهم، فليس مسؤولاً عن محاسبة الناس، بل هو مسؤول عن محاسبة نفسه، وقد أخرج مالك في الموطأ و أحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
فعلى الإنسان أن لا ينشغل بمحاسبة الآخرين عن محاسبة نفسه، وصغائر الأمور هي أصل كبائرها، فالإنسان قد يقع في صغيرة لكنه تجاسر بها على الله، فتدعوه تلك الصغيرة لكبيرة نسأل الله السلامة والعافية، وهي سيئات الجزاء، فإن كثيراً من الناس تهوي بهم سيئاتهم إلى سيئات أخرى، هي من جنس الجزاء؛ لأنهم يطردون فمن طردهم؟ الذي يطردهم الله به أن يسر لهم ما هو ذو ضرر بهم من السيئات نسأله الله السلامة والعافية.
ثم إن من المحاسبة أيضاً ما يقتضي أن يراجع الإنسان كلامه، فالكلمة الواحدة من رضوان الله، يرتفع بها الإنسان الدرجات في الجنة، والكلمة الواحدة من سخط الله، يهوي بها الإنسان سبعين خريفاً في قعر جهنم، فلذلك لا بد أن يجتهد الإنسان في هذه المحاسبة.
ثم إن نوعاً آخر لا يقل أهمية عن ما مضى من المحاسبة وهو محاسبة أهل الصلاح أنفسهم، فما كنا نقوله: هو المحاسبة فيما يقع فيه الإنسان من معصية الله، وما يفرط فيه في جنب الله، لكن علينا أيضاً أن نحاسب أنفسنا على طاعات الله، وإحسانها وإتقانها، فهذه الصلاة التي نصليها لا بد أن نضع لها خطة متابعة ومحاسبة، هل صلاتنا تنهانا عن الفحشاء والمنكر؟ هل صلاتنا فعلاً على المستوى المطلوب؟ هل هي على وفق ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى عليه؟ هل هي مكفرة للسيئات؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة تكفر ما دون الكبائر الموبقة، لكن ليست كل صلاة كذلك، بل المقصود بها الصلاة الصحيحة الموافقة لما شرع، الموافقة لما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك المحاسبة في كل عمل يقدمه الإنسان لله سبحانه وتعالى، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:60-61]، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( أهو الرجل يأتي الفاحشة وهو يكرهها، وهو وجل خائف؟ فقال: لا، بل الذي يصلي ويتصدق ويصوم، وهو خائف أن لا يتقبل الله منه )، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، فهذا الوجل لا بد منه، وهو الذي يعدمه كثير من الناس، إن كثيراً من المسلمين، ومن عوامهم، يفرحون فعلاً بالطاعة لكنهم يتكلون عليها في كثير من الأحيان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته )، إننا محتاجون إلى أن نراجع عملنا كله، فالصلاة كثيراً ما تستحيل إلى عادة يقوم بها الإنسان أدرك أجداده وآباءه يمارسونها، فهو يعتاد على ما عودوه، والأعمال كلها يمارسها دون تفكير في سببها، يجمع المال، لا يدري لماذا يجمعه؟ يحج كما رأى الناس يحجون، يصوم كما رآهم يصومون، يتصدق كما رآهم يتصدقون، دون أن يكون ذلك نابعاً من إيمانه هو، ومنطلقاً من قناعة.
وكذلك في الدعوة فإن الدعوة كثيراً ما تستحيل إلى هواية من الهوايات، يمارسها الإنسان بروح الهواية كما يمارس الرياضي رياضة، وكما يمارس صاحب هواية جمع الطوابع البريدية أو العملات هوايته، فيقدم المحاضرات ويشارك في الدعوة، ويحضرها هواية فقط، لا ينوي بذلك التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فكم من أعمال أمثال الجبال، ذهبت هباءً منثوراً، حين لم يصحبها الإخلاص، ولم تصحبها النية الصادقة، وكم من جلسات طويلة في أوقات الحر والشدة، وأعمال أهملت كان بالإمكان أن تكون ثقيلة في كفة الحسنات يوم القيامة، ولكنها ضاعت وذهبت؛ لأن الإنسان لم يحضرها بروح التعبد، ولم يقبل فيها على الله، ولم يخلص له.
إن الإنسان الصادق إذا خطا خطوات إلى المسجد من بداية بيته، نوى لكل خطوة، فالخطوة التي تكفر السيئة والخطوة التي ترفع الحسنة، كل ذلك بنية وقصد، وإذا جلس في المسجد نوى المجاورة والجلوس مع الذين يعبدون الله في المكان المشرف عند الله، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، وإذا تكلم بالكلمة من رضوان الله، قصد بذلك وجه الله، ولم يكن كأولئك الذين تسعر بهم النار يوم القيامة، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة: ( رجل علمه الله من العلم فاشتغل بتعليمه فدعاه فعرفه نعمته عليه، فعرفها فقال: فما عملت فيها؟ قال: علمت فيك العلم، فقال الله: كذبت، وقالت الملائكة: كذبت، إنما علمت ليقال عالم، فقد قيل، فيؤمر به فيجر على وجهه فيرمى في النار، ورجل آتاه الله من أنواع المال ما آتاه، فأنفقه فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: يا رب لم أترك وجهاً تحب أن ينفق فيه المال إلا أنفقت فيك، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، إنما أنفقت ليقال جواد، فقد قيل، ورجل قاتل حتى قتل، فيعرفه الله نعمته عليه، فيعرفها فيقول: فما عملت فيها، فيقول: يا رب جاهدت في سبيلك حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، إنما قاتلت ليقال: شجاع، فقد قيل، فيؤمر به فيجر على وجهه، فيرمى في النار ) نسأل الله السلامة والعافية.
إن أهمية المحاسبة من هذا الوجه، أنها مقتضية للإخلاص، وإذا لم يتذكر الإنسان النية في أوائل العمل فعليه أن يخلصها في أواسطه، كالعمر كله، وقد رود عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: إن عمراً ضيع أوله، لجدير أن يحفظ آخره، فما ضاع من العمر وذهب، إذا ندمت عليه وأسفت فلا يكن حظك من ذلك الندم والحسرة، بل حاول يا أخي أن تحسن في المستقبل، فلو لم يبقَ من عمرك إلا ذراع، فأحسنت فيه، فإنه قاض على كل ما مضى.
إن الذين يشكون مما تراكم من السيئات، ومن التصرفات غير المرضية، ويلومون أنفسهم على ما مضى، مفتوحة الفرصة أماهم؛ ليتوبوا ويؤوبوا ويحسنوا، والله سبحانه وتعالى ينادينا بندائه الكريم، فيقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ [الزمر:53-58]، والكرّة كرّة الرجوع، أي: لو أن لي رجوعاً إلى الدنيا بعد الموت فـأكون من المحسنين، بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:59-61].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم أنه هو التواب الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر