إسلام ويب

متن ابن عاشر [5]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الوضوء به يرفع الحدث الأصغر, وله فرائض, وسنن, ومندوبات, فالفرض ما لا يصح الوضوء بدونه, والسنة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في ملأ عليه، وواظب عليه، لكن دل الدليل على عدم وجوبه، والمندوب ما أمر به الشارع أمراً غير جازم، ولو لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فالسنة آكد من المندوب, وهذا التقسيم هو على مذهب المالكية.

    1.   

    فرائض الوضوء وملحقاتها

    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    قال المؤلف رحمه الله: [ فصل: في فرائض الوضوء ].

    الطهارة تنقسم إلى قسمين: طهارة حدث, وطهارة خبث, وطهارة الحدث تنقسم إلى قسمين: كبرى, وصغرى، فالكبرى هي رفع الجنابة، والصغرى هي رفع الحدث الأصغر، والطهارة الكبرى والطهارة الصغرى كذلك تنقسم إلى قسمين: مائية, وترابية, فالمائية هي الوضوء في حق الصغرى, والغسل في حق الكبرى، والترابية هي التيمم في حقهما معاً، فالتيمم يكون بدلاً عن الغسل في حق فاقد الماء, والعاجز عن استعماله، ويكون بدلاً عن الوضوء كذلك في حق فاقد الماء والعاجز عن استعماله، وقد بدأ المؤلف بالطهارة المائية؛ لأنها الأصل, فلا نحتاج إلى الطهارة الترابية إلا عند الضرورة، وبدأ من الطهارة المائية بالوضوء؛ لأن الأصل في الإنسان ألا يحتاج إلى غسل، فالإنسان عند نشأته غير محتاج إلى غسل؛ لأنه في الأصل غير جنب, والجنابة عارض يطرأ عليه، بخلاف نقض الوضوء، فإن الأصل في الإنسان ملازمته، ولذلك تجدون تفريقاً لدى الفقهاء بين نواقض الوضوء وموجبات الغسل، فيقولون: نواقض الوضوء معناها: أنها تنقض الوضوء فقط، ولكن الأصل وجود الوضوء ثم نقض بهذه النواقض، لكن موجبات الغسل الأصل عدم وجودها, فإذا وجدت أوجبت الغسل من جديد.

    معنى الفرائض

    بدأ المؤلف بفرائض الوضوء, والفرائض معناها في اللغة: الضرائب، أي: المال الذي يؤخذ عنوة من غير رضا صاحبه، وذكرنا شاهداً على ذلك قول الشاعر:

    فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعياً هلم فإن المشرفيَّ الفرائض

    فإنك دون المال ذو جئت تبتغي ستلقاك بيض للنفوس قوابض

    فالفرائض معناها: الضرائب التي تؤخذ من غير رضا صاحبها، وهي جمع فريضة.

    والفريضة في الاصطلاح: ما أوجبه الشارع سواء رضي به المكلف أو لم يرضَ به، فهو مأخوذ منه عنوة, فهو فرض عليه لابد من أدائه, ولا يستطيع الاحتيال عليه، ولا المكابرة فيه.

    معنى الوضوء

    والوضوء: مشتق من الوضاءة؛ وهي الحسن؛ لأنه حسن لصاحبه في الدنيا, وحسن له في الآخرة، فهو حسن له في الدنيا؛ لأن الأعضاء التي يراها الناس من الإنسان وجهه ويداه ورجلاه تغسل, والغسل فيه نظافة وتطهير, ومما هو معين على الجمال؛ لأن الماء يعد لدى العرب من أنواع الطيب، كما قال زهير بن أبي سلمى :

    ومسك تعل به جلودهم وماء.

    فعد الماء من أنواع الطيب, وعده مع المسك، وهو كذلك حسن لصاحبه يوم القيامة؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه قيل له: بم تعرف أمتك يوم القيامة؟ فقال: إن أمتي يردون عليَّ الحوض غرًّا محجلين من أثر الوضوء ). وفي رواية: ( من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل )، وفي رواية أنه قال: ( أرأيتم لو كان لأحدكم خيل بلق في خيل بهم أكان يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإن أمتي يردون عليَّ الحوض غراً محجلين من أثر الوضوء ).

    وفي رواية: ( تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)، وهذا الحديث يدل على أن الحلية -التي هي التزيين بالنور يوم القيامة- تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء، فيأتي وجهه أبيض ويداه كذلك فيهما الغرة والتحجيل في الوجه واليدين من الخيل، وهما وصف كمال ومدح، وكذلك في الرجلين.

    دلك الأعضاء

    قال: [فرائض الوضوء سبعة وهي دلك وفور نية في بدئه ].

    بدأ في ذكر فرائض الوضوء فقال: إنها سبعة على مقتضى المذهب المالكي، (وهيْ) معناه: وهيَ: (دلك), والدلك معناه: إمرار اليد على العضو مع صب الماء أو بعده بيسير.

    والدلك قد اختلف فيه: هل هو من مفهوم الغسل أو ليس من مفهومه؟ فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6], وغسل الوجه هل معناه مجرد صب الماء عليه أو معناه صب الماء والدلك؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، وعلى هذا اختلف في حكم الدلك في المذهب المالكي على قولين:

    القول الأول: أن الدلك واجب لذاته، فهو فرض من فرائض الوضوء لذاته.

    القول الثاني: أن الدلك إنما هو واجب لتحقق إيصال الماء إلى العضو، فإذا تحقق وصول الماء بدونه لم يلزم، كمن انغمس في النيل، فإنه تأكد قطعاً أن الماء قد وصل إلى كل ما يلزم الوصول إليه من بدنه، لكن القول الأول -وهو أن الدلك واجب لذاته- هو المشهور في المذهب، فلذلك بدأ به، فقال: (دلك).

    الموالاة في الوضوء

    ثم قال: (وفور), والفور معناه: الموالاة، والمقصود بذلك: موالاة غسل الأعضاء بحيث لا يفصل بينها بزمن يقتضي يبس العضو قبل غسل الآخر، وذلك في الزمان والمكان والشخص المعتدل، فمثلاً: إذا كان في شدة السموم والحر فغسل وجهه ومباشرة يبس قبل أن يغسله فهذا لا يعتبر قطعاً للفور، أو مثلاً: غسل وجهه في الريح الشديد ثم يبس قبل أن يغسل يديه فلا يعتبر قطعاً للموالاة. وكذلك في الشخص المعتدل فبعض الناس يبقى البلل في عضوه إذا غسله ولو مدةً طويلة؛ لأن طبيعة جلده دهنية تبقي الماء عليها ولو لمدة طويلة، فالعبرة إذاً بالتوسط من ذلك.

    النية

    ثم قال: (نية في بدئه)، هذا الفرض الثالث؛ وهو النية، والنية تأتي بالتشديد والتخفيف، فيقال: نية ونيّة، وكلاهما روي به قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى)، جاء بالتخفيف والتشديد بالنيات أو بالنيَّات، ونظير ذلك في القرآن قول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ[الحج:52]. فقراءة الجمهور (أمنيَّته) بالتشديد، وقراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع (أمنيته) بالتخفيف.

    وكذلك: إِلاَّ أَمَانِيَّ[البقرة:78]، فقراءة الجمهور بالتشديد، وقراءة أبي جعفر بالتخفيف: (إِلا أَمَانِيَ).

    فهذا النوع من الكلمات فيه التشديد والتخفيف لغتان، والمقصود بالنية: توجه القلب إلى الشيء وقصده أي: أن يقصد الإنسان الشيء فيتوجه قلبه إليه.

    وهي ركن من أركان العمل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

    وقوله: (في بدئه) أي: عند بدايته, فإذا غسل الإنسان يديه ووجهه من أجل التبرد أو لإزالة الغبار، ثم بدا له أن يكمل وضوؤه فنوى من جديد فهذه النية لا تنفعه؛ لأنها ليست في بدئه، فلابد أن تكون من بداية العمل.

    والإنسان في الوضوء مخير بين ثلاث نيات:

    أولاً: أن ينوي رفع الحديث، والمقصود بالحدث هنا: المنع الذي رتبه الشارع على الأعضاء؛ لأننا ذكرنا أن الحدث يطلق على ثلاثة أمور:

    الأول: على الخارج من أحد السبيلين.

    الثاني: على خروجه.

    الثالث: على الحكم المترتب عليه؛ وهو المنع.

    والحدث الذي يرفع هنا هو المنع, فإذا قلنا: رفع الحدث فالمقصود به: رفع المنع الذي رتبه الشارع على الأعضاء, فلذلك قال: [ ولينو رفع حدث أو مفترض أو استباحة لممنوع عرض ].

    فقوله: (ولينو رفع حدث) هذه النية الأولى, وهي رفع الحدث أي: أن ينوي رفع ما رتبه الشارع على أعضائه من المنع من الصلاة، وهذا المنع هو الموجود في حديث أبي هريرة: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث ما لم يتوضأ )، فهو الآن يتوضأ لرفع هذا المنع عنه.

    النية الثانية: هي قوله: (أو مفترض) أي: أن ينوي الفرض أي: ينوي أداء الفريضة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب عليه الوضوء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6], فينوي أداء ما افترض الله عليه.

    وقوله: (أو استباحة لممنوع عرض) هذا النية الثالثة: استباحة ما منع أي: استباحة الصلاة, فإنها لا تباح في حق المحدث إلا إذا كان على طهارة.

    إذاً: النية عند الوضوء الإنسان فيها مخير بين ثلاث نيات: إما أن ينوي رفع الحدث، وإما أن ينوي أداء الفرض، وإما إن ينوي استباحة ما منع. وهي مجموعة في قوله: (ولينو رفع حدث أو مفترض أو استباحة لممنوع عرض) أي: عرض منعه. فالأصل عدم المنع من أي عبادة؛ ولكن عرض المنع بسبب الحدث.

    غسل الوجه

    ثم قال: [ وغسل وجه غسله اليدين ومسح رأس غسله الرجلين ].

    قوله: (وغسل وجه) هذا الفرض الرابع من فرائض الوضوء؛ وهو غسل وجه، أي: غسل الإنسان لوجهه, والوجه هو ما يواجهك عند لقائك للإنسان, فما يواجهك منه هو الذي يسمى وجهاً، فيدخل فيه ظاهر اللحية, فهو من الوجه، لكن اختلف هل يدخل فيه ما بين العذار والأذن؟ فما بين العذار والأذن -في حق من له عذار- هذا لا يواجهك عند مواجهتك للإنسان، فهل هو داخل في وجهه أم لا؟ إذا كان داخلاً في الوجه فيجب غسله، وإذا كان غير داخل في الوجه فلا يجب غسله، وعلى هذا لا يجب تخليل داخل الشعر إذا كان الشعر كثيفاً لا يرى ما تحته، فلا يجب تخليله، ولا يمنع ذلك ندب تخليله، فقد جاء في سنن أبي داود: ( فأخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته )، فهذا دليل على الندب, وليس دليلاً على الوجوب، فتخليل اللحية إذا كانت كثيفة غير واجب؛ ولكن لا يمنع ذلك ندبه.

    واختلف في قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ[المائدة:6] هل يدخل فيه المضمضة والاستنشاق أم لا؟

    فقالت طائفة من أهل العلم: داخل الأنف وداخل الفم هو من الوجه؛ لأن الوجه هو هذا العضو فيدخل فيه داخل الأنف وداخل الفم، وأجابهم الجمهور بأنه لو كان كذلك لكان داخل العين أيضاً يجب غسله، ولا يجب خلافاً لـابن عمر، فلم يقل أحد بوجوب غسل داخل العينين إلا ابن عمر، كان يفعل ذلك في نفسه ولم يكن يفتي به غيره، وهي من تشدداته رضي الله عنه.

    وقالت طائفة بالتفريق بين الأنف والفم، فقالوا: الأنف مفتوح دائماً، فما كان بداخله فهو مما يواجهك من الوجه، والفم يمكن أن يطبق، فما كان بداخله ليس من الوجه، فعلى هذا يجب الاستنشاق ولا تجب المضمضة.

    وقد اختلفوا أيضاً في التفريق بين الغسل والوضوء، فذهب بعضهم إلى وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل وسنيتهما في الوضوء، وذهب بعضهم إلى وجوبهما في الوضوء والغسل معاً, وذهب بعضهم إلى سنيتهما في الوضوء والغسل معاً؛ وهذا مذهب المالكية كما سيبينه المؤلف.

    غسل اليدين

    قال: (غسله اليدين)، هذا الواجب الخامس من فرائض الوضوء: غسل اليدين، والمقصود: غسلهما إلى المرفقين.

    مسح الرأس

    (ومسح رأس) أي: مسح الإنسان لرأسه، وذلك يشمل المسترخي منه كمن له شعر طويل، فإنه يمسح إلى نهاية طول شعره، ومذهب المالكية وجوب مسح الرأس جميعاً، وأن (الباء) التي في قوله: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ[المائدة:6] للإلصاق، وهذا الأصل في معاني (الباء) كما قال سيبويه: الأصل في معاني (الباء): الإلصاق.

    وذهب الشافعية والحنابلة والحنفية إلى التجزئة، فرأوا أن (الباء) للتبعيض، فمعناه: أن الواجب هو مسح بعض الرأس لا كله، ولكن مذهب المالكية مسح جميع الرأس، وأن (الباء) للإلصاق لا للتبعيض.

    غسل الرجلين

    قال: (غسله الرجلين)، هذا الفرض السابع من فرائض الوضوء؛ وهو غسل الرجلين إلى الكعبين، وهما الكعبان الناتئان بمفصلي الساقين.

    أدلة فرائض الوضوء

    فهذه الفرائض السبعة ثلاثة منها دليلها السنة، وأربعة دليلها القرآن، فالأربعة التي في القرآن هي قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6].

    أما قراءة النصب -وهي قراءة الجمهور- (وأرجلَكم) فهي واضحة معناها، وأما قراءة الجر: (وأرجلِكم إلى الكعبين) وهي قراءة ابن كثير، فإن أهل العلم حملوها على محامل، فمنها: مسحهما إذا كانتا في خفين, فيكون المعنى: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إذا كانت في خفين، وقال الجمهور: بل الجر للمجاورة هنا؛ لأن الأرجل لما جاورت الرءوس والرءوس مجرورة بالباء جرت الأرجل بالمجاورة، كقول امرئ القيس :

    كأن أباناً في أفانين ودقه كبير أناس في بجاد مزمل

    فـ(مزمل) في الأصل نعت لـ(كبير) وهو مرفوع، فأصل الكلام أن يقال: مزملُ، ولكنها لما جاورت (بجاد) جرت بالمجاورة.

    وهذا الجر بالمجاورة أيضاً حملت عليه قراءة حمزة في سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسّاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. فقراءة حمزة: (والأرحامِ) بالجر، فجمهور أهل التفسير على أنها مجرورة بالمجاورة ومعناها: اتقوا الله الذي تساءلون به، فالضمير مجرور بالباء، والأرحام جاورت الضمير فجرت، وقراءة الجمهور: (والأرحامَ) معناه: واتقوا الأرحام بالنصب.

    أما الثلاثة التي في السنة: فهي النية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، والفور والدلك في عمل النبي صلى الله عليه وسلم وهيئة وضوئه.

    حكم الترتيب في فرائض الوضوء

    وبقي الترتيب لم يذكره المؤلف، وقد اختلف فيه أهل العلم هل هو من فرائض الوضوء أم لا؟

    والمؤلف رحمه الله ذهب إلى قول للمالكية؛ وهو أن الترتيب سنة وليس بواجب، فإذا غسل الإنسان أولاً يديه إلى المرفقين ثم غسل وجهه ثم مسح رأسه ثم غسل رجليه، أو غسل رجله اليسرى قبل اليمنى ثم اليمنى، فوضوؤه صحيح عندهم، ولكنه مخالف للسنة، وقد فعل مكروهاً.

    وللمالكية قول آخر وهو أيضاً موافق لكثير من أهل العلم؛ بأن الترتيب واجب، فلابد أن يبدأ الإنسان أولاً بغسل وجهه ثم بغسل يديه إلى المرفقين، ثم بمسح رأسه ثم بغسل الرجلين.

    مقدار الفرض في أعضاء الوضوء

    قال: [ والفرض عم مجمع الأذنين والمرفقين عمَّ والكعبين ].

    (والفرض) معناه: والفرض في الرأس أي: في مسح الرأس، (عم مجمع الأذنين)، وكذلك الفرض في غسل الوجه عم مجمع الأذنين، وهذا في الرأس محل اتفاق فما بين الأذنين قطعاً من الرأس، فمحل اتفاق بين المالكية أنه يلزم مسحه جميعاً، ولكن في الغسل -أي: في غسل الوجه- محل خلاف في حق من له عذار، هل عم الغسل مجمع الأذنين أي: ما بينهما؟ هذا محل خلاف.

    (والمرفقين عم) الفرض في اليدين عم المرفقين فلابد من غسلهما، وذلك أن الله جعلهما غاية للغسل فقال: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6], و(إلى) تفسر بمعنى (مع)، فـ (إلى) تأتي بمعنى (مع)، فلذلك فسرت بها هنا، فقوله: (أيديكم إلى المرافق) معناه: مع المرافق, فتدخل المرافق مع اليدين.

    ومذهب الشافعية خروجها؛ لأنهم يرون أن الغاية خارجة، والواقع أن الغاية تأتي بـ (إلى) وتأتي بـ(حتى)، فـ (إلى) إذا جاءت فالراجح دخول الغاية، و(حتى) إذا جاءت فالراجح خروج الغاية.

    فـ (إلى) مثل قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ[المائدة:6]، و(حتى) مثل قوله: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ[البقرة:187], فـ (حتى) مخرجة للغاية، و(إلى) مدخلة لها، ولذلك إذا قال إنسان لآخر: بعتك هذا الحائط إلى هذه النخلة، فالنخلة داخلة، وإذا قال: بعتك هذا الحائط حتى هذه النخلة، فالنخلة خارجة، ولذلك قال الشاعر:

    ألقى الصحيفة كي يخفف رحله والزاد حتى نعله ألقاها

    فالغاية خارجة؛ لأنه قال: (حتى نعله ألقاها) فاحتاج إلى التصريح بقوله: ألقاها.

    ويقولون: أكلت السمكة إلى رأسها معناه: أن الرأس غير مأكول على هذا الوجه؛ لكن بالنسبة لمذهب الجمهور أن الرأس مأكول، لكن إذا قال: أكلت السمكة حتى رأسها. فالرأس خارج.

    والكعبين كذلك الفرض في الرجلين عم الكعبين، معناه: الفرض في غسل الرجلين عم الكعبين وهما الناتئان بمفصلي الساقين فيلزم غسلهما.

    تخليل أصابع اليدين

    [ خلل أصابع اليدين وشعر وجه إذا من تحته الجلد ظهر ].

    كذلك مما يعمه الغسل: تخليل أصابع اليدين، فالفرجة فيهما متسعة أي: ما بين الأصابع في اليدين متسع، فلذلك يجب تخليلهما في الوضوء والغسل، بخلاف الفرجة بين أصابع الرجلين فهي ضيقة، فلذلك يسن تخليل الأصابع في الرجلين ولا يجب، وهذا قول من أقوال المالكية في المسألة, ولهم قول بوجوب التخليل مطلقاً لليدين والرجلين، وقد سئل مالك في مجلسه: هل ورد شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخليل الأصابع؟ فقال: لا، فبقي ابن وهب جالساً مكانه حتى انصرف الناس وانصرف أهل الحلقة فقال: هل عندك شيء؟ قال: نعم، حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد المقبل عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم خلل أصابعه )، فسكت مالك فلما كان من الغد واجتمعت الحلقة قال: هل بقي أحد ممن حضر معنا بالأمس؟ قالوا: قد حضرنا جميعاً. فقال: سألتموني عن تخليل الأصابع فذكرت أنه لم يرد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وقد حدثني عبد الله بن وهب قال: حدثنا محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خلل أصابعه ).

    فكان هذا من تمام علم مالك، فلم يرَ في الرجوع إلى الحق بأساً، ورأى أنه واجب عليه, ولم يرَ غضاضة في أن يحدث عن تلميذه، وقد حصل نظير ذلك لـابن عرفة الورغمي وهو من شيوخ المالكية الكبار، وقد كان يحدث في تونس فحدث: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وآلى وظاهر، فلما انفضت الحلقة بقي شاب صغير في مجلسه، فدعاه فقال: هل عندك شيء؟ فقال: حدثتنا أيها الشيخ! أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق، وقد صدقت, وقد ثبت في حديث ابن عمر: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، فأمره جبريل بمراجعتها )، وحدثتنا أنه آلى من نساءه، وقد صدقت فقد ثبت في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحيح: ( أنه آلى من نساءه شهراً )، وحدثتنا أنه ظاهر من نساءه, وكيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً[المجادلة:2]، فقال: إذاً أنت الفتى ابن مرزوق ؟ فقال: نعم. عرفه بمجرد فهمه، فلما كان من الغد واجتمعت الحلقة قال: حدثتكم بالأمس أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وقد صدقت، وحدثتكم أنه آلى من نسائه وقد صدقت، وحدثتكم أنه ظاهر من نسائه وقد كذبت، وكيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً[المجادلة:2], علمني هذا الفتى الجالس وهو ابن مرزوق فأشار إليه.

    فأهل العلم لا يرون غضاضة في الرجوع إلى الحق إذا تبين، وقد قال أحد علمائنا:

    ليس من أخطأ الصواب بمخط إن يؤب لا ولا عليه ملامة

    إنما المخطئ المسيء من إذا ما ظهر الحق لج يحمي كلامه

    حسنات الرجوع تذهب عنه سيئات الخطى وتنفي الملامة

    وفي كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

    قال: (خلل أصابع اليدين) أي: وجوباً.

    تخليل شعر الوجه الخفيف

    (وشعر وجه) أي: ما في الوجه من الشعر، (إذا من تحته الجلد ظهر) أي: إذا كان الشعر خفيفاً تبدو البشرة من تحته فلابد من تخليله, بخلاف الشعر الكثيف الذي لا تبدو البشرة من تحته فلا يجب تخليله.

    وهنا قوله: (شعر وجه) مخرج لشعر الرأس فلا يجب تخليله في الوضوء؛ لأن الواجب فيه المسح, والمسح مبني على التخفيف فلا يلزم فيه التخليل.

    1.   

    سنن الوضوء

    قد سبق للمؤلف رحمه الله أن ذكر أن السنة داخلة في الندب فقال: (وشمل المندوب سنة بذين)، وقد ذكرنا أن هذا ليس المصطلح الثالث لدى المالكية، فلدى المالكية تفريق بين السنة والمندوب، فهم يرون أن المندوب هو ما أمر به الشارع أمراً غير جازم، ولو لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم, ولو لم يظهره في ملأ, ولو لم يواظب عليه، وأن السنة هي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في ملأ عليه، وواظب عليه وأظهره، لكن دل الدليل على عدم وجوبه، فالسنة إذاً آكد من المندوب، وهو هنا ذكر سنن الوضوء.

    قال رحمه الله:

    [ سننه السبع ابتدا غسل اليدين ورد مسح الرأس مسح الأذنين

    مضمضة استنشاق استنثار ترتيب فرضه وذا المختار ].

    غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء

    قوله: (سنن سبع ابتدا غسل اليدين) أي: سنن الوضوء سبع أولها: غسل اليدين ابتداءً أي: غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء فهو سنة مؤكدة، وبالأخص إذا كان ذلك في الاستيقاظ من النوم؛ لحديث أبي هريرة: ( إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثاً؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ).

    وقد ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء لهذا الحديث؛ لأن الحديث فيه نهي عن إدخالهما في الإناء، ولكن ليس فيه أمر بالغسل قال: ( حتى يغسلها ثلاثاً )، ولم يقل: فليغسلها ثلاثاً.

    وأيضاً اختلف هل هذا في بداية كل وضوء أو في بداية الوضوء بعد النوم؟ وأيضاً اختلف هل كل نوم يلزم فيه ذلك أو نوم الليل فقط؛ لأن أول الحديث فيه: ( إذا استيقظ أحدكم من منامه )، وهذا يشمل نوم الليل ونوم النهار، ولكنه قال: ( فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده )، وهذا في منام الليل فقط؛ لأنه قال: ( باتت)، ولكن بات تستعمل للاستقرار في اللغة، فيقال: أضحى وأمسى وبات بمعنى: استقر, ومنه قول النابغة :

    أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لُبد

    فقوله: أمست خلاء معناه: استقرت, ولا يقصد بها الدخول في المساء.

    إذاً: غسل اليدين ابتداء سنة مؤكدة من سنن الوضوء.

    و(ابتدا) هنا معناه: ابتداء، مصدر منصوب, وهو مقصور للضرورة حذفت همزته فنون.

    رد مسح الرأس

    ثم قال: (ورد مسح الرأس), كذلك السنة الثانية من سنن الوضوء رد مسح الرأس، فالمسح المذكور في القرآن: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ[المائدة:6]، يمتثل بالمرة الواحدة، فإذا مسح الإنسان مسحة واحدة فقد أدى ما عليه وأدى الفرض؛ لأن الفعل لا يدل إلا على المرة الواحدة، لكن الثابت في مسح النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه أقبل بهما وأدبر )، أي: أقبل بيديه وأدبر، وهذا يدل على مسحتين: مسحة الإقبال, ومسحة الإدبار، فمسحة الإقبال هي الواجبة, ومسحة الإدبار هي السنة، أو العكس.

    والإدبار فيه خلاف ما معناه؟ هل الإقبال هو على وجوه اليدين والإدبار للرجوع، أو الإقبال بالرجوع والإدبار على العكس؟ هذا محل خلاف في تفسير الحديث، فبعض أهل العلم تمحّلَ فقال: المقصود أنه بدأ من وسط رأسه فأقبل بهما أولاً ثم أدبر، ثم بعد ذلك ردهما حتى وصل إلى المكان الذي بدأ منه، وهذا تمحل, فالمقصود بالإقبال المسح من أول الرأس إلى آخره، والمقصود بالإدبار ردهما؛ لأن المقصود الإقبال على وجه اليد، ووجه اليد هو هكذا، والإدبار على قفى اليد وهو هكذا.

    مسح اليدين

    ثم قال: (مسح الأذنين), وهذه السنة الثالثة من سنن الوضوء؛ وهي مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما، ومن ذلك مسح صماخهما أي: فتحتهما؛ أن يمسحهما الإنسان بمسبحتيه, وهما السبابتان، ثم يمر الإبهام خلفهما والمسبحة مثنية فوقهما, هذا هو مسح ظاهر الأذنين وباطنهما، ولا يلزم تتبع غضونهما؛ بل هو مكروه، فتتبع الغضون في الوضوء مكروه، لكنه في الغسل مطلوب.

    ومسح الأذنين ورد فيه عدد من الأحاديث، منها حديث علي رضي الله عنه, ولكن لم يصل شيء منها إلى درجة الصحة تماماً، فليس في الصحيحين ذكر مسح الأذنين في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك لم يوجب المالكية مسح الأذنين، وقد أوجب ذلك بعض أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: ( الأذنان من الرأس )، والرأس أمر الله بمسحه قال: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ[المائدة:6]، وإذا كان الأذنان من الرأس فيلزم مسحهما مع الرأس.

    المضمضة

    (مضمضة): وهذه السنة الثالثة من سنن الوضوء، وهي المضمضة, وتسمى المصمصة أيضاً، وهي تتحقق بثلاثة أمور:

    الأمر الأول: إدخال الماء في الفم، والأمر الثاني: خضخضته فيه، والأمر الثالث: مجّه أي: بصقه, فإذاً ثلاثة أمور، فإذا أدخل الماء في فيه ثم ابتلعه فقد تحقق أمر واحد ولم تتحقق المضمضة، وإذا أدخل الماء في فيه وخضه فيه ولكنه ابتلعه بعد ذلك لم تحصل المضمضة كذلك؛ لأنه بقي منها مجه وبصقه، فإذاً لابد من ثلاثة أمور في المضمضة: إدخال الماء في الفم، وخضخضته فيه، ومجه.

    الاستنشاق

    قال: (استنشاق) هذه هي السنة الخامسة، وهي إدخال جذب الماء بريح الأنف أي: إدخال الماء في المنخورين أي: في الأنف، وذلك بهواء الأنف أي: يجتذبه الإنسان بهواء الأنف؛ لما ثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر ) وفي رواية: ( فليأخذ بمنخوريه من الماء ).

    الاستنثار

    قال: (استنثـار)، وهذه هي السنة السادسة؛ وهي إخراج الماء الذي أدخل في الأنف، إخراجه منه سنة مستقلة؛ لأنه قال: (ثم لينتثر)، وهذا العطف بـ (ثم) يقتضي الانفصال:

    الفاء للترتيب باتصال وثم للتخفيف بانفصال

    فدل ذلك على أن الاستنشاق سنة, وعلى أن الاستنثار سنة أخرى.

    الترتيب في فرائض الوضوء

    (ترتيب فرضه)، هذه سنة سابعة, وهي ترتيب الفرائض، (وذا المختــار) أي: هذا الذي اختاره المؤلف من الخلاف في المسألة، وقد سبق أن ترتيب الفرائض فيه خلاف هل واجب أو سنة؟ وأن هذا الخلاف داخل المذهب المالكي، لكن المؤلف اختار أن يكون سنة, فقال: (ترتيب فرضه وذا المختار).

    1.   

    مندوبات الوضوء

    ثم بعد هذا ذكر فضائل الوضوء, وهي مندوباته فقال:

    [ وأحد عشر الفضائل أتت تسمية وبقعة قد طهرت

    تقليل ماء وتيامن الإنا والشفع والتثليث في مغسولنا

    بدء الميامن سواك وندب ترتيب مسنونه أو مع ما يجب

    وبدء مسح الرأس من مقدمه تخليله أصابعاً بقدمه ].

    قوله: (وأحد عشر الفضائل أتت) أي: فضائل الوضوء أحد عشر.

    التسمية

    (تسمية)، معناه: أن يذكر اسم الله في بدايته، فقد ورد في الحديث: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ), وهذا الحديث ضعيف، ولكنه مع ذلك موافق لأحاديث أخرى تشهد له، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر )، وفي رواية: ( فهو أقطع )، وفي رواية: ( أجذم )، فالأبتر مقطوع الذنب، والأجذم مقطوع اليد، والأقطع مقطوع العضو مطلقاً، والمقصود ناقص أي: فيه نقص.

    الوضوء في مكان طاهر

    (وبقعة قـــد طهرت) كذلك من مندوبات الوضوء: أن يكون الإنسان في مكان طاهر وقت استعماله؛ لأنه إذا كان في مكان متنجس فربما تنجس شيء من لباسه؛ لأنه سيبتل ويخالط النجس، أو ربما تنجس شيء من أعضائه؛ لأنها مبلولة وستخالط النجس، فلذلك يندب أن يكون في بقعة طاهرة.

    تقليل الماء وعدم الإسراف فيه

    (تقليل ماءِ)، كذلك من مندوبات الوضوء: تقليل الماء وعدم الإسراف فيه، فالسرف لا خير فيه مطلقاً، وقد قال الله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141].

    وضع الإناء جهة اليمين حال الاغتراف منه

    (وتيامن الإنـــا)، معناه من مندوبات الوضوء: أن يتيامن الإناء أي: أن يجعله عن يمينه إذا كان مفتوحاً يغترف منه، وإن يجعله عن يساره إذا كان مغلقاً يصب منه في يمينه، فإذا كان الإناء منفتحاً كالقدح الذي يغترف الإنسان منه فيندب أن يجعله عن يمينه؛ ليغترف بيمينه منه، وإن كان منغلقاً يصب منه فليجعله عن يساره؛ لأنه سيصب في يمينه بيساره، فالمقصود أن تكون البداءة بيمينه مطلقاً؛ لحديث عائشة: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجب التيمن في سواكه وطهوره وترجله وفي أمره كله )، في أمره كله أي: في كل شئونه، فطهور الوضوء يندب البداءة بأن يجعل الإنسان الماء عن يمينه.

    التثليث في المغسولات

    (والشفع والتثليث في مغسولنـا)، كذلك من مندوبات الوضوء: الشفع أي: الغسلة الثانية، والتثليث أي: الغسلة الثالثة، (في مغسولنا) أي: في كل ما يلزم غسله, بخلاف ما يمسح فلا يلزم فيه التثليث، فاليدان أولاً قد ذكرنا ندب غسلهما؛ لكن يندب كذلك شفعهما وتثليثهما، والمضمضة والاستنشاق قد ذكرنا سنيتهما؛ لكن يندب أيضاً شفعهما وتثليثهما، وغسل الوجه قد ذكرنا وجوبه؛ لكن يندب أيضاً شفعه وتثليثه, وغسل اليدين إلى المرفقين قد ذكرنا وجوبه؛ لكن يندب أيضاً شفعه وتثليثه، وغسل الرجلين كذلك إلى الكعبين قد ذكرنا وجوبه؛ لكن اختلف في شفعه وتثليثه، فقالت طائفة من العلماء: الرجلان كاليدين تثلثان، وقالت طائفة: المطلوب فيه الإنقاء، فيكفي في ذلك غسلة واحدة منقية، وكل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عنه أنه غسل مرة مرة، وورد عنه أنه غسل مرتين مرتين، وورد عنه أنه غسل ثلاثاً ثلاثاً، وهو أكمل ذلك وآخره، فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة في الغسلات على ثلاث، لكن ورد عنه الاقتصار على واحدة, وورد عنه الاقتصار على اثنتين، وورد عنه التثليث، وورد عنه الجمع بين التثليث والتثنية، كما في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم وفيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل وجهه ثلاثاً, وغسل يديه إلى المرفقين مرتين)، فهذا جمع بين التثليث والتثنية في وضوء واحد.

    البدء بالميامن

    (بدء الميامن)، معناه من مندوبات الوضوء: أن يبدأ الإنسان بميامنه، فإذا غسل يديه بدأ بغسل اليمنى أولاً، وإذا مسح أذنيه بدأ باليمنى، وإذا غسل رجليه بدأ باليمنى وهكذا.

    السواك

    (سـواك)، كذلك من مندوبات الوضوء: السواك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )، وفي رواية: ( عند كل وضوء )، والمندوب فيه إذا غسل الإنسان يديه أولاً أن يستاك ثم يتمضمض ويستنشق ثم بعد ذلك يغسل وجهه، فهذا هو الترتيب فيما يتعلق بالندب عند وضوئه، فيجعل السواك بعد غسل يديه وقبل المضمضة؛ لتكون المضمضة مخرجة لآثار السواك وما أبقاه في الفم، والسواك أفضله ما كان بآلة كعود أو وسيلة، وإذا لم يجد فليستك بإصبعه أو بطرف ثوبه؛ لأن المقصود به إنقاء الأسنان وتطهيرها.

    ترتيب مسنونات الوضوء مع واجباته

    (ونـدب ترتيب مسنونه أو مع ما يجب)، هنا الضمير وهو الهاء مكسور باختلاس، كسرة الاختلاس أي: من غير مد، تقول: تخليل مسنونه أو مع ما يجب، وهذا الاختلاس مقروء به في القرآن كما تعلمون، فرواية قالون عن نافع كذلك عدد من القراء الآخرين: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً [آل عمران:75], فالكسر باختلاس هو رواية قالون عن نافع مثلاً.

    (وندب ترتيب مسنونه أو مع ما يجب)، معناه: يندب ترتيب مسنونات الوضوء وترتيبها مع الواجبات؛ فيبدأ أولاً بغسل يديه أولاً، ثم بالسواك، ثم بالمضمضة ثم بالاستنشاق، ثم بالاستنثار.. وهكذا.

    (أو مع ما يجب) أي: أو مع الواجبات، فالمسنونات تتخلل الواجبات، فلا يبدأ الإنسان أولاً بواجبات الوضوء ثم يفعل سننه، بل يرتبها فذلك مندوب.

    البدء بمقدم الرأس عند مسحه

    (وبدء مسح الـرأس من مقدمه)، كذلك من مندوبات الوضوء: أن يبدأ الإنسان في مسح الرأس من مقدم، حتى نهايته ثم يعود إلى المكان الذي بدأ منه.

    تخليل أصابع الرجلين

    (تخليله أصــابعـا بقدمـه)، معناه كذلك من مندوبات الوضوء: تخليل أصابع الرجلين، وقد ذكرنا أن الفرق بين أصابع اليدين وأصابع الرجلين: أن خلل اليدين متسع، فلذلك وجب تخليلهما, والخلل بين أصابع الرجلين ضيق فلذلك ندب تخليلهما، وقوله: (تخليله أصابعا بقدمه)، هنا نكر الأصابع ليدل ذلك على أن من كانت لديه أصبع زائدة فإنه يجب غسلها قطعاً، وأيضا ًيندب تخليل ما بينها وبين الأصابع الأخرى إذا كانت في رجليه، وفي اليدين إذا كان للإنسان أصبع زائدة وجب غسلها، وإذا نبتت له يد زائدة فإن كانت بالإبط مثلاً وكانت على طول اليد الأخرى، فكان للإنسان أربع أيدٍ مثلاً فاختلف هل يلزمه غسل كل يد إلى المرفق، أو يقتصر على اليدين اللتين هما أعلى ما نبت له ويعتبر ما كان أسفل منهما خارجاً عن الخلقة، أو ينظر إلى الأقوى، فاليد التي يعمل بها وهي أقوى يديه هي التي يجب غسلها وما سواها لا يلزمه غسله.

    1.   

    مكروهات الوضوء

    الآن سيذكر المؤلف رحمه الله مكروهات الوضوء, قال:

    [ وكره الزيد على الفرض لدى مسح وفي الغسل على ما حددا

    وعاجز الفور بنى ما لم يطل بيبس الاعضا في زمان معتدل ].

    الزيادة على محل الفرض في الغسل والمسح

    المكروهات منها الزيادة على الفرض في المسح وفي الغسل، لذلك قال: (فيكره الزيد على الفرض) أي: الزيادة على الفرض، (لدى مسح) معناه: أن يمسح الإنسان رقبته, هذا ليس من إطالة الغرة، وهو مكروه لدى المالكية، وهو مندوب لدى الشافعية، فالشافعية فسروا إطالة الغرة بمسح الرقبة، وبالرفع في مسح اليدين إلى العضدين, وبالرفع في غسل الرجلين إلى الساقين، وقد روي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولكن المالكية رأوا أن قوله: ( فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)، من المدرج في الحديث، فيكون من قول أبي هريرة وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك يقتصر على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, وتكره الزيادة عليه.

    وقوله: (وفي الغسل على ما حددا)، كذلك تكره الزيادة في الغسل على ما حدد، وهو الغسل في اليدين إلى المرفقين, وفي الرجلين إلى الكعبين.

    الزيادة على ثلاث غسلات

    وكذلك الزيادة في العدد فتكره الغسلة الرابعة، وقد قال بعض أهل العلم بمنعها, وهو قول للمالكية، ولذلك قال خليل رحمه الله: "وأهل تكره الرابعة أو تمنع خلاف".

    فالمذهب المالكي خلاف متساوي الطرفين هل الغسلة الرابعة مكروهة أو حرام؛ لأن من شأن الكبراء إذا حدوا حداً أن يعد الزائد عليه مسيئاً تاركاً للأدب.

    1.   

    الواجب على من عجز عن الموالاة في الوضوء

    [ وعاجز الفور بنى ما لم يطل بيبس الاعضا في زمان معتدل ].

    الفور قد ذكرنا أنه من فرائض الوضوء، فمن عجز عن الفورية كمن جلس يتوضأ وعنده ماء يسير، فانكب الماء، فهو يحتاج إلى الذهاب إلى الماء ليأخذ منه ماء جديداً ليكمل به، فهذا عاجز الفور.

    (بنى) أي: على ما صنع, فيكمل وضوءه إذا وجد الماء مرة أخرى، (ما لم يطل) معناه: ما لم يطل الفصل، وطوله يقد بيبس الأعضاء في زمان معتدل وفي مكان معتدل وفي شخص معتدل كما سبق.

    1.   

    الواجب على من ترك الفرض ثم تذكره بعد وضوئه

    قال رحمه الله: [ ذاكر فرضه بطول يفعله فقط وفي القرب الموالي يكمله ].

    قوله: (ذاكر فرضه)، معناه: من تذكر فرضاً من أعضاء وضوئه قد نسيه مثلاً: تذكر أنه لم يغسل وجهه أو أنه لم يغسل إحدى يديه للمرفق، أو رأى لمعة لم تغسل أصلاً بعد نهاية الوضوء، هذا ذاكر فرضه.

    (بطول يفعله فقط) معناه: إذا كان ذلك (بطول) معناه: بعد نهاية الوضوء, وبعد خروجه من المكان الذي يتوضأ فيه، فإنه يفعل المتروك وحده ولا يلزمه فعل ما بعده، أما إذا كان بالقرب أي: إذا كان في مجلسه الذي يتوضأ فيه فتذكر أنه غسل يديه قبل أن يغسل وجهه، فليغسل وجهه, وليغسل يديه مرة أخرى, ويكمل بقية الأعضاء.

    إذاً: تذكر الفرض إما أن يكون في مجلس الوضوء أي: في مكان الوضوء, أو بعد أن يخرج من مكانه، فإن كان بعد أن خرج من مكانه لم يلزمه إلا غسل العضو المتروك فقط ولم يلزمه إعادة ما بعده، وإن كان في مكانه يغسل العضو المتروك وما وراءه ليقع الترتيب، هذا معنى قوله: (ذاكر فرضه بطول يفعله فقط وفي القرب الموالي يكمله) أي: يكمل الموالي؛ وهو ما بعد الفرض المتروك.

    1.   

    حكم من ترك فرضاً أو سنة من الوضوء

    ثم قال رحمه الله: [ إن كان صلى بطلت ومن ذكر سنته يفعلها لما حضر ].

    قوله: (إن كان صلى بطلت) أي: من ترك فرضاً من فرائض الوضوء فصلى, فتذكره بعد الصلاة أو رأى لمعة لم تغسل بعد الصلاة فذلك الفرض باطل، فيلزمه أن يغسل العضو المتروك أو اللمعة وحدها، ثم يعيد الصلاة.

    وقوله: (ومن ذكر سنته يفعلها لما حضر) أي: من تذكر سنة من سنن الوضوء لم يفعلها، مثلاً: تذكر أنه لم يتمضمض أو لم يستنشق مثلاً، أو لم يمسح أذنيه أو لم يرد مسح الغسل، فرد المسح لا يلزم فعله مرة أخرى؛ لأنه من شرطه أن يبدأ بالمسح أولاً ثم يرد.

    فلذلك ما سوى ذلك من السنن، وهي السنن التي لا تترتب على سنة أخرى، فالاستنشاق مثلاً لا يستطيع أن يفعله وحده، ورد مسح الرأس لا يستطيع أن يفعله وحده، أما ما سوى ذلك من السنن فإذا ترك سنة فإنه يفعلها للمستقبل فقط ولا يعيد الصلاة، فمثلاً: إذا تذكر بعد نهاية الصلاة أنه لم يتمضمض فإنه يتمضمض ليكمل وضوءه فقط، ليبقى على وضوء كامل للصلاة المستقبلية, ولكن لا يلزم منه إعادة الصلاة, وهكذا في بقية السنن.

    فقوله: (ومن ذكر سنته) أي: سنة من سنن الوضوء (يفعلها لما حضر)، أي: لمستقبل وضوؤه ولا يلزم أن يقضي بقية صلاته.

    نكتفي بهذا والله أعلم, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767080893