بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله عز وجل قد وصف نفسه بالعلم، وأثنى على العلماء من عباده، واستشهد العلماء على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[آل عمران:18] ، وأخبر أن العلماء وحدهم هم الذين يخشونه حق خشيته، فقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28] ، وأخبر أنه يرفع منزلتهم ويعلي درجتهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَا فْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11] ، وأخبر أنهم وحدهم هم الذين يصلحون للتلقي عن الله عز وجل، فقال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43] ، وحكم لصالحهم في قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:9] .
وكذلك نوه الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلتهم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العلماء ورثة الأنبياء)، و ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا -معاشر الأنبياء- لا نورث، ما تركناه صدقة، إنا لم نورث ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثنا هذا العلم فمن أخذ به أخذ بحظٍ وافر)، وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الحض على طلب العلم، فقد أمره الله بذلك في قوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114] ، وحض صلى الله عليه وسلم على طلبه، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
وكذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في السنن أنه قال: (إن العالم يستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في البحر).
وكذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في السنن والمسند أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم).
وكل هذا يستشعر به المؤمن المخلص ضرورة طلب العلم، ومنزلته ودرجته عند الله تعالى، ويعلم أنه لا يمكن أن يعبد الله تعالى إلا عن طريقه، فلا يمكن أن يعبد الله على جهل، وما عصي عز وجل إلا عن جهالة، إما عن جهالة به أو عن جهالة بتشريعه، والذين يعصونه من الذين يعرفون أنهم خالفوه قد جهلوه؛ لأنهم لم يتصلوا بمعرفة الله؛ فلذلك عصوه، والذين يعصونه وهم لا يعلمون أنهم عصوه فقد جهلوا تشريعه وما أرسل به رسله؛ فإن الله عز وجل لم يترك البرية سدى، وإنما أرسل إليها الرسل ليعلموها ما أنزل إليهم من ربهم، وليرشدوها إلى ما يرضيه عز وجل، ومن هنا ختم الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم المقفي لما سبق والخاتم له، الذي جاء بهذه الآيات والأحاديث التي سقناها، وحض صلى الله عليه وسلم على هذا العلم وعلى الاتصاف به، وجعل منـزلة الناس إنما هي بحسب ما تعلموه وحملوه.
ومن هنا فضّل الله سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار على الأعراب الذين انشغلوا عن طلب العلم.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس حيال هذا العلم قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قومٌ تعلموا ما ينفعهم وينفع من سواهم، فعلموا الناس وأرشدوهم، وعملوا هم بما تعلموا، وهؤلاء في أعلى الدرجات.
القسم الثاني: قومٌ تعلموا ما يعملون به وينجيهم من عذاب الله، ولكن لم يعلموا الناس، ولم يستطيعوا أن يصلوا إلى ذلك المستوى، وهؤلاء هم الدرجة التي تليها.
القسم الثالث: قومُ لم يرفعوا بذلك رأساً، ولم ينتفعوا بهدى الله الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فأعرضوا عما جاء به، فلم يتعلموا ولم يعلموا.
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لهذه الأقسام الثلاثة، فقد أخرج البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه ما بعثني الله به فعلم، وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به)، فهنا بيَّن هذه الطبقات، وجعل المعرضين عن هذا التعلم الذين لا يرفعون به رأساً ولا ينتفعون به في أدنى الدرجات وأحطها وأبعدها عن الحق.
ومن أجل هذا قال الله سبحانه وتعالى في وصف الأعراب: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ[التوبة:97] ، فليس وراء الجهل بحدود ما أنزل الله على رسوله عيب، ولذلك أخرهم الله تعالى بالمنزلة، وجعل ولاية المؤمنين لهم ناقصة.
فالله تعالى جعل الولاء درجتين:
الدرجة الأولى: الولاء العام بين عامة المسلمين وهذا الولاء هو المذكور في قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10] ، وفي قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعض[التوبة:71] .
الدرجة الثانية -وهي أقوى من سابقتها-: الولاء بين العاملين لنصرة الدين والساعين لإعلاء كلمة الله. وهذا الولاء أخص وأقوى من سابقه، وهذا الذي أكده سبحانه وتعالى بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[الأنفال:72] .
فجعل هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يشاركوا في إقامة دولة الإسلام ولم يتعلموا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما جلسوا في باديتهم وما كانوا عليه، مع أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، جعل ولاء المؤمنين لهم مختصاً بمن لم يكن بينه وبين المؤمنين عمل، فقال: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا[الأنفال:72]، فجعل هذا الولاء الخصوصي في أن يهاجروا، فالهجرة مشاركة في إقامة دولة الإسلام، ومشاركة كذلك في تعلم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا لم يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرب بعد الهجرة إلا لأفراد قلائل، منهم: سلمة بن الأكوع ، فقد أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرب لما علم أنه قد جمع من العلم ما يكفيه، وأنه لا يقدر على كثير من خطوط الخلطة، وكذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر رضي الله عنه بالتعرب، بل أخبر أن ذلك سيقع فقال: (رحم الله أبا ذر، يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)، وذلك لما علم من حدته، وأنه لا يستطيع الصبر على كثير من الخلطة، فأذن له بالخروج بعد أن يجد أمارات يعرفها.
وقد رأى هذه الأمارات حين ثارت الفتنة في خلافة عثمان بن عفان ، فخرج من المدينة، وبقي بالربذة حتى مات.
ولهذا فالاشتغال بتعلم ما جاء به رسول صلى الله عليه وسلم هو أفضل ما يشتغل به الإنسان من عبادة الله، ومن أجل هذا سئل مالك رحمه الله تعالى عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة واحدة في أي عبادة يصرفها؟ فقال: علم يتعلمه. فقيل له: يا أبا عبد الله ! إنه لا يعمل به؟ فقال: تعلمه أفضل من العمل به.
وقد صرح الشافعي رحمه الله بأن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، وذلك ما رواه السيوطي رحمه الله في قوله:
والعلم خير من صلاة نافلـة فقد غدا الله برزق كافله
وقد كان الشافعي رحمه الله مثالاً في ذلك، فحين زار أحمد بن حنبل رحمه الله خصص له بيتاً للضيافة، فنزل في تلك الغرفة وبقي وحده، وبقيت ابنة لـأحمد بن حنبل تراقبه، فلما أصبح قالت لأبيها: عجبت لضيفك هذا الذي يشار إليه؛ فإنه أكل كثيراً ونام كثيراً وصلى بغير وضوء! فتعجب أحمد من ذلك، فسأله فقال: أما أني أكلت كثيراً فقد سمعت أن من طوى بطنه عن طعام أخيه وهو يشتهيه لم يحسن أدبه معه، وأما أني نمت كثيراً فلم أنم، وإنما سمعت حديثاً فأعملت ذهني في الاستنباط منه، وأخرجت منه أربع عشرة مسألة -وهو حديث أنس بن مالك في قصة تردي الشاة من سلع-، وأما أني صليت بغير وضوء فما انتقض وضوئي حتى أذن المؤذن، فالوضوء الذي صليت به العشاء هو الذي صليت به الفجر.
ومن أجل هذا حرص كثير من سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى على أن ينظموا وقتهم وأن يقسموه، وأن يجعلوا جزءاً لا بأس به من أوقاتهم لتعلم هذا العلم، وجعلوا ذلك رباطاً في سبيل الله، حتى إن أحمد بن حنبل رحمه الله ذهب في تفسير قول الله تعالى في مصارف الزكاة: وفي سَبيلِ الله[التوبة:60] -وهو المصرف السابع من مصارف الزكاة الثمانية- إلى أن المقصود بذلك المجاهدون في سبيل الله الغازون، وطلبة العلم الذين يدرسونه، والحجاج والمعتمرون، وجعل طلاب العلم بمثابة الغازين المجاهدين في سبيل الله يستحقون سهماً من الزكاة حتى لو كانوا أغنياء.
وكذلك فإن المالكية رحمهم الله تعالى نصوا على أن المشتغلين بتعلم فروض الكفاية يتحملون فرض كفاية عن الأمة، فيستحقون الارتزاق على ذلك من بيت المال إذا كان بيت المال منتظماً، فإن لم يكن للمسلمين بيت مال كان لهم حقٌ في أموال الناس، وقد فصل العلماء في هذه المسألة، وشيخي رحمه الله يقول:
من واجب الإسلام جمع مال تقضى به حقوق بيت المال
إن لم يكن كحاملي علوم فرض الكفاية من الموسوم
بحسن إدراك مع السريرة والطيب في سجية وسيرة
ومن خلا من هذه الأوصاف منعه لفقد الاتصاف
بل طلب العلم بتلك المرتبـة خالٍ من المصلحة المجتنبة
من هو في التكليف ما لم يطق وعبث في فعله والمنطق
وكل يوم حجروه حجرا فكيف يأخذ عليه أجرا
ذكره البواق في الإبداع فانظر تجده يوم يدع الداع
وكذلك فإنهم نصوا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -وفي رواية: إلا من ثلاثة-: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية) على أن العلم الذي ينتفع به ينقسم إلى قسمين:
إما علم بثه في صدور الرجال وأوصله إليهم، فيتناقله الناس وما يزال ينمو له، ويزداد أجره بحسب من استفاد منه.
وإما أن يكون المقصود أن يقف أوقافاً على طلبة العلم، كما فعل ذلك الخلفاء الراشدون، وفعله كثير من أئمة الإسلام في مختلف العصور، ومن أجل ذلك قامت المدارس الوقفية في أكثر بلدان الإسلام، ففي دمشق وحدها وصل عدد المدارس الوقفية التي ليس للناس عليها سلطة وإنما يسيطر عليها العلماء وطلاب العلم في أيام النووي رحمه الله تعالى إلى قرابة السبعين في مدينة دمشق وحدها، وقد كانت دمشق من عواصم الإسلام، ومنها (دار الحديث) التي تعلم فيها النووي وابن الصلاح ، وغيرهما من كبار الأئمة، وكذلك منها (الصالحية) التي تعلم فيها آل قدامة وابن تيمية وغيرهم، ومدارس أخرى كثيرة جداً اشتهرت في ذلك الوقت، وكذلك في مصر اشتهر عدد كثير من المدارس الوقفية التي كانت مستقلة تمام الاستقلال، فلا يتأثر فيها العلماء ولا طلاب العلم بأية مواقف أخرى، وإنما كانوا ينفردون لطلب العلم ويجدون ارتزاقهم من هذه الأوقاف، فيعلمون الغرباء و يرجع هؤلاء الغرباء وافدين إلى بلادهم بما حملوه من هذا العلم؛ تحقيقاً لقول الله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[التوبة:122] .
ولاشك أن العلم الذي يبث في صدور الرجال ذو منـزلة عالية ؛ لأنه لا ينتفع به أحد مدة هذه الدنيا إلا كتب لمن نقله أجراً، ومن أجل هذا ازداد فضل السلف على الخلف، فكلما ازداد خلف هذه الأمة ازداد أجر وشرف سلفها؛ لأن أجورهم تتضاعف فتضرب في أعداد اللاحقين إلى يوم القيامة؛ فأجور هذه الأمة كلها في ميزان حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دون ذلك في ميزان حسنات أصحابه الذين بلغوا هذا العلم، ونقلوه عنه، ثم دون ذلك في ميزان حسنات التابعين، و هكذا طبقة طبقة حتى يصل ذلك إلينا، ثم إلى ما شاء الله بعدنا، و في هذا يقول شيخي رحمه الله:
وكل أجرٍ حاصلٍ للشهـدا أو غيرهم كالعلماء و الزهدا
حصل للنبي مثله على أجور ما كان النبي فعلا
مع مزيد عدد ليس يحد وليس يحصي عده إلا الأحد
إذ كل مهتدٍ و عامل إلى يوم الجزاء شيخه قد حصل
له من الأجر كأجر العامـل وضعف ذا من ناقص وكامل
وشيخ شيخه له مثلاه وأربعٌ لثالث تلاه
وهكذا تضعيف كل مرتبـة إلى رسول الله عالي المرتبة
ومن هنا يعلم تفضيل السلف وسبقهم في فضلهم على الخلف
فمن أجل هذا حرص الناس على أن يحملوا ويبلغوا ما حملوه؛ فإن من بلغه علم عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الجزء الذي بلغه من الدين، ومن هنا يتشرف بخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم في ائتمانه على ما بلغه، ولو كان آية واحدة فعليه أن يسعى لتبليغها، وقد وعده الله على ذلك الأجر الكثير، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بلغوا عني ولوا آية)، و ثبت عنه أنه قال: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ فرب مبلغٍ أوعى من سامع)، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم متواتراً أنه قال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فربّ حامل علم ليس بفقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
إن الذي اؤتمن على هذه الأمانة فلم يؤدها قد تعرض لوعيد شديد، ققد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم؟! فوالذي نفس محمد بيده ليعلمن قوم جيرانهم وليذكرنهم أو ليعاجلن لهم العقوبة)، فقد شدد على أولئك الذين حملوا بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤدوه حق أدائه؛ لأن ما جاء به قد سلمه وأداه إليهم، وهذا من تمام رسالته، فهو رسولٌ إلينا جميعاً ولم يلقنا؛ لأن الله تعالى شاء أن يقبضه عند عمره المحدد، لكن بقيت رسالته ودعوته في أعناق الذين تحملوها أمانة لديهم، فتبليغهم لها من تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم لها، فيجب عليه أن يبلغ من تقوم به الحجة، ويسقط عنه بعد ذلك، كما قال تعالى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ[النور:54] ، وقال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ[الذاريات:54] ، فإنما يلزمه أن يبلغ من تقوم بهم الحجة على الناس، وقد فعل ذلك، ثم بقي أن كل من بلغه شيء عنه يجب عليه أن يبلغه، وتبليغه من تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ورسالته، فيقوم بالخلافة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأداء ما تحمل على الوجه الصحيح، ويكون كالوصية التي لا يحل فيها التغيير ولا التبديل، كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ[البقرة:180-181].
فلذلك من بلغه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فيجب ألا يغير فيه وألا يبدل، وأن يؤديه ويبذله لمن طلبه، ومن أجل هذا حض الرسول صلى الله عليه وسلم على أقوامٍ سيأتون في آخر الزمان يلتمسون علمه وما جاء به، وأخبر أنهم وصيته، فقال: (ليأتينكم أقوام يطلبون هذا العلم، فاستوصوا بهم خيراً)، فجعلهم وصية يجب الرفق بهم والتلطف إليهم؛ لأنهم جاؤوا بوصية سابقة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن حصول الشرف للإنسان يوم القيامة إنما يكونُ بحسب علمه؛ لأنه لا يمكن أن يكون عاملاً إلا بما تعلم، وما لم يتعلمه من هذا الدين فإن قدر على تعلمه حسب عليه وحوسب عليه حينئذ، وما قدر على تعلُمِه وتعلَمَه وعمل به نال ثوابه، وما قدر على تعلمه فتعلمه ولم يعمل به كان حجة عليه، وكان أيضاً في ميزان سيئاته، فلذلك يلزم أن يقبل الناس على طلب هذا العلم، وأن يخصصوا له جزءاً من أوقاتهم، وليس المقصود أن يعطلوا أعمالهم وأن يلتحقوا بمدارس فيتركوا مصالح الأمة متعطلة، بل المقصود أن يتعلم كل شخص منهم ما تيسر، وأن يخصص جزءاً من وقته على حسب طاقته بما تيسر من هذا العلم، كما قال تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ[المزمل:20] .
فلم يعذر أحداً من هؤلاء، لا التجار، ولا المجاهدون في سبيل الله، ولا المرضى، وهؤلاء كل فئة منهم تمثل فئة جليلة من فئات هذه الأمة، وتمثل طبقةً من طبقاتها، ولذا لم يعذر أحداً منهم في ترك التعلم، بل أمرهم أن يتعلموا ما تيسر وما يكفيهم بقيام هذه المهمة وهذا الواجب، كما قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا[الطلاق:7] ، وقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286] ، ومن أجل هذا حض الله تعالى في كتابه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن على نقل هذا العلم الذي سمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأين، وكان خصوص أمرهن بذلك أنهن يشاهدن من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهدن منه ما لا يشهده كثير ممن سواهن، فلذلك قال: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ[الأحزاب:34] ، وهذا يشمل ما فعل وطبق عملياً وما سمعنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولياً، فأمرهن بتبليغ ذلك كله.
ومن أجل هذا كان لأمهات المؤمنين أبرز حظ ونصيب في تبليغ هذه الرسالة ونقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقل ما أفتى به ونقل أحواله كلها إلى الأمة، وقد سعين لتبليغ ذلك وتعليمه، وهذا هو الذي ائِتسى بهن فيه من خلف من علماء هذه الأمة على مختلف العصور، فقد كان كثير منهم يقتدي بـأبي هريرة رضي الله عنه الذي قال: (والله لأرمين به بينكم)، وكذلك يقتدي بـأبي ذر الذي قال: (والله لو جعلتم الصمصامة على هذه -وأشار إلى قفاه- وعلمت أني أنفذ خبراً واحداً مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا علي لأنفذته).
فلذلك سعى هؤلاء الأسلاف إلى تبليغ هذا العلم في مختلف الظروف، حتى إن بعضهم كان سجيناً فيجد النافذة في وقت من الليل يجتمع عليها أفراد من الناس فيملي عليهم العلم، ولا يجيبهم في شيء من السؤال عن أحواله هو؛ لأن الوقت ضيق، وهو أمانة لديه، فيملي عليهم شيئاً مما اؤتمن عليه فيكتبونه.
و السرخسي رحمه الله أملى كتابه (المبسوط) وهو سجين في السجن، يقال: إنه كان في بئر، وكان الطلاب يقفون حيث يسمعون صوته ويكتبون عنه من مكانه ذلك، حتى كتبوا هذا الكتاب الكبير -المبسوط- الذي يزيد على ثلاثين مجلداً.
وكذلك كان عدد منهم إذا مرض قال: إنه ما يسره إلا أن يبلغ ما في هذا الكتاب، أو أن يبلغ هذا العلم الذي رواه.
وعدد كبير منهم سعى في مرض موته بأن يبلغ أكبر حظ ممكن من العلم الذي معه، حتى كان الأطباء يتضجرون من ذلك، كحال ابن عرفة ، وكحال عدد كثير من الذين مرضوا وعولجوا، فإن كثيراً منهم كان يُتعب نفسه في أيام المرض؛ لأنه يعلم أنه منتقلٌ عن هذه الدنيا وميت لا محالة، فيريد أن يبلغ شيئاً من العلم الذي حمله قبل أن يذهب وينتقل معه.
إن هذا العلم مهمة شاقة وأمانة عظيمة، فلذلك يقتضي كثيراً من الشروط قبل طلبه.
فأهم هذه الشروط وأبلغها الإخلاص لله تعالى فيه؛ فإنه عبادة، فسماعه وكتابته وتلقيه كل ذلك عبادة عظيمة، والعبادة إذا كانت بغير إخلاص فهي مردودة على صاحبها، كما ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، فلذلك يجب على من أراد طلب العلم -ولو لحظة واحدة- أو أراد سماع شريط أو أراد قراءة أسطر كتاب أو قصد مكاناً لطلب العلم أياً كان ألا يضيع شيئاً من هذا الإخلاص حتى تحسب له خطاه، وحتى تشهد له الحصى، فلو مات في طريقه تلك كان كمن مات في هجرته إلى الله ورسوله، كما قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[النساء:100].
فعلى من قصد هذا العلم من أي مكان أن يحتسب خطاه من أول خطوة، وألا يغفل شيئاً مما يمر به من الخطا أو غيره، حتى لو مات في طريقه فسيموت على هذه النية، ويكون كالمهاجر في سبيل الله، ولو وصل كتبت له الأجور كاملة لا ينقص منها شيء.
وهذا الإخلاص شرط لقبول العمل وشطر لصحته؛ فإن العمل لا يكون صالحاً إلا بأمرين:
الأول: الإخلاص لله سبحانه تعالى.
والثاني: الموافقة لما شرعه. فلا يكون العمل صالحاً إلا إذا جمع هذين الركنين: الإخلاص والموافقة.
ثم بعد هذا الشرط الأول -الذي هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى- تأتي شروط أخرى يعد بها الإنسان نفسه ليلتحق بهذا الركب، وليكون من الذين يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلمون، وقد ذكر العلماء منها عدة شروط كلها بتجربة من هدي الأنبياء والصالحين.
فمن هذه الشروط: الغربة، فمن جلس في مكانه بين أهله قل ما يحصل على علم، ولذلك يقول الشاعر:
الأهل والجهل ساكنان في بلد فاصبر عن الأهل أو فاصبر على الثاني
حتى لو كان أبوه عالماً فأزهد الناس في العالم أهله، فيمكن أن يعيش الشخص في البيت مع عالم من العلماء الأجلاء لكنه يكون زاهداً فيه بقربه منه، ومن هنا رحل موسى عليه السلام إلى الخضر، وقال: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً[الكهف:60] .
ولم ينل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي حتى حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار (حراء) فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ويرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها حتى جاء الحق.
وكذلك فإن الذين اشتهروا بالعلم من هذه الأمة إنما رحلوا في سبيله، وطلبوه في أماكن مختلفة، ولذلك فإن كثيراً منهم عندما يسألون عن منتهى آمالهم يقولون: إسنادٌ عالٍ -وبيتٌ خالٍ- كما كان أحمد بن حنبل و يحيى بن معين إذا سئُلا عن بغيتهما يقولان: إسنادٌ عالٍ وبيتٌ خالٍ. أي: أنهما يبحثان عن أعلى الناس إسناداً، كالذي ليس بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة رجال في طبقة أحمد مثلاً، فهذه ثلاثية أحمد، وهي الأحاديث التي رواها عن أبي الزبير عن جابر ، فأولها حديث: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فهذه الأحاديث تكون عالية الإسناد جداً، ولهذا كانوا يبحثون عنها لسهولة تصحيحها، ولأنها لم يتناقلها كثير من الناس.
ثم بعد ذلك بيت خالٍ يتفرغ فيه الإنسان للعلم، ويستطيع فيه أن يراجع، وأن يحفظ، وأن يستذكر ويتدبر، ولذلك يقول آخر:
قالت مسائل سحنون لقارئها لن تدرك العلم حتى تلعق الصَّبرا
لا يدرك العلم بطالٌ ولا كسل ولا ملول ولا من يألف البشرا
فلابد من هذه الغربة.
ومن هذه الشروط: التواضع.
فلا يمكن أن يكون الإنسان متعلماً حتى يتواضع لمن يعلمه ومن يأخذ عنه، فهذا موسى عليه السلام وهو كليم الله وقد اجتباه الله برسالاته وبكلامه، ومع ذلك حين جاء إلى الخضر: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا[الكهف:66] فلم يقل: إني (متبعك) بصيغة الجزم، بل قال: (هل أتبعك) بصيغة الاستفهام تواضعاً، ثم قال: (على أن تعلمني) فجعل نفسه طالباً، ولم يقل: على أن تذاكرني، أو أن أستفيد منك، فلم ينسب الفعل لنفسه، بل قال: (على أن تعلمني)، ثم قال: (مما عُلِمت) بصيغة (من) التبعيضية، ومعناه: بعض ما علمت، ولا أريد أن تعلمني كل ما عندك. ثم قال: (تعلمني مما علمت رشداً)، وذلك أن هذا العلم بضاعة غالية، ومن خصه الله به فإنه لا يمكن أن يدفع هذه البضاعة ويسلمها لمن لا يحترمه، ولمن لا يجد فيه تقدير العلم وأدبه، فأهم آداب العلم التواضع، ولذلك فإن من تكبر من العلماء أو من طلاب العلم فسيسلك طريق إبليس الذي تكبر بما علمه الله، فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ[الأعراف:12] ، فعلى من طلب العلم أو نال حظاً منه أن يتواضع بقدر ما تعلم، ومن هنا يقول الحكيم:
وإن كريم الأصل كالغصن كلما تزايد من خير تواضع وانحنى
فلذلك لابد أن يتواضع الإنسان حتى يحصل على ما كتب له من هذا العلم.
ومن هذه الشروط: الورع.
فمن كان غير ورعٍ وغير متقٍ للشبهات وغير متقٍ للحرام والمكروهات فلا يمكن أن يحصل على علم؛ لأن هذا العلم نورٌ، والنور يفر من مكان الظلمة، فمن أراد أن يوقد نوراً في مكان فليختر أصقل مكان، وليختر الزجاج الصقيل المضيء، فهو الذي تحسن فيه الإنارة، وأما المكان المظلم الأسود الموحش فإنه لا يستقر فيه النور، ومن هنا فإن على الإنسان الذي يريد طلب العلم أن يجتهد في الورع، وأن يتقي الحرام، وأن يتقي المكروهات والمشتبهات، وبذلك لا يفر منه هذا العلم، بل يستقر في صدره.
ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه قال:
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يعطى لعاصي
ويروى عنه رحمه الله أنه قال: أتيت مالكاً فجلست إليه، فلما انفض المجلس دعاني فتبعته، فقال: يا بني! إني أرى أن الله قد قذف في قلبك بشيء من نوره فلا تطفئه بظلمة المعصية. فنصحه بهذه النصيحة البالغة، ومن هنا فإن صاحب المعصية ذليل، وصاحب العلم عزيز، فإذا اجتمعت الذلة والعزة اجتمع ضدان، وإذا اجتمع الضدان فإن النتيجة تتبع الأخس دائماً كما يقول المناطقة، فيكون الإنسان حينئذ متدنياً إلى أسفل الدرجات، ومن أجل هذا كان الذين يضلون الناس بالعلم أخطر عليهم وأكثر ضرراً من الذين يضلون عن جهل، ولهذا كان عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى كثيراً ما يقول:
وهل أفسد الدين إلا الملـوكُ وأحبار سوء ورهبانها
فأحبار السوء والرهبان الذي ليس معهم ورع يبيعون ما معهم من العلم، فيفتون على مقتضى ما تملي عليهم سيادة أسيادهم، وبذلك يَضِلون ويُضلون.
ومن هذه الشروط: الجوع.
فإن البطنة تذهب الفطنة، والإنسان إذا اشتغل بالأمور المادية، وملأ بطنه فإن ذلك يشغله عن الأمور المعنوية، ومن هنا فإن موسى عليه السلام لم ينل هذا العلم حتى قال: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا[الكهف:62] ، والذين أحرزوا حظاً لا بأس به من هذا العلم ما نالوا ذلك إلا في فترات الجوع عليهم والقلة، وهم الذين أصبحوا مثلاً يؤتسى بهم في التاريخ كله.
ومن هذه الشروط: أن تهون على الإنسان نفسه في طلب هذا العلم، وأن يضحي في سبيل ذلك، فإن لم يضح في سبيله وإنما أخذ منه ما تيسر ولم يوله قيمة، ولم يعتبره بأي اعتبار لم يكن ليناله، ولهذا فإن موسى عليه السلام لم ينل هذا العلم حتى خاطر وركب البحر في سفينة مخروقة، وكذلك فإن علماء هذه الأمة رحلوا في طلب العلم لمسافات شاسعة، فقد سافر جابر بن عبد الله من البصرة إلى المدينة في طلب حديث واحد، وسافر عبد الله بن أنيس رضي الله عنه من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، وسافر أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد، ومن أجل هذا فإن ركوب الخطر هو أصل التضحية، فالتضحية لا تكون إلا مع الخطر عندما تعارضها المصالح، وما دامت المصالح متفقة مع ما يبذله الإنسان فإن ذلك لا يُسمى تضحية، ولا يكون مجاهداً بسببه؛ لأنه لم يبذل جهداً، وإنما أنفق الزائد من جهده، ومن لم يضح فمعناه أنه: لم يبذل جهداً، وبهذا يفسد على نفسه بعض الأمور التي يهواها، ولا يُعد من المضحين المجاهدين، ومن أجل هذا قال أحد الحكماء في الأخوة:
إن أخاك الحق من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدَّعك شتت فيك شمله ليجمعك
فلا يكون الإنسان مضحياً إلا إذا بذل من الجهد ما يؤدي به إلى أن يفقد بعض ما يتمناه ويهواه.
ومن هذه الشروط: معصية الهوى.
فلابد للإنسان أن يكون مخالفاً لهواه حتى يحصل على هذا العلم، فمن لم يخالف الهوى وتبعه فإن هواه أبعد ما يكون عن طلب العلم، فطلبه شاق على الأبدان شاق على الأذهان؛ لأن الإنسان يسهر فيه الليالي ذوات العدد، ويتأذى بأذى الناس، وينصرف عن جمع الدنيا والانشغال بها، فهذا شاق على النفوس مخالف للهوى، فلا يكون من لا يصبر على مخالفة هواه عالماً أبداً، والله سبحانه وتعالى حض على مخالفة الهوى، وجعل ذلك طريق الجنة في قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[النازعات:40-41].
والعلم طريق الجنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
ومن هذه الشروط: الاتباع.
فلابد أن يتبع الإنسان ما علمه، وإلا قامت به الحجة عليه، ولذلك قال أبو الدرداء رحمه الله: (إن أخوف ما أخافه كتاب الله، ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرة فلم تأتمرني، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يـأبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي!)
وكذلك قال: (إني أخاف أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: فما عملت فيما علمت؟!)
فمن علم فقد قامت عليه الحجة، وانقطعت أعذاره بين يدي الله عز وجل، ولهذا من أعدت له العدة ليتعلم كذلك، فقد انقطعت حجته، كما قال تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ[فاطر:37] .
فإذا حصلت النعمة بالعمر والوقت، وهيئت الأسباب للعلم فلم يتعلم الإنسان فقد قامت عليه الحجة وكأنه قد علم، كما في قوله تعالى في هذه الآية: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37] .
كذلك فإن من الشروط التي لابد من تحققها حتى يلتحق الإنسان بهذه الزمرة ألا يطلب على ذلك مثوبة في هذه الدنيا، فإن طلب المثوبة على تبليغ الرسالة مخالف لهدي جميع الأنبياء، ومخالف لشرع الله عز وجل، فإن الله قص علينا قصص جميع الأنبياء الذين قص قصصهم، وكلٌ منهم نجد في قصته: (لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)، فلا يسألون أجراً عما يبلغونه عن الله عز وجل، فمن طلب بعلمه أجراً دنيوياً أو طلب عليه أي مثوبة دنيوية فإنه لا يمكن أن يستقر معه؛ لأنه لم يعمل بهدي الأنبياء ولم يلتزم قيد العلم.
وكذلك من هذه الشروط المكملة أن يكون الإنسان حافظاً بذهنه ما يتعلمه، وألا يتكل على كتابه أو تسجيله؛ فإن العلم محله الصدر، والذي يملك مكتبة كبيرة ضخمة ولا يقرأ ما فيها لا يمكن أن يعد من العلماء، بل لا يكون عالماً حتى يحوي ذلك صدره، كما قال الراجز:
ليس بعلم ما حوى القمطـر ما العلم إلا ما حواه الصدر
وقال الشافعي رحمه الله:
علمي معي حيث ما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق
وكذلك قال أبو محمد علي بن حزم رحمه الله:
إن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري
ومن أجل هذا فإن تفاوت الناس في العلم إنما هو بحسب ما بذلوه من الجهد والوقت حتى يحفظوا ويفهموا، وبعد ذلك عليهم أن يبلغوا، وقد ذكر العلماء آداب ذلك مرتبة:
فأولها: الاستماع. لقول الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ[الزمر:17-18].
الثاني: الفهم. لأن ما استمع إليه فلم يُفهم لا يستفيد به الإنسان، بل يكون كما قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا[محمد:16] .
الثالث: الحفظ لما سمعه وفهمه. فالحفظ هو القيد الثالث في ذلك.
الرابع: العمل بما سمعه. وفهمه. وحفظه.
الخامس: بث ذلك ونشره، ومعناه: تعليم ما سمعه وفهمه وحفظه وعمل به، ولابد أن يتأخر التعليم عن هذه القيود السابقة، فإذا كان يسمعه ويفهمه ثم ينقله إلى غيره دون أن يعمل هو به ودون أن يحفظه فإنه لابد أن يتخالف قوله، ولا يكون متقناً لما يحدث به، ثم إذا سمعه وفهمه وحفظه فأراد أن يُسمعه وأن ينقله إلى غيره قبل أن يعمل به كان كالداعي لما لم يعمل به، وهذا مخالف لهدي الأنبياء، فقد قال الله تعالى حكاية عن خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ[هود:88] ، فلذلك لابد أن يبدأ هو بتعلم ما يدعو إليه، ثم بعد ذلك يبلغه للناس حتى يعملوا به، ولهذا فإن ابن الجوزي رحمه الله كان من الخطباء المؤثرين، وكان إذا خطب بكى وأبكى، فلا تقع نازلة ولا أمر، يهم الناس إلا قدم فيه خطبة يرجع الناس إليها، حتى ولو كان كثير منهم يخالفه في المذهب فإنه سيعدل عن مذهبه ويرجع لما قاله ابن الجوزي لحسن أسلوبه، ولما يربط به كلامه من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وهذا الأسلوب القرآني هو المؤثر.
فكثير من الناس يدرسون كتب الفقه، فيدرس أحدهم -مثلاً- مختصر خليل، وفيه مائة وعشرون ألف فرع فقه، أو يدرس الرسالة، وفيها ثمانية عشر ألف فرع فقه، أو يدرس غير ذلك من الكتب الفرعية التي فيها كثير من الفروع، لكن لا نجد نور ذلك ولا ورعه في حياته وسلوكه.
وسبب ذلك أنه لم يقترن ما تعلمه بالوعد والوعيد، ولم يقترن بالترغيب والترهيب، بل قرأ هذه الأحكام جافة كمواد القانون الوضعي، وإن كان أولئك العلماء ما قصدوا بهذا إلا خيراً، لكنهم علموا أنهم يضعون مناهج لمدارس فيها تخصصات مختلفة، وفيها كتب مساندة مساعدة، فـخليل رحمه الله ألف كتاباً آخر سماه (الجامع)، ذكر فيه آداب طلب العلم، وذكر فيه الأخلاق، وتهذيب النفوس، وربطه بهذا الجامع، وكذلك غيره، فـابن أبي زيد في رسالته وضع في مقدمتها المقدمة العقدية، وفي خاتمتها (الجامع) الذي فيه الآداب والأخلاق الشرعية.
لكن كثيراً من الناس يقتصر على دراسة ما بينهما، فيهمل الطرف الأول الذي هو الأساس، ويهمل الطرف الثاني الذي هو ذروة السنام، ويبقى في الوسط فقط، ومن هنا حصل الخلل في تربية الناس من أجل إهمالهم لجانب حياة القلوب, والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، فذات يومٍ كان ابن الجوزي رحمه الله تعالى في مجلسه، وقد تهيأ للجمعة، فأتاه بعض الأرقاء يشكون إليه سوء معاملة ذويهم، وأرادوا أن يخطب خطبة عن العتق فوعدهم خيراً، فلما خطب حضروا فلم يذكر في خطبته شيئاً عن العتق، فجاؤوه فقالوا: ألم تعدنا بأنك ستتكلم عن العتق في خطبتك؟ فقال: حتى الآن لم يتيسر لي ذلك، فأتوه يذكرونه بعد ذلك فلم يفعل، فلما كانت الخطبة الثالثة خطب خطبة بليغة، فبادر الناس إلى عتق أرقائهم، فأتاه هؤلاء يشكرونه وسألوه عن سبب التأخير؟ فقال: إني لأستحيي من الله تعالى أن أخطب الناس وأندبهم إلى أمرٍ لم أفعله، ولم أكن أملك من أعتقه، فذهبت أجمع دريهمات أشتري بها رقبة وأعتقها حتى إذا أمرت الناس امتثلوا؛ لأنني قد انتهيت في نفسي.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أراد أن يأمر الناس بأمرٍ جمع أهل بيته وآل الخطاب فقال: (إني متقدمٌ إلى الناس في هذا الأمر، وأنتم أول من أتقدم إليه فيه، فوالذي يحلف به عمر بن الخطاب لا ينقل إلي أن أحداً منكم خالف ذلك إلا جعلته نكالاً)، فيبدأ بآل بيته -وهم أول من ينهاهم ويعظهم- ثم بعد ذلك يوجه الكلام للناس، وسيمتثلون ما يأمر به بعد أن يمتثل به آل الخطاب ومن يتأثر بـعمر رضي الله عنه.
من شرط النفع بهذا العلم أن يدرك الإنسان مسئولية العلماء في هذه الأمة؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وهم الذين يحملون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قامت عليهم الحجة بما تعلموه، وهم الذين امتلأت صدورهم بهذا الوحي، فلم يكن الله ليجعلهم بدار هوان، فعليهم أن يكونوا مثلاً حسناً في التضحية والبذل في سبيل الله، وأن يقدموا ما لم يقدمه سواهم، وأن يكونوا أسوة وقدوة صالحة للناس، فإذا لم يفعلوا ذلك فقد ضيعوا ما حملوه ، وفرطوا في هذه الأمانة التي تلقوها، ولذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تعرف منزلتهم العلمية بتضحياتهم في سبيل الله، فقد ثبت أن يوم اليمامة أسرع فيه القتل في القراء، والمقصود بالقراء العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان من شهداء اليمامة خمسمائة ممن يحملون القرآن، وهؤلاء كانوا هم أول من يستقبل السلاح، وهم الصفوف الأمامية؛ لأن معهم ما يشجعهم ويتقدم بهم، فلذلك عرفوا بهذا، وكان المنافقون لا يكرهون أحداً مثل ما يكرهون هؤلاء القراء، ومن أجل ذلك قالوا فيهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء فأنزل الله فيهم (المقشقشة) سورة التوبة، ومازال يقول: (ومنهم ومنهم) حتى فضح كل أمورهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
فمن أجل هذا كان على من يتعلم العلم ومن يعلمه أن يكون مثلاً حسناً، وأن يقدم التضحية اللائقة به لنصرة الله تعالى، وأن يلتزم بأخلاق هذا العلم وآدابه، فإنه لو كان فظاً غليظاً أو كان جافياً أو كان مخالفاً للسنن فقد رد وقطع الطريق على كثير من السالكين، فيكون من قطاع الطرق من حيث لا يشعر؛ لأنه قطع الطريق على أقوام كانوا سيلتزمون هذا المنهج ويسلكون هذا الطريق، وهو الذي فتنهم وردهم عن ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن منكم منفرين)، وحذر غاية التحذير من ذلك، ولذلك قال الصحابي: (فما رأيته غضب غضباً في موعظة كما غضب يومئذٍ)، فحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من التنفير غاية التحذير، وما غضب في موعظة مثلما غضب في موعظته هذه التي يحذر فيها من تنفير الناس عن اتباع سنته، وعن هذا العلم وعن عبادة الله عز وجل.
كذلك فإن على من يسلك هذا الطريق أن يعلم أن عليه للناس حقاً، وأن يبحث عن واقعهم وأمورهم، وأن يهتم بتلك الجوانب التي يعيشونها، فإن الجوانب التي يعيشها الناس أولى بالبحث والتنقيب من الجوانب التي لم يعد لها ذكرُ في حياة الناس، وقد كان مالك رحمه الله إذا سُئل عن مسألة يسأل: هل وقعت أم لم تقع؟ فإن قيل: وقعت؛ استعان بالله عليها حتى يجيب فيها، وإن قيل: لم تقع قال: إن لها رجالاً سيشهدونها وهم أولى بها. وكان يقولُ: لست من الأرائكيين. والأرائكيون هم الذين يقولون: أرأيت لو كان كذا ماذا يكون الجواب؟! أي: أنهم هم الذين يتوقعون المشكلات التي لم تقع، فهؤلاء حذر منهم لأنهم يتكلفون، والتكلف منهي عنه، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ[ص:86] .
وكذلك على هؤلاء الذين يشتغلون بهذا الجانب المهم من دين الله تعالى أن يعلموا أنهم شهود على الأمة، وعليهم بذلك أن يحافظوا على عدالتهم؛ لأن الشاهد إذا لم يكن عدلاً فهو مردود الشهادة، وقد أخرج أبو عمر في مقدمة (التمهيد)، والخطيب البغدادي في (شرف أصحاب الحديث) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، فمن ليس عدلاً فليس من حمال هذا العلم، ولا يمكن أن يوثق به على هذه الأمانة الجسيمة، فلا يكون من الموقعين عن رب العالمين، ولا من خلفاء الأنبياء ولا ورثتهم.
كذلك فإن عليهم أن يقنعوا بما آتاهم الله تعالى، وأن لا يذهبوا إلى أبواب السلاطين، فقديماً قيل: إذا أراد الله فتنة العالم ألزمه أبواب السلاطين.
ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله تعالى إذا دعاه أحد الأمراء أن يأكل في بيته امتنع أن يأكل في بيته أو أن يشرب، فقيل له في ذلك فقال: من أكل مرقة السلطان افترق لسانه عن قول الحق، فلا يستطيع أن يقول الحق بعد ذلك.
وقد حصلت قصة واقعية لعالم من علماء دمشق، وهي أنه كان يدرس في جامع بني أمية، فدخل عليه إبراهيم باشا ، وهو ملك مصر، وكان قد استحوذ على الشام، ولم يجد من يعارضه، وقويت شوكته وسلطانه بذلك، فلما دخل دمشق منتصراً استقبله الناس، فبقي هذا العالم في مسجد بني أمية يدرس الناس، فسأل إبراهيم عمن لم يستقبله من وجوه الناس وعلمائهم وقاداتهم فذكروا له هذا العالم، فقال: اذهبوا بنا إليه. فجاء مغضباً، فدخل مجلسه فلم يقم إليه، وإنما سلم عليه واشتغل بالتدريس، فجلس إبراهيم قبالة وجهه، وأوسع الناس له في الحلقة، فلما طال مجلسه بسط الشيخ رجله إليه -وهذا عيب عند أهل الشام، وأهل مصر ينزعجون منه كثيراً-، فبعد أن خرج الأمير إلى بيته أرسل إلى هذا العالم مالاً جزيلاً كثيراً، فلما أتاه هذا المال رده وقال: قولوا للأمير: إن من يمد رجله لا يمد يده!
فالذي يمد رجله لا ينبغي أن يمد يده، فلذلك عليهم أن يقنعوا بخلق من يرثونه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً)، وعرض عليه أن يكون نبياً ملكاً، وأن يكون نبياً عبداً فاختار أن يكون نبياً عبداً، وعاش على ذلك، فقد كان الحصير يؤثر في جنبه، وقد عاش هذه الحياة حتى نقله الله إلى دار الكرامة، وقد كان يمضي الشهر والشهران والثلاثة ولا توقد في بيوت آل محمد نار، فهذا كافٍ ومقنع لهم، وعليهم أن يلزموه.
من الأخلاق التي ينبغي أن يأتسي بها من سلك هذا الطريق أن يعلم أن العلم ينقسم إلى قسمين: علم ينفع في الدارين، وعلم ينفع في إحداهما فقط. فعليه أن يبدأ أولاً بالعلم النافع في الدارين، وألا يهمل العلم النافع في إحداهما، خاصة أنه قد يكون فرضاً كفائياً على الأمة، بل قد يتعين على بعض الناس، كما إذا لم يطمح له سواه، وعلى هذا فإن الذين يشتغلون بطلب العلم عليهم ألا يتحجروا، وألا يقفوا وارء الكتب التي يدونها أسلافهم ويجعلونها مناهج دراسية فلا يطلبوا ما زاد على ذلك، بل عليهم أن ينهلوا من ثقافات هذه العصور التي هم فيها، وأن يختاروا منها خيرها، وأن يكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فحينئذ سيؤتيهم الله فرقاناً يميزون به بين الحق والباطل، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا[الأنفال:29] ، ومن كان له فرقان يميز به بين الحق والباطل أمن الفتنة -إن شاء الله تعالى- من كل ما يقرؤه.
وعلى الإنسان أن يتزود من ثقافة زمانه حتى يكون بذلك مستطيعاً للإفتاء فيه؛ فإن الفتوى مركبة من قضيتين: أولاهما قضية واقعية وأخراهما قضية شرعية. فالقضية الواقعية هي أن هذه الصلاة كانت إلى هذه الجهة مثلاً، والقضية الشرعية أن الصلاة إذا كانت إلى هذه الجهة فهي باطلة، فكل حكم شرعي مركب من هاتين القضيتين: قضية واقعية وقضية شرعية، فمن عرف الشرع ولم يعرف الواقع لا يحل له الإفتاء؛ لأنه عرف أخرى القضيتين ولم يعرف أولاهما، ومن عرف الواقع فقط فكان فقيهاً فيه ولم يعرف الشرع أيضاً لا يحل له الإفتاء، فلابد أن يجمع الإنسان بين هاتين القضيتين: أن يكون مطلعاً على حال واقعه، وأن يكون مطلعاً على الحكم الشرعي حتى يستطيع تنزيله على الواقع الذي يعيش فيه.
كذلك فإن الله عز وجل عندما أمرنا بالتعلم أطلق ذلك، كما في قوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد استفاد بعض التجارب حتى من الأمم الكافرة، فاستفاد تجربة فارس في الخندق، واستفاد تجارب أخرى من أقوام آخرين، فتجربة ختم الكتاب إنما استفادها من الروم، كما ثبت ذلك في الصحيح، وكذلك غير هذا من التجارب المفيدة النافعة التي كان يأخذها من حضارة الأمم الراقية، فعندما بلغه أنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً اتخذ خاتماً، فكان يختم به كتبه، فكل ما هو نافع ينبغي أن لا يترك، وأن لا يختص به أعداء الدين، ومن هنا فإن الجدلية التي سادت بعض بلداننا في حقبة من التاريخ أدركنا آخرها كانت بين فريقين من الناس:
الفريق الأول: قوم يلتزمون بالماضي، ويعيشون على المساطر السابقة، ولا يريدون التجديد في أي شيء، ويرون أن الجديد من حيث هو مردود شرعاً، فهؤلاء هم المتحجرون، وضرر تحجرهم أكثر من نفعه، وقد أخروا مسيرة الدعوة، وأخروا مسيرة العلم في بعض البلدان تأخيراً كبيراً، ولذلك فإنهم هم المثقفون في وقت مجيء الاستعمار، وهم المثقفون في وقت ذهابه، ولم يكن لهم دور في دفعه وقتاله ولا في تبوؤ مكانه بعد ذهابه، فأخروا هذه الدعوة زماناً طويلاً.
الفريق الثاني: شباب تربوا في أحضان الاستعمار ونهلوا من ثقافته، لكنهم رغبوا في الجديد أياً كان، وأنفوا من القديم أياً كان، فأهملوا الجانب الشرعي، فلذلك كانوا جيلاً فاسداً، وما زال كثير من أفراده يعيشون بيننا، ونحن نشهد تلك الأجيال التي عاشت في آخر أيام المستعمر وفي أول زمان ذهابه، وهي من أسوأ طبقات المجتمع في الالتزام الشرعي وفي العلم، ولم تستفد العلم الذي كان لدى الأسلاف، ولم تستفد التزاماً ولا دعوة كما حصل بعد حصول هذه الدعوة المباركة، فكانت برزخاً وسطاً بين جيلين من الناس، ولذلك تجد أن كبار السن وصغار السن هم أحسن هذا المجتمع، فكبار السن -على الأقل- معهم علم والتزام ودين، وصغار السن معهم حرص على العلم، وحرص على الدعوة، والتزام بما علموه مما سمعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين هاتين الطائفتين طبقة متوسطة، لا هي أخذت بما كان عليه السابقون، ولا هي أتت بما جاء به المشددون، ومن هنا قال أحد العلماء:
شكا دين الهدى مما دهاه بأيدي جامدين وملحدينا
شباب يحسبون الدين جهلاً وشيب يحسبون الجهل دينا
وكذلك قال آخر:
أشكو إلى الرحمان من دهر غدا قد قلّ من تلقاه فيه على هدى
فذوو الهداية لا ثقافة عندهـم وذوو الثقافة ناكبون عن الهدى
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر