إسلام ويب

ماذا بعد رمضان [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • رمضان موسم الخيرات والطاعات, فاز فيه أقوام وخسر آخرون, وبعد انقضائه كان لزاماً على المرء المحافظة على ما تعود عليه من الصيام والقيام, والذكر وقراءة القرآن, والبكاء من خشية الله, والتعاون على البر والتقوى, والحرص على الأخوة الإيمانية, ومتابعة أحوال الأمة الإسلامية, وغير ذلك مما تعوده من الطاعة والعبادة في شهر رمضان.

    1.   

    أحوال الناس في رمضان

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد:

    فقد كنا في موسم من مواسم الخير، تنافس الناس فيه على حسب ما وفقوا له من الطاعات.

    الفائزون في رمضان

    ففاز في نهايته أقوام صرفوا أيامهم في الصيام، وقراءة القرآن، ولياليهم في القيام، والدعاء، والذكر، بادروا إلى المساجد فعمروها، وتعرفت عليهم الملائكة على أبواب المساجد، وكانوا من عتقاء الله من النار في الشهر الكريم، ففازوا فوزاً عظيماً بما أدركوا من هذا الشهر، وبما وفقوا له من الطاعات.

    المقصرون في بداية رمضان المستغلون آخره

    وكان في الحلبة أقوام آخرون فاتهم أن يسارعوا في أول الشهر، وأن يدركوا ما أدركه السابقون الأولون، ولكنهم عرفوا في النهاية أنهم غبنوا حين فاتهم ما فات من هذا الشهر الكريم، فحرصوا على إدراك بقيته، فكان لهم من التدارك في العشر الأواخر من رمضان ما كان لهم، وهؤلاء مقتصدون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.

    المقصرون في شهر رمضان الذين ندموا فعادوا في شهر شوال

    وكان في هذا الشهر كذلك ظالمون لأنفسهم مقصرون، لم يستجيبوا للنداء عندما أغلقت أبواب النار وفتحت أبواب الجنة ونادى مناد الله: ( يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر )، فلم يكونوا من المبادرين السابقين الأولين المسارعين في الخيرات، ولم يكونوا من المقتصدين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، بل كانوا في مؤخرة الركب، ففات رمضان بالتسويف، وكل يوم يسوفون أنهم سيكونون من عباده، وسيكونون من فرسان هذه الليلة بالقيام والدعاء والذكر، وسيشهدون القيام في هذا المسجد أو في المسجد الآخر، حتى إذا انتهى الشهر ما راعهم إلا دخول شهر شوال، وقد أطلقت مردة الشياطين من تصفيدها، وجاء قرناء السوء وهبوا من غفلتهم ونومتهم، وأقبل موسم الشهوات بما فيه من الفتن والملذات، فحينئذ ندموا على ما فاتهم فيما مضى، فمن أريد به الخير منهم كان من المستفيدين من هذه العثرة، فهو في غاية الندم والحزن على فراق حبيب قد ذهب وفارق, يوشك أن لا يعود أبداً، فيا رب صائمه لم يصومه، ويا رب قائمه لم يقومه، فبذلك استعدوا لتكون سنتهم كلها رمضان، ولتكون أيامهم صلةً بالله سبحانه وتعالى وتقرباً منه، ولتكون لياليهم كذلك قربات إلى الله سبحانه وتعالى، وإصراراً بالطاعات، لم يكونوا من أهلها من قبل، فكانت تجربتهم جديدةً في الالتزام، كتجربة كثير من الذين حرموا في بداية الشباب هذا الالتزام فلم ينشئوا في طاعة الله، وإنما رأوا القطار قد انطلق، فرأوا كثيراً من الذين هم في أعمارهم ومن لداتهم قد سبقوهم إلى الالتزام فأصبحوا من عمار المساجد، ومن الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وقد أصبحوا من الذين يوثق بهم على حداثة أسنانهم، وبداية أعمارهم، فأدركوا البعد الشاسع بينهم وبينهم، وحينئذ بدءوا في الالتزام على ضعف واستحياء، كحال النبتة التي تنبت في حميل السيل، فإنها تخرج صفراء ملتويةً ثم تقوى بعد ذلك، وهذا حال الإيمان حين تباشر بشاشته القلوب، فإنه يبدأ صاحبه بدايةً متواضعةً ضعيفةً، ثم لا يزال يقوى ويشتد، كالمثل الذي ضربه الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التوراة، فقال: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29].

    وهذا المثل العجيب إذا انتبهنا إليه في حال هذه الأمة رأينا أن الذين يتحملون المسئوليات, وأن رواحل الخير الذين يحملون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فيوصلونها إلى الناس هم أقل القليل من الناس، فالذين يتحملون مسئوليات الدين، ويهتمون بالشأن العام للمسلمين، ويهتمون بالدفاع عن هذا الدين، ويتذكرون قول حسان:

    هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء

    أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

    فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

    لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء

    فيهبون للدفاع عن بيضة هذا الدين، ويحمونه بأنفسهم وبما ملكوا، وبكل ما أوتوا من قوة، هؤلاء هم أقل القليل في الناس، لكن لا يمكن أن يقوم هؤلاء وحدهم بأمر الدين العام، بل يحتاجون إلى من يؤازرهم ويساندهم، فلذلك التف حولهم من الذين قصروا عن هذا المقام ولكنهم أحبوه؛ قوم آخرون هم أكثر من الطائفة الأولى، فهم محبون يبعثون مع من أحبوا يوم القيامة، وفي الأثر: ( أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى ما هو فيه وأصحابه في شهر رمضان، فقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: أنت مع من أحببت ).

    فأولئك يؤازرون ويساندون، ولا يستطيعون التقدم في المقارعة لكنهم يحمون الظهور، فهؤلاء مثالهم في هذه الآية مثال الزرع؛ فإنه يخرج السنبلة الأولى التي تحمل الحب وساقها ضعيف متعرج، لا يستطيع القيام بنفسه، فيؤازر بكثير من السنابل المحيطة به لا تحمل حباً وليس فيها نفع بارز, وإنما تحمل تبناً، لكنها ترد الضربات، وتحمل الرياح، وترد كثيراً من الطفيليات، التي إذا غشيت الزرع أفسدته، فهذه لا شك لها أجر ومشاركة عندما دافعت عن الحب المحمول وشاركت في الدفاع عنه، ولو على قدر جهدها وطاقتها، فلذلك قال: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ [الفتح:29] أي: بذلك المؤازر، فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29].

    المقصرون في شهر رمضان وفي غيره

    وفي المقابل نجد آخرين من هؤلاء المقصرين خلطوا ليلهم بنهارهم فهم لا يبالون، فلا يخطر أمر الآخرة على خلج أحد منهم، فيظن أنه سيبقى على ما هو عليه، فأيامه في هذا الشهر مثل أيامه في الشهر الماضي والشهر الآتي، كلها إدبار عن الله سبحانه وتعالى، وإقبال على شأن هذه الدنيا وملذاتها وشهواتها، لا يقصر في شيء منها إلا ما عجز عنه أو حيل بينه وبينه بالقدر، ومنعه بالرزق، وهؤلاء لا يباليهم الله بالةً حين سلطهم على أنفسهم بالشر فإنهم لا يضرون إلا أنفسهم، وقد اتخذوا أنفسهم عدواً لهم، فهم يصلون الليل بالنهار في معصية الله، والإعراض عنه والغفلة، وبذلك تتورم قلوبهم من المرض، فيكون فيها الداء العضال، الذي لا يمكن دواؤه، وإذا استفحل يختم على هذه القلوب بطابع النفاق، فلا يزالون في تردٍّ، وهم يرضون أن يعيشوا مع المتردية والنطيحة وما أكل السبع، كلما لاح لهم بارق لمعصية الله أقبلوا إليه، وكلما سمعوا داعي شهوة استجابوا له، فتفيئهم الريح يميناً وشمالاً، وهؤلاء لا شك هم شرار الخلق، ولو كانوا من المسلمين، ولو كانوا من أبناء الصالحين، ولو كانوا من أبناء الملتزمين الخيرين، لكنهم إنما اختاروا لأنفسهم طريق البهائم والدواب، فسلكوا هذا الطريق، وبذلك ضيعوا أنفسهم، فمقامهم في الأصل أعلى من هذا عند الله، مقام هذا الجنس البشري أكبر وأعلى، فهو الذي خلقت من أجله هذه الحيوانات والخلائق التي في الأرض جميعاً، خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]، وقد خلق الله آدم بيمينه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفته في الأرض، فكل هذا التكريم والتعظيم لا ينبغي أن يقابل أبداً بالإعراض عن الله سبحانه وتعالى، والرب الكريم جل جلاله من عرفه عرف أن إقباله على العبد تشريف عظيم وتكريم جسيم، كيف يقبل الله على العبد فيعرض عنه العبد، أليس هذا غبناً ولؤماً مع الباري سبحانه وتعالى؟ فلذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم مما هو أقل من هذا من الإعراض عن الله، فذكر الالتفات في الصلاة، فقال: ( لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه ).

    فلذلك نجد هؤلاء المدبرين عن الله سبحانه وتعالى، الذين لا يخطر على قلب أحد منهم لحظة من لحظات حياته الحقيقية، وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].

    لا يخطر في قلبه لحظة عرضه على الله تعالى، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].

    ولا يخطر على قلبه لحظة أخذه لكتابه إما بيمينه وإما بشماله.

    ولا يخطر على قلبه لحظة تمايز عندما يبيض الله وجوه المؤمنين فيسيرون في النور خمسمائة عام، ويسود وجوه أهل البدعة فيتخبطون في الظلام، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، قال: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى في سورة الزمر: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر:60]، فالذين كذبوا على الله هم أهل الابتداع.

    فهذه اللحظات الحاسمة من حياة الإنسان الحقيقية إذا لم تخطر على قلبه ولم تأخذ جزءاً من تفكيره، فاعلم أنه لا خير فيه بوجه من الوجوه، إذا كان الإنسان لا يستحضر أبداً لحظة السؤال في القبر، ولا لحظة العرض على الله، ولا لحظة وزن الأعمال، ولا لحظة أخذ الكتب باليمين أو بالشمال، ولا لحظة العبور على النار على الجسر على الصراط، إذا كان الإنسان لا يستحضر هذه اللحظات، ولا تدور في خلجه، ولا يفكر فيها، فاعلم أنه لا خير فيه أبداً، فهو من شر الدواب عند الله، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23].

    1.   

    تقويم الأعمال بعد رمضان

    هذا التنافس الذي ذكرنا أحوال الناس فيه لابد من تقويمه، فقد عودنا الله في القرآن على تقويم كل غزوة من غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة جاء تقويمها في كتاب الله واضحاً بارزاً، فحكم لصالح أقوام، وحكم على آخرين، وأنتم تذكرون في سورة آل عمرن تقويم غزوة أحد: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155] إلى أن قال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:169-174].

    فهذا التقويم سنة الله سبحانه وتعالى في نهايات الأعمال، وعلى كل مسلم أن يكون تقويمه لغزواته ومسيرة حياته بارزاً لديه، وأن يكون بميزان العدل والإنصاف، فقد كنا في هذه غزوة شهر رمضان، وتفاوت الناس فيها هذا التفاوت العظيم، فعلينا الآن أن نجلس جلسةً لتقويم ماذا بعد رمضان؟ لنسأل أنفسنا: ماذا بعد رمضان؟ ماذا نريد لحياتنا؟ وماذا عسى أن نكون عليه بعد هذا الشهر؟ وهل نحن من أولئك الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان؟

    إن علينا عباد الله! في لحظتنا هذه التي نقوم فيها غزوتنا، ونستحضر فيها نتائج أعمالنا: أن نتذكر المستوى الإيماني الذي وصل إليه كل واحد منا، فالمستوى الإيماني الذي يصل إليه الإنسان عندما يبكي من خشية الله وهو يسمع القرآن أو يقرؤه، عندما يفكر أن هذا الكلام كلام الله عز وجل، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، عندما يفكر أن هذا الخطاب خطاب مباشر من الرب جل جلاله إلى العبد، وقد جاءه عن أحسن الطرق وأبلغها وأعدلها وأصوبها وأقومها، جاء به جبريل إلى قلب محمد صلى الله عليه وسلم فأداه كما أنزل، فهو خطاب إليك تستحضر عند تلاوته أو سماعه أنك الآن كليم الله، يكلمك الله بكلامه، ويوجه إليك خطابه، وأنت تغبط موسى بن عمران عليه السلام عندما تتذكر أن الله كلمه بكلامه، فإذا قرئ عليك القرآن وخوطبت به، أو قرأته على نفسك فأنت قد خوطبت بكلام الله، وقد وجه الله إليك كلامه، فحينئذ إذا كنت من أهل هذا المقام الإيماني، وأحسست بتلك اللحظات التي هي لحظات السعادة في رمضان، التي تنهمل فيها العبرات، ويكثر فيها التفكر في مدلول ما تسمع، وتستحضر فيها سماع القرآن، وتكون فيها في ذلك الوقت مقبلاً على الله صادقاً في إقبالك وتوجهك، فاعلم أن تلك اللحظات منزلة من منازل الإيمان وصلت إليها لا ينبغي أن ترضى بدونها أبداً، فبئس العبد هو العبد الذي يصعد السلم حتى إذا وصل إلى منتصف الطريق تدحرج حتى يصل إلى أسفله، ولا يزال هكذا، فمتى يبلغ نهاية السلم؟

    الحذر من الرجوع إلى المعاصي بعد رمضان

    إن عليك إذا ذقت طعم الإيمان ووصلت إلى هذا المستوى ألا ترضى أبداً بالتراجع عن هذه الدرجات، وأن تكون من الذين كلما قطعوا شوطاً زادهم ذلك إقبالاً وحرصاً على التقدم والازدياد، فأنت تعلم أن منازلك إلى الآخرة هي الأيام والليالي، وكل يوم يمضي أو ليلة تقترب فيها من الموت، وتتقرب فيها إلى الدار الآخرة، وينبغي أن تكون نهاية عمرك خيراً من بدايته، فعليك أن تزيد في الطاعات كلما تقدمت إلى الموت، وكلما تقدمت إلى الدار الآخرة، وإن لم تفعل فكنت من الذين ازداد منسوب الإيمان في قلوبهم في وقت من الأوقات ثم تراجع ذلك؛ فلا تدري لعل الخاتمة تكون في وقت التراجع والانحطاط، والأمور كلها بخواتمها، فإذا حرصت يا أخي! على أن تزداد من الخير فإنك ستتذكر مستواك الإيماني الذي وصلت إليه في رمضان، وتحرص على ألا تنزل عنه، وستكون في ازدياد وترق دائماً؛ لأنك بصدق توجهك إلى الله سبحانه وتعالى قد ركب لك جناحان: أحدهما ظاهر، وهو همتك وعملك، والثاني باطن، وهو اجتذاب الله لك إليه؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول فيما روى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ).

    إن الرب الكريم سبحانه وتعالى يجازي أهل الحسنات بالتوفيق للحسنات التي هي أكبر منها، فالحسنة تدعو إلى الحسنة، كما أن السيئة تدعو إلى السيئة، فالإنسان الذي يقوم في جوف الليل مخلصاً، فيذكر الله عند استيقاظه ثم يتوضأ ثم يصلي ركعتين فتنحل عقد الشيطان على قافية رأسه، ويقبل على الله بقلب سليم، ويدعو، فإن الله سيوفقه لا محالة لعبادة أكبر من هذه، فيوفق للحج مثلاً، وإذا أخلص في الحج فكان حجه مبروراً وفق بعد ذلك للجهاد في سبيل الله.. وهكذا، حتى لا يزال في ترق وقرب من الله سبحانه وتعالى، وازدياد من الخير كلما تقدم به الأمر.

    وفي مقابله الذي يبارز الله بمعصية من المعاصي، فيفعلها بميل إليها، ورغبة فيها، ومحبة لها، ولا يكون من المبادرين إلى التوبة، فلابد أن تقوده تلك المعصية إلى معصية هي أكبر منها، نسأل الله السلامة والعافية، ولذلك فإن كبائر الإثم تدعو إلى الكفر، فبريد النفاق هو من هذه الكبائر، فكل هذه الهفوات من المعاصي والكبائر والفواحش هي انتزاع تنتزعه من قشرة إيمانك، وأنت تعلم أن الجذع إذا قشر لحاؤه فإنه سرعان ما يموت ويذبل، فلذلك لابد يا أخي! أن تستحضر أن كل طاعة أخلصت فيها لله فستدعوك لطاعة أكبر منها، وأن كل معصية بارزت الله بها فلابد أن تدعوك لمعصية أكبر منها إن لم تكن من المبادرين إلى التوبة، والذين يسدون الخلل قبل تشعبه، فإن الخرق قد يتسع على الراقع فلا يستطيع أن يرقعه أبداً، وبين الله تعالى وبين العبد حد من الذنوب ما لم يصل إليه العبد، فهو بعافية، فإذا جاهر بالمعصية سحب الله عنه بساط العافية، وأبلغ مظاهر ذلك الإقبال على المعصية، فالمقبلون على المعاصي سحب عنهم بساط العافية حين سلطوا على أنفسهم بالمعصية، وأنتم تعلمون أنه ما أوتي أحد بعد اليقين خيراً ولا أوسع من العافية، لا يوجد عطاء بعد اليقين والإيمان خير من العافية، وأهل المعاصي المجاهرون بها سحب عنهم بساط العافية.

    المحافظة على الإقبال على الله والخشية منه

    إن علينا في تقويمنا لمسيرتنا هذه بعد نهاية شهرنا أن نحافظ على قدر معين من الإقبال على الله سبحانه وتعالى, يتجلى في رقة القلوب عند سماع كلامه، وعند أوقات طاعته، ويظهر ذلك على البدن بالقشعريرة، وعلى العين بالدمعة، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23]، فإذا حافظنا على هذا المستوى من الرقة، فعلينا كذلك أن نحافظ على مستوىً من إحسان الطاعة، فقد كنا في حال الصيام والقيام يحاول كل واحد منا ألا يخرق الحاجز الذي يعيش فيه من حرمة الشهر، وهذه المحافظة ينبغي أن تبقى مع الإنسان دائماً، فيحافظ على وعاء يشعر بأنه يحيط به، وهذا الوعاء هو وعاء السكينة والوقار، يخاف أن يخرقه في كل لحظة، فيعيش في داخله، ويستبرئ استمراره، فهو لباسه الذي يستره بستر الله الجميل، الذي لو كشف عن الناس لما استطاع أحد منهم أن يجالس أحداً، ولا أن يخاطبه من نتن الذنوب وقبحها.

    المحافظة على إتقان الفرائض

    ثم علينا أن نحافظ كذلك على قدر من إتقان الفرائض، وأعظمها الصلوات المكتوبات، فقد كان كثير منا ينتظر الصلاة بعد الصلاة في المسجد، فهذا المستوى ينبغي أن لا يقصر عنه الإنسان، وأن يحافظ على أداء هؤلاء الصلوات الخمس المكتوبات في المسجد أبداً مدة السنة.

    المحافظة على حقوق الأمة عموماً

    ثم كذلك الحفاظ على غير هذا من الفرائض ومنها: حقوق الأهل، والوالدين، والجيران، وحقوق هذه الأمة عموماً، ثم بعد هذا الحفاظ على الفرائض الكفائية التي على الإنسان أن يشارك في القيام بها، فقط كان كثير منا يشارك فيها حتى ولو كانت مشاركته ضئيلةً محدودةً في شهر رمضان، فقد كان يكثر سواد المسلمين في أوقات الشعائر والعبادات، وهذا إعلاء لكلمة الدين؛ لأن مجرد حضور الصلاة في الجماعة، أو حضور قيام الليل، أو حضور درس من الدروس، أو ليلة تربوية، هو تكثير لسواد المسلمين، وإظهار لشعائر الدين، وإعلاء للواء الله سبحانه وتعالى، فمشاركة الإنسان فيه لا شك قيام بفرض كفاية عام يؤجر فيه الإنسان أجراً عظيماً، وقد اختلف فيه هل هو أفضل من فرض العين أم فرض العين أفضل منه؟ فالذين يرون أن فرض الكفاية أفضل من فرض العين يقولون: لأنه يحصل لمؤديه أجر الأمة جميعاً، كما أنهم يأثمون جميعاً بالترك، فكذلك يثاب الفاعل بثواب الجميع، وهذا أجر عظيم جداً، والذين يرون أن فرض العين أفضل منه يقولون: فرض العين مقصود وقوعه من كل أحد شرعاً، وفرض الكفاية يقصد وقوعه من مؤديه فقط، وعموماً لا شك أنه فرض، وإذا لم يقم به أحد فسيأثم الجميع، فلذلك المشاركة في إعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه، وإظهار شعائر هذا الدين فرض كفاية على الناس أن يقوموا بها، وأن يؤدوها، وأن يشارك كل إنسان منهم فيها بما يستطيع بجهده، والقدر الذي كان يشارك فيه في شهر رمضان عليه أن يحافظ عليه، وألا ينزل عن ذلك المستوى في طيلة السنة، حتى إذا جاء رمضان القادم لم يبدأ من الصفر، بل وجد نفسه في مستوىً يستطيع البناء عليه فيحصل التراكم في هذا البناء، حتى يصل إن شاء الله تعالى إلى تمامه ومستواه المطلوب.

    كذلك ما يتعلق بالفرائض الكفائية المتعلقة بحقوق المسلمين، فأنت يا أخي تنتسب إلى أمة عظيمة، شرفها الله تعالى بأن أرسل إليها أفضل الرسل، وأنزل إليها أفضل الكتب، وشرع لها خير شرائع الدين، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وهذه الأمة لها حقوق عظيمة عليك، فما تشهده فيها من التجزئة والتفريق، وما تشهده فيها من شيوع الظلم والإسراف أنت مخاطب بالمشاركة في إزالته، فما دمت تنتسب إلى هذه الأمة لابد أن تتحمل شيئاً من أعبائها، لا ترضى أبداً بأن تكون أمتك في آخر الأمم ذيلاً على أمم الكفر والشرك، بل لابد أن تسعى لأن تعيد هذه الأمة إلى مكانها الذي تركها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تسعى لتجديد أمر هذا الدين في هذه الأمة، وأن تهتم بقاصيها ودانيها، فهي أمة واحدة، آمالها مشتركة، وآلامها مشتركة، وما لم تقم أنت بذلك فمن عسى أن يقوم به؟ إن ذوي الهمم السافلة دائماً يظنون أن الأمر له من يقوم به، فيلقون باللائمة على آخرين وينسلون هم من المسئولية، ويظنون أن هذه الأمور العامة المتعلقة بحماية الدين أو حقوق الأمة لها أقوام عليهم أن يقوموا بها، وما لم يقوموا بها فهم المخطئون، أما نحن فلا لنا ولا علينا، وهذا التصور خاطئ بالكلية، فالأمة أمة واحدة، وأنت فرد من أفرادها ممثل لها، فما لم تقم بالواجب الذي عليك فمن سيقوم به؟ سيتركه الجميع، كل إنسان يلتمس المعاذر لنفسه، ولهذا فإن كثيراً من ذوي الهمم السافلة الهابطة يعتذرون بما عليهم من المسئوليات الدنيوية، فيعتذرون بالوظائف والتجارات والأمراض والضيوف والأولاد والأهل وغير ذلك، وهذه في الواقع عذر موجود لدى الجميع، ما من أحد إلا ولديه أعذار من هذا القبيل، فلو كان كل صاحب عذر من هذه الأعذار يستطيع الاعتذار به وتقديمه لتركت هذه المسئولية الجسيمة ولم يقم بها أحد، ولذلك فإن استحضار مسئولية الإنسان يقتضي منه ألا يلتمس العذر لنفسه بحال من الأحوال، ورحم الله أبا الأعلى المودودي عندما أطلق الرصاص في قاعة هو يخطب فيها في حال اجتماع فصاح الناس: اجلس.. اجلس، فقال: إذا جلست أنا فمن يقوم؟ لابد أن يستحضر كل واحد منا أنه إذا جلس هو عن القيام بحماية الدين ورعايته فمن سيقوم بذلك؟ ومن الذي سيتولاه؟

    وعلينا أن نتذكر موعظة الله لنا في فراق رسولنا صلى الله عليه وسلم في تقويمه لغزوة أحد إذ قال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].

    نحن نعلم أن لواء الدين لابد أن يقوم، ولابد أن ينتصر هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، ولابد أن يبعث الله الهمة في قلوب أقوام هم الذين اختارهم الله لنصرة دينه، فإذا تراجعت أنت يا أخي! فإنك لا تنقص هذا الدين نصرةً، بل هو منتصر على رغم أنف المتقاصرين المتساقطين، وسينصره الله بجنود من عنده، لكن عليك أنت ألا تكون من الراضين بأن يبقوا على الآثار, فالذين يتخلفون عن الغزو جزاؤهم ما أمر الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:83-84]، من يرضى منا بهذا المقام؟ إنه مقام الخاسرين في الواقع، هذا مقام الخاسرين الخسارة الحقيقية، فلذلك لابد أن يستحضر كل واحد منا مسئوليته عن نصرة هذا الدين، وما كان يقوم به في شهر رمضان من المشاركة عليه أن يجعله الحد الأدنى، ثم يزيد عليه ما استطاع، ويحافظ عليه، ويبني على ذلك في مواسم الخير التي تتكرر.

    اتخاذ الإنسان لنفسه مقاماً معلوماً من عبادة الله

    ثم بعد هذا كذلك لابد أن يتخذ الإنسان لنفسه مقاماً معلوماً من عبادة الله تعالى، فالملائكة الكرام كل أحد منهم له مقام معلوم، وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164]، وهذا المقام هو ما يختص به من العبادة، منهم الراكعون الذين تمضي مليارات السنين وهم في ركوع واحد، عبادتهم الركوع أبداً، ومنهم الساجدون الذين عبادتهم السجود، ومنهم المسبحون الليل والنهار لا يفترون، ليس لهم أي شغل عن طاعة الله تعالى وعبادته.

    فعليك يا أيها العابد! أن يكون لك مقام معلوم من العبادة، فقد تعودت في شهر رمضان على ما تيسر لك من قيام الليل، فعود نفسك على ذلك طيلة السنة، واجعله مقامك المعلوم، أن تكون من أهل هذا العدد من الركعات، أو هذا الوقت من الليل، فهذا مقامك المعلوم الذي تحافظ عليه أبد الآبدين حتى تحشر إلى الله سبحانه وتعالى، وإن نويت بذلك المرابطة في سبيل الله فلن يختم على عملك، وسيكون هذا المقام مستمراً بعد موتك، إذا جاء وقت القيام كتبت من القائمين، وإذا جاء وقت الصيام كتبت من الصائمين، وأنت قد أرمت في قبرك؛ لما أخرج البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرابط في سبيل الله قال: ( لا يختم على عمله، ويأمن الفتان )، فقوله: ( لا يختم على عمله ) أي: يبقى عمله مستمراً كما كان في حياته، وهذا الرباط في سبيل الله إنما يحصل الآن بالنية والعمل, فبلاد الإسلام كلها اليوم ثغر من الثغور، في الصدر الأول كانت الثغور محصورةً وما سواها من البلاد آمن من غزو الكفار، واليوم ما من بلد من بلاد الإسلام إلا وهو ثغر من الثغور يخاف من هجوم العدو عليه، ولذلك لاحظوا أنكم هنا في ثغر من الثغور, كل عام يأتيكم كثير من الملهيات عن الدين، وكثير من مكائد أعداء الله الموجهة لهذا الدين، كل عام تأتي كثير من المؤامرات التي يقصد بها النقص من هذا الدين، والتقليل من شأنه، وسد منافذه، وتجفيف منابعه، وهذه المؤامرات على دين الله سبحانه وتعالى التي تتكرر إذا لم يلاحظ الإنسان سيرها، وأنها في كل عام تزداد عما كانت عليه في سابقه، فإنه لا تحصل لديه الغيرة على دين الله، لكن إذا لاحظ زيادتها مع الزمن فستحصل الغيرة في قلبه على دين الله؛ لأنه لا يرضى أن يكون بيته محلاً للمؤامرات بالهدم، كل عام يهدم ركن من أركانه وهو ساكن فيه صابر ساكت لا يدفع عن بيته، لا يستطيع أحد منكم أن يثبت على ذلك.

    لا شك أن حرص الإنسان على دينه ينبغي أن يكون أعظم بكثير من الدرجات من حرصه على بيته، وما يبذله في الدفاع عن هذا الدين لابد أن يكون أعظم وأولى مما يبذله في الدفاع عن حريمه وبيته، فهذا المستوى إذاً هو المقام المعلوم الذي ينبغي أن تحافظ عليه في قيام الليل، ومثل ذلك لابد أخي أن تحافظ أيضاً على مستوىً من الصيام، ومستوىً من الذكر، فحاول يا أخي ألا تنام إلا على ذكر الله كما كنت تفعل في رمضان، وألا تستيقظ إلا على ذكر الله، وأن تحافظ على قدر من أذكار المساء والصباح، وأن تحافظ على حكاية الأذان مع المؤذن إذا سمعته حتى تكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فإذا حافظت على هذا فسيكون مقامك في الذكر أيضاً عند هذا المستوى، وتزيد كلما أتيحت لك فرصة موسم من مواسم الخير.

    الاهتمام بالابتعاد عن النواهي

    ثم في المقابل لا شك أن علينا أن نلتفت إلى جانب التروك، فما كنا نذكره هو جانب الأفعال والزيادة، ولا شك يسبقه جانب التروك أي: الجانب السلبي، فأول ما يلزمك أن تتحرر أولاً من الشرك ومظاهره، ومن الجاهلية وآثارها، فراقب نفسك وسلوكك فستجد كثيراً من الأمور التي هي مخالفة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، فحاول إزالتها من نفسك بالكلية، واجعل لنفسك برنامجاً يبدأ بالتصورات، والعقائد، وما يتعلق بها، فإذا صلحت هذه والتأمت مع جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، فتجاوز ذلك إلى جانب الأفعال، وما تفعله من الأفعال أيضاً منه ما هو موافق للشرع، ومنه ما هو مخالف له، فامح ما هو مخالف له وأزله، ثم تصل إلى الأخلاق، فستجد منها ما هو موافق للشرع، وما هو مخالف للشرع، فأزل ما هو مخالف للشرع من أخلاقك، وحينئذ ستستقيم أخلاقك على المحجة البيضاء بعد استقامة عقائدك وأعمالك، فإذا استطعت ذلك، وأتيت وقد محوت عن نفسك كل آثار الجاهلية وما فيها من الران فستنطلق انطلاقاً سريعاً في الطاعات والقربات؛ لأنه لم يبق ما يكبلك ويقيدك عنها.

    أثر الذنوب والمعاصي على عبادة الإنسان

    إن كثيراً من القيود التي تمنع الإنسان من ختم القرآن، ومن الإكثار من الذكر، ومن الصيام والقيام إنما هو الذنوب والمعاصي، وقد جاء رجل إلى الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله فقال: إني لا أستطيع قيام الليل، ولا صيام النفل، فقال: أنت رجل مكبل بالذنوب، فاجلس وانفرد، وأكثر من الاستغفار؛ لعل الله يمحو عنك سيئاتك وخطاياك، وحينئذ ستتحرر من الذنوب، فتستطيع الانطلاق.

    وإذا لم تبدأ بهذه الخطوة وهي خطوة التنقية والتصفية لنفسك، وتصوراتك، وأعمالك وأخلاقك، فلن ينتفع بك الغير، لن ينتفع بك الآخرون، فما دام بناؤك على شفا جرف هار فلا يمكن أن يصل إلى مستواه وتمامه، ولا يمكن أن ينتفع بك الغير أبد الآبدين، وأنت مطالب بأن تجدد ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى ما دعا إليه والتأثير في الناس، وردهم إلى الطريق المستقيم، وإذا لم تستجب لك نفسك التي بين جنبيك فلن يستجيب لك أحد، فلذلك احرص يا أخي! على هذا المقام بعد رمضان، وأن يكون لك زاداً مستمراً.

    الحرص على الأخوة الإيمانية بعد رمضان

    ثم إننا في شهر رمضان أيضاً كان يظهر بين الفينة والأخرى مقام من مقامات الإحسان في التعاون على البر والتقوى، وبالأخص بين عمار المساجد؛ فيبدأ بالزيارات الأخوية التي لا يحمل صاحبها إلا أن يزور في الله عز وجل، فكثير من الزيارات التي سجلت في رمضان بين الملتزمين إنما كانت زيارات في الله عز وجل، وهذا مقام من مقامات التعاون، عليك أن تحافظ عليه، وكذلك الجلسات الإيمانية التي يشكو فيها الإنسان إلى إخوانه بعض ما يجده من القسوة وما يشكوه من نفسه من النفور، فيساعدونه في ترقيق قلبه وإقبال نفسه على الخير، وكذلك مشاركته لهم في همومهم وأحزانهم، وأعمالهم وآلامهم، كل ذلك من التعاون على البر والتقوى، ومن الشعور بأننا نسلك طريقاً واحداً وفي خندق واحد، فهذا المقام أيضاً من مقامات الإخاء أخذناه من شهر رمضان فعلينا ألا نتراجع عنه، وألا نتنازل عنه أبداً، علينا أن نحاول زيادة اللحمة والإخاء بيننا، فمن لم تكن تعرفه من إخوانك وأنت تراه في المسجد، وتعرف وجهه في الصف الأول أو في الصفوف الأخر من المسجد عليك أن تتعرف عليه فهو في الواقع أخوك إخوةً حقيقيةً لا تنقطع في الدنيا ولا في الآخرة، بينما إخوة النسب إذا لم يكن معها التزام منقطعة في الدنيا عند تعارض المصالح، ومنقطعة في الآخرة، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].

    أخوك الإخوة الحقيقية هو أخوك في الدين، الذي إذا أتيت المسجد فستراه، وإذا جاء وقت القيام وجدته، وإذا جاء وقت قراءة القرآن وجدته، وإذا جاء وقت الصيام وجدته، وإذا جاء وقت الدعوة وجدته، هذا أخوك، وإخاؤك معه إخاء حقيقي لا ينقطع، فاحرص على التعرف عليه، واعلم أن انتفاعك بإخوانك في هذا الدرب والطريق الطويل كبير جداً، فكثيراً ما يمر بك ساعات الضعف أمام الشهوة أو أمام الشبهة، وساعات الفتور، وساعات الإحباط، وساعات المؤثرات الدنيوية، فتحتاج فيها إلى إخوانك في الدين، الذين يثبتونك على الطريق المستقيم.

    إذا وجدت نفسك محتاجاً إلى أمر دنيوي وشديد الرغبة فيه والإقبال عليه، فزر إخواناً لك يزهدونك في أمور الدنيا، حتى تعلم أن ما تطلبه إنما هو من أمور الدنيا الفانية، وأنك إذا أحرزته وحصلت عليه فستمله، أو يأتيك أقل مما كنت تتوقع، وكذلك إذا وجدت نفسك تشكو قسوةً أو ضيقاً أو وحشة، فزر أخاً لك في الله، لا لأي نعمة ولا قرابة، إنما تزوره في ذات الله سبحانه وتعالى؛ ليكون ذلك عوناً لك على تعدي تلك الحواجز والعراقيل التي في الطريق، وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الله تعالى يقول يوم القيامة: ( أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ).

    وأنه سبحانه وتعالى يقول يوم القيامة: ( وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتجالسين فيَّ )، وأنه سبحانه وتعالى يظل المتحابين فيه في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

    فاحرص على وجود هؤلاء، ولن تجدهم في مجرد الأقارب لداعي القرابة فقط، ولا في مجرد الأصدقاء أصدقاء العمل، ولا في مجرد الشركاء في أمور الدنيا، إنما تجدهم في المساجد وفي أوقات الطاعات ومواسمها، لا شك أنك في رمضان وفي غيره من مواسم الخير ستجد المقبلين على الله سبحانه وتعالى ووجوههم براقة، وأعينهم خاشعة، وقلوبهم لينة، وترى فيهم الابتسامة الصادقة في وجه المسلم، وترى فيهم كذلك حسن الخلق ولين الجانب، فتعرف على هؤلاء واتخذهم ذخراً، واصبر نفسك معهم كما قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].

    الحرص على الازدياد من العلم بعد رمضان

    ثم إن كثيراً من الناس كذلك حرصوا في شهر رمضان على الازدياد من العلم، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم دائماً، فلم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالازدياد من شيء إلا من العلم، إذ قال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114]، فعليك يا أخي! أن تنمي هذه الرغبة في طلب العلم، والازدياد منه، وأن تحرص على أن تكون من طلاب العلم في كل أوقاتك، إذا كان لديك مشوار في الطريق أو في الباص أو في سيارة الأجرة فخذ كتاباً تقرأ فيه في أثناء سيرك، إذا سمعت شريطاً فاستشكلت كلمةً من كتاب الله أو كلمة من حديث أو كلمة من اللغة أو غير ذلك فابحث عنها في مراجعها، أو اسأل عنها أهل الذكر، وإذا عرض لك أمر من الأمور فلم تعرف حكم الله فيه فبادر إلى السؤال عنه، والتقصي والبحث حتى تحصل لك قناعة برجحانه، وحتى تعرف دليله من الشرع، وهكذا حتى تستغل أوقاتك في هذا الطلب، فإن الإنسان المشتغل بطلب العلم دائماً يبارك له في أوقاته، ويرزق حلاوة هذا العلم، فحلاوة الوجدان إنما تحصل لمن تعب في الطلب، ولذلك كان في الحكمة: النيل بعد اليأس أبلغ في النفس. فما تناله من العلم بعد أن حرصت عليه، وبعد أن دار في خلجك استشكاله سيكون أثبت في فؤادك مما سمعته لأول وهلة دون أن تراجع فيه نفسك، ودون أن يطرح عليك إشكالاً من قبل.

    وقد نبه الإخوة إلى أن الوقت المخصص لهذا العرض قد انتهى، فلعلنا إن شاء الله تعالى نكون قد ألممنا ببعض ما يمكن أن يطرحه كل واحد منا على نفسه من الأسئلة في أعقاب شهر رمضان، وكذلك لا شك أن كثيراً منا سمع بعض الأوصاف التي يجد نفسه غير بعيدة منها، فهذه الأوصاف تنطبق على كثير منا، وبذلك يأخذ ما يعنيه من الكلام، ويهتم بمقامه المعلوم، ويحرص على أن يكون من الذين يزدادون إيماناً ويقيناً كلما جاء موسم من مواسم الخير وهي متوالية متتالية، فبعد أن ودعنا شهر رمضان دخلنا في أشهر الحج، وبعد نهاية هذا الشهر كذلك ندخل في الأشهر الحرم، وكل هذه من مواسم الخير التي ينبغي أن تكون زاداً لنا ووقوداً نزداد به إيماناً ويقيناً.

    1.   

    الأسئلة

    المسافة التي يقصر فيها المسافر ويفطر

    السؤال: ما هي مسافة القصر والإفطار؟

    الجواب: ليس لذلك مسافة محددة، بل قد قال الله تعالى في محكم التنزيل: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ [النساء:101]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:183-184].

    فأطلق الله تعالى السفر، وأطلق الضرب في الأرض، فأطلق السفر للإفطار، وأطلق الضرب في الأرض للقصر، وهذا الإطلاق لا يقيده إلا نص عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد نص في القرآن ولا في السنة يقيد مسافةً محددةً للإفطار في السفر، ولا للقصر كذلك فيه، وإنما يرجع ذلك إلى دلالات اللغة، فما يسمى سفراً هو الذي تقصر فيه الصلاة، وهو الذي يفطر فيه الصائم إذا شاء، والذي يسمى سفراً هو ما يحوج الإنسان إلى الزاد والراحلة، والفقهاء اختلفوا في قدر ما يتحقق به ذلك، واختلافهم إنما هو راجعنا إلى تحقيق المناط، فاتفقوا على أن خمسةً وثلاثين ميلاً لا تقصر فيها الصلاة، ولا يفطر فيها الصائم؛ لأنه لا يحتاج الإنسان العادي فيها إلى الزاد والراحلة، بل يستطيع أن يقطعها على رجليه، وهي مسافة العدوى، وأن ثمانيةً وأربعين ميلاً مسافة قصر قطعاً تقصر فيها الصلاة، ويفطر فيها الصائم إذا شاء؛ لأنه يحتاج إلى الزاد والراحلة، واختلفوا فيما بين هذين: ما بين خمسة وثلاثين كيلو إلى ثمانية وأربعين كيلو، فهذا القدر مختلف فيه.

    بعض أحكام التيمم

    السؤال: هل يمكن التيمم في المنزل وقصد الصلاة في المسجد؟

    الجواب: نعم، التيمم بدل عن الطهارة المائية, ذكره الله بدلاً عنها في كتابه، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [المائدة:6]، وعلى هذا فقد أنزل الله التيمم منزلة الوضوء والغسل في حق العاجز عنهما لمرض أو فقر ماء في سفر أو نحو ذلك، وقد ساوى التيمم على هذا الطهارة المائية، فيستباح به ما يستباح بالطهارة المائية، إلا أن الطهارة المائية يمكن أن يجمع بها فرائض ولو خرج وقتها؛ لما صح في حديث عمر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، فقلت: يا رسول الله! إني رأيتك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، فقال: إني عمداً فعلت ذلك يا عمر ). فهذا الحديث صريح في أن الصلوات وهي غير مشتركة الوقت تجمع بالوضوء الواحد ما لم ينقض، وأما التيمم فإنه لم يرد فيه ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اختلف أهل العلم: هل يبقى على الأصل الموجود في سورة المائدة؛ وهو أن كل قائم للصلاة عليه بالأصل الطهارة المائية، فإن عجز فعليه التيمم، وعلى هذا فكل فريضة لها تيممها وحدها، أو يلحق التيمم بالوضوء قياساً؟ هذا محل خلاف, والاحتياط أن يبقى التيمم في مكانه في آية المائدة؛ لأنه لم يرد فيه النص الذي ورد في الوضوء.

    صلاة الفريضة بوضوء صلاة النافلة

    السؤال: هل صحيح أن المتوضئ لصلاة النافلة لا يمكن أن يصلي الفريضة بوضوئه ذلك؟

    الجواب: إن نوى استباحة ما منعه الحدث بتيممه فإنه يصلي به ما كتب له من فرض ونفل، ولا يختص التيمم لنافلة، كما أن الوضوء لا يختص بها, فإذا توضأ أيضاً لنافلة لا يختص وضوؤه ذلك بتلك النافلة.

    قراءة جزء من السورة في الصلاة

    السؤال: هل صحيح أن قراءة جزء من سورة في الفريضة مكروه؟ وما هو الدليل على ذلك أو على خلافه؟

    الجواب: إكمال السورة في الصلاة مطلوب؛ لأن السورة وحدة من القرآن, أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون وحدةً متكاملةً معانيها متكاملة ومشتركة، فالأفضل للإنسان أن يكملها في الركعة إن استطاع وإلا ففي الركعتين أي: أن يقسمها بين الركعتين، فقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم سورة الأعراف بين الركعتين في صلاة المغرب، ولم يرد عنه الاقتصار على بعض السورة إلا لعذر، ( فقد افتتح سورة المؤمنون بعد الفاتحة في صلاة العشاء حتى بلغ ذكر موسى أو عيسى فأخذته سعلة فركع ) وذلك عندما أخذته سعلة، فلم يرد عنه الاقتصار على بعض السورة إلا لعذر، وعموماً لم يرد عنه الافتتاح في صلاة الفريضة بعد الفاتحة بأول سورة إلا في قسمه لسورة الأعراف بين الركعتين.

    ولم يرد نهي عن الاقتصار على آيات من أية سورة في الصلاة، وبالأخص إذا كان ذلك لعذر كمن لا يحفظ القرآن كله فيقرأ ما تيسر منه من أي مكان منه، ويدل على إطلاق ذلك حديث المسيء في صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( فاقرأ ما تيسر معك من القرآن )، أو ( اقرأ مما تيسر معك من القرآن ).

    وقد صح عن خالد بن الوليد أنه لم يكن يحفظ القرآن، وكان أميراً، والأمير هو الذي يصلي بالناس، ليس مثل زماننا، فالأمير في عهد الصحابة هو الذي يؤم الناس في صلاة الجمعة، وفي صلاة قيام الليل، وفي الفرائض كلها، فكان خالد بن الوليد يقرأ الفاتحة، ثم يقرأ بعدها سورة مما يحفظ منها، ثم يدخل في سورة أخرى فيقرأ ما يحفظ منها، فإذا سلم قال: شغلنا بالغزو عن القرآن، فأنا أقرأ لكم ما أحفظ منه. فيقرأ من سورة البقرة، ومن سورة آل عمران، ومن سورة النساء ما يحفظ من ذلك حتى يكمل القدر الذي يريد أن يتمه، فيركع ويصلي ركعةً أخرى بما تيسر معه.

    دليل ندبية وقوف المقيم للصلاة عن يسار المحراب

    السؤال: ما الدليل على ندبية وقوف المقيم للصلاة عن يسار المحراب؟

    الجواب: لا أعرف هذا، لكن المحراب يدخله الإمام من اليسار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخله من جهة اليسار، فبيوته وحجره إلى تلك الجهة، فكان يدخله من تلك الجهة، وأيضاً فهو بمثابة مقام اليسار وبيته، فكما يدخل الإنسان رجله اليمنى في المسجد، وكما يدخل كذلك رجله اليمنى في بيته إذا دخل، فكذلك دخوله المحراب يدخله برجله اليمنى، وهذا فقط من باب الندب والأولى، وليس لذلك حد لابد من الوقوف عليه، لكن صعود الخطيب المنبر ينبغي أن يكون من تلك الجهة؛ لأنه على عكس ركوب الدابة، فالدابة تؤتى من جهة اليسار ليرفع الإنسان رجله اليمنى أولاً في الغرز، والمنبر يأتيه الإنسان من الجهة التي يصلي منها، فينبغي أن يكون المحراب عن يمينه في حال صلاته فيأتيه الإنسان من جهة المصلى.

    الكلام أثناء البول

    السؤال: هل يجوز الكلام أثناء البول؟

    الجواب: اشتغال الإنسان بغير البول في حال إخراجه لا ينبغي له أن يشتغل بما يشغله عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من أسباب عذاب القبر: عدم الاستتار من البول، فالإنسان إذا اشتغل عنه بكلام أو حديث مع غيره فلا شك أنه سينشغل عن مراقبته ومتابعة خروجه، فذلك يؤدي إلى عدم الاستتار منه، والتحدث في أثنائه مع الغير أيضاً مناف للحياء المطلوب شرعاً.

    توجيه ما أثر عن بعض العلماء أنه كان يطلب العلم أثناء اغتساله

    السؤال: هل صحيح أن ابن تيمية من شدة حرصه على الوقت كان يدرس أثناء اغتساله؟

    الجواب: ما ذكر عن ابن تيمية رحمه الله لا أعرفه عنه, وإنما يذكر عن ابن الجوزي, وقد ذكره هو عن نفسه؛ أنه كان إذا دخل المغتسل أو الحمام دعا ولده ليقرأ كتاباً، وأن يرفع صوته حتى يسمعه؛ لئلا ينقطع عن العلم في وقت من الأوقات، فيقرأ عليه التواريخ وغير ذلك في حال دخوله الخلاء, ويقرأ بصوت مرتفع حتى يسمعه ذلك.

    دخول الجنب للمسجد وقراءته للقرآن حال عجزه عن الاغتسال

    السؤال: إذا كان الجنب عاجزاً عن الاغتسال فهل عليه حرج في دخول المسجد، وتلاوة القرآن فيه؟ وهل صحيح أنه ينبغي له أن يتيمم لدخول المسجد؟

    الجواب: الجنب لا ينبغي أن يدخل المسجد بجنابته، فعليه أن يرفعها بالغسل إذا كان قادراً عليه، فإن عجز عنه فبالتيمم، فالتيمم ينوب مناب الغسل عند فقده، وإذا تيمم الإنسان فإنه يستبيح بتيممه ذلك ما يستبيح بغسله، فليس لدخول المسجد تيمم مختص، بل الجنب يتيمم قبل دخول المسجد، وتيممه ذلك يمكن أن يصلي به ما كتب له، وأن يقرأ به القرآن إذا كان عاجزاً عن الغسل. ويجوز له إطالة المكث فيه ما لم ينتقض تيممه.

    مس الحائض للقرآن وقراءته

    السؤال: هل يجوز للحائض المتعلمة مس المصحف وقراءة القرآن فيه؟

    الجواب: الراجح أنها يجوز لها مس الجزء؛ لأن رفع مانعها ليس في يدها، فليست مثل الجنب الذي رفع مانعه بيده متى شاء رفعه، فلذلك يجوز لها مس الجزء لا الكامل.

    نقف عند هذا الحد.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    سبحانك ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767035839