إسلام ويب

أنصار اللهللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ينبغي على المؤمن أن يجاهد نفسه حتى تكون من جند الله تعالى، مستعدةً للتضحية والبذل في سبيل الله، كما كان الجيل الأول الذين ناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبذلوا أنفسهم، وجهدهم، ومالهم، وأوقاتهم، في نصرة دين الله تعالى، ولذلك شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأوصى الناس بهم خيراً، ومن نصر الله نصره الله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14].

    هذه الآيات تعقب الله تعالى بها تجارته مع عباده التي سبقت في الآيات السالفة، وذلك لبيان أن هذه التجارة المربحة، التي بين الله تعالى للمؤمنين أرباحها، وثمراتها، لا يمكن أن تتم إلا بجهد جهيد، هو بذل الجهد لإعلاء كلمة الله تعالى، وإعزاز دينه، ولذلك خاطب الله تعالى عباده هذا الخطاب العظيم، وناداهم بهذا النداء الكريم.

    فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا[الصف:14], فمن استحضر منهم هذا كان كليماً لله تعالى؛ لأن الله يكلمه يخاطبه بهذا الكلام على الوجه الذي سبق بيانه في مقدمة الآيات.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ[الصف:14]، بعد أن أثبت لهم وصف الإيمان القدري، أمرهم بهذا الأمر العظيم، وهو أن يجعلوا أنفسهم جنداً لله تعالى، ملتزمين بأوامره مجتنبين لنواهيه، متهيئين لخدمة دينه، وإعلاء كلمته مهما كلف ذلك من الأثمان، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا[النساء:135]، هذا الفعل هو فعل أمر من الكون المقتضي للصيرورة، يقتضي الانتقال من حال إلى حال، والتميز على الأغيار والأضداد، وأن يغير الشخص من حياته ومن كيانه، ومن واقعه؛ لأن الكيان مشتق من الكون، فالشخص الذي يستطيع تغيير ما في نفسه يغير الله تعالى حاله إلى أحسن الأحوال، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

    فإذا كون الشخص نفسه وعالجها، وجاهدها، حتى وصلت إلى أن تكون من جند الله تعالى، مستعدةً للتضحية والبذل في سبيل الله استجابة لهذا الأمر الكريم من رب العالمين جل وعلا، ولا تخفى الإشارة هنا إلى أن هذا الأمر لا يتم إلا بالتكوين والممارسة والفعل؛ لأنه لم يقل: يا أيها الذين آمنوا انصروا الله، وإنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14].

    وفي القراءة الأخرى ((أنصاراً لله))، والفرق بين القراءتين من ناحية التفسير: أن قراءة (أنصار الله)، تقتضي أن تكون هذه الأمة، وهذا الجيل المسلم، المؤمن، الموحد، أنصاراً لله تعالى نصرةً خالصةً دون غيرهم، وبذلك يحظونَ بهذا الوصف العظيم، الذي ميز الله به في صدر الإسلام المسلمين، من الأوس والخزرج، الذين كانوا أنصار الله تعالى، وأنصار رسوله الله صلى الله عليه وسلم.

    والنصرة قسمان: نصرة خاصة، وقد فاز بها الذين تبوءوا الدار والإيمان، من بني قيلة من الأوس والخزرج، وهذه النصرة تقتضي أن يبذلوا أنفسهم، وجهدهم، ومالهم، وأوقاتهم، في نصرة دين الله تعالى، وقد فعلوا، ولذلك شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأوصى الناس بالأنصار خيراً فقال: ( أوصيكم بالأنصار خيراً، فإنهم أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم).

    وقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لولا الهجرة لكنت من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً، وسلك الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار ).

    ولما قسم الغنائم يوم أوطاس، ولم يعطِ الأنصار منها شيئاً وجد الأنصار في أنفسهم حيث صبروا وقاتلوا، وجاهدوا، ولم يعطوا شيئاً من المال، وأعطيه المؤلفة قلوبهم من قريش، من أهل مكة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على وصفهم الحميد وهو الصراحة، فالصراحة مدعاة الثقة، الذي لا يكن في نفسه غضباً، إذا غضب على أخيه، أو على قائده، أو على مقوده، كاشفه بالأمر وصارحه، وقال: إني وجدت في نفسي عليك بسبب كذا، هذا الآن لابد أن تبنى له الثقة الكاملة بينه وبين قائده ومقوده؛ لأن الأمر واضح وليس فيه إشكال ولا كتمان، أما الذي يجد في نفسه ويكتمها ولا يطلع عليها غيره، ويبقى الشيطان يشعلها ويزيدها فهذا مدعاة للتفرق، والخلاف، ومدعاة أيضاً لعدم الثقة بين الأفراد، فالأنصار جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأرسلوا إليه رسولاً منهم، فأخبروه بأنهم وجدوا في أنفسهم عليه، والذي يخبره قد لا يكون ممن وجد هذه الجدة في قلبه، ولكنه يحدث بحديث عوامهم.

    فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتمعوا في مكانٍ وألا يحضر معهم أحد، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ليس معه رجل من قريش، فقال: هل فيكم أحد ليس منكم؟ فقالوا: ليس فينا إلا فلان وهو ابن أختنا، فقال: ( ابن أخت القوم منهم، يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم )، ثم عرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض النعم التي أنعم الله بها عليهم بسبب هجرته إليهم، فقال: ( ألم أجدكم كفاراً فهداكم الله بي، ألم أجدكم أهل قتالٍ وحربٍ، فألف الله بين قلوبكم بي، ألم أجدكم فقراء فأغناكم الله بي، ألم أجدكم أذلاء فأعزكم الله بي، فقالوا: نعم الله ورسوله أمن ).

    فقال: ( ألا أجبتموني؟ أما إنكم لو أجبتموني لقلتم فلصدقتم، ولصُدقتم: ألم تأتنا طريداً فآويناك، ألم تأتنا فقيراً فأغنيناك، ألم تأتنا ذليلاً فأعززناك، فقالوا: الله ورسوله أمن، وبكى الأنصار كلهم عن بكرة أبيهم، فقال: أما ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى دياركم، فرضي الأنصار هنا، وقالو: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة ).

    فرجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ديارهم، وكان هذا حظهم من الغنيمة، هذا حظهم من الدنيا، ولذلك بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أثرة عليهم، ففي حديث عبادة بن الصامت الأنصاري رضي الله عنه قال: ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع، والطاعة، في المنشط، والمكرة، وعلى أثرة علينا، وعلى أن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم ).

    وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس يزيدون، والأنصار ينقصون، فهؤلاء مضت لهم النصرة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مضت الهجرة لأهلها، ومضت النصرة لأهلها، وبقي الجهاد والنية ).

    (مضت النصرة لأهلها) هذه النصرة الخاصة، هي نصرة الأنصار، وقد مضت لأهلها، فاز بها السابقون من الأنصار، ولذلك ثنّى الله بهم بعد السابقين من المهاجرين في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [التوبة:100].

    النصرة العامة: هي أن يكون الشخص في ولائه وانتمائه، وبذله، وعطائه، وفي عداوته وفي رضاه وغضبه، كل ذلك يعرف لماذا يعمل، ولمن يقدم، وأنه عبد من عباد الله، وجند من جند الله، أرسله الله تعالى وكلفه، واختاره من بين خلقه بأن أنعم عليه بنعمة الهداية للإيمان، واستغله بأن يكون من جنود الله، وهذا تشريف عظيم، وانظروا إلى ذرية آدم التي نسبة 99% منها هم بعث النار، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله تعالى ينادي آدم يوم القيامة، فينادي بصوتٍ: يا آدم أخرج من ذريتك بعث النار، فيقول: من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ).

    فهذا الآن نسبة تسعمائة وتسعة وتسعين في الألف من ذرية آدم إلى النار، والمؤمنون إذاً نسبة واحد في الألف، فإذا امتن الله تعالى على عبدٍ من عباده بأن جعله من هذه النسبة، جعله من نسبة واحد في الألف، وهم جند الله وأنصاره المؤمنون الذين امتن الله تعالى عليهم بأن قذف في قلوبهم نوره وإيمانه، فهذا تشريف عظيم، ونعمة جلَّى، فينبغي أن يبذلوا في سبيل هذه النعمة، أن يشكروا هذه النعمة لله تعالى.

    وانظروا إلى مقام الأنبياء، فهذا موسى كليم الله الذي اصطفاه، الله بكلماته ورسالاته يقول: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ[القصص:17]، (رب بما أنعمت علي)، معناه: بسبب نعمتك، علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين، لا يمكن أبداً أن تراني في الصف المقابل، أن تراني واقفاً في وجه دينك، مناصراً لمن يحادونك ويقفون في وجه كلماتك، إذاً هذا هو الموقف الصحيح، في تقييد نعمة الله تعالى بالإيمان، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14] .

    إذاً هذه النصرة العامة مشروطة على كل المؤمنين، كل من امتن الله تعالى عليه بنعمة الإيمان، فإن الله شرط عليه أن يكون نفسه لأن يكون ناصراً لدين الله، ناصراً للحق، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14].

    ذكرت بالإشارة الفرق بين القراءتين من ناحية التفسير، بين قراءة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14]؛ معناه: اختصوا بهذا الوصف العظيم، وكونوا أنصار الله دون بقية الملل الأخرى.

    والتفسير الثاني على القراءة الأخرى (يا أيها الذين أمنو كونوا أنصاراً لِله)؛ معناه: اجعلوا أنفسكم من جند لله تعالى، وجنود الله تعالى كثير، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]، فحاولوا أن تجعلوا أنفسكم من المنطوين والمنضوين تحت لواء: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

    (كونوا أنصار الله)، هذا الآن أمر نظري، وكل أمر نظري يحتاج إلى مثال، أو تطبيق، لو أمرتم بأمر الآن ولم يبين لكم هذا الأمر وطريقته، وأداؤه، فإن هذا امتحان عظيم، ولذلك من نعم الله تعالى علينا أنه علمنا ما كلفنا به، مثلاً انظروا قول ابن عاشور رحمه الله تعالى: الحمد لله الذي علمنا من العلوم ما به كلفنا، لو كلفنا ولم يبين لنا ما كلفنا به فهذه بلاء عظيم، وفتنة عظيمة، هنا بيّن لنا أن الذي أمرنا به يمكن أن يبرز للعيان، وأن يخرج من النظرية إلى التطبيق؛ لأنه قد حصل فعلاً، ما هو المثال على ذلك؟ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ [الصف:14].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088783325

    عدد مرات الحفظ

    779006153