إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [45]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مسائل علم السلوك والتصوف كثيرة ومتشعبة، ومن أهم مسائله ما يتعلق ببداية الهداية أو ما يسمى باليقظة وهي النقطة الأولى في التكليف، ومن تلك اللحظة يبدأ الإنسان بمراقبة سلوكه ومحاسبة نفسه ومواجهة الجبهات المفتوحة أمامه كالشيطان والنفس والهوى والدنيا وغيرها. ومنها مرحلة معرفة المراحل الكبرى وهي العلم والعمل والتعرض لهبات الله المؤملة.

    1.   

    مسائل علم التصوف

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

    فقد تناولنا نسبة علم السلوك والتصوف إلى غيره من العلوم وفائدته، والآن نستعرض مسائله، أما مسائل هذا العلم فحدث ولا حرج، وفيه الباب الكبير والبحر العباب، ولا نستطيع إيفاءها حقها ولا الإتيان على جميعها، ولكننا نذكر بعض الأمور المهمة منها:

    بدايات الهدايات

    فأول ذلك: ما يتعلق ببدايات الهدايات، وهذه تسمى اليقظة كما يسميها الصوفية، وهي النقطة الأولى لدى الإنسان عندما يستشعر أنه الآن كلف بمهمة، وهذه اليقظة كان اللازم أن تكون مع بداية التكليف، أول ما كلف الإنسان بدأ الملكان يكتبان عن يمينه وشماله، كان لازماً أن يبدأ الآن من تلك اللحظة مراقبة سلوكه ومحاسبة نفسه، ولكن الواقع أنه يحيط به خمس جبهات مفتوحة:

    هي أولاً: جبهة الشيطان الذي هو العدو الأول: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، وهذه الآية تضمنت أمراً وخبراً، فالأمر حقه التصديق، والخبر حقه التطبيق، وكثير من الناس يصدق الخبر، لكن قليلاً منهم من يطبق الأمر، (( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ)) يعرفها الناس جميعاً، لكن: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6] من يطبقه من الناس؟ القليل القليل.

    وعداوتك للشيطان أيضاً تقتضي منك محاولة نقص جنده، فإذا كنت عدواً لقائد له جيوش ولم تنقص جيوشه ولم تأخذ منه أي فرد من أفراده هل اتخذته عدواً؟ لم تتخذه عدواً إنما تحقق ذلك بنقص جنوده، ونقص جنود إبليس بالدعوة، فكلما أثرت في شخص وهداه الله بك، فقد عاديت إبليس حين نقصت جنوده بواحد، وهكذا.

    الجبهة الثانية: جبهة النفس: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53]، وهذه الجبهة خطرها قربها، فالنفس لها حظوظ مخفية، فهي تسعى لأخذ كل حقوقها والزيادة عليها، وتسعى أيضاً للتملص والتخلص من حقوق الآخرين ونقصها ما استطاعت، ويشعر الإنسان بأبهة وعظمة وكبرياء، وأن له مكانة لا ينبغي أن تخدش ولا أن تجرح ولا أن يصل إليها حتى الوهم وحتى الاحتمالات، وهذا كله من الزيف والباطل والانتفاخ الذي هو ورم:

    أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

    العدو الثالث: الأهل والأموال والنعم التي أنعم الله بها عليك، فهي إما أن تتخذ في شكر الله، وإما أن تكون عدواً تحاسب عليها، والناس في النعم أربعة أقسام:

    القسم الأول: هم الذين لا يعرفون النعمة بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، ما دام أحدهم معافى في جسمه لا يشكو سرطاناً في المخ ولا في الكبد ولا في الدم، ولا يشكو أي ألم في أي مكان من جسمه لا يشعر بهذه النعمة، فإذا أصيب وزالت هذه النعمة تذكر ما كان فيه من النعمة، ولا تنفعه لأنه قد هلك.

    النوع الثاني: الذين يعرفون النعم بوجودها، ولكنهم لا يعرفون من أين أتت؟ فينكرونها، يظنون أنهم يستحقون هذا لأنفسهم، وأن الذي جعله لا يصاب بالسرطان أن لديه حمية ولديه علاج، ولديه عناية بكذا، وأن الذي جعله لا يصاب بالمرض الفلاني كذا وكذا من الأسباب، وهذا غاية في الضلال والابتعاد عن الحق، وهو حال قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78]، وقد قال الله تعالى في وصف المشركين: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل:83].

    النوع الثالث: الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون من أين أتت؟ وأنها من عند الله، لكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، يتمتعون بالنعم والصحة التي آتاهم الله، وما آتاهم من القوى العقلية والبدنية والشخصية، ويصرفونها فقط في التلذذ والملذات والشهوات دون أن يصرفوها في شكرها، هؤلاء هم أكثر الناس، وقد حذر الله من هذا الحال فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11]، وقال الله في السورة التي بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:14-15]، وبين أن الأعراب اغتروا بهذه النعم فقال: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا [الفتح:11]، فالمشتغلون بالنعم عن شكرها هم أكثر عباد الله.

    القسم الرابع: هم الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون من أين أتت؟ وأنها من عند الله، ولا ينشغلون بالنعم عن شكرها بل يصرفون كل النعم في الشكر، وهم أقل عباد الله: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، ولذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم على صرف النعمة في الشكر بأساليب عجيبة جداً: ( جاء يوماً إلى سعد بن أبي وقاص يعوده في مرضه فقال: اللهم ارفع عبدك هذا ينكأ لك عدواً أو يمشي لك إلى صلاة )، لاحظوا هذا الأسلوب العجيب في وقت الدعاء، وفي وقت زوال نعمة من النعم وهي العافية والصحة، دعا برجوع هذه النعمة وبين حكمة ذلك، ينكأ لك عدواً أو يمشي لك إلى صلاة، فنحن الآن قبل أن نصاب كثير منا لا يدري لماذا يرغب في الصحة؟ لماذا يرغب في طول العمر؟ لماذا يرغب في المال والأولاد والأهل؟ لا يدري الإنسان لماذا، وجد الرغبة في نفسه فاستمر؟

    لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين: ( ينكأ لك عدواً أو يمشي لك إلى صلاة )، وكذلك في حديث ابن عباس في الصحيحين: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )، ومع ذلك فهذه النعم كلها لها آجال محددة، كما أن العمر له أجل محدد، كل نعمة لها أجل محدد، والوظائف التي يشغلها الإنسان لها أجل محدد، وجلوسه في كرسي الوظيفة كجلوسه على كرسي الحلاق، سيحلق رأسه ويقوم ويترك مكانه لغيره، مثلما نشغل نحن الآن هذه الدور والأرض شغلها آباؤنا من قبلنا وآباءهم إلى عهد نوح، وإلى السابقين الأولين في الأرض، وسنتركها لمن يأتي وراءنا، فنحن مؤتمنون عليها في مدة محصورة محدودة، لن نتجاوزها قطعاً، ومسئولون عن تلك المدة.

    العدو الرابع: إخوان السوء، فإن للشيطان جنوداً من البشر، والناس الذين يخالّهم ويخالطهم ثلاثة أقسام: أخ كالغذاء، وأخ كالدواء، وأخ كالداء.

    فالأخ الذي كالغذاء لا يستغني عنه الإنسان أبداً، فهو محتاج إليه في كل أوقاته إما أن يظمأ وإما أن يجوع، وهذا الأخ هو الذي يعينه على أمور الدين، يذكره إذا غفل، ويعينه إذا ذكر، يساعده في أمر الدين، هذا لا يستغني عنه أبداً فحاجته إليه كحاجته للطعام والشراب.

    والأخ الذي كالدواء هو الذي يعينك على أمور الدنيا، وهذا ينبغي عدم الاستكثار منه، إن هذا الدواء مستحضر مضر بصحتك فننصحك بالابتعاد عنه، لا ينبغي الإكثار منه، وإذا اضطررت إليه فهو فقط بقدر الحاجة أو قدر الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.

    والأخ الذي كالداء يشقى به الإنسان تماماً دون أن يستفيد منه أي شيء، يفسد وقته, بل ربما سرى إليه بعض أخلاقه؛ بل ربما سرى إليه بعض شبهه العقدية؛ بل ربما سرى إليه بعض أعماله السيئة التي لها شؤم ، فالذنوب لها شؤم يمنع من العبادات، فيشقى به الإنسان زماناً دون فائدة، يقول جدي رحمه الله:

    الناس منهم دواء فاتخذه له إليه تحتاج أحياناً فأحياناً

    ومنهم كالغذاء الدهر تطلبه فلست عنه غنياً أينما كانا

    وكم أخ لست محتاجاً له أبداً كالداء يشقى به الإنسان أزماناً

    وقد نبه الله سبحانه وتعالى على هذا العدو في عدد من آيات كتابه فقال تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67], وقال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:27-29].

    الجبهة الخامسة: مفاتن هذه الدنيا: فهي دار الغرور, وهي لو غفل الإنسان يسيراً لوجد نفسه قد تردى في الوحل، فكلما ازداد حطبها ازداد لهبها, والإنسان بطبيعته يميل وراءها من حيث لا يشعر, ولذلك أخرج الشيخان في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة, وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت, ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعمها الفقير والمسكين وابن السبيل ).

    فهذه الدنيا خضرة حلوة, ولذلك هي عدو للإنسان؛ لأنها ضرة الآخرة، فإذاً هذه الجبهات الخمس مفتوحة عليك من حيث لا تشعر وأنت واحد، فتحتاج إلى ترتيب الأولويات ومعرفة ما هو أخطر منها، وهذه إنما تكون في نقطة البداية التي هي بداية الهداية، ولا شك أن الناس ليسوا على السواء في سلوك طريق الحق, وأهل التصوف يقسمونهم إلى قسمين: إلى سالك ومجذوب.

    فالسالك: هو الذي أتعب نفسه بالمجاهدة والمصابرة على طريق الحق حتى استقامت له نفسه وجوارحه على وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

    والمجذوب: هو الذي لم يتعب نفسه، كان في غاية الغواية والضلالة، فجاءته هداية من عند الله سبحانه وتعالى غيرت اتجاهه في لحظة واحدة، كان يتجه إلى الشمال فصرف بقدرة القادر إلى اليمين، ولله سبحانه وتعالى مهديون يهديهم في مثل هذه اللحظات، وهي لحظة واحدة تحول بين الغواية والهداية، وهذا التقسيم أخذوه من قول الله تعالى: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13], يجتبي إليه من يشاء، فهؤلاء ما شرط فيهم مشيئة أنفسهم، ما قال: الله يجتبي إليه من يريد الاجتباء من المخلوقين؛ بل من يشاء الله له ذلك، وهذا ليس فيه أي تدخل للمخلوق: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51].

    والقسم الثاني قال: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13], فالذي ينيب ويتوب من عند نفسه يهديه سبل السلام، فيهتدي إلى الطريق، لاحظوا الفرق بين الأسلوبين: يجتبي إليه من يشاء هذا اجتباء, والثاني هداية، (يهدي إليه من ينيب), ولا يمكن أن يقال أحد الحالين خير من الآخر؛ لأن كل ذلك يقع والمستوى يتفاوت بحسب حال تلك الدفعة فقد يكون الإنسان في نوع من أنواع الضلالة، فتأتيه هداية تصرفه عن ذلك النوع لكنه يبتلى بنوع آخر من أنواع الضلالة أيضاً، وبالأخص الجبهات الخمس السابقة.

    وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان أنواعاً عجيبة من مكايد الشيطان، فإنه يحاول مع الإنسان الوقوع في الكفر، فإذا لم يستطع حاول معه الوقوع في الفواحش وكبائر الإثم, إذا لم يستطع حاول معه ترك بعض الواجبات، إذا لم يستطع حاول معه الوقوع في المكروهات, إذا لم يستطع حاول معه ترك السنن, إذا لم يستطع حاول معه الوقوع في خلاف الأولى, إذا لم يستطع حاول معه ترك المندوب، إذا لم يستطع حاول شغله بالمندوب عن الواجب أو ببعض المهم من الواجبات عن ما هو أهم منه, إذا لم يستطع حاول شغله بالمباحات المحضة التي ليس فيها ثواب ولا عقاب، على الأقل يبقى مكانه لا يستفيد من وقته، كلها مكايد -سبحان الله- شبكة من المكايد، الشيطان وحده فضلاً عن الجبهات الأخرى، وهذه لا يمكن النجاة من مكايدها إلا باللجاء إلى الله, لذلك يقول المختار بن بونا رحمه الله:

    للإنسان شيطان ونفس وحظها ودنيا وإخوان حميتهم خطر

    ولله فضل لا يزال ورحمة ومنّ وتوفيق وعفو لمن وزر

    إلهي اكفنا الخمس التي في اتباعها هلاك وعاملنا بخمستك الأخر

    معرفة المراحل الكبرى للطريق

    ثانياً: بعد هذه النقطة التي هي البداية يحتاج الإنسان إلى معرفة المراحل الكبرى للطريق والواقع ان المراحل الكبرى للطريق ثلاثة:

    المرحلة الأولى: العلم. المرحلة الثانية: العمل. والمرحلة الثالثة: التعرض لهبات الله.

    هي الطريق العلم ثم العمل ثم هبات بعد ذا تؤمل

    كلدني العلم مما يشهد له الكتاب والحديث الأيد

    هذا في نظم تصوف الشيخ حامد بن حامد بن محمد.

    فأول شيءٍ يتعلم الإنسان العلم، وهذه نقطة البداية؛ لأن الله ما عصي إلا عن جهل به أو بشرعه, ثم بعد ذلك العمل على وفق ما تعلم، وهاتان المرحلتان متحاذيتان، كلما ازداد العلم ازداد العمل, ثم بعد ذلك بعد أن يقطع الإنسان مرحلة من العلم والعمل يصل إلى مرحلة تأميل هبات الله سبحانه وتعالى والتعرض لعطائه، وهي النفحات التي تمر ولا يستشعرها من ليس من أهل ذوقها، وهذه النفحات قد تكون في العلم، وقد تكون في العمل، وقد تكون في غير ذلك، فقد تكون في العلم كالعلم اللدني، وهو العلم الذي لم يتعب فيه الإنسان، وإنما وهبه الله إياه من لدنه، وهو منسوب إلى لدن؛ لأن الله ذكره في قصة الخضر: وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65], وهذا مثلما علم الله داود عليه السلام، ومثلما فهم سليمان عليه السلام.

    وهذا أيضاً من نتيجة العمل ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29], فالذي يتق الله يجعل له فرقاناً واضحاً يميز به بين الحق والباطل, وهذا الفرقان منه علم، ومنه أمارته, فالعلم مثل هذه الفتوحات العلمية التي ذكرنا, والأمارة هي ما يسمى بالكشف والإشراق.

    أما الكشف: فلا يتعلق بالغيب الحقيقي؛ لأن الغيب الحقيقي إلى الله وحده: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:26-28], والله سبحانه وتعالى يقول: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ[الأنعام:59], والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث جبريل: ( في خمس لا يعلمهن إلا الله ), فهذا الغيب الحقيقي عند الله وحده، لا يمكن أن يطلع عليه أحداً من خلقه إلا بالوحي, سواء كان ذلك الوحي إلى نبي من البشر أو إلى ملك من الملائكة: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75].

    أما الغيب النسبي: فهو الذي يتفاوت الناس فيه، وقد سبق شرحه بالأمثلة، وهذا يمكن أن يقع فيه الكشف والإشراق, وذلك أن الإنسان جعل الله له مساراً طويلاً للازدياد، فكما تزداد قامة الطفل، وقد ولد وطوله أربعون سنتيمتراً ليصل إلى مترين في بعض الأحيان، وما بين ذلك مساحة قابلة للتمدد والتمطط، وزيادة وزنه كذلك وقد ولد ووزنه ثلاثة كيلوجرامات ويصل إلى درجة مائة وخمسين كيلو أو أكثر, وولد كذلك وبصره ما له تركيز أصلاً؛ لأن الشبكية عند وقت الميلاد مائعة، وعندما يبلغ سناً محددة ثلاثة أسابيع أربعة أسابيع يبدأ يرى الأشياء من حوله، وكذلك فيما يتعلق بالحركة والإرادة، وهكذا في النمو والازدياد المشار إليه بقول الله تعالى: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [المؤمنون:14], هذا الخلق الآخر هو تناميه من الطفولة إلى الكهولة.

    كذلك جعل الله سبحانه وتعالى هذه المساحات الطويلة الشاسعة بين الحدين: الحد الأدنى والحد الأعلى، يتفاوت فيها الناس، وجعل من أسباب النمو فيها الرياضة أي: التعود بالعمل، وهذه الرياضة أنواع: فالرياضة البدنية لا شك أن الإنسان يكتسب بها مهارات كبيرة، القفز, حمل الأثقال, قيادة السيارات, تشغيل الكمبيوتر، هذه أمور لم يكن الإنسان يعلمها وبالتعود يتعلمها, حتى بالرياضة يتعلم السباحة فيقطع مسافات شاسعة في أوقات يسيرة, ويتعلم المشي على الحبال, ويتعلم المشي ورأسه في الأسفل، وغير ذلك من أنواع الرياضات.

    كذلك في العقل والرياضة العقلية: هي بتمعن الإنسان في النظريات على عكس الرياضة البدنية، فإذا تمعن الإنسان في النظريات وصل إلى مستوى عجيب جداً، يوصله إلى الارتباط والتشابك بين الأشياء حتى يعلم أن حقائق الأشياء كلها مجهولة، إلا لله سبحانه وتعالى وحده، وأن قصارى علم البشر التفريق بين الأشياء فقط:

    حقائق الأشياء مجهولة والله بالعلم بهن انفرد

    وإنما يطلب تمييزها عن بعض ما شاركها إذ تحد

    فأنت الآن قبل أن تصل إلى ذلك المستوى العلمي تعرف المقاييس أن هذا وزنه كيلو، وهذا ذرعه كيلو متر، وهذا طوله كذا، وهذا عرضه كذا، وهذا وزنه كذا, لكن لماذا هذه المقاييس؟ لماذا الثواني والدقائق والساعات؟ هذه المقاييس يتعارف الناس عليها دون أن يعرفوا ما الذي جعل الساعة ستين دقيقة لماذا لا تكون مائة دقيقة؟ ولماذا تخصيص الستين بالخصوص؟ وهكذا في كل الوحدات, ما الذي جعل النهار اثنتي عشرة ساعة، والليل اثنتي عشرة ساعة؟ وهكذا في المقاييس كلها، ما الفرق بين العلو والسفل؟ ما الفرق بين اللين والشدة؟ ما الفرق بين الحلاوة والمرارة؟ بين اللذة والألم؟ هذه أمور تعورف عليها لكن إذا ذهبت إلى الرياضة العقلية ووصلت إلى المستوى العلمي الكبير ستجد هذه مجهولة الحقائق، وتجد أنك تميز بينها تمييزاً فقط، هذا قصارى علمك.

    كذلك في الرياضة الروحية: فالروح في الواقع لا يحجبها في الأصل الزمان ولا المكان؛ لأنها ليست من هذا العالم السفلي, نفخة غيبية من أمر الله فهي نفسها من الغيب, ولذلك إذا أردت أن تعرف ربك فاعرف نفسك, الروح أنت تعرف أنها عندك حاضرة أقرب شيء إليك، ولكن مع ذلك لا تلمسها ولا تذوقها ولا تراها ولا تسمع لها صوتاً، وأنت مصدق بها مؤمن بها تمام الإيمان, لها صفات غير مكيفة لا تستطيع تكييفها وهي أقرب شيءٍ إليك، منها العروج والنزول والانتباه واليقظة والالتذاذ والألم هذه من صفات الروح، ومع ذلك لا تستطيع تكييفها فكذلك إيمانك بالباري سبحانه وتعالى تؤمن به وبصفاته ولا تستطيع لها تكييفاً، ولا يمكن أن تصل إلى تكييفها أبداً.

    وتعرفه أيضاً بضدها، فأنت إذا عرفت نفسك ستعرف نفسك بالبخل، وتعرف نفسك بالفقر، وتعرف نفسك بالضعف، وتعرف نفسك بالحدوث، ففي مقابل ذلك تعرف الله عز وجل بالكمال المطلق، القدم والبقاء والغناء والقوة والجلال والعظمة، هذا عكس صفاتك أنت.

    فرياضة الروح هي في كثير من الأحيان أن تتمكن من الوصول إلى التخلص من حاجز الزمان والمكان, فأنت إذا نمت فإن روحك ترى المرائي البعيدة من الواقع، لا يحجبها مكان فيمكن أن ترى نفسك في سيبيريا ولا يحجزها زمان فيمكن أن ترى نفسك في قرون مضت، فتلقى بعض الماضين السالفين, هذا المستوى الذي تصل إليه في النوم, بالإمكان أن تصل إلى مثله بالرياضة في اليقظة، وهذا الذي يمكن أن يعبر عنه بمرائي اليقظة, وهذه الرياضة بعضها محمود وهو ما يكون عوناً على الطاعة والاستقامة على طريق الحق، ويجعل من نفسك شاهداً وبصيرة: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14], فهذا محمود شرعاً.

    ومنه ما يتجاوز ذلك فيكون مذموماً كالتطلع على الغيبيات, وكالتلذذ بالرياضات الروحية، أن يظن الإنسان أن جنته في رياضته الروحية فقط، جنته في صدره أو في قلبه فيشتغل فقط بهذه الرياضات ليرتاح هو، ويجد سعادة عجيبة مثلما يجد المتعبد بعبادته, فالمتعبد إذا أحسن في عبادته ذاق طعم العبادة وشعر بلذة التقريب والمناجاة والأنس بالله، ولذلك قال الفضيل بن عياض: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، هي سعادة عجيبة جداً يجدها العابد، مثلما يجد العامل أياً كان سعادة ولذة في إتقان عمله، فأي عامل إذا أتقن عمله وأجاد فيه يجد سعادة ولذة.

    وهذا الآن مجال من مجالات المزالق في علم التصوف؛ لأن هذا أمر خفي، أنت فتحت لنفسك باباً يسمى باب الرياضة الروحية، وجعلت لها شأواً طويلاً تجري فيه، لكن لابد أن تضع لها حدوداً تتوقف عندها، وإلا تجاوزت وخرجت وانفلتت، والذين انفلتوا منهم من اعتمد مرائي اليقظة، فكانوا يرون النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة ويحدثهم، أو يرون الملائكة في اليقظة ويحدثونهم بأشياء وهي في الواقع أحلام، لكنها من أحلام اليقظة، وهي أنزل مستوى من أحلام النوم؛ لأن أحلام النوم فيها استكمال للنفس ليس عليه أي تشويش، وأحلام اليقظة لابد أن يبقى فيها تشويش، مع أن أهل التصوف يقسمون حال الإنسان في اليقظة إلى حال صحو وحال محو، حال الصحو هو الذي يتأثر فيه الإنسان بجوارحه وعقله، وحال المحو يغيب عن حقيقته فيه.

    وحال المحو لهم فيه درجات كثيرة، منها: مقام الجمع ومقام جمع الجمع، ومقام الوحدة ومقام الاتحاد أيضاً، وهو من المقامات المذمومة التي سنذكرها، ونذكر غلطهم في الفلسفة فيها أو نقف دونها.

    فالمستوى الذي يجعل الإنسان يمكن أن تصفو روحه، وأن يبصر بعض ما كان يحول بينه وبين زمانه ومكانه وما يحيط به هذا مستوى من مستويات التربية الروحية والرياضة الروحية، وهو ممكن، يمكن الوصول إليه لكن ذكرنا أنه يحتف بكثير من المخاطر التي ربما شغلت الإنسان، بل ربما وصل إلى مقام الدعاوي فاجتذبه الشيطان إلى اتجاه آخر، فقد يبدأ الإنسان مريداً صادقاً يريد الوصول إلى مقام لذة المناجاة والأنس بالله سبحانه وتعالى وإحسان العبادة، فيبدأ رياضة نفسه لكنه ينشغل فيتجاوز الحدود، ويصل إلى مقام يزعم فيه المزاعم، كحال الذين يتكلمون في الشطح وهم كثر مثل الحلاج، ومن دونه، الذين يتكلمون في الشطح عدد كبير جداً منهم، وقد اختلف الناس فيما يتعلق بالشطح وبكلامهم فيه:

    وما يفوهون به في الشطح فقيل غير مقتض للقدح

    كما قال أحمد المقري، ما يفوهون به أي: يتكلمون به في الشطح أي: في حال الشطح، فقيل: غير مقتض للقدح، قال بعض أهل العلم: لا يقتضي قدحاً؛ لأن القلم مرفوع عنهم فيكون مثل كلام الصبيان، وقال آخرون: بل هو مقتض للقدح؛ لأنهم تجاوزوا الحد الذي ينبغي في رياضة النفس، فوصلوا إلى مقام السكر.

    وعموماً فهذا الكشف منه ما هو محمود كما يطلع به الإنسان على مكائد إبليس، وبالأخص ما يتعلق بنفسه كما حصل لـأحمد بن حنبل رحمه الله عند موته، فقد سمعوه يقول مرات: لا بعد، فسألوه عن ذلك فقال: إن عدو الله عرض لي، فقال: فتني يا أحمد فأنا أقول: لا بعد حتى أموت، هذا النوع من الكشف محمود؛ لأن الإنسان عرف به نقص نفسه، ولم يتخيل به عجباً ولا كبرياء ولا غير ذلك، ومنه ما يكون كشفاً مذموماً، كمجرد الاطلاع على بعض أحوال الناس فيكون فتنة على الناس وفتنة على الرائي أيضاً، الرائي يظن في بعض الأحيان أنه يعلم الغيب أو أنه وصل إلى ما يسمونه بالتمكن، وهو التصرف في بعض الكائنات، ويكون بعيداً عن ذلك، لكنه مجرد تخييل، وفتنة أيضاً على الناس؛ لأنهم إذا وجدوا بعض ذلك مصادفاً للحق ظنوا أن هذا الإنسان يعلم الغيوب، وأنه يطلع على بعض أسرارهم، والواقع أن ذلك غير صحيح، فهذا منزلق من المزالق الكبيرة التي في هذا العلم.

    كذلك فإن الهبات المؤملة أيضاً التي هي المرحلة الثالثة منها: القوة على الطاعة والجلد عليها، ومنها ما يجري على لسان العابد من الحكمة التي ينتفع بها الناس.

    ومنها كذلك ما يؤيد به من الكرامات، فقد سبق تعريف الكرامة وبيان بعض أنواعها، الفرق بينها وبين غيرها من الخوارق، خوارق العادات، وهذا أيضاً منزلق يغلط فيه كثير من الناس عندما يخلط بين الكرامة والخرافة، فما توصل إليه عن طريق التنجيم أو عن طريق بذل أسباب كونية غير شرعية، فليس هو من الكرامات كعلم اليازجاء، والسيمياء والكيمياء وأسرار الحروب وغير ذلك.

    والكيمياء ليست هي الكيمياء المعروفة اليوم، بل هي إعمال زئبق ونحوه في قلب الحقائق مع أمور باطنية.

    وضرب الرمل كذلك، لكن ذلك كان من هدي نبي من الأنبياء، ومن صادف فيه ما كان يفعله ذلك النبي أصاب، ومن لم يصادفه أخطأ، والله أعلم من يصادفه ومن لا يصادفه.

    فما كان بالأخذ بتلك الأسباب الكونية دون الأسباب الشرعية فهو قطعاً منزلق من المنزلقات الخطيرة.

    كذلك في هذا المقام ينبغي للإنسان أن يعرف قدر نفسه، كلما ازداد في الرقي كلما ازداد في التواضع لله سبحانه وتعالى، وكلما عرف لزم، عرفت فالزم، أما الذين يصلون إلى مقامات من هذا الباب في تربية أنفسهم فيجعلون ذلك سبباً للتكبر والتجبر، واتخاذ عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، فهؤلاء من المفسدين وما أكثرهم, ولذلك يقول أحد العلماء في القرن الماضي هو الشيخ بابا ابن الشيخ سديه:

    آكل مال الناس بالباطل مزخرف القول بلا طائل

    مميلهم عن سنة المصطفى إلى سبيل البدعة المائل

    محصل المال بلا فترة في جمعه المانع للحاصل

    عجلان في حظ له عاجل كسلان في منفعة الآجل

    هذا هو المعروف في دهرنا بين الورى بالعارف الكامل

    يزهو إلى زخرفه عاقل كأنه من ليس بالعاقل

    ووقعة العالم في فخه شبيهة بوقعة الجاهل

    اتسع الخرق على راقع واختلط الحابل بالنابل

    هذا هو التوحيد عنوانه إسناده الفعل إلى الفاعل

    ومنها كذلك أن بعضهم إذا وصل إلى ذلك المقام ظن أنه قد تجاوز مقام التكليف فلم يعد محتاجاً إلى الأخذ بالأسباب الشرعية، وهذا غاية في الانزلاق والانحراف، فهو أصلاً فتح هذا الباب ليزداد في العبادة لا لينتقص، وجاء ليحسن العبادة فوصل إلى مقام تركها بالكلية، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا غاية في الضلال المبين.

    ولذلك يقول العلامة حامد في أبيات له:

    إن فلاناً قد وصل ونال منتهى الأمل وصدرت منه أمائر على الخير تدل

    فهجر العلم وعاب سعي من به اشتغل ونفقت أقواله لدى الطغام والسفل

    واتسعت أمواله واتخذ الناس خول وأصبحت آماله تنيله ما لم ينل

    وأصبحت أشياعه أعداء من عنه عدل يا أيها الواصل يا من أرى من يخشى المضل

    أهكذا الدين الذي شرعه الشارع شل أم هكذا هدي رسول الله أزكى من وصل

    أم هكذا هدي الصحابة الكرام والأول أم هكذا عندكم يا سعد تورد الإبل

    أم أنت أهدى منهم بل أنت دجال مضل.

    نقف على هذا، ونصلي ونسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767034362