بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد عرفنا أن الإنسان يتدرج في خمسة أعمار، العمر الأول ما كان في عالم الذر، والثاني ما كان على ظهر الأرض، والثالث ما كان في البرزخ، والرابع ما كان فوق الساهرة في المحشر، والخامس هو عمر البقاء الأبدي في الجنة أو النار.
فإذا عرف الأنسان أن أعماره هذه الخمسة، وأن عمر العمل منها والامتحان هو العمر المركزي، وهو عمره فوق الأرض وهو أقصر أعماره، يحتاج إلى استغلال هذا العمر فيما ينجيه، ولاستثماره فيما يغنيه، واستثمار هذا العمر هو الرشد، فالرشيد هو الذي يستغل العمر لأن العمر هو رأس المال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، (كل الناس يغدو) الناس جميعاً تجار يغدون، (فبائع نفسه فمعتقها) أي معتقها من النار، (أو موبقها) أي مهلكها، نسأل الله السلامة والعافية.
فلذلك يحتاج الإنسان إلى ترشيد هذا العمر واستغلاله استغلالاً حسناً، وقد قال أحد الحكماء:
والعمر مدته كمثل دراهم بيد الفتى يقضي بها حاجاته
خُسر لذي عقل لبيب مؤمن وقت يمر ولم يزد حسناته
واستغلال العمر وترشيده إنما يكون بالتخطيط القويم والتنفيذ لما خُطط له، وهذا التخطيط القويم يقوم على أربع مراحل:
المرحلة الأولى: هي تعلم ما أمر الله به.
والمرحلة الثانية: هي العمل بما تعلمه الإنسان.
والمرحلة الثالثة: هي الدعوة إلى ما تعلمه وعمل به.
والمرحلة الرابعة: هي الصبر على طريق الحق حتى يلقى الله.
فالمرحلة الأولى إذاً هي تعلم ما أمر الله به، وهي التي جمعتنا الآن هنا، فنحن ولله الحمد في هذه الساعة لم نجتمع لقصد أمر دنيوي ولا لرياء ولا سمعة، وإنما اجتمعنا لنتدارس شيئاً من أمر ديننا، في مسجد من مساجد ربنا جل جلاله، فإذاً بدأنا في المرحلة الأولى وهي تعلم ما أمر الله بتعلمه، فالله أقام علينا الحجة وأنار لنا المحجة، فأرسل لنا رسولاً كريماً مبيناً لما أمرنا به، وجاء بكتاب عزيز لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وأقام به الحجة على الجميع، فقد تحدى الله به الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله، وهم لا يستطيعون، وهو حُجة باقية لله على عباده.
فلما قامت علينا هذه الحُجة البالغة التي لا يستطيع أحد منا أن يرفضها ولا أن ينكرها، ولا يستطيع أن يقول: ما جاءنا من بشير ولا نذير، لا بد إذاً أن نتعلم هذا الذي جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب، وأن نستغل أعمارنا في ذلك، فهي مرحلة لا بد منها، وهذا التعلم هو الذي به شُرّفنا، فقد أقام الله تعالى مسابقة بين آدم والملائكة، وفاز في هذه المسابقة آدم وأخذ الجائزة، فقال الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:31-33]، فقد فاز أبونا آدم عليه السلام بهذه الجائزة، وهو مثل حسن لنا، وأسوة صالحة، فعلينا جميعاً أن نتنافس في تعلم ما يُرضي ربنا جل جلاله.
وقد شرف الله سبحانه وتعالى أهل العلم، فقد استشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، وحكم لصالحهم على من سواهم، في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كلامه فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشون الله حق خشيته، فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضلهم ومزيتهم، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أيضاً من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يرد لله به خيراً يفقه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماءً ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم ينفعه هدى الله الذي أُرسلت به ).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك في السنن والمستدرك وصحيح ابن حبان وابن خزيمة أنه قال: ( إن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع )، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم في السنن وغيرها أنه قال: ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وإلا عالماً أو متعلماً ).
فكان هذا العلم مزية كبرى وفضلاً عظيماً، ولذلك لم يأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من شيء من الدنيا إلا العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، ولذلك فالاشتغال به ليس خسارة، بل الإنسان إذا طلب العلم وأخلص لله سبحانه وتعالى فذلك أفضل حتى من العمل، قال الإمام الشافعي: طلب العلم أفضل من قيام الليل ومن صلاة النافلة. قال السيوطي رحمه الله:
والعلم خير من صلاة نافله وقد غدا الله برزقٍ كافله
وقد سُئل مالك رحمه الله عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة في أية طاعة يصرفها؟ فقال: علم يتعلمه، قيل: يا أبا عبد الله إنه لا يعمل به، فقال: تعلمه أفضل من العمل به.
فلذلك لا بد أن يجعل كل مؤمن ومؤمنة جزءاً من الوقت لتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، ولا بد أن نعلم جميعاً أن الإعراض عن ذلك توعد الله عليه في كتابه بالوعيد الشديد، فقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].
فإذاً لا بد في هذه الحياة الدنيا من استغلال المرحلة الأولى من مراحل تخطيطنا لهذا العمر واستغلالنا له، بأن نتعلم ما أمر الله بتعلمه، وأن نجعل ذلك أولوية من أولوياتنا، وهذا التعلم مستمر طيلة العمر يحتاج الإنسان إليه أبداً، قيل للشافعي: متى يحسن بالإنسان أن ينقطع عن طلب العلم؟ قال: متى يحسن به أن يجهله، إذا حسن الجهل حسن بالإنسان ترك الطلب، فلذلك يحتاج الإنسان أن يحرص على طلب العلم دائماً، وأن يعد نفسه في عداد الطلبة في كل الأوقات، في جميع أحواله لا بد أن يحرص على أن يستفيد كل يوم علماً يقربه من الله، وقد جاء في الحديث: ( أي يوم لا أزداد فيه علماً فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم )، كل يوم لا يزداد فيه الإنسان علماً يقربه من الله ذلك اليوم منزوع البركة ليس فيه خير، فإذاً لا بد من الحرص على هذه المرحلة.
المرحلة الثانية: هي العمل بما تعلمه الإنسان، فالعلم سلاح ذو حدين، إذا لم يعمل به الإنسان كان حُجة بالغة عليه، ولذلك قال أبو الدرداء رضي الله عنه فيما أخرجه عنه أبو عمر بن عبد البر: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة أن يُقال لي: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: فماذا عملت فيما علمت؟
وجاء عنه رضي الله عنه أيضاً أنه قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله، ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء قد أتيتك آمرة فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي.
يتعب الإنسان في قراءة القرآن، وإذا لم يعمل به فالقرآن يلعنه على لسانه، ورُب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، فالإنسان الذي يقرأ القرآن وفيه الأوامر والنواهي ثم يخالف ما قرأ هو ملعون على لسانه هو؛ لأن القرآن يلعنه وهو يقرؤه، فلذلك يحتاج الإنسان إلى العمل بما تعلم، وأن نتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسئل عن أربع: عن شبابه فيم أبلاه؟ وعن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ )، وأن نعلم جميعاً أن العلم إنما هو وسيلة ومؤداه ومقصده هو العمل، أي: الطاعة والعبادة، فإذا تعلم الإنسان كثيراً من الأحكام ولكن كان يخالفها، كأن تعلم أحكام البيع والشراء، وتعلم ما ينعقد به البيع، ولكنه أكل الربا ولم يعمل بما تعلم، أو تعلم أن الكذب حرام وأن الغيبة حرام، ولكنه خالف ذلك فعمل بما علم أنه حرام، ما فائدة هذا العلم؟ قال ابن عيينة رحمه الله: إن العلم ينادي بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. ويقول أحد العلماء:
العلم من دون العبادة هبا لا يستقر فحري أن يذهبا
والعلم في التمثيل مثل الشجرة أما العبادة فمثل الثمرة
ففضله من جهةٍ وفضلها من جهةٍ ثمرة وأصلها
العبادة هي ثمرة العلم، فالعلم هو شجرة، والعبادة هي الثمرة، ولا خير في شجرة لا ثمرة لها، ولا ثمرة إلا بشجرة.
وهذه العبادة لا بد أن نعلم أن الإنسان فيها يحتاج إلى الاقتصاد والتوسط، فلا إفراط ولا تفريط، فالغلو فيها الذي يقتضي إهدار الإنسان لمصلحة جسمه ومصلحة عقله وما عليه من الحقوق، هذا سرف، وقد قال الله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ [الأنعام:141].
والنقص فيها والتقصير وهو قادر على الازدياد هو خسران مبين للإنسان، إذا كان قادراً على أن يكون من العابدين فرضي بأدنى الدرجات، هذا خسران مبين له، ولا يمكن أن ينال الإنسان حقيقة العبادة إلا بالتدرج وعدم حرق المراحل، فلا بد أن يحاول الإنسان أن يربي نفسه على الصبر على الطاعة، وعلى التدرج في هذه العبادة، فليأخذ من كل عبادة بنصيب، وليعلم أن أبواب الجنة الثمانية هي كبريات العبادات والطاعات، فيها باب الصلاة وباب الصدقة وباب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد، وباب الجهاد.. إلى آخره، هذه أبواب الجنة، على الإنسان أن يحرص أن يكون له مشاركة في كل باب من أبواب الجنة، وأن يكون له سهم في كل عبادة من العبادات، وفي كل طاعة من الطاعات، يحاول أن يكون من المحافظين على الصلاة، إذا سمع المنادي ينادي: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) كان من أوائل المجيبين، وكذلك يحافظ على طهارته، والله تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحافظ كذلك على قيام الليل ما استطاع في الوقت الذي شُغل فيه أقوام عن الله، منهم من شُغل بالنوم، ومنهم من شُغل بالغفلة، ومنهم من شُغل بالمرض، فإذا أذن الله لك بمناجاته في تلك الساعة فهو تقريب عظيم، كما قال الإمام عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد الله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً.
مزية عظيمة عندما يؤذن لك وأنت تعلم أن من عن يمينك ومن عن شمالك ومن أمامك ومن خلفك نائمون يغطون في نومهم، وأنت تركع وتسجد لله تعالى، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64].
كذلك لا بد أن تأخذ بقسط من الصيام، فهو جُنة بينك وبين الفتن، ووقاية لجسمك من كثير من الأمراض، والصوم جُنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها، يقول الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ).
وكذلك لا بد أن تحرص على الذكر، وأن يكون لك ورد منه، فذكر المساء والصباح، والنوم والاستيقاظ، والأكل والشرب، والدخول والخروج، وأذكار ما بعد الصلاة، إذا حافظت على هذه الأذكار كنت من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، ولذلك فهذه الأذكار المؤقتة هي موزعة على الزمن توزيعاً معيناً لك على تذكرها، كما قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:61-62]، فتختلف عليك الأوقات تذكرة لك، فإذا فاتك شيء من أذكار النهار تذكرت في الليل، وإذا فاتك شيء من أذكار الليل تذكرت في النهار، فحاول يا أخي أن تأخذ بقصد من الذكر، وأن تحافظ عليه وأن لا تدعه أبداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـحفصة: ( نعم العبد عبد الله لو كان يقوم من الليل، فما ترك عبد الله بعد قيام الليل )، وكذلك فإن أبا حنيفة رحمه الله لما مر على صبيان يلعبون قال أحدهم: هذا أبو حنيفة لا ينام من الليل إلا قليلاً، قال أبو حنيفة: والله لا يتحدث بها الصبيان وهي كذب، فما نام بعد من الليل إلا قليلاً.
فلذلك لا بد أن يكون لك نصيب من هذه الطاعات كلها ومن هذه العبادات، ثم احرص أن تكون من المتصدقين الذين ينفقون فيكتمون ما أنفقوا، فأولئك الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، منهم ( رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه )، وحاول إحضار النية والإخلاص لتستغل نفقتك على أهل بيتك، لتجعلها صدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك )، فإذا حضرت النية وخلصت لله سبحانه وتعالى كان كل ما تقدمه حتى ولو كان نفقة واجبة لنفسك أو على عيالك، كان صدقة لك عند الله سبحانه وتعالى وأجراً.
وهكذا في حرصك على الطاعات كلها والعبادات، وهي أيضاً تحتاج إلى برنامجٍ مثل البرنامج العلمي الذي سقناه، فتحتاج إلى أن يكون لك يومياً جزءاً من الوقت تصرفه في العلم، كذلك تحتاج إلى أن يكون لك تدرب على العبادة، وهذا التدرب بدايته الصحبة الصالحة، أن تبحث عن بعض العابدين فتآخيه في الله، تجالسه في ليله ونهاره، تحرص على أن تؤدي معه الطاعة من قيام الليل وصيام النفل وغير ذلك، لتكون شريكاً له في الأجر، ولتتعود على هذه الطاعات فهي بحاجة إلى تدريب، وقد قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
وإذا وفقت للصحبة الصالحة التي تعينك على الطاعة وتدلك على الخير فاشدد عليها يديك ولا تفارقها، واحرص على أن تكون من الذين يزيدونها ومن الذين يزيدون في الطاعة ولا ينقصون، واعلم أن الإيمان مراتب متفاوتة، وأن أهله فيه لهم درجات عظيمة، هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ [آل عمران:163]، فاحرص على أن تكون من الفائزين ومن الأوائل، ومن محطمي الأرقام القياسية في العبادات والطاعات، واحذر من الغلو، واحذر كذلك من التقصير، واقتصد وتوسط بين الأمرين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ).
ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الثالثة: وهي الدعوة إلى ما تعلمته وعملت به، فأنت تعلمت بعض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، وعملت به، فطبقته في خاصة نفسك، لكن لم ينته التكليف عند هذا الحد، بل أنت مطالب بأن تدعو الآخرين إلى ذلك، لأنك إذا كنت في رفاق وهم سالكون لطريق موحش فعطشوا وأنت تعرف مكان الماء فذهبت أنت إليه ولم تدل رفاقك عليه، رأيتهم يذهبون إلى الاتجاه المعاكس للماء، فتركتهم يموتون ضيعة، فأنت مفرط وأنت غاش لهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من غشنا فليس منا ).
فلذلك يلزمك أن تدل الناس على الخير، وأن تسعى لهدايتهم إليه، وهذه الدعوة هي صفة الله جل جلاله، فقد قال الله تعالى: وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، وهي صفة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى: وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:46]، وقد أمره الله بها فقال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ [القصص:87]، وقال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وقد أمره الله أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأنها سبيلهم فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ [يوسف:108]، وكذلك أخبر الله أنها أحسن الأقوال وأرضاها عنده فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [فصلت:33].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل هذه الدعوة فقال: ( من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً )، وقال لعلي رضي الله عنه يوم خيبر: ( فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النعم )، فيحتاج الإنسان إلى أن يكون داعياً إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أنه لا يمكن أن يكون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا دعا إلى ما يدعو إليه، لأن الله يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] ولم يقل: أنا وحدي، فكل من زعم اتباعه ولم يدع إلى ما دعا إليه فهو كاذب كذبه الله في كتابه.
فنحتاج جميعاً أن نكون من الدعاة إلى سبيل الله سبحانه وتعالى، وأن ننسلك في سلكهم، وأن نسير في طريقهم، وأن نستغل بعض أوقاتنا في ذلك، والوقت الذي تنفقه في الدعوة إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ضائعاً، بل هو أشرف أوقاتك، لأنه امتداد في عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله، وقد جاء بهذه الرسالة فأوصلها إلينا نقية صافية كما أنزلت، فبقيت في أعناقنا أمانة يجب علينا تبليغها، وقل: ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب )، وقال: ( بلغوا عني ولو آية )، فيجب علينا البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوقت الذي تبلغ فيه وتنفقه في التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنك تهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزيد به في عمره، فهو خير أوقاتك وأفضلها وأشرفها، فالوقت الذي يزداد به عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعاً أشرف من بقية أوقاتك ومن سائر عمرك.
أما المرحلة الرابعة والأخيرة: فهي الصبر على طريق الحق حتى تلقى الله، فأنت محتاج إلى الصبر، لأنك قد فتح عليك خمس جبهات في هذه الحياة الدنيا، وكلها تريد عداوتك ومضرتك:
فالجبهة الأولى جبهة الشيطان، قال الله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، وهذه الآية جمع الله فيها بين الأمر الذي حقه التطبيق والخبر الذي حقه التصديق، قال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر:6]هذا خبر، حقه التصديق، وقوله: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6] هذا أمر حقه التطبيق، فالشيطان عدو لنا، ولا يمكن أن تحصل منه نصيحة لنا بوجه من الوجوه، فلذلك هو يسعى لإضلال الناس وهذه مهمته، وقد أقسم بعزة الله ليغوين أكثر الناس، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وقد أخبر الله أن يمينه صدقت في أكثر الناس، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، فلذلك تحتاج إلى مجاهدته، فهو جبهة مفتوحة عليك، ومجاهدته إنما تتم بأمور منها:ن أأياينمينيهنين
أولاً: عدم اتباع خطواته: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فإنه يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21].
ثانياً: الحذر من حبائله، فالشيطان له شباك يحاول إيقاعك في شركه من كل وجه، فيحاول مع الإنسان الوقوع في الشرك، فإذا عجز عن ذلك حاول معه الوقوع في الفواحش والكبائر، فإذا عجز عن ذلك حاول معه ترك بعض الواجبات والفرائض، فإذا عجز عن ذلك حاول شغله ببعض الواجبات عن بعض، فإذا عجز عن ذلك حاول معه الاشتغال بالسنن والمندوبات عن الواجبات، فإذا عجز عن ذلك حاول شغله بالمهم عن الأهم من السنن والمندوبات، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يتعارض عليه بعض الواجبات، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يقع في بعض المكروهات، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يتركه بعض السنن، فإذا عجز عن ذلك حاول إيقاعه في خلاف الأولى، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يترك المندوب، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يعجب بنفسه، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يحتقر نفسه وعمله، وكل ذلك مدخل من مداخله، فله مداخل كثيرة يحاول أن يدخل منها على الإنسان.
ثالثاً: له جندان عظيمان تحتاج إلى مقارعتهما، وعداوتك له بمقارعة هذين الجندين تتحقق كذلك.
رابعاً: نقص أعوانه، فلو اهتدى على يديك طفل واحد، أو إنسان واحد، فقد نقصت حزب إبليس؛ لأن أهل الدنيا جميعاً حزبان: حزب الله، وحزب الشيطان، وأنت إذا حاربت إنساناً، فقد لا يكون هو المستهدف بذاته، بل إذا قاتل رئيس رئيساً، أو ملك ملكاً، فالعبرة بما يقتله ويأسره من جنوده، فكذلك أنت إذا أسرت جندياً من جنود إبليس فهديته نقصت جند إبليس، وبالتالي حققت له العداوة.
وجنوده من أخطرها جندان: أحدهما: جند الشهوات، والثاني: جند الشبهات.
فجند الشهوة ينقسم إلى قسمي: شهوات حسية كشهوة البطن والفرج، وشهوات معنوية كحب الرئاسة، والظهور والشهرة، وهذه الشهوات لا يمكن أن يقف في وجهها إلا الصبر، فالصبر به تتغلب على الشهوات، فلذلك كان الصبر جنداً من جنود الله، في مقابل جند من جنود إبليس، وهو الشهوة.
والجند الثاني من جنود إبليس: هو الشبهة، وهي كذلك تنقسم إلى قسمين: شبهات في التعامل مع الله، وشبهات في التعامل مع الناس، فالشبهات في التعامل مع الله منها شبهات عقدية، كوساوس الشيطان، وما يقع فيه الناس من الضلالات العقدية، والشركيات التي هي من عمل إبليس وشبهاته، وكذلك منها ما يتعلق بالعبادات، كالوسواس في الصلاة، الوسواس في الطهارة، وغير ذلك.
والشبهات في التعامل مع الناس كذلك تنقسم إلى قسمين: شبهات بالإفراط، وشبهات بالتفريط.
أما الإفراط، فمثل ما ترونه من تقدير بعض الناس حتى يصل إلى حد التقديس، ودعوى العصمة، والغلو فيهم، والعكس أيضاً الشبهات في التعامل مع الناس، في ازدرائهم، واحتقارهم، وإهانتهم، فكل ذلك من شبهات الشيطان، والشبهات لا يقف في وجهها إلا جند اليقين، وهو من جنود الله عز وجل، فإذا جمع الإنسان بين الصبر واليقين، نال الإمامة في الدين، قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.
الجبهة الثانية: وهي جبهة النفس الأمارة بالسوء، إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53].
وهذه النفس لا ترضى من الإنسان إلا أن يكون مطففاً، والتطفيف هو أن يأخذ كل حقوقه، وينقص حقوق الآخرين لديه، كما قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6].
فالنفس لا ترضى منك إلا أن تكون مطففاً، فحقوق الزوجة تريد منك النفس أن تنتقصها جميعاً، وأنت لا ترضى أن يعتدى على أي حق من حقوقك، لابد من الطاعة الكاملة، ولابد من البر الكامل، ولابد من الإحسان لكل أمر، ولابد من تنفيذ كل رغباتك، وما تريده لكن في المقابل، ما عليك أنت من الحقوق تحاول منك النفس أن تنتقص منه ما استطاعت، فتمنعها بعض حقوقها، وهكذا في الأولاد، وهكذا في الوالدين، وهكذا في الجيران، وهكذا في كل من تعامله تسعى بك النفس لأن تكون مطففاً.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً على المنبر يخطب خطبة الجمعة، فدخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: ما هذ التأخر يا فلان؟ قال: ما هو إلا أن كنت في عملي، فسمعت النداء، فتوضأت وأتيت، فقال: والوضوء أيضاً، لقد طففت، أي: أخذت كل حقك، فلم تغتسل، ولم تأتِ حتى سمعت النداء الأخير، فأخذت كل ما لك من الحق، وهذا التطفيف قال مالك: لكل شيء وفاء وتطفيف.
فلذلك عداوة نفسك لك أنها تريد منك أن تكون مطففاً، ولذلك لابد أن تعالجها، وذلك بأن تحاول أداء كل ما عليها من الحقوق، وأن تحاول أيضاً مسامحتها بكل ما عليها من الحقوق، وأن تحذر من غوائلها.
فهذه ثلاثة حقوق لنفسك عليها: ترك الانتصاف لها، والإنصاف منها، والخوف من غوائلها.
ترك الانتصاف لها، أي لا تنتصر لنفسك أبداً، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتصر لنفسه.
والإنصاف منها حاول أن تنصف منها الغير حتى يأخذ حقه.
والخوف من غوائلها، احذر من غوائل النفوس، اعلم أنها ميالة بالإنسان إلى الهوى.
الجبهة الثالثة: وهي قرناء السوء، فأنت في هذه الدار كما ذكرنا كتب عليك الاقتران بالناس، والعلاقة بهم، والعالم كله مربوط في دوائر ارتباط، ما من أحد إلا وله علاقات واسعة جداً، حتى تنتظم أهل الأرض جميعاً؛ لأنك صديق لهذا، وهذا صديق لآخر، وذلك له أصدقاء وهكذا، تتشعب العلاقات في كل الاتجاهات، حتى تصل إلى أصقاع المعمورة، فإذا كان الحال كذلك، فاعلم أن أصدقاءك ومن يصاحبك ثلاثة أقسام:
أخ كالغذاء، لا تستغني عنه أبداً، وهو الذي يعينك على أمور الدين، فيعلمك إذا جهلت، ويذكرك إذا نسيت، ويعنك إذا ذكرت، تقتبس منه قبسات الإيمان، ينصحك، ويخلص لك، ويدعو لك بظهر الغيب، ويعينك في محظره، ويعلمك ما جهلت، ويذكرك ما نسيت، هذا أخ لا غناء عنه أبداً، فهو بمثابة الغذاء.
والقسم الثاني: أخ كالدواء، تحتاج إليه في بعض الأحيان دون بعض، وهو الذي يعينك على أمور الدنيا، إذا احتجت إلى حاجة دنيوية فلم تجد متصرفاً أتيته فساعدك فيها، فهذا الأخ هو بمثابة الدواء، ينبغي ألا يصرف الا بوصفة طبية، وأن يتقلل منه، والإعلان العالمي للأدوية- وهو مكتوب على كل دواء-: إن هذا الدواء مستحضر مضر بصحتك، فننصحك بالابتعاد عنه.
فلابد من التزهد عما في أيدي الناس والتقلل منهم حدّ الضرورة، ما سوى ذلك من حوائجك فاستره عن الناس، ولا تطلعهم عليه؛ لأنك إذا أطلعتهم عليه، فلهم حالان: إما أن يعينوك على حوائجك فقد ملكوك بالمنّة، وإما ألا يعينوك فقد اطلعوا على خلتك وعيبك ونقصك.
فلذلك لا شيء أولى بك من ستر خلتك وحاجتك عن الناس، ورفعها إلى الله جل جلاله، فهو الذي يحب من عباده أن يسألوه، قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
وقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
وقد قال أحد الحكماء:
لا تسألن بُني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
ويقول آخر:
ما لي أذل لمخلوق على طمعٍ هلا سألت الذي أعطاه يعطيني
فكسرةٌ من غليظ الخبز تشبعني وقطرة من نمير الماء تسقيني
وقطعة من غليظ الصوف تسترني حياً وإن مت تكفيني لتكفيني
فلذلك عليك أن تتقلل مما في أيدي الناس، وأن تتزهد عنهم، وذلك سبب لمحبتك لديهم، وقد قال المكودي رحمه الله:
إذا عرضت لي في زماني حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد
وقفت باب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد
ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد
والقسم الثالث: أخ كالداء، يشقى به الإنسان مدة من الزمن دون فائدة، لا يعينك على أمور الدين، ولا يعينك على
أمور الدنيا، بل ينقل إليك الفيروسات الضارة، فيروسات الإيمان، يعديك بأخلاقه السيئة، وبكلامه البذيء، وبتصرفاته غير الموزونة، فهذا لا فائدة لك في صحبته أبداً، وما له علاج إلا القطع والبتر.
ولذلك يقول أحد العلماء:
الناس منهم دواء فاتخذه له إليه تحتاج أحياناً فأحيانا
ومنه موت كالغذاء الدهر تطلبه فلست عنه غنياً أينما كانا
وكم أخ لست محتاج له أبداً كالداء يشقى به الإنسان أزمانا
وهذا النوع من الناس هم أعداء الإنسان يوم القيامة، كما قال الله تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
وكما قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلأناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلأنسان خَذُولاً [الفرقان:27-29].
الجبهة الرابعة: هي مفاتن الدنيا وشهواتها، فهذه الدار هي ضرة الدار الآخرة، وفيها كثير من المفاتن والشهوات لأنها دار الغرور، يرى فيها الإنسان لمعاناً وبريقاً وزخارف فتستهويه، إذا مد بصره إلى زخارف الدنيا تعلق بها قلبه، وأصل كل طمع فيها إنما هو من النظر، كما قال ابن القيم رحمه الله:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والمرء ما دام ذا طرف يقلبه في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
ولذلك يحتاج الإنسان إلى التقلل منها، وعدم الرغبة فيها، فقد قال الله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].
وقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه:
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمما
قضى وطراً منه وغادر سبة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفم
فيحتاج الإنسان إلى التقلل منها، والزاهدة فيها، ومعرفة حقيقتها، وإذا أراد الإنسان معرفة حقيقة هذه الدار، فلينظر إلى ما يعجبه فيها، وليبحث عن مصيره ومآله، إذا أعجبك شكل إنسان، وجمال صورته، فانظر وفكر في مآله ومرجعه، فهو إما تعاجله المنية فيكون مرتعاً للدود في اللحود، وإما أن يطول عمره في هذه الحياة الدنيا، فسيعود أدراجه وينتكس، فما كان جميلاً منه عاد قبيحاً، وتغيرت أحوله، وذهب كما قال الشاعر لما رأته امرأة قد تغيرت حاله، وكانت تعرفه من قبل ببهائه ونضارته، قال:
فغدوت يغضبني اليسير وملني أهلي وكنت مكرم لا أكهر
ولقد رأيت نظير ما عيرتني يغدو علي به الزمان ويبكر
تغير الوضع تماماً، وتغيرت الأحوال، قال:
فأجبتها أن من يعمر يعتره ما تذكرين وينب عنه المنظر
ويقول آخر:
لا أنا بالذي عرفتِ ولا أنت التي كنت أعرف
فيتغير الوضع مع تقدم السن بالإنسان.
ولذلك إذا نظرت إلى أي محبوب آخر من متاع الدنيا، ما يتنافس الناس فيه من المباني الشاهقة، فكر في مآلها ونهاياتها وستجدها مرمية في القمامات، ويتأذى بها أهله، وينفقون المبالغ الطائلة في نقلها ورميها.
وما يتنافسون فيه من السيارات الفارهة، انظر إلى مصيرها، تجدها أيضاً مرمية في القمامات، يتأذى بها أهلها، ويبتعدون منها.
وهكذا في كل ما يعجبك في الدنيا، انظر إلى مصيره في الحياة الدنيا فستراه مرمياً في القمامات.
فبذلك تدرك أنها ليست ذات قيمة، وأنها لا ينبغي أن يحرص عليها، وبالأخص إذا ذكرت أنها ضرة الآخرة ومقابلتها، فتحتاج إذاً إلى أن تتزهد فيها، وأن تتقلل منها، فهي جبهة مفتوحة عليك، وكثيراً ما تغوي وتضل، يراها الإنسان فيظن أنها مستمرة، فما ترون من الخصام بين الناس، والشحناء، والبغضاء بسبب عرض من أعراض الدنيا، كله يدل على أنهم ظنوا بقاءها، وإلا لو فكروا أن هذا الذي يتنافسون فيه تافه، وأنهم سيزولون عنه أو يزول عنهم، لما استطاعوا أن يتجالدوا بشأنها، وقد قال الحكيم:
أقول لمن يناقش وهو مثرٍ فقيراً عن حقير كالنقير
رويدك لا تناقش عن حقير حقير من يناقش عن حقير
وقد ورد في صحيح مسلم: ( النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر رضي الله عنه، كما: إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم نسباً وصهراً، فإذا رأيت الرجلين يقتتلان على موضع لبنة فيها فاخرج منها، فخرج أبو ذر إلى السوق فرأى ربيعة بن شرحبيل بن حسنة يخاصم أخاه في موضع لبنة من أرض مصر، فلم يعد إلى بيته، بل خرج من مصر ولم يأخذ شيئاً من متاعه )، خرج من مصر تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجبهة الخامسة: هي نعم الله سبحانه وتعالى علينا، فهي جبهة عظيمة مفتوحة، وهي النعم السابغة التي لا تحصى، لكن الناس فيها على أربعة أقسام:
القسم الأول: الذين لا يعرفون النعمة بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، ما دام أحدهم آمناً في سربه، معافى في جسمه، لا يشكو سرطاناً في الدم، ولا في الكبد، ولا يشكو فشلاً في الكلى، ولا ضعفاً في عضلة القلب، لا يحس بهذه النعمة، ما دام ممتعاً ببصره، يبصر موضع قدمه، ويبصر كيف يلبس ملابسه، لا يحس بهذه النعمة، ما دام يسمع لا يحس بهذه النعمة، فإذا زالت النعمة، تذكر أنه كان في أمر قد فارقه، وحينئذٍ حظه الندم حيث لا ينفع الندم، وهؤلاء هم الخاسرون الذين لم يعرفوا نعمة بوجودها، وإنما عرفوها بزوالها.
والقسم الثاني: يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ولكن لا يعرفون من أين أتت، فيظنون أنها من تلقاء أنفسهم ومن كدهم وكسبهم واجتهادهم، أو أنها من ميراثهم عن آبائهم وأجدادهم، حالهم حال قارون حيث قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أهلكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يسأل عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ [القصص:78].
وقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصة الثلاثة: الأعمى، والأقرع، والأبرص، فاثنان منهم قالا: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، وقد كذبا فيما قالا، فهذا النوع من الناس عرفوا النعمة بوجودها، وعرفوا أنهم متميزون، لكن لم ينفعهم ذلك إلا كبراً، ولم يزدهم إلا تجبراً في الأرض، ولم يشكروا الله عليها، لأنهم ما عرفوا أنها من عند الله.
القسم الثالث: الذين يعرفون النعمة بوجودها لا بزولها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، فهم مشغولون بمتابعة مؤشر الأسهم ارتفاعاً وهبوطاً، مشغولون بمتابعة وصول البضائع، مشغولون بمتابعة أسعار العقارات والأراضي، ليلهم موصول بنهارهم، في تعب مضن، كل ساعاتهم تفكير في هذا الأمر، يفكرون بالربح في الصلاة، ويفكرون به في ساعة النوم، ويفكرون به في ساعة الأكل والشرب، لا يجدون وقتاً صافياً فارغاً ليس فيه انشغال، هؤلاء شغلوا بالنعمة عن شكرها، حالهم حال الأعراب، قال الله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأهلونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا [الفتح:11].
وقد حذر الله من هذا الحال فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ الله نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:14-15].
فإذاً هذه الفتنة في حق هؤلاء.
القسم الرابع: الذين يعرفون النعمة بوجودها لا بزولها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولا يشتغلون بالنعمة عن شكرها، بل يصرفونها فيما خلقت من أجله، يصرفونها في عبادة الله وطاعته، كل ما أنعم الله به عليهم من النعم انتظروا الأمر الموجه إليهم فيه، نعمة البصر ما هي الأوامر التي جاءت من عند الله تتعلق بالبصر: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهمْ [النور:30]، نبادر إلى تطبيق هذا الأمر.
نعمة السمع، نعمة الجوارح كلها، نعمة المال، كل ما جاء، كلما تذكرت نعمة من النعم، نظرت إلى النص الذي جاء من عند الله يتعلق بهذه النعمة، فنفذته وطبقته على مراد الله جل جلاله، وهؤلاء هم الشاكرون، وهم أقل عباد الله، كما قال الله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، جعلني الله وإياكم منهم.
وقد عرف أحد العلماء الشكر بقوله:
والشكر صرف العبد ما أولاه مولاه من نعماه في رضاه
أن تصرف كل ما أولاك الله من النعم في رضوانه.
فهذه خمس جبهات مفتوحة عليك في هذا العمر القصير، وأنت محتاج إلى سدها، والمجالدة فيها جميعاً، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بالصبر على طريق الحق، والصبر ثلاث شعب هي:
أولاً: الصبر عن معصية الله.
ثانياً: الصبر على طاعة الله.
ثالثاً: الصبر على قضاء الله وقدره.
فتحتاج أولاً إلى الصبر عن معصية الله: أن تصبر جوارحك عن معصية الله، فتكفها عما حرم الله عليك.
وذلك بأن تعرض على نفسك توبةً صادقة خالصة نصوحاً، تمنعك من العود والأوب إلى المعصية، فإذا استجابت نفسك إلى ذلك زدتها ترغيباً وترهيباً، فزدتها ترغيباً بما أعد الله للتائبين من الأجر العظيم، وزدتها ترغيباً أيضاً بما يناله من حفظ هذه الجوارح عن معصية الله، ومن صبر عن معصية الله وجانبها.
ثم زدتها ترهيباً بما أعد الله من العذاب الأليم لمن عصاه، وبينت لها أضرار المعاصي وآثارها، سواءً منها الآثار الدنيوية، أو الآثار البرزخية، أو الآثار الأخروية، وكلها آثار من آثار الذنوب، وسنعرج على بعضها إن شاء الله تعالى فيما بعد، سنذكر منها خمسة أضرار من المحاذيات التي تحاذي الذنوب، وهي ذات مضرة عظيمة على الإيمان.
ثم بعد ذلك تحاول مع نفسك، أن تطبق هذا المنهج في الحياة بصفة دائمة، أن تكون ذات قناعة عن المعصية بالكلية، وذلك بتقوية الوازع الذي يحول بينك وبينها، فالوازع الذي يحول بينك وبين المعصية هو برهان الله في قلبك، وكلما قوي إيمانك كلما قوي الحاجز بينك وبين المعصية.
ثم بعد ذلك الصبر على طاعة الله، والصبر على طاعة الله على ثلاثة أقسام: الصبر على طاعة الله فيما قبلها، والصبر عليها في أثنائها، والصبر عليها فيما بعدها.
فالصبر على طاعة الله قبلها، بالعزيمة عليها وإعداد العدة لها، العزيمة على الصلاة والتطهر قبلها، والاستعداد لها هذا من الصبر عليها، والصبر عليها في أثنائها بعدم صرف شيء منها لغير الله، تصبر نفسك على أداء هذه العبادة على الوجه الذي يرضي الله، والصبر عليها بعدها بعدم إتيان مبطلاتها البعدية، كإبطال الصدقة بالمن والأذى، هي من المبطلات اللاحقة التي تكون بعد الطاعة فتبطلها، فتحاول الصبر بهذه الأقسام الثلاثة على طاعة الله جل جلاله.
ثم بعد ذلك الصبر على قضاء الله وقدره: وهو أن تعلم أن الله هو اللطيف، وهو الرءوف، وهو الرحيم، وهو أرحم الراحمين جل جلاله، وأنه لا يكتب على عبده المؤمن إلا ما هو خير له، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان ذلك خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان ذلك خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن )، فأنت تحتاج إلى الصبر على قدر الله خيره وشره، حلوه ومره.
وبهذا تكون قد أتيت على المراحل الأربع التي ينبغي أن تستغل فيها عمرك، آخرها هذه المرحلة وهي الصبر على طريق الحق حتى تلقى الله.
وهذه المراحل الأربع تضمنتها سورة العصر، التي قال فيها الإمام الشافعي: لو لم ينزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سورة العصر لكفت حجةً على الناس، فقد قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:1-3]، وهذا يقتضي تعلم ما أمر الله به، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:3] وهذا العمل، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [العصر:3] وهذه الدعوة، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] وهذا الصبر على هذا الطريق.
وهي أيضاً وصية لقمان لابنه، كما قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] هذا التعليم، ثم قال بعد ذلك: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17] هذا العمل، ثم قال: وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ [لقمان:17] وهذه الدعوة، ثم قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17] وهذا الصبر على هذا الطريق.
فإذا جمع الإنسان هذه المراحل الأربع فيكون قد استغل عمره فيما ينجيه في الدار الآخرة، ويكون بذلك مستعداً للدار الآخرة في أي وقت، إذا أتاه ملك الموت لم يفجأه في أية ساعة؛ لأنه مستعد له، لا فرق لديه بين أن يأتيه ملك الموت في اليل أو في النهار، أو في أي وقت، في المسجد أو في البيت؛ لأنه على عبادة في كل ذلك، فالدنيا تكون لديه محراباً كبيراً للتعبد، كما جاء عن بعض الصحابة: إني لأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي.
فنومه عبادة، وأكله عبادة، وصلاته عبادة، وشربه عبادة، ونفقة أبيه عبادة، ومحادثة جيرانه عبادة، ومحادثة أهله في بيته عبادة، فيكون كل أمره عبادة الله، وتقرباً إليه وطلباً لمرضاته، وبهذا يستغل كل أوقاته، وكل ما لديه، فتكون الدنيا كلها محراباً كبيراً للتعبد، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي الله رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163].
نسأل الله تعالى أن يختم بالصالحات أعملنا، وأن يختم بالحسنات آجالنا، وأن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر