إسلام ويب

شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [10]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يجوز بناء الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم ممن له حاجة إلى ذلك، كالضيوف الذين ليس لهم مقر في المدينة سوى المسجد، فقد احتجر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد مكانًا للصلاة ومن فوائد ذلك أنه ستر للعبادة وعدم إشاعة لها، فيمكن أن يصلي كثيرًا من النوافل وهو محتجر لا يراه من في المسجد، وكذلك قراءته، وأيضًا فإنه يأكل في المسجد وينام فيه، فيحتاج إلى كن يستره لذلك.

    1.   

    شرح باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله أصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

    أما بعد:

    فيقول البخاري رحمه الله تعالى: باب: الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم:

    ما زلنا في أبواب المساجد، وما يجوز فيها من الأعمال، وما يمنع، وقد عقد هذا الباب لجواز بناء الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم ممن له حاجة إلى ذلك، كالضيوف الذين ليس لهم مقر في المدينة سوى المسجد، فقوله: (باب الخيمة)؛ أي: باب جواز بناء الخيمة، فهي على حذف مضافين: المضاف الأول (جواز) وهو الحكم، والمضاف الثاني الفعل؛ لأن الحكم لا يتعلق بالعين، لا يقال: جواز الخيمة، فالحكم لا يتعلق بالعين، لا يتعلق أبدًا إلا بفعل، والفعل هو بناء الخيمة، و(الخيمة) بناء من أبنية العرب، وهو في الأصل يتخذ من الشجر، كما قال عنترة:

    أبقى لها طول السفار مقرمدًا سندًا ومثل دعائم المتخيم

    (مثل دعائم المتخيم)؛ أي: مثل الدعائم التي يغرسها في الأرض من يبني عليها خيمة، فهي في الأصل من الشجر، وللعرب أنواع من الأبنية تسمى: بيوت العرب، قد نظمها بعضهم بقوله:

    مظلة من شعر ووكنة من حجر

    وخيمة من شجر بجاد صوف مطنب

    كذا خباء وبر عن ابن كلب يندر

    هذي بيوت العرب..

    فبيوت العرب التي كانوا يسكنونها في باديتهم منها ما يتخذ من الشعر، وما يتخذ من الشجر، وما يتخذ من الحجارة، وما يتخذ من الصوف، وكلها لها أسماء لديهم، وبما أن ما يتخذ من الصوف أو الشعر كان يسمى (بجادًا) أو (خباءً) أطلق عليه الخيمة إطلاق مجاز ونقل، فليس هذا المعنى الأصلي للخيمة في لغة العرب، ولكنه استعمل مجازًا أو نقلًا عن معناه الأصلي إلى معنى مقارب له، فالمقصود بالخيمة هنا إما البجاد، وإما الخباء الذي يتخذ من الصوف أو من الشعر، والفرق بين الصوف والشعر أن الصوف يختص بالنعاج، والشعر للغنم ونحوها، والوبر للإبل، وقد قال بعضهم:

    بإبل وأرنب يعزى الوبر والصوف للنعاج والباقي شعر

    فما ينبت على الجسد إذا كان في إبل أو أرنب فيسمى: وبرًا، وإذا كان في النعاج فيسمى: صوفًا، وإذا كان في غير ذلك فيسمى: شعرًا، كشعر الإنسان وشعر الغنم، فالبيت المتخذ من الشعر أو من الصوف في الأصل لا يسمى خيمة، وهو المقصود هنا، لكن أطلقت عليه الخيمة من باب النقل أو من باب المجاز.

    (في المسجد)؛ أي: في داخله، وذلك فيما ليس مسقوفًا منه، ويمكن أن تتخذ في المسقوف منه بأن يحوز بها فلا يقصد به السقف، وإنما يقصد به التحويز، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجر في المسجد؛ أي: يجعل فيه حجرة لاعتكافه، وذلك بحصير يقام له فيصلي بداخله إذا قام أو ركع أو رآه الناس، وإذا جلس أو سجد لم يروه، وهذا الحديث هو الذي حصل فيه القلب المشهور لدى المحدثين، فبعض المحدثين يرويه: (احتجم النبي في المسجد) مكان (احتجر) ولكن اللفظ الصحيح هو: (احتجر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد مكانًا للصلاة) وليس (احتجم).

    وكذلك أخبية أمهات المؤمنين، فقد كن يعملن أخبية يحتجبن فيها لاعتكافهن، والمعتكف سيلزم مكانًا واحدًا من المسجد لعبادته، فيمكن إذا لم يكن في ذلك تضييق للمسجد أن يحتجره؛ أي: أن يجعل عليه ما يحجره له.

    وفي ذلك فوائد له؛ لأنه أولًا ستر للعبادة وعدم إشاعة لها، فيمكن أن يصلي كثيرًا من النوافل وهو محتجر لا يراه من في المسجد، وكذلك قراءته، وأيضًا فإنه يأكل في المسجد وينام فيه، فيحتاج إلى كن يستره لذلك، وهما حالان يحب الإنسان الاختباء فيهما، وكذلك فإن آلاته وأدواته عنده في المسجد في معتكفه، ولو لم يحتجر لأمكن أن يختطفها الناس والسراق؛ فلذلك كان في الاحتجار في المسجد للمعتكف مصالح.

    (للمرضى وغيرهم)؛ أي: إن الاحتجار بالخيمة في المسجد يجوز للمرضى ويجوز لغيرهم بدلالة هذا الحديث.

    شرح حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لسعد خيمة في المسجد)

    فقال: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم- وفي المسجد خيمة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دمًا فمات فيها).

    هذا الحديث ترويه عائشة رضي الله عنها، قالت: (أصيب سعد يوم الخندق) والمقصود بـسعد هنا سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، وهو من بني عبد الأشهل، وهو أحد السعدين اللذين اشتهرا من بداية الهجرة فـسعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة بن دليم سيد الخزرج، وقد ذكرهما الجني في هاتفه الذي سمعه أهل مكة بعد الهجرة، قال:

    فإن يسلم السعدان يصبح محمد بمكة لا يخشى خلاف المخالف

    فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرًا ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

    أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا على الله بالفردوس منية عارف

    وسعد الأوس هو سعد بن معاذ، وهو من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اهتز له عرش الرحمن جل جلاله، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اهتز عرش الرحمن لموته)؛ ولذلك يقول حسان رضي الله عنه في رثائه:

    فما اهتز عرش الله من أجل هالكٍ سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو

    أحداث غزوة الأحزاب

    (يوم الخندق)؛ أي: في معركة الأحزاب فإن أهل الأحزاب كانوا يرمون بأسهمهم من وراء الخندق، والذين يقفون في نحورهم من المؤمنين من المسلمين يرمونهم أيضًا، ومنهم سعد بن معاذ، فكان يرامي المشركين من وراء الخندق، ولم يستطع أحد من المشركين أن يتجاوز الخندق، قد هم بذلك شاب واحد منهم وهو عثمان بن نوفل، وأراد أن يقتحم الخندق فوقع فيه، فمات هو وفرسه، فعرضت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته، وأن يأذن لهم باستخراجه، فقال: (خذوه، لا حاجة لنا بديته، خبيث جيفة، خبيث دية)، فرفعوه، وكذلك تجاوز علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخندق عندما طلب عمرو بن عبد ود البراز، فبرز إليه علي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فقتله.

    و(الخندق) في الأصل معناه: الحفير، وأصل ذلك أن قريشًا ألبت الأحابيش والأحزاب في العام الخامس من الهجرة لغزو المدينة، وأرادوا أن يجتثوا بيضة الإسلام، وأن يقضوا عليه، وكان العام عام جدب في المدينة وغلاء، فجاءوا في وقت الشدة، وناصرهم وظاهرهم اليهود الذين كانوا حول المدينة، وهم بنو قريظة ومن جاء معهم من بني النضير، الذين كانوا قد أخرجوا، فقد أخرج النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك من المدينة بطنين من بطون اليهود، وهما: بنو قينقاع، وبنو النضير.

    فجاء رجال من بني النظير من خيبر ليقووا بني قريظة على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم حيي بن أخطب وهو سيد بني النضير، فجاءوا إلى بني قريظة، وكانوا معه في حصونهم في المدينة، وجاءت قريش وغطفان والأحابيش التي مع قريش، فأحاطوا بالمدينة من كل جانب، ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقدمهم استشار أصحابه في هيئة قتالهم، فقال له سلمان الفارسي: (كنا إذا خفنا خندقنا)؛ أي: حفرنا الخنادق، فاستصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفكرة.

    وهذا يدل على جواز استعمال الأفكار المستوردة من الحضارات الأخرى ولو لم تكن معروفة لدى العرب، إذا كان فيها فائدة، ولم تخالف مقصدًا شرعيًّا ولا نصًّا، ففكرة الخندق من حضارة فارس، كما أن فكرة الخاتم من حضارة الروم، وكما أن فكرة المنبر من حضارة الحبشة، وقد أخذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفر رسول الله صلى الله عليه وسلم خندقًا في غرب المدينة، وهو مقسوم إلى قسمين: الخندق الجنوبي، والخندق الشمالي، والخندق الجنوبي من طرف؛ أي: من خطام جبل سلع إلى الحرة الغربية، والخندق الشمالي من ثنية الوداع في نهاية سلع في جهة الشمال إلى الوادي الذي دون أحد.

    وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين شهدوا معه هذه الغزوة وكانوا ألفًا وخمسمائة، فجعل على كل عشرة أذرع كتيبة منهم يحفرونها، وحفروا الخندق بسرعة ووسعوه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذرعه بيده، وإذا اعترضتهم كدية أو حجر دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ المعول فضرب به وكبر، ومرة من المرات ضرب حجرًا فلاح منه مثل البرق وانفلق، فقال: (الله أكبر! أعطيت خزائن الأرض ومفاتيحها)، وبين لهم أنه وعد في ذلك الوقت بكنوز كسرى وقيصر، وأنهم سينفقونها في سبيل الله، وهم إذ ذاك في أشد الضرر، فقد جاءهم المشركون من أعلى منهم، وجاءهم اليهود من أسفل منهم، والتقت حلقة البطان عليهم كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا[الأحزاب:9-15].

    وقد نوه الله بشأن هذه الغزوة وما نصر فيها رسوله صلى الله عليه وسلم به من أنواع النصر؛ فإن الله تعالى يقول في هذه السورة: وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ[الأحزاب:25]، فكل ذلك من أمر الله جل جلاله، فقد هزم الأحزاب كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، واعترف له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ثناءً عليه، وتمجيدًا وشكرًا لنعمته، فإنه لما وقف على الصفا قال: (الله أكبر! لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده) فقد وعده بذلك في قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا[الفتح:27]، (أنجز وعده) (ونصر عبده) فقد نصر رسوله صلى الله عليه وسلم على كل من ناوأه (وهزم الأحزاب وحده) فكفاهم الله الكافرين، ولم تقم لهم قائمة، وسلط الله عليهم الرياح، وهي الصبا التي نصر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)، و(الصبا) هي الريح التي تأتي من جهة المشرق، فهزم الله بها الأحزاب، وقرروا الهزيمة والانصراف بعد أن لم تبق لهم خيمة ولا خباء، وبعد أن نفدت أزوادهم ولم يأمنوا، وكانت الرياح تأتي وفيها الظلام والغبار، فتريق قدورهم وقربهم، وتأذوا غاية الأذى، فأعلنوا الهزيمة.

    وهذه المعركة قد استشهد فيها بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شهدائها سعد بن معاذ رضي الله عنه، ولكنه لما جرح سأل الله تعالى ألا يميته حتى يريه قرة عينه في بني قريظة، فقد كان بنو قريظة مواليه وأحلافه في الجاهلية، وكان اللازم بمقتضى عادة العرب وأعرافهم أن ينصروه، وألا يخذلوه، وقد جاءوا وخذلوه ووقفوا ضده مع المشركين، فأراد أن يحييه الله حتى يرى مصارعهم والانتقام منهم، فأصيب في الأكحل وهو: عرق في باطن اليد، وقد أصيب سعد في مرفقه.

    وفي حديث عائشة هذا في الرواية الأخرى أنه مر عليها هي وأمه وهي كبشة رضي الله عنها هي أم سعد، فكان يودع أمه فرأته عائشة وهو يلبس درعًا قصيرة اليدين تصل إلى العضدين فقط، فلما رجعت أمه من وداعه وهي كبشة، قالت عائشة: (لوددت أن درع سعد كانت أحصن من هذه) أو: (كانت أسبغ من هذه).

    وعائشة تعرف قضايا الحرب فتمنت أن لو كانت درع سعد أسبغ من هذه؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، فخرج سعد في هذه الدرع، وقاتل وأصيب في أكحله فانقطع هذا العرق، وهذا العرق من العروق الأساسية، وإذا انقطع لا ينجبر، ولما دعا استجاب الله دعاءه، فعندما انهزم المشركون ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه جبريل، فأخبره أن الملائكة لم تضع أسلحتها، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في ديار بني قريظة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه إلى بني قريظة، فباغتوهم وأحاطوا بهم من كل وجه، وحاصروهم حصارًا شديدًا ومعهم رجال من بني النضير، فيهم حيي بن أخطب وهو والد أمنا صفية رضي الله عنها، لكنه كان سيد بني النضير، وكان من أشد اليهود عداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى الله أن شيبكنمشتسبكينت

    في قلوبهم الرعب فسلموا أنفسهم، لكنهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ؛ لأنه هو مولاهم وحليفهم في الجاهلية، فحكم فيهم سعد بأن يقتل بالغوهم، وأن تسبى نساؤهم وذراريهم.

    فكل من بلغ الحلم منهم حكم فيه سعد بالقتل، وهم رضوا بحكم سعد مطلقًا، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سعدًا حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات فقتل مقاتلتهم؛ أي: كل من يصلح للقتال منهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا من جرت عليه الموسى فاقتلوه)، فقتلت مقاتلتهم، وسبيت ذراريهم ونساؤهم، وأورث الله المؤمنين ديارهم وأموالهم، وشفى الله نفس سعد منهم، ثم مات سعد، ولكنه من تلك المدة بنى له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد؛ ليعوده من قريب، فهو يعلم أنه ميت لا محالة لهذا الجرح، وهي شهادة في سبيل الله، وهذا أعلى المقامات.

    ومن هنا يعلم أن الحياة الدنيا هي دار النكبات والنكدات، ولا يمكن أن يجد فيها الإنسان راحة بال ولا طمأنينة، فهي حال، وبقاء الحال من المحال، فالمطلوب فيها بزيادة العمر هو رفع الدرجة الأخروية، فإذا وصل الإنسان إلى أعلى درجة أخروية ممكنة فلا فائدة من بقائه في الحياة الدنيا، وسعد وصل إلى أعلى درجة أخروية ممكنة وهي الشهادة في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أعطاه الله هذه الدرجة العليا لم يأسف على الحياة ولم يطلبها، إنما طلب فقط شفاء صدره من بني قريظة قبل أن يموت.

    وهذا هو وجه الاستشهاد من الحديث في قول عائشة رضي الله عنها: (فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد)؛ أي: له؛ أي: لـسعد؛ ليعوده من قريب، والعيادة معناه: زيارة المريض، ولها أهداف منها: أولًا الاتعاظ بحاله كزيارة الموتى، ومنها كذلك شكر نعمة الدفع؛ لأن الإنسان مالم ير النعمة لا يستحضرها فلا يشكرها لله، ومنها كذلك التخفيف عن المصاب والدعاء له، ومنها تسليته وتسلية أهله، ومنها كذلك خدمته فهو مبتلًى، والمبتلى يستحق الرحمة، فهذه بعض أهداف العيادة، وهي واجبة؛ فتجب أولًا على الأقارب، فإن تهاونوا بها لزمت الأصدقاء، فإن تهاونوا بها فهي حق على كل مسلم، وهي من حقوق المسلم على أخيه: أن يرد السلام عليه، وأن يشمته إذا عطس، وأن يجيب دعوته، وأن يعوده إذا مرض، وأن يتبع جنازته؛ ولذلك نظم العلامة محمد مولود رحمة الله عليه أحكامها، فقال:

    عيادة المريض مما يجب بها ابتداءً يطلب الأقارب

    فإن تهاونوا بها فالصاحب فإن بها استخف فالأجانب

    آداب عيادة المريض

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم في عيادته للمرضى سن لنا آدابًا هي آداب العيادة، منها:

    أولًا: أن تكون العيادة في الوقت المناسب، فلا تكون في أوقات: الحرج، أو الراحة، أو النوم؛ لأن ذلك يؤذي المريض ويزعجه.

    ومنها: أن لا يطيل العائد، فالعائد إذا أطال الجلوس والمكث فإنه يمل، والمريض متأثر نفسيًا فيسهل ملله وتغير حاله، ومنها كذلك اللطف والرأفة فيها أن يظهر للمريض الشفقة من عائده، وقد قال الزبيري رحمه الله:

    ما لي مرضت فلم يعدني عائد منكم ويمرض كلبكم فأعود

    وأشد من مرضي علي صدودكم وصدود كلبكم علي شديد

    وكذلك الدعاء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عاد مريضًا لم يحن أجله، فقال سبعًا: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيه، إلا شفاه الله تعالى)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف على المرضى إذا عادهم فيقول: (لا بأس! طهور إن شاء الله)، ويدعو لهم.

    (ليعوده من قريب) لأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغول، وهذا في آثار معركتين متقاربتين، وله تخطيط يومي وعمل فيشق عليه أن يذهب إلى أسواف بني عبد الأشهل ليزور سعدًا هنالك، وأسواف بني عبد الأشهل ليست قريبة جدًّا من المسجد النبوي، وأهل المدينة يعرفونها إلى الآن مكانها معروف، وفيها دار سعد بن معاذ، وقد صح في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل)، فهي الثانية في الدرجة في الفضل بعد دور بني النجار.

    (فلم يرعهم) هذه عبارة يقولها العرب، يقولون: ما راعني إلا كذا، والمقصود بذلك: أنه سرعان ما رأى ذلك، وليس المقصود بها الروع الذي هو: الخوف، بل المقصود بها أنها من الروع، والروع: القلب؛ أي: لم يفاجئني إلا هذا الأمر كأنه فاجأ قلبه، مثل ما قال عنترة:

    ما راعني إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم

    عنترة شجاع، ولا تروعه الإبل، فالمقصود هنا (ما راعني إلا حمولة أهلها)؛ أي: ما رأيت شيئًا أسبق إلى وهلي من ذلك، (إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم).

    والمقصود هنا بالضمير في قول عائشة: (لم يرعهم)؛ أي: أهل الخيمة ولم يذكروا بعد، ولكن هذا من عود الضمير على متأخر رتبة؛ فلذلك جاءت بالجملة الاعتراضية هنا وفيها ذكر أهل الخيمة، فقالت: (وفي المسجد خيمة من بني غفار) (خيمة) مبتدأ، وخبرها (في المسجد) وهو جار ومجرور مختص، وهذا الذي سوغ الابتداء بقولها: (خيمة)، والمقصود: أن في جوار خيمة سعد التي ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة أخرى من بني غفار، وهم ليسوا من سكان المدينة، بل هم قريبون من مكة في مضاربهم وديارهم.

    (وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل) (إلا الدم) هذا فاعل (راعهم) فجاءت الجملة الاعتراضية بين الفعل وفاعله (ما راعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم) (إلا الدم) فاعل راعهم، معناه: ما فاجأهم إلا الدم، والمقصود بالدم الذي يسيل دم جرح سعد، (إلا الدم يسيل إليهم)؛ أي: إلى أهل تلك الخيمة، (فقالوا: يا أهل الخيمة)؛ أي: قال بنو غفار أصحاب الخيمة الثانية، (يا أهل الخيمة) لخيمة سعد (ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟)؛ أي: ما هذا الدم الذي يسيل إلينا من قبلكم؟ (فإذا سعد يغذو جرحه دمًا)؛ أي: يسيل دمًا، (فمات فيها) فمات سعد فيها؛ أي: في الخيمة، وفي رواية أخرى هنا في الصحيح: (فمات سعد منها)؛ أي: من الجراحة.

    ووجه الاستدلال بالحديث على الأمرين: أن في المسجد إذ ذاك خيمتين: خيمة لـسعد وهي للمريض- للمرضى- وخيمة لبني غفار ليست لمرضى؛ ولذلك قال: (باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم) فالخيمة الأولى خيمة سعد للمرضى، والخيمة الثانية لغيرهم.

    من فوائد حديث عائشة في قصة سعد

    وهذا الحديث يؤخذ منه عدد من الأحكام، منها ما ذكرنا من قبل من أن المسجد عاصمة الإسلام، ويستغل لكل أمور الدين والدنيا، التي فيها إعلاء لكلمة الله، ونصرة لدينه، ورفع لشأنه، ومنها كذلك جواز الاحتجار فيه والاختصاص، مع أن الأصل أن المسجد مرفق عمومي مشترك بين المسلمين، فإذا لم يضيق الإنسان على المسلمين فله أن يحتجر مكانًا فيه، وإذا عرف للإنسان مكان في المسجد وقام منه وهو يريد الرجوع إليه فهو أحق به، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا قام الرجل من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به)، قال النووي في شرح صحيح مسلم عند هذا الحديث: محله إذا عرف مكانه الذي كان يجلس فيه بأن ترك فيه عمامة، أو سبحة، أو سجادة، فهذا يدل على أنه سيرجع، إذا ترك عقاله في مكانه فهذا دليل على أنه يحوز هذا المكان، وأنه خرج عن كثب يعود، فهو سيتوضأ ويعود، أو يستاك ويعود إلى مكانه، فهو أولى به إذا جاء، ويقوم له من جلس مكانه بعده.

    وكذلك يؤخذ من الحديث أن ما كان من الأنجاس غير مقصود الوقوع في المسجد فلا حرج في وقوعه، ولكنه يرفع ويطهر منه المسجد؛ ولذلك قال الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ[النور:36]، ومن رفعها تطهيرها، ويدل الحديث كذلك على فضل سعد بن معاذ ومنزلته بالإسلام، وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل كذلك على فضل بني غفار، وقد جاء في فضلهم عدد كثير من الأحاديث وفي مزيتهم في الإسلام، وهم من القبائل التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استرقاق أسيرها.

    1.   

    شرح باب إدخال البعير في المسجد للعلة

    ثم قال البخاري رحمه الله: (باب: إدخال البعير في المسجد للعلة).

    عقد هذا الباب أيضًا لأمر آخر من الأمور التي تجوز في المساجد، وذلك إدخال الحيوانات التي لحومها طاهرة، أي: التي تنتفع بالذكاة في المسجد، (للعلة)؛ أي: للحاجة، فالبعير يطلق على ذكر الإبل وأنثاها، ولكن أغلب إطلاقه على ما يركب، الذي يستعمل للركوب في أغلب الإطلاقات هو الذي يسمى بعيرًا، سواء كان ذكرًا أو أنثى، (للعلة) العلة في اللغة: ما يغير حال الشيء، فتطلق على المرض، وتطلق على السبب الذي يترتب عليه غيره، منه العلة في الأصول، العلة في أصول الفقه ما هي؟ هي الوصف الجامع بين الأصل المقيس عليه والفرع المقيس، فالوصف الجامع بينهما هو الذي يسمى علة؛ لأنه سبب لتغير الحكم وإلحاقه، والمقصود بالعلة هنا- كما ذكرنا- الحاجة، فهي سبب لذلك.

    وقوله: (باب: إدخال البعير)؛ أي: باب جواز إدخال البعير، فهي على حذف المضاف.

    شرح حديث أم سلمة: (أن النبي قال لها: طوفي من وراء الناس وأنتِ راكبة)

    قال: عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، قال: طوفي من وراء الناس وأنتِ راكبة، فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بـــ: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ[الطور:1-2]).

    (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بنسائه جميعًا فحججن معه، وقال لهن: هذه ثم الفرش)؛ أي: هذه الحجة ثم بعدها الفرش؛ أي: الزمن الفرش، ولا تسافرن بعدها، وكان ممن امتثل ذلك ولزمه أم سلمة رضي الله عنها، فلم تسافر بعد تلك الحجة، وقد سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجته، ونزلت من الحج وهي تشتكي صداعًا، فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم بمكة بعد الحج، بل خطب في الناس في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة وهو بمنى، فقال: (إنا نازلون غدًا إن شاء الله بمحصب بني كنانة، حيث تعاهدوا على حرب الله ورسوله)، وارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رمى الجمار في اليوم الثالث عشر، ونزل بالمحصب وقد بنيت له خيمة هنالك، فصلى فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، والعشاء صلاه عند الكعبة، وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم طواف الوداع، وأمر نساءه أن يطفن طواف الوداع وأن ينصرفن.

    فلما أتى من طوافه شكت إليه عائشة فقالت: (أيرجع صواحبي بحجة وعمرة وأرجع بحجة، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يذهب بها إلى التنعيم، وأن يحرمها فتطوف وتسعى، وتلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ففعلت ذلك عائشة)، وأيضًا: (لما أتى وجد صفية بنت حيي تبكي فقال: حلقى عقرى! أحابستنا هي؟)، معناه: أنها حاضت ولم تطف، فقال: (حلقى عقرى)، وهذا دعاء، لكن لا يقصد به الدعاء، بل هو مما يجري على ألسنة العرب، (أحابستنا هي؟)؛ أي: هل ستحبسنا عن سفرنا؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب المدينة حبًا شديدًا، فإذا انتهت مهمته في سفر أحب الرجوع إلى المدينة بسرعة، وقد سأل الله ذلك، فقال: (اللهم، حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد)، فكانت أحب البقاع إليه صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك في رجوعه كان إذا رأى فرجة نص؛ أي: أسرع في رجوعه للمدينة، وإذا رآها قال: (طيبة طابت).

    فلما قال: (حلقى، عقرى، أحابستنا هي؟ قال: أطافت معكن؟ قلن: نعم..)؛ أي: طواف الإفاضة، قال: (فلتنفر إذًا)، وهذا الحديث يؤخذ منه أن طواف الوداع ليس بنسك من أنساك الحج أو العمرة، بل هو مطلوب لوداع البيت مطلقًا؛ فكل خارج من مكة إلى سفر لا ينبغي أن يخرج من الحرم حتى يطوف بالبيت، حتى يكون آخر عهده بمكة طواف البيت؛ ولذلك فإنه يسقط بالحيض، فإذا حاضت المرأة سقط عنها طواف الوداع مطلقًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لصفية: (فلتنفر إذًا)، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا لما اشتكت إليه أم سلمة صداعها، وهي لا تستطيع أن تطوف في زحام الناس- أمرها أن تطوف على بعيرها من وراء الناس، والمسجد الحرام ليس مبنيًا ولا مسقوفًا فهو الأرض المحيطة بالكعبة، وهي محصبة، وله أبواب هي من بين الدور، فلم يكن المسجد الحرام إذ ذاك مبنيًّا، فدخلت أم سلمة على بعير لها فطافت بالبيت من وراء صفوف الناس وهم يصلون صلاة العشاء، وقد أطال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء حتى تكمل أم سلمة طوافها، وهذا من التعاون على البر والتقوى، وهو يدل على أن الإمام إذا كان راكعًا فأحس ببعض الداخلين إلى المسجد له الحق أن يطيل الركوع لهم حتى يدركوا الركعة؛ لأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يفعل؛ لأنهم يرون أنه لم يطل لله، وإنما أطال للذي سيدخل معه في الصلاة، ولكن الأول أرجح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطال لـأم سلمة الصلاة حتى تكمل طوافها.

    ولذلك قالت هنا: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي..)؛ أي: شكوت له الطواف، و(أني أشتكي)؛ أي: كانت تجد صداعًا، قال: (طوفي من وراء الناس)؛ أي: من وراء المصلين عند المسجد الحرام، (وأنتِ راكبة)، فدل هذا على أن الطواف بالبيت يصح ولو كان من مسافة، إذا لم يكن بينك وبين البيت بناء؛ فالله تعالى يقول: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج:29]، والطواف لا يكون إلا بالبيت، ولا يحل الطواف بغيره، فإذا كان بينك وبينه مبان فالطواف لا يصح؛ ولذلك قال أهل العلم: السقائف القديمة التي كانت مبنية قريبة من البيت إذا طاف الإنسان من داخلها فطوافه صحيح؛ لأنه ليس بينه وبين البيت شيء، لكن المباني الجديدة- وهي المسجد المبني المسجد الذي هو من حجارة الآن- قالوا: من طاف فيه لا يصح طوافه، وهي التي يسمونها (طرائف السقائف) يسميها الفقهاء (طرائف السقائف) فيقولون: لأنك حينئذ لا تطوف بالبيت وحده بل تطوف معه بمبان أخرى، وقد هدمت تلك المباني التي كانت حول البيت، فقد كان حوله محراب للحنفية، محراب الحنفية كان مقابل مقام إبراهيم، ومحراب للشافعية، ومحراب للحنابلة، ومحراب للمالكية، كل هذه المحارب هدمت، وهدم المباني التي كانت حوله، وهدم بناء كان على زمزم، وهدم بيت كان على مقام إبراهيم؛ فلذلك أصبح الطواف يمكن أن يكون عن بعد، ليس بينك وبين البيت بناء، إلا أنك إذا طفت الآن من داخل المبنى الموجود فسيكون بينك وبين البيت بعض الأعمدة وبعض الستور، وذلك ليس احتياطًا، فالاحتياط ألا يكون ليس بينك وبين البيت شيء؛ لأنه لا يجوز الطواف بأي بناء إلا البيت الحرام، والله تعالى يقول: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج:29]، والباء الأصل في معانيها الإلصاق كما قال سيبويه.

    جواز الطواف على الراحلة عند عدم القدرة على المشي

    والحديث دليل كذلك على جواز الطواف على الراحلة، وقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر وفي حديث ابن عباس وغيرهما: (أنه طاف على ناقته، وكان يمس الحجر بعصًا في يده)، وقال جابر: (إنما طاف على بعيره ليراه الناس وليتعلموا منه) فبين أن ذلك ليس لكل الناس؛ ولهذا لم يرد أن الصحابة معه طافوا على رواحلهم، إنما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته، ولكن إذنه لـأم سلمة أن تطوف على بعيرها دليل على أن الضعفة يمكن أن يطوفوا على الكراسي المتحركة، ويمكن أن يحملهم من يطوف بهم.

    لكن إذا حملت إنسانًا وطفت به فلا يجزئ ذلك عن طوافين، بل هو عن أحدكما فقط، إذا حملت طفلًا صغيرًا وقد أحرمت به فطفت به، فالطواف لمن نوي له، ولا يجزئ عنكما معًا، بخلاف السعي، فإذا سعيت بين الصفا والمروة فإن السعي يجزئ عنك وعن محمولك؛ لأن السعي شاق طويل؛ فلذلك إذا طفت بالصبي الصغير فطف طوافين: طوافًا عنك، وطوافًا عنه، وإذا سعيت فيكفيك سعي واحد، والمحمول في العربة إذا كنت تسوق العربة به فطوافك صحيح وطواف المحمول صحيح، ويكفيكما طواف واحد؛ لأنك لم تحمله وإنما يمشي على العربة وأنت تساعده في مشيها، فهي بمثابة من يقود البعير أو يسوقه، ولو تحركت بحركتك أنت فقط.

    وقول أم سلمة رضي الله عنها: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت) جملة حالية، والمقصود بـ(جنب البيت) هنا: المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه؛ فإنه في ذلك الوقت كان يصلي بين الركنين: الركن اليماني، وركن الحجر، وكانا إلى جنب البيت مباشرةً، لكنه في بعض الصلوات الأخرى يصلي متأخرًا فتوضع له عنزة بين يديه، فيطوف الطائف بينه وبين البيت من وراء العنزة.

    العبادات المختصة بالبيت الحرام

    والبيت لديه ثلاث عبادات، وهي: الطواف، والصلاة، والجلوس؛ أي: العكوف عنده، الجلوس في المسجد بقصد العبادة، وهذه الثلاثة مرتبة، فأولى العابدين بالبيت الطائفون؛ لأنهم يتحركون ويشق عليهم أن يأتوا من بعيد، ثم يليهم المصلون، ثم يليهم العاكفون؛ ولذلك قال الله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[الحج:26]، وفي آية البقرة: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[البقرة:125]، فجعل المصلين من وراء الطائفين والعاكفين.

    يقرأ بـ: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ[الطور:1-2]؛ أي: بسورة الطور، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى بالسورة رتلها حتى تكون أطول من أطول منها؛ أي: أطول من سورة هي أطول منها، وكان يصلي بالطور في صلاة العشاء، تعدد منه ذلك، ورواه عنه عدد من أصحابه؛ كحديث أم سلمة هذا، وكحديث جبير بن مطعم بن عدي، وكحديث أم الفضل زوجة العباس.

    أبوال البهائم

    والحديث يؤخذ منه جواز إدخال البهيمة التي بولها طاهر في المسجد، وقد اختلف أهل العلم في أبوال البهائم التي يؤكل لحمها هل هي طاهرة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى طهارة أبوالها وبعرها وزبلها، وذهب الشافعي إلى نجاسة ذلك؛ لأن الشافعي يرى أن الألقاب معللة؛ أي: إن الألقاب تصلح للتعليل، فكل ما هو بول عند الشافعي فهو نجس على الأصل.

    الشافعي عنده الألقاب معللات وأبى الأصحاب

    يقصد أصحاب مالك.

    فـالشافعي يرى أن اللقب بذاته معلل، فيمكن أن يتخذ علة في الحكم.

    فبول ما يوكل مثل بول ما ليس يوكل على ذا القول

    وشرط ذلك ألا يؤدي إلى تلويث المسجد، فإذا كانت البهائم إذا دخلت في المسجد لوثته، بالت فيه أو كان زبلها أو بعرها يلوث المسجد، ويصعب تنقيته منه- فإنها لا تدخل فيه، وقد قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: (إن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم كانت منوقة، منوقة: أي كانت مدربة على استعمال النوق في العمل، فلم تكن تبول في المشي، إذا كان يركبها لا تبول ولا تنزل البعر؛ فلذلك كان يطوف عليها)، قال ابن حجر: (ولا يبعد أن يكون بعير أم سلمة كذلك)؛ أي: أن يكون أيضًا مدربًا على هذا الأمر، فلا يُخشى منه تلويث المسجد؛ فلذلك صح هذا الفعل، وابن حجر مذهبه مذهب الشافعي عمومًا، رحمة الله عليهم أجمعين.

    أما ما سوى ذلك من البهائم كالحمر الأهلية وغيرها مما بوله نجس، فلا تدخل في المسجد إلا من ضرورة، ودليل ذلك- دليل إدخالها للضرورة- أن الكلاب كانت تقبل وتدبر زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد كما في حديث ابن عمر في الصحيح.

    في حديث ابن عمر: (كانت الكلاب تقبل وتدبر زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك).

    والحديث يدل أيضًا على جواز الطواف راكبًا لعلة؛ أي: لمرض أو ضعف، ويدل كذلك على جواز الطواف ولو من بعيد، ولو في آخر الناس، ويدل على أن المصلي الجماعة- صلاة الجماعة- أولى بالقرب من المسجد، ويدل كذلك على مكان طواف النساء، فالنساء مكان طوافهن من وراء الرجال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وليطفن من وراء الرجال، ولا يحققن الطرق).

    ثم قال: (باب) ولم يترجم على هذا الباب، لم يذكر لماذا عقده، وقد قال ابن رشيق القيرواني رحمه الله: صنيع البخاري إذا عقد بابًا بعد باب مترجم ولم يجعل فيه ترجمة أن ذلك الباب فصل من الباب الذي قبله، وهذا الذي قاله يطرد في بعض المواضع، ولكنه في هذا الموضع بالخصوص لا يطرد.

    طبعًا نحن لا نستطيع شرح صحيح البخاري الآن؛ لأنكم اخترتم المختصر، لو شرحنا صحيح البخاري لذكرنا بعض النكات الأخرى، فالحديث الذي ذكرناه حديث أم سلمة فيه نكات لدى أهل الحديث من ناحية الإسناد، ففي إسناده الصحابيان والتابعيان، وكل سنده من أهل المدينة مدنيون، والحديث الثاني حديث أنس هذا أورده البخاري دون ترجمة، فقال: (باب) فقط.

    شرح حديث أنس: (أن رجلين من أصحاب النبي خرجا من عنده في ليلة مظلمة، ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما)

    ثم قال: عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله)، هذا الحديث لك أن تستشكل لماذا أتى به البخاري في أبواب المساجد، وهذا امتحان موجه إليكم: ما علاقة هذا الحديث بأبواب المساجد؟

    المقصود من إدراج هذا الحديث في أبواب المساجد ما ثبت في رواية أخرى ستأتينا من حديث أنس: أن أسيد بن حضير وعباد بن بشر أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخر العشاء ليلًا فانتظراها، وذلك في ليلة ظلماء، فلما انصرفا إلى أهلهما صحبهما مصباحان يضيئان أمامهما، فلما تفرقا كان مع كل واحد منهما مصباح حتى أتى أهله، فالرواية الأخرى هي شرح وجه إدراجه، والبخاري رحمه الله يتعمد مثل هذا النوع، فيأتي بالأمر الذي فيه خفاء يقصد به امتحان طلبة العلم؛ ولذلك قال: (في باب قول المحدث: حدثنا وأخبرنا)، جاء بحديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي بجمار نخل، فقال: (إن من الشجر شجرة لا يتحات ورقها، وإنها مثل المؤمن، فأخبروني ما هي؟)، وذلك أنه في رواية أخرى في الحديث سيوردها البخاري في باب آخر: (فحدثوني ما هي؟)، فكان في الحديث (فأخبروني) وفيه (فحدثوني) ولكن لم يأت بتلك الرواية في هذا الموضع، وهذا من صنيع البخاري رحمه الله.

    من فوائد حديث أنس

    وهذا الحديث يدل على انتظار الصلاة في الليلة الظلماء وفضله، وقد جاء في ذلك أحاديث، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين إلى المساجد في سدف الليل بالنور التام يوم القيامة)، والحديث فيه فضل هذين الصحابيين الجليلين، وهما من الأنصار من الأوس، وهما: أسيد بن الحضير بن سماك وعباد بن بشر رضي الله عنهما، وقد انتظرا صلاة العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء، فلما انصرفا إلى أهلهما وهم في ديار بني عبد الأشهل خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، ومعهما مثل المصباحين؛ أي: أكرمهما الله بكرامتين، وهما مثل المصباحين، وهذا يدل على كرامات الأولياء، وإكرام الله سبحانه وتعالى لأوليائه والصالحين من عباده، يكرمهم بما يعينهم على طاعته، وما يثبتهم على الحق، فأكرم هذين الصحابيين بهذه الكرامة الواضحة، وهي مصباح يضيء أمامهما، وهذا المصباح يمكن أن يكون ملكًا، ويمكن أن يكون أمرًا آخر من أمر الله، وكانا مصباحين يضيئان لهما، فلما تفرقا صار مع كل واحد منهما مصباح حتى أتى أهله، وهذا المصباح هو لا يمسكه لكن يرى ضوءه أمامه.

    والحديث يدل على فضل قصد المساجد والخطى إليها، وبالأخص في أوقات الظلام والمشقة، ويدل كذلك على فضل الصحابة، ويدل على إثبات كرامات الأولياء الموافقة للشرع، ويدل كذلك على فضل أسيد بن حضير وعباد بن بشر، وفيه فوائد أخرى لعلنا نتعرض لها في باب آخر.

    وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767304246