بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
قال البخاري رحمه الله: كتاب مواقيت الصلاة:
عقد هذا الكتاب لمواقيت الصلاة؛ أي: لأوقاتها، وذلك أنه بدأ أولًا بأمكنتها، وهي المساجد، فبين ما جاء فيها، ثم جاء إلى أزمنتها: وهي مواقيتها، فالمواقيت المكانية هي المساجد، وقد سبقت، ولا يطلق عليها المواقيت؛ لأنه قد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم بين: ( أنه جعلت له الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما عبد أدركته الصلاة فليصل )، ولكن المواقيت الزمانية محددة؛ لأن الله يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، والمواقيت تنقسم إلى قسمين: إلى مواقيت فرض، ومواقيت نفل، فمواقيت الفرض: هي ما يجب أداء الفرض فيه، سواء كان موسعًا أو مضيقًا؛ ولذلك يعرف الأصوليون الوقت بأنه: ما خصصه الشارع لأداء العبادة من الزمن، سواء كان موسعًا أو مضيقًا، كما قال السيوطي رحمه الله:
والوقت ما خصصه الذي شرع من الزمان ضيقًا أو اتسع
والواجب: ينقسم باعتبار وقته إلى: موسع، ومضيق، وباعتبار فاعله إلى: كفائي، وعيني، وباعتبار ذاته إلى: معين، ومبهم، والمبهم: هو المخير كخصال الكفارة، فهذه هي تقسيمات الواجب، ثلاث تقسيمات، باعتبار وقته إلى: موسع، ومضيق، وباعتبار فاعله إلى: عيني، وكفائي، وباعتبار ذاته إلى: معين، ومبهم أو مخير.
ومواقيت الفرائض: هي أوقات الصلوات الخمس التي حددها الله، وهي وقت بداية، ووقت نهاية، فالبداية حيث تشرع الصلاة، وهو سبب للوجوب، ووقت نهاية، وهو نهاية ذلك الوقت، فما تأخر عنه كان صاحبه آثمًا بالتأخير إلا لعذر.
وأما مواقيت النفل: فهي تنقسم أيضًا إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مواقيت التحريم؛ أي: التي لا يحل النفل فيها، وسيبينها، وهي ثلاثة: عندما تتضيف الشمس للطلوع، وعندما تتضيف للغروب، وحين يقوم قائم الظهيرة.
والقسم الثاني: وقت النهي على سبيل الكراهة المغلظة، وهو ما بعد الإسفار إلى طلوع الشمس، ثم بعد ذلك إلى ارتفاعها قيد رمح حتى تزول عنها الحمرة، وما بعد الاصفرار إلى الغروب، والوقت الثالث هو وقت كراهة مخففة، وهو ما بعد صلاة الفجر إلى الإسفار إلى أعلى، وما بعد صلاة العصر إلى الاصفرار، فهذا الوقت الذي هو الكراهة المخففة يُصلَّى فيه على الجنائز، ويُسجد فيه سجودُ التلاوة، وعند الحنابلة والشافعية تصلى فيه ذوات الأسباب؛ كتحية المسجد، وركعتي الطواف، وركعتي الوضوء، وغير ذلك من ذوات الأسباب، وعند المالكية والحنفية لا يشرع فيه ذلك، وقت النهي على سبيل التحريم لا يُصلَّى فيه نفل قطعًا، وأيضًا لا يُصلَّى فيه فرض إلا من كان نائمًا فاستيقظ، أو كان مغمًى، فرجع إليه عقله في تلك الساعة، فإن مذهب الجمهور أنه يصلي فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها متى ما ذكرها، فإن وقتها ذكرها، فإن الله تعالى يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] )، فجعل الوقت وقت تذكر، فقال: (فليصلها متى ما ذكرها، فإن وقتها ذكرها) وهذا يشمل ما كان وقت طلوع الشمس ووقت غروبها وغير ذلك، وذهب الحنفية إلى حرمة الصلاة مطلقًا في ذلك الوقت، سواء كانت فرضًا أو نفلًا، سواء كان نائمًا أو يقظانًا، سواء كان مغمًى عليه أو غير مغمًى عليه، فيرون أنه إذا استيقظ الإنسان قبل الغروب وقد تضيفت الشمس للغروب يؤخر صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ثم يصليها قضاءً.
وكذلك إذا استيقظ، وقد تضيفت للطلوع فإنه يؤخر صلاة الصبح حتى تطلع الشمس ثم يصليها، واختلف عنهم في مسألة واحدة، وهي إذا طلعت الشمس أو غربت على الإنسان وهو في صلاة، ولم يبق منها إلا السلام، قد أكمل التشهد، فطلعت الشمس أو غربت، فهل تبطل صلاته بذلك؟ مذهب أبي حنيفة أنها تبطل، ومذهب أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني أنها لا تبطل، وذلك أن أبا حنيفة يقول: إن ما غير الفرض في أوله غيره في آخره، والصاحبان لا يريان ذلك، وهذه هي القاعدة التي تسمى عند الحنفية بـ(القاعدة الاثنا عشرية)، وهي: ما غير الفرض في أوله غيره في آخره، عنده لا عندهما؛ أي: عند أبي حنيفة لا عند الصاحبين، وفروعها اثنا عشر فرعًا، وهذا أحدها، وما سوى ذلك فهو وقت إباحة، وأوقات الإباحة تختلف باختلاف الأسباب الأخرى، فمن الأسباب الوضوء، فهو سبب إذا كان الوقت وقت إباحة أن تصلي ركعتين، ومثل ذلك القدوم من السفر، ومثل ذلك السفر، ومثل ذلك الشك في الأمر تريد أن تفعله وصلاة الاستخارة، ومثل ذلك قيام الليل، وكذلك الرواتب والضحى وغير ذلك مما له سبب مخصوص، وما سوى ذلك فأوقات الإباحة كلها يشرع فيها التطوع بالنوافل، ويتجه الأمر هنا في البداية إلى أوقات الفرائض؛ فلذلك قال: باب: مواقيت الصلاة وفضلها، بدأ هذا الكتاب بباب يتعلق بمواقيت الصلاة؛ أي: الصلاة المكتوبة، (وفضلها)؛ أي: أن المواقيت فيها وقت فضل، ووقت إباحة، فوقت الفضل هو أول الوقت، ووقت الإباحة والاتساع هو آخر الوقت، وهذا يقتضي أن أوقاتها موسعة؛ لأن فيها وقتًا للوجوب، ووقتًا للفضل.
فقال: عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه -وهو عقبة بن عامر، ويلقب بـالبدري، ولم يشهد بدرًا، ولكنه سكن ببدر فنسب إليه- ( أنه دخل على المغيرة بن شعبة- وقد أخر الصلاة يومًا وهو بالعراق- فقال: ما هذا يا مغيرة؟! أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بهذا أمرت )، هذا الحديث هو أول حديث أتى به مالك في الموطأ، قد رواه مالك، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير: أنه دخل على عمر بن عبد العزيز- وقد أخر الصلاة يومًا وهو بالمدينة- فقال: فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يومًا- وهو بالكوفة- فدخل عليه أبو مسعود البدري، فقال: (ما هذا يا مغيرة؟! أليس قد علمت أن جبريل.. إلى آخر الحديث)، فقال: عمر بن عبد العزيز: (اعلم ما تحدث به يا عروة، أو إن جبريل هو الذي أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة، فقال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه، ولقد حدثتني عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر ) ) وهذا الحديث أتى به البخاري هنا، كما أخرجه مالك في الموطأ، وذلك على الاختصار، فقد أخرجه مسلم تامًّا، فذكر فيه عشر صلوات، وهذه الرواية التي هنا موافقة لما في الموطأ خمس صلوات فقط، ولكن الواقع أن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين، فصلى به عشر صلوات.
وجاء تفصيل ذلك في حديث ابن عباس عند الترمذي وغيره: ( أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين صار الفيء مثل الشراك، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين وجبت الشمس، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الصبح حين بزق الفجر، وصلى بي الظهر في الثانية منهما حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه لوقت العصر بالأمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلي بي المغرب حين وجبت الشمس لوقتها الأول، وصلى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل، وصلى بي الصبح حين أسفر، ثم التفت إلي، وقال: يا محمد، هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين )، وهذا الحديث فيه: أن أبا مسعود رضي الله عنه دخل على المغيرة بن شعبة- وكلاهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد أخر الصلاة يومًا، والمقصود بها على الراجح: صلاة العصر، وقد كان أمراء بني أمية إذ ذاك يؤخرونها، فكان هذا من سياسة الدولة المتبعة إذ ذاك ومن ترتيباتها، وقد غير ذلك عمر بن عبد العزيز، فهو الذي أعاد الصلوات إلى أوقاتها، أو سليمان بن عبد الملك، وهو الذي قبله، فيقال: إنه افتتح الخلافة بخير، واختتمها بخير.
(وقد أخر الصلاة يومًا وهو بالعراق)، هذا اللفظ هنا هو الذي جاء به البخاري، (وهو بالعراق)، وجاء تحديده في الموطأ، فقال: (وهو بالكوفة)، وكان المغيرة أميرًا عليها، فقال: (ما هذا يا مغيرة؟!)؛ أي: قال أبو مسعود للمغيرة بن شعبة: ما هذا يا مغيرة؟! وهذا أسلوب لإنكار المنكر، وإن كان المغيرة أميرًا، لكن بما أنه أخر الصلاة عن وقتها، وصاحب ذلك يدخل في الإثم، فأنكر عليه أبو مسعود، وقال: (ما هذا يا مغيرة؟! أليس قد علمت)، فهو صحابي من فقهاء الصحابة أيضًا؛ فلذلك قال له: (أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذلك في غد الإسراء والمعراج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضت عليه الصلاة ليلة أسري به، ولكنه لم يصل الصبح، فذلك أنه أُخِّرَ عنه البيان فلم يعلم، فأخر الصلاة حتى كان وقت الظهر، فأتاه جبريل فصلى به، فكانت الظهر أول صلاة ظهرت في الإسلام، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح كما كان يصليها، فقد كان قبل الإسراء والمعراج يصلي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وقد قيل كان ذلك من ملة من قبله من الأنبياء، وهو التحنث الذي كان يتحنث فيه بغار حراء قبل نزول الوحي إليه.
وأيضًا ذكرنا حمل حديث عائشة وعمر: ( فرضت الصلاة مثنى مثنى )، أن ذلك فيما كان قبل الإسراء والمعراج عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، خلافًا للحنفية الذين يرون أن المقصود بالصلاة: هي الفرائض، وأن الأصل فيها القصر، وأنه يجب على المسافر، وليس رخصة له.
(نزل فصلى)؛ أي: برسول الله صلى الله عليه وسلم إمامًا، (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهنا اقتدى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بـجبريل؛ لأنه في مقام التعليم، فعلمه ذلك، والراجح أنه أيضًا فرض عليه الوضوء في ذلك الوقت، ففرض الصلاة والوضوء كان في وقت واحد على الراجح، فلم يصل النبي صلى الله عليه وسلم قط بدون وضوء، لكن آية المائدة التي جاء فيها تفصيل الوضوء نزلت متأخرة عن ذلك، ولا مانع من تكرار النزول، أو من نزول الحكم مرتين، فقد يقع ذلك، فالفاتحة مما تكرر نزوله، بل جاء في اثنتي عشرة سورة من القرآن تكرر النزول، أنها مما نزل مرتين؛ ولذلك في القرآن اثنتا عشرة سورة اختلف فيها، هل هي مكية أو مدنية، فالمكي المتفق عليه اثنتان وثمانون سورة، والمدني عشرون سورة متفقًا عليها، وبقي اثنتا عشرة سورة هي محل خلاف، هل هي مكية أو مدنية أو مما تكرر نزوله، ومنها الفاتحة؛ فلذلك يمكن أن ينزل الحكم مرتين، وقد جاء في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43]، ذكر فيها الغسل وما يتعلق به، وجاء الغسل أيضًا في آية المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، فتكرر نزول هذا الحكم، وهو الأمر بالاغتسال من الجنابة، جاء في سورة النساء وفي سورة المائدة، وكذلك التيمم جاء في سورة النساء وفي سورة المائدة، في الآيتين المذكورتين، فهو مما تكرر نزوله؛ فلذلك صلى جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل ذلك على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وبالأخص إذا كان في مقام التعليم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ متعلم، وجبريل هو المعلم، فعلمه الصلاة؛ فلذلك صلى به، (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: وراء جبريل، (ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فالصلاة الأولى هي الظهر، والثانية هي العصر، (ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: صلاة المغرب، (ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: صلاة العشاء، (ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: صلاة الفجر، وتكرر ذلك في اليوم الآخر، ثم قال: (بهذا أمرت)، (قال)؛ أي: قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (بهذا أمرت)، والتاء هنا إما أن تكون بالنصب؛ أي: بهذا أمرت أنت، بالفتح، معناه: هذا الذي أمرك الله به من الصلاة حين فرضها عليك البارحة بالمعراج؛ أي: هذه هي الصلاة التي فرضت عليك، أو يمكن أن يقال: بهذا أمرتُ؛ أي: أمرت أنا أن أبين لك هذا، فبين له أول الوقت في اليوم الأول، وبين له آخر الوقت في اليوم الثاني، فصلى اليوم الأول في أول الأوقات كلها، فعلم أن للظهر وقتين: الوقت الأول عندما يكون الفيء مثل الشراك؛ أي: أول ما يحصل الشيء من ظل الزوال، وقد كان ذلك في الأشهر التي لا ظل فيها، وهي خمسة: إبريل، ومايو، ويونيه، ويوليو، وأغسطس، فهذه الأشهر الخمسة ليس فيها ظل للزوال في جزيرة العرب، وفي وسط ما يقابل جزيرة العرب من العالم، فلا ظل فيها للزوال، ثم بعد ذلك يبدأ الظل يمتد قبل الزوال من بعد أغسطس، فسبتمبر الظل فيه قدم واحدة، ثم بعد ذلك أكتوبر الظل فيه ثلاث أقدام، ثم بعد ذلك سبتمبر والظل فيه أربعة أقدام..
ديسمبر هو آخر شهور السنة، والظل فيه خمسة أقدام، ثم بعد ذلك يناير، نوفمبر الظل فيه أربعة أقدام، وديسمبر خمسة أقدام، ويناير أربعة أقدام، وفبراير ثلاثة أقدام، ومارس الظل فيه قدم واحدة، ثم يرجع إلى الأشهر التي لا ظل فيها؛ فهي بهذا الترتيب..
الشيخ: بلى، الأحكام الشرعية معلقة بالأشهر القمرية، لكن فيما يتعلق بالأوقات والظل تابعة لدوران الشمس، والشمس دورتها سنوية، وليست شهرية، فالقمر دورته شهرية، والشمس دورتها سنوية، والصلاة مرتبة على الشمس، فتجب الظهر عند زوالها عن كبد السماء، والعصر عند دلوكها، والمغرب عند غروبها، والعشاء عند غروب شفقها، والفجر عن طلوع ضوئها، فكل ذلك من هيئات الشمس، تتعلق بالشمس؛ فلذلك اعتبر الظل هنا، وهذا الحديث فيه عندما يكون الفيء مثل الشراك دليل على أن ذلك كان في وقت لا ظل فيه في وقت الزوال، فهو من الأشهر الخمسة التي لا ظل فيها.
ثم بعد ذلك بين له الوقت الثاني للظهر، وهو عندما يصير ظل كل شيء مثله، وذلك أيضًا عند عدم وجود ظل الزوال، فإذا كان ظل الزوال فإنه ينتزع من ذلك، فمثلًا عندما يكون ظل الزوال قدمًا واحدة في سبتمبر فحينئذ ما زاد على القدم هو أول دخول وقت الظهر، وإذا كان الظل ثمانية أقدام فقدم واحدة زائدة هو كان قبل الزوال، وسبعة أقدام هي القامة، هذا نهاية الوقت، وكذلك في الشهر الذي بعده عندما يكون الظل ثلاثة أقدام، فتكون هذه الأقدام هي المعتبرة وما زاد عليها- ولو قدر الشراك؛ أي: شراك النعل- شيء يسير هو دخول وقت الظهر هو الزوال، وإذا كان الظل عشرة أقدام فمعنى ذلك: أن هذا نهاية وقت الظهر؛ لأن السبعة هي القامة، وثلاثة هي التي كانت في الشهر، وهكذا في كل شهر، تنظر إلى ما فيه من الأقدام، فتنزعها تجعلها زيادة على ما ذكر من ظل الإنسان.
وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء جبريل في هذين اليومين، في اليوم الأول كانت في أول الوقت، وفي اليوم الآخر كانت في آخره، والواقع هي ثلاثة أيام؛ لأن اليوم الأول لم يصل فيه الصبح، وإنما صلاه في اليوم الثاني، ثم في اليوم الثالث، فصلاة الصبح كانت في اليوم الثاني والثالث، وما سواها من الصلوات كان في اليوم الأول والثاني، فإذًا كان التعليم لمدة ثلاثة أيام، والله وتر يحب الوتر، فقد يكون ذلك من علة تأخير التعليم في صلاة الصبح.
والحديث يدل على مشروعية تحديد الوقت: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، وأن ذلك توقيفي جاء به جبريل من عند الله، وأن للوقت أولًا وآخرًا، وهو ما حدده جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الحديث دلالة على أن وقت المغرب واحد؛ لأنه صلاها به في اليوم الأول وفي اليوم الثاني في نفس الوقت قال: (لوقتها الأول حين وجبت الشمس لوقتها الأول)، وهذا مذهب المالكية أن مختارها هو ما تؤدى فيه مع شروطها، وذهب الجمهور إلى أن للمغرب وقتًا أوسع من هذا، واستدلوا بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص: ( أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم- وهو في سفر بين مكة والمدينة- فسأله عن وقت الصلاة.. )، وذلك الحديث فيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في اليوم الأول الصبح حين بزق الفجر، وصلى الظهر حين صار الفيء مثل الشراك، وصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى المغرب حين وجبت الشمس، وصلى العشاء حين غاب الشفق، وصلى الصبح في اليوم الثاني حين أسفر، وصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى المغرب قبيل غيبوبة الشفق.. ) أي: قريبًا من غيبوبة الشفق، ( وصلى العشاء حين ذهب ثلث الليل، ثم دعاه، فقال: أين السائل أراه عن وقت الصلاة؟ قال: ها أنا ذا يا رسول الله، قال: ما بين هذين وقت )، والجمهور قالوا: هذا الحديث متأخر عن الأول قطعًا؛ لأن حديث ابن عباس، وحديث أبي مسعود كانا في بداية فرض الصلاة، وحديث عبد الله بن عمرو كان في سفر سافره النبي صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فدل ذلك على أنه متأخر، وفي حديث ابن عباس كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن المتأخر ناسخ، وأن وقت المغرب فيه اتساع كوقت غيرها من الصلوات.
قال: باب: الصلاة كفارة:
قد ذكرنا أن صنيع البخاري في التراجم إذا جاء بلفظ (باب)، فجاء بعده بجملة مستقلة أن يصرف الباب؛ أي: أن ينونه، فيقول: بابٌ: الصلاة كفارة، فالجملة التي بعده تامة؛ أي: باب من أبواب العلم يذكر فيه ما يتعلق بأن الصلاة كفارة، والصلاة تشمل الفرض والنفل أيضًا، وهي كفارة؛ أي: جابرة لما يقع فيه الإنسان من الخطأ؛ ولذلك إذا أذنب الإنسان فتوضأ، فأحسن الوضوء، فصلى ركعتين كفرتا ذنبه، فالصلاة كفارة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وضرب لها مثلًا: ( بنهر على باب أحدكم، ينغمس فيه في اليوم والليلة خمسًا، فهل ترون يبقى من درنه شيء؟! )، فهي كفارة مزيلة للذنوب.
والكفارة: (فعالة) للمبالغة، من الكَفر وهو: الجحد، والمقصود بذلك: أنها ساترة للذنوب مزيلة لها، فإنها تسترها، وذلك بمعنى إزالتها، وذلك أن الله تعالى يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، والصلاة من الحسنات، فهي مذهبة للسيئات؛ ولذلك فإن بعض الحسنات صرح فيه بإذهاب بعض السيئات، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )، وهذا محله إذا لم تغش الكبائر، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كنا جلوسًا عند عمر، فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت: أنا، كما قاله، قال: إنك عليه أو عليها لجريء، قلت: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي، قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال: أيكسر أم يفتح؟ قال: يكسر، قال: إذًا لا يغلق أبدًا، فقيل لـحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما أن دون الغد الليلة إني حدثته بحديث ليس بالأغاليط، فسئل: من الباب؟ قال: عمر)، هذا الحديث بين فيه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حادثة حصلت له مع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال: (كنا جلوسًا عند عمر رضي الله عنه)؛ أي: في آخر خلافته، (فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟)، يخاطب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، (قال: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)؛ أي: حديثه في الفتنة؛ أي: في الحديث عن الفتنة، والفتنة في اللغة: هي إذابة الذهب لإزالة ما فيه من الغش، فالذهب يغش بالنحاس وبغيره، فإذا فتن؛ أي: أُذيب أزيل عنه ما فيه من الغش، وكذلك فتنة الإنسان بمعنى امتحانه، فالناس إذا امتحنوا عرف من هو على صواب منهم ومن هو على خطأ كفتنة الذهب، وتطلق الفتنة أيضًا على الردة عن الإسلام- نسأل الله السلامة والعافية- كما قال الله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217]، والفتنة؛ أي: الردة أكبر من القتل، وإطلاقها على الامتحان شائع في القرآن، كقول الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فتنة؛ أي: امتحانًا لكم.
وحذيفة هنا يقول: حين قال عمر: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت: أنا، كما قاله؛ أي: أنا أحفظه كما قاله؛ أي: كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم تمامًا، قال: (إنك عليه أو عليها لجريء)، إنك عليه؛ أي: على هذا القول، أو عليها؛ أي: على الفتنة، أو على هذه المهمة لجريء حين أخبرت أنك تحفظه بلفظه، وهذا بيان من عمر للتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد حذر من الكذب عليه في عدد كثير من الأحاديث، فقال: ( من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار )، وقال: ( إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد، فمن يقل علي ما لم أقل فليلج النار )، وقال: ( من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار )، وكل ذلك تحذير من الكذب عليه صلى الله عليه وسلم؛ فلهذا حذر عمر حذيفة مع أنه لا يتهمه، ويعرف حفظه وصدقه، لكن أراد أن يكون هذا تنبيهًا لنا نحن، وتعليمًا لنا أن نحذر من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: (إنك عليه أو عليها لجريء)، ولا يقال: إنك عليه؛ أي: على النبي صلى الله عليه وسلم كما يتوهمه بعض الناس، فإن عمر لا يمكن أن يتهم حذيفة بالجراءة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: على القول عليه بغير علم.
(قلت: فتنة الرجل)؛ أي: بدأ حذيفة يحدث بهذا الحديث الذي يظن أن عمر يسأل عنه، وقد سمعه هو من النبي صلى الله عليه وسلم وحفظه، فقال: ( فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي )، هذا حديث سمعه حذيفة من النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا، فحفظه كما قاله، وهو أن فتنة الرجل في أهله، والمقصود بهم في الأصل: زوجه، فأهل الرجل: امرأته، ولفظة (أهل) في الأصل تدل على المستحق، أهل التقوى وأهل المغفرة، معناه: مستحق أن يتقى ومستحق أن يغفر، (أهل الثناء والمجد)، معناه: مستحق الثناء ومستحق المجد، ولكن يطلق لفظ (أهل) أيضًا على أهل الرجل بمعنى: امرأته، ويطلق على من يرجع إليه من أقاربه، وحينئذ تكون من: (آل إليه يئول) بمعنى (رجع) وتكون الهاء منقلبة عن همزة، وبينهما تكافؤ في الإبدال، بين الهاء والهمزة تكافؤ في الإبدال لتقارب مخرجيهما، فهما آخر الحلق؛ فالحلق فيه ثلاثة مخارج، آخر مخرج منه تخرج منه الهمزة والهاء، وفيه مخرجان آخران تخرج منهما الحروف الأربعة الباقية، وبينهما تكافؤ في الإبدال؛ ولذلك قد يقلب العرب الهمزة هاء، كقول عنترة:
لهنك من عبسية لوسيمة على هنوات كاذب من يقولها
وكذلك قول الآخر:
ألا يا سنا برق على قلل الحمى لهنك من بطن علي كريم
(لهنك)؛ أي: لَإِنك.
وكقول الآخر:
دمشق خذيها واعملي أن ليلة تمر بعودي نعشها ليلة القدر
ثمانين حولًا لا أرى منك راحة لهنك في الدنيا لباقية العمر
معناه: لإنك في الدنيا لباقية العمر
فهذا من إبدال الهمزة هاء.
والعكس صحيح أيضًا، فتبدل الهاء همزة مثل قولهم: أل قام زيد؟ معناه: هل قام زيد؟ وهذه (أل) الاستفهامية التي الهمزة فيها منقلبة عن هاء.
وبين (أهل) و(آل) فرق، فلفظة (آل): لا تضاف إلا إلى الشريف من ذوي العقل، هذا الأصل، كما تقول: آل محمد، آل أبي بكر، و(أهل): تطلق على من ليس شريفًا، ومن ليس عاقلًا، تضاف إلى غير الشريف، وغير العاقل، ويعترض على ذلك بقول الله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، ولم يقل: أهل فرعون أشد العذاب، ويجاب عن ذلك بأن لهم شرفًا باعتبار الدنيا، قد كان ملك مصر، فلهم شرف باعتبار الدنيا؛ فلذلك قيل: آلَ فِرْعَوْنَ [غافر:46]، ويعترض عليه أيضًا بقول الشاعر:
من الجرد من آل الوجيه ولاحق تذكرنا أوتارنا حين تصهل
فهو يصف فرسًا، فيقول: (من الجرد من آل الوجيه)، وهو فرس؛ فأضافها إلى الوجيه، وهو فرس، وهو غير عاقل، لكن يجاب عن ذلك بأن العرب يلحقون بالعقلاء الطير، والخيل، والأصنام، والطلول، هذه أربعة يلحقونها بالعاقل.
والمقصود بفتنة الرجل في أهله: ما يلحقه من أذاهم، فيكون فتنة عليه، ومن عداوتهم، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، وقد يطلق ذلك أيضًا على محبته لهم، فيفتنونه عن بعض الطاعة، ويقيدونه عن بعض الطاعات التي كان يريد القيام بها كقيام الليل وصيام النفل ونحو ذلك، وكلما ازداد عيال الإنسان نقصت تضحيته؛ ولذلك يقولون: (الولد مجبنة مبخلة)؛ أي: من كان له ولد فهو مدعاة لأن يكون جبانًا لا يغامر كما كان يفعل، (مبخلة)؛ أي: مدعاة للبخل بالمال؛ لأن له من يرثه، فهو يعد له ماله.
وكذلك الفتنة في الولد، فهذا المقصود بها، إما بمصيبة في الأهل، أو بمصيبة في الولد، وإما بعداوة، وقد ذكر ذلك في آية التغابن، وإما لانشغال بهم، فيكون ذلك فتنة بهم أيضًا، وكل ذلك محتملة، وكذلك فتنة الإنسان في جاره، والمقصود به: أن يجاوره من لا يقوم بحقه، وقد جاء التعوذ من جار السوء في دار المقام، فالإنسان إذا جاوره جار سوء، فكان يؤذيه وهو مجاور له، فهذه بلية من البلايا وفتنة من الفتن، لكن هذه ليست ذنبًا يكفر، فإما أن يكون المقصود بها حينئذ: إذا كافأه بإساءته، وقد قال العرب:
إذا أنت كافأت المسيء بفعله ففعلك من فعل المسيء قريب
فالأصل: عدم المكافأة بالإساءة، أو أن يكون المقصود فتنته في جاره بألا يؤدي حق الجار، والجار حقه عظيم، قد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما زال جبريل يحضني على الجار حتى ظننت أنه سيورثه )، وقال: ( الجار المؤمن له حقان، والجار الكافر له حق )؛ فلذلك فتنة الإنسان في جاره تشمل: تقصيره في قيامه بحقه، وما يشبه ذلك.
وبين أن هذه كلها تكفرها الصلاة؛ أي: أداء الصلوات الخمس في وقتها، والصوم؛ أي: صوم رمضان، أو صوم النفل أيضًا، والصدقة، فهي جنة، وهي تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والصوم جنة أيضًا؛ أي: حاجز يحول بين الإنسان وبين المعصية، أو بين لحوق إثمها، والأمر والنهي؛ أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك أيضًا مما يكفر الله به الخطايا والسيئات.
قال: (ليس هذا أريد)؛ أي: ليس هذا الحديث الذي أسأل عنه، بل أريد حديثًا آخر، قال: (ولكن الفتنة)، معناه: ولكني أريد أن تحدثني عن الحديث الذي يتعلق بالفتنة، (التي تموج كما يموج البحر)؛ أي: الفتنة العامة التي لا تختص بإنسان واحد، وهي ما يحصل في آخر هذه الأمة من المصائب والفتن التي تموج كموج البحر، فإذا ذهبت موجة جاءت موجة أخرى بعدها، يظن الناس أن الأمر سيهدأ، فإذا ذهبت موجة جاءت موجة أخرى، وهذا التموج هو الذي يقتضي التباسًا في الحق؛ لأن الإنسان يرى شيئًا يعرفه، ثم يرى شيئًا ينكره، ثم يرى شيئًا يعرفه ثم يرى شيئًا ينكره، وهذا الذي يقتضي الالتباس عليه؛ ولذلك يؤمر الإنسان بلزوم ما يعرف، فتعرف وتنكر، فتعرف ما هو موافق للحق، وتنكر ما هو مخالف للشرع.
قال: (ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين)، قال حذيفة، والسياق كان في البداية الكلام منسوبًا لـحذيفة، ثم جاء الالتفات فيه، فنسب إلى الراوي، فأول الحديث: (قلت أنا كما قاله)، وهنا قال: (قال: ليس عليك منها بأس)، فجاء الالتفات: وهو الانتقال من الحضور إلى الغيبة، فقد كان الحديث في البداية لـحذيفة، ثم انتقل الخطاب (الكلام)، فأصبح محكيًا عنه كالغائب، فقال حذيفة؛ أي: لـعمر: (ليس عليك منها بأس)؛ أي: لا تخف منها، فبأسها ليس عليك، إنما هو على غيرك (يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها بابًا مغلقًا)، إن بينك وبينها؛ أي: بينك وبين الفتنة بابًا مغلقًا، وهذا الباب هو عمر نفسه، فـعمر هو أمنة للناس من الفتنة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أمنة لأصحابه ما دام بينهم، وأصحابه أمنة لمن بعدهم، والمقصود بذلك: بعضهم أمنة لبعض وأمنة للناس، وعمر كان العلامة الفاصلة بين الناس وبين الفتنة، فلم يمض على وفاة عمر إلا ست سنوات حتى ظهرت الفتنة، وأدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه، ثم إلى قتل علي رضي الله عنه، ثم إلى قتل عدد كبير من الصحابة، قتل فيها طلحة والزبير، وقتل فيها عبيد الله بن عمر، وقتل فيها سليمان بن صرد، وقد شهد بدر والمشاهد كلها ومن معه، وقتل بعد ذلك الحسين بن علي ومن معه، وقتل عبد الله بن الزبير ومن معه، وقتل أهل الحرة، فكانت تموج كقطع الليل المظلم، وكانت تموج أيضًا كموج البحر.
فقال: (إن بينك وبينها بابًا مغلقًا)، (قال)؛ أي: قال عمر لـحذيفة: (أيكسر أم يفتح؟)، يسأله عن هذا الباب، فلم يسأله عن حقيقته؛ لأنه يعرف القصد به، ولكن سأله عما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر السياق: أن عمر قد سمع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه أراد التثبت من غيره مما يدل على أن الحديث يتأكد بزيادة العدد في الرواية، فمما يقوي الرواية التعدد في رواتها، قال عمر: (أيكسر أم يفتح؟)؛ أي: أيكسر ذلك الباب أم يفتح؟ قال: (يكسر)؛ أي: قال حذيفة لـ عمر: يكسر الباب، والمقصود بكسره: قتله؛ أي: أن عمر سيقتل، وقد قتله أبو لؤلؤة المجوسي، وهو غلام للمغيرة بن شعبة، وكان عمر رضي الله عنه في اجتهاده يرى ألا يدخل العجم الكفار إلى المدينة، وأن يتركوا يعملون أعمالهم، ويضرب عليهم الخراج، وكان العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله يريان خلاف ذلك، ويريان إدخالهم للخدمة؛ لأن ذلك فيه عمارة للمدينة، وبالأخص للبنيان والكثير من الأمور الهندسية والأشكال التي لا يعرفها العرب، وقد جاء بها هؤلاء العجم، فرأوا إدخالهم من أجل ذلك؛ لأنهم سيحسنون البناء، وحتى إن عمر حينئذ رأى إتقانهم لبعض الأعمال، فرأى أن بعضهم ينبغي أن يزاد عليهم الخراج لإحسان صنعتهم، ومنهم أبو لؤلؤة هذا، فرأى عمر أنه محسن لصنعته متقن، فرأى أن يزاد عليه الخراج؛ لأنه يعمل شيئًا، فيبيعه بالكثير، ويعمل أعمالًا أجرها كثير، ينفق الناس عليها كثيرًا، فقد غضب أبو لؤلؤة من ذلك فتوعده، فأخبره أنه سيصنع له رحًى، فقال عمر: (إن الكلب يتوعدني)، فهو فهم من ذلك التوعد (أنه يتوعده)، وقد اختفى في المسجد، فلما صلى عمر بالناس ركعة من صلاة الفجر، وقام إلى الركعة الثانية طعنه بخنجر صنعه، وقتل مع أمير المؤمنين ثلاثة رجال، وتقدم ابن عباس فوضع قطيفة على أبي لؤلؤة، فقتل نفسه، وتقدم عبد الرحمن بن عوف، فأتم الصلاة بالناس، وعمر يتكلم، ويقول: (قد أكلني الكلب)، يقصد به أبا لؤلؤة، وقد عرفه، وقد حمد الله أنه لم يجعل الله قتله على يدي امرئ مسلم، وكان يسأل الله أن يرزقه شهادة في سبيله وموتًا في حرم نبيه صلى الله عليه وسلم، فحقق الله له ذلك.
(قال: يكسر)، (قال: إذًا لا يغلق أبدًا)، بين عمر أن الكسر مدعاة لعدم الغلق، فإن كسر الباب مقتض ألا يغلق، فمعنى هذا أنه لو مات عمر كما مات أبو بكر رضي الله عنه لم يقتض ذلك حصول فتنة ولا خلاف، لكن لما مات عن قتل فكان كالباب يكسر، فإنه يصعب رتقه ورده بعد ذلك؛ لذلك قال: إذًا لا يغلقُ، ويجوز أن تقول: لا يغلقْ، معناه: إذا حصل ذلك فإنه لا يغلق، فيكون هذا في قوة الشرط، (أبدًا).
(فقيل لـحذيفة)؛ أي: قال له بعض أصحابه من التابعين (أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما أن دون الغد الليلة)؛ أي: كان يعرف أن الباب هو عمر، كما تعرف أنت أن غدًا دونه الليلة، (إني حدثته بحديث ليس بالأغاليط)، فبين حذيفة أنه حدث عمر حديثًا ليس بالأغاليط، فهو حديث يعرفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوقنه، (فسئل من الباب؟)؛ أي: سئل حذيفة من الباب؟ (قال: عمر)، ووجه إدخال هذا الحديث بالترجمة ما فيه من ذكر تكفير الفتنة بالصلاة وبغيرها من الطاعات، فإنه ذكر أن فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي، فهذا يدل على أن الصلاة كفارة، والحديث صريح في ذلك.
ويؤخذ من الحديث فوائد أخرى كثيرة منها:
فضل الصلاة والصوم والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومنها: أن من كان من أهل الإيمان، فصدر منه مخالفة شرعية فإن تلك المخالفة ستوزن يوم القيامة مع صالح عمله، فإذا ترجحت كفة الحسنات نجا، فإن الله تعالى يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].
وكذلك يدل الحديث على أهمية دراسة الفتن والملاحم وما يتعلق بها ليحذر الإنسان من الوقوع فيها.
ويدل كذلك على اهتمام الصحابة رضوان الله عليهم بذلك وبنقله، وعلى تخصص بعضهم فيه كـحذيفة، كان من المتخصصين في هذا الباب ومن المتقنين له.
ويدل كذلك على مشروعية التثبت في الرواية وطلبها؛ لأن عمر قال: إن عليك عليه لجريء أو إنك عليها لجريء، وكذلك فإن عمر قد سمع ذلك؛ ولهذا قال: (ليس عن هذا أسأل)، فهو يعرف ما يسأل عنه.
ويدل ذلك أيضًا على أن الإنسان إذا كان يعلم علمًا، ولكنه يريد زيادة فيه أو تثبتًا منه، فيجوز له السؤال عنه، والأصل ألا يسأل الإنسان عن المعلوم لديه؛ لأن السؤال عن المعلوم مذموم، ولكن إذا قصد بذلك التثبت أو علو رتبة الإسناد أو نحو ذلك من المقاصد الشرعية المعتبرة فله ذلك.
ثم قال: عن ابن مسعود: ( أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذا؟ قال: لجميع أمتي كلهم )، هذا الحديث أيضًا فيه هذا المعنى الذي عقد له الباب، وهو أن الصلاة كفارة، فقد حدث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلًا؛ أي: من المؤمنين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أصحابه؛ لأنه أتاه مؤمنًا به، (أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة)؛ أي: قبل امرأة أجنبية لا تحل له، (فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره)؛ أي: جاء تائبًا يريد أن يطهره النبي صلى الله عليه وسلم مما اقترف، ( فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: أشهدت معنا الصلاة؟.. )، سأله هل شهد الصلاة معه؟ ( فأخبره أنه قد صلاها معه، فأخبره أن الله قد كفر عنه ذلك الذنب بما صلى )؛ أي: بالصلاة في الجماعة؛ فلذلك قال: فأنزل الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وقد يكون هذا سبب نزول هذه الآية، وقد يكون المعنى أن الواقعة نزلت فيها هذه الآية، وإن تحققت فيها، كما قلنا عن علي رضي الله عنه أنه قال: (إن هذه الآية نزلت فينا- أصحاب محمد- حين اقتتلنا)، وهي قول الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا [الحجر:47]، فمن المعلوم أنها أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وليس سبب نزولها القتال الذي حصل بين الصحابة، فقد جاء بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بمدة طويلة، فدل ذلك على أن المقصود: أنها وقعت فيهم.
والقرآن له جهتان: جهة نزوله، وجهة تأويله، فجهة نزوله معناه: أن تؤمن به في وقت النزول ولو لم تفهم معناه ولا محمله، وجهة تأويله، معناه: أن يحصل ما كان وعدًا أو ما كان خفي الدلالة فيتحقق، فحينئذ تؤمن به إيمانًا آخر، وهو الإيمان بتأويله؛ أي: بحصوله في الواقع؛ ولذلك قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء:
خلو بني الكفار عن سبيله نحن ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله..
فتنزيله: عندما كان حينئذ غير واقع في العيان، وكان وعدًا: لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27]، وتأويله: حصوله وبروزه للعيان، وذلك في عمرة القضاء، فقد تحقق.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ [هود:114]، وهذا يشمل: الصباح، والعشي؛ فالصباح فيه صلاة الفجر، والعشي يشمل: صلاة الظهر، وصلاة العصر، وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [هود:114]، تشمل: صلاة المغرب، وصلاة العشاء، وهذه الآية جامعة لأوقات الصلاة كلها، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، فربط الله سبحانه وتعالى ذهاب السيئات بالحسنات بمشروعية الصلاة، فدل ذلك على التكفير بها، والحسنات المقصود بها: الأعمال الحسنة؛ أي: التي حصل فيها مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله، فمقتضى شهادة أن لا إله إلا الله: أن تكون خالصة لوجه الله الكريم وألا يقصد بها أحد سواه، ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله: أن تكون موافقة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، فإذا حصل فيها الإخلاص والمتابعة حققت الشهادتين معًا، فكانت حسنات، والسيئات ضدها، فكل عمل ليس فيه إخلاص لله، أو ليس موافقًا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من السيئات مطلقًا، والأعمال أربعة أقسام:
قسم ينفع في الدنيا والآخرة، وهو ما تحقق فيه مقتضى الشهادتين، وهو العمل الصالح الذي جمع الإخلاص والمتابعة.
القسم الثاني: ما ينفع في الآخرة، ولا ينفع في الدنيا؛ كالعمل الذي أخلص فيه صاحبه لله، ولكنه لم يأت متابعًا ولا موافقًا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ أو جهلًا أو نسيانًا، كالذي صلى من غير طهارة، فهذه الصلاة تنفعه في الآخرة فيثاب عليها، ولكنها لا تنفعه في الدنيا، فلا بد أن يعيدها مرة أخرى، لا بد من الإعادة.
النوع الثالث من الأعمال: ما ينفع في الدنيا، ولا ينفع في الآخرة؛ كالعمل الذي جاء به صاحبه على وفق السنة تمامًا، ولكنه كان مرائيًا أو مسمعًا غير مخلص لله، صلى صلاة صحيحة، ظاهرها الصحة ولكن غير خالصة لله، فهذا العمل ينفع في الدنيا؛ لأنه يرفع عنه الحد فلا يقتل بترك الصلاة، ولكنه لا ينفع في الآخرة؛ لأنه مردود على صاحبه.
والقسم الرابع: ما لا ينفع في الدنيا، ولا في الآخرة، وهو العمل الذي لم يخلص فيه صاحبه لله، ولم يتابع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا نفع فيه مطلقًا، أما ما يتعلق بالمتابعة فلحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، وفي لفظ لـمسلم: ( من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد )، وأما ما يتعلق بالإخلاص فلحديث أبي هريرة من صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يرويه عن ربه عز وجل: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ).
(قال الرجل: يا رسول الله، ألي هذا؟)، هذا الرجل فرح بهذه، أن الصلاة تكفر السيئات، وظن أنها مزية ومنزلة تختص به من تمام فرحه بها، فقال: (ألي هذا؟)، معناه: هل هذا يختص بي أنا أم هو للناس عامة؟ قال: (لجميع أمتي كلهم)، فجميع هذه الأمة تكفر عنهم الصغائر بفعل الطاعات، وباجتناب السيئات، (اجتناب الكبائر)، فاجتناب الكبائر مكفر للصغائر؛ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، والمقصود بها: الصغائر، والصالحات الكبرى من الطاعات أيضًا مكفرة للسيئات؛ لأنه قال: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، (جميع أمتي كلهم).
وعنه في رواية: ( لمن عمل بها من أمتي )، (وعنه)؛ أي: عن ابن مسعود في رواية أخرى: (لمن عمل بها من أمتي)؛ أي: من عمل بهذه الآية من أمتي جميعًا، فمن أقام الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل فإن حسناته تذهب سيئاته، والمقصود: الحسنات الكبرى (تذهب سيئاته)؛ أي: السيئات الصغرى.
والحديث دلالته على الباب واضحة؛ فإن الرجل نال من امرأة قبلة، وقد جاء تائبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبين له ذهاب سيئاته بحسناته حين شهد الصلاة في الجماعة، فكان ذلك تطهيرًا له وتكفيرًا، فدل هذا على أن الصلاة كفارة، ويدل أيضًا على أن التائب المنكسر المقلع عن الذنب كمن لا ذنب له، إذا جاء الإنسان تائبًا مستغفرًا منكسرًا إلى الله سبحانه وتعالى، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وهو يدل أيضًا على فضل الصلاة وحاجة الإنسان إليها؛ لأن الإنسان خطاء، والصلاة تكفر عنه تلك الأخطاء والسيئات.
ويدل على أن عموم النصوص باق، ولو وردت على سبب خاص، فخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم، وورود العام على سبب خاص لا يقتضي خصوصه، فيبقى المحل الذي ورد عليه قطعيًا في دخوله فيه، ويبقى ما زاد على ذلك محل خلاف، فعند الجمهور أن دلالة العام على أفراده قبل التخصيص قطعية، ومذهب الحنفية أنها ظنية، وبعد التخصيص تبقى قطعية على واحد، على فرد من أفراده؛ لأن عدم دلالتها على فرد من الأفراد يقتضي النسخ والإزالة، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يرد نص.
السؤال: هل يدل عدم صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم الصبح على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة؟
الجواب: أنه يدل على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، ووقت الحاجة من الحكمة فيه أن تكون الظهر أول صلاة ظهرت في الإسلام، وأيضًا جعل الأيام وترًا، قد ذكرنا ذلك.
السؤال: هذا يريد أمثلة لما يمكن أن يكون سترة للمصلي المنفرد، فهل يجوز أن يكون شنطة أو كتابًا أو حذاءً؟ وهل من يمر بين يدي المصلي يبطل الصلاة؟ وهل الذنب يكون على المار أم على المصلي؟ وهل يعيد الصلاة أم لا؟
الجواب: بعض هذه الأسئلة قد أجيب عنه، وقد ذكرنا الأمكنة التي يأثم فيها المار والأمكنة التي يأثم فيها المصلي، وذكرنا الصور الأربع، أما ما يصلح لأن يكون سترة فقد ذكرنا أن أقله ثلثا ذراع، وهو قدر الحربة أو قدر العنزة، وأن أفضل ذلك ما كان قدر مثل مؤخرة الرحل، وأنه يمكن أن يستتر الإنسان بالشيء الرقيق كهذا العمود أو العصا، ولو كانت نحيفة رقيقة؛ لأن الحربة التي كانت تغرز للنبي صلى الله عليه وسلم كانت كذلك، وكان سنانها عريضًا، لكن كان عمودها نحيفًا، وكذلك اختلف في وضع شيء بين يديه يحوز به كوضعه لشنطة أو كتاب أو شيء يسير، والراجح أن ذلك لا يكون سترة؛ لأنه لا يكون سترة إلا إذا كان مرتفعًا قدر ثلثي ذراع.
السؤال: يقول: من أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معًا فعليه بالقرآن، يسأل عن هذا؟
الجواب: أن المقصود بذلك: أن القرآن يفتح للإنسان أبواب الخيرات، فمن أراد أن يرزق في هذه الحياة الدنيا رزقًا حسنًا، فإن ذلك ناشئ عن الطاعات؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين في القرآن أن من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن تضمن الله له وتعهد أن يحييه حياة طيبة، وهذا في أمر الدنيا، وكذلك هو ضمان لأمر الآخرة؛ لأن هذا القرآن يوم القيامة يأتي شافعًا مشفعًا أو ماحلًا مصدقًا، ومن شفع له القرآن نجا؛ فلذلك من أراد الدنيا والآخرة معًا فعليه بالقرآن، أن يجعله إمامًا له يتبعه.
السؤال: يقول: هل يجوز وضع سجادة صلاة ومقدمتها، هل تعتبر سترة أو لا؟ يقصد: هل السجادة بمثابة السترة؟
الجواب: قد ذكرنا أنها ليست سترة؛ لأنها ليست مرتفعة قدر ثلثي الذراع.
السؤال: [هل يجوز المرور أمام المصلي وهو لا يضع سترة أمامه؟]
الجواب: قد ذكرنا أنه إذا لم يكن للمار مكان يمر منه إلا الذي بين يدي المصلي، وكان المصلي متعرضًا، فلا إثم على المار، والإثم على المصلي، وإذا كان له مكان يمر منه، فتعمد الذي بين يدي المصلي فهما آثمان معًا، وإذا لم يكن له مكان يمر منه إلا هذا الذي بين يدي المصلي، والمصلي متعرض، فيأثم المصلي ولا يأثم المار.
السؤال: [هل يجوز البناء فوق المسجد؟]
الجواب: بالنسبة للمسجد: لا حرج أن يبنى فوقه وأن يبنى تحته، فالعبرة بذاته هو، فيكون هذا القدر هو المسجد الموقوف، وقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له مشربة فوق مسجده، وقد سكن فيها حين آلى من نسائه تسعًا وعشرين ليلة، وكذلك إذا كان تحت المسجد محلات للبيع والشراء أو غير ذلك فلا حرج في مثل هذا، لا تكون داخلة في المسجد.
السؤال: [ما هي طريقة الزبيدي في اختصار الأحاديث؟]
الجواب: الزبيدي في مختصره لا يذكر إسنادًا لأي حديث، يذكر الصحابي فقط، هذه طريقته هو، لكن البخاري ذكر الإسناد كاملًا في كل حديث، والمختصر هو الذي يحذف الأسانيد، وهذه طريقته.
السؤال: [ما حكم حمل الطفل الصغير في الصلاة؟]
الجواب: الطفل الصغير حمله في الصلاة إذا كان الإنسان يحمله وهو قائم، ثم يضعه.. إذا لم ير الإنسان فيه نجاسة فلا حرج بحمله، لكن إذا رأى فيه النجاسة يتركه، ما يحمله. لو مسك، وقف إلى جنبك وهو حامل النجاسة فإنه لا يبطل عليك.. سواء مس بشرتك، أو مس لباسك. إن لم يكن فيه النجس، إذا كان فيه النجس وهو يرى النجس فيه فحمله عمدًا فهذا غير، ليس مثلما ذكرناه.
فالمحاذي الذي يمسك لا ضرر فيه، سواء كان حيًّا أو غيره، وما بجنبك تمس أو يمس ثوبك أو تحت حصيرك كنس، فهذا لا حرج فيه، ما فيه ضرر..
السؤال: [من مر من أمام من لا يصلي إلى سترة هل يرد؟]
الجواب: لا، ما يرده؛ لأنه ليس له حدود، ذكرناها بالأمس، ذكرنا أنها عند الجمهور أنها قدر ثلاثة أذرع، وعند بعضهم اثنا عشر شبرًا، وعند ابن العربي موضع سجوده وركوعه فقط.
السؤال: [ما هو الفرق بين التعليل بالألقاب ومفهوم اللقب؟]
الجواب: الفرق بين التعليل بالألقاب ومفهوم اللقب أن مفهوم اللقب أحد مفهومات المخالفة، وهو دلالة على مسكوت عنه؛ أي: أن يعطى المسكوت عنه حكم المنطوق به، فيخرج عكس حكم المنطوق به، فمثلًا إذا قال: إذا جاءك فلان فأعطه مائة، ففلان لقب لهذا الشخص، فإذا أتاك غيره فلست مأمورًا أن تعطيه المائة، ومفهوم فلان مخرج للآخر، وقد أخذ به من يرى مفهوم المخالفة، إلا أن بعضهم تشدد، فألزم القائل بمفهوم اللقب الكفر في قول الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ [الفتح:29]، قال: مفهوم ذلك أن عيسى وموسى ليسا كذلك، وهذا ليس مقصودًا ولا معتبرًا، فإنما يكون في معرض الحديث عن الألقاب مثل الإبل في كل خمس ضائنة، والبقر في زكاتها، والغنم في زكاتها، فهذه ألقاب لأجناس معينة، فهي مخرجة لما سواها؛ فهذا الإبل في كل خمس ضائنة، هذا يدل على أن البقر ليست كذلك، لا تجب الزكاة في كل خمس منها، وأن الغنم ليست كذلك، هذا مفهوم اللقب.
أما التعليل به: فهو اعتباره فيما يتعلق بتعليل الحكم إذا جاء الحكم مرتبطًا به بذاته، فمثلًا الوصف إذا جاء الحكم مرتبطًا به فإن الوصف يصلح للتعليل، ويكون من باب الإيماء مثل: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، فمعنى ذلك: أن الأبرار لفي نعيم لبرورهم، وإن الفجار لفي جحيم لفجورهم، فعلة نعيم الأبرار برهم، وعلة جحيم الفجار فجورهم، فهذا الوصف، لكن إذا جاء ذلك لقبًا لذاته مثل البول، البول لقب للخارج من أحد السبيلين، والخارج معروف من أحد السبيلين، وهو في الأصل من الإنسان، ومما لا يؤكل لحمه نجس، فهل يعتبر كل ما يصدق عليه هذا اللفظ بولًا، فيكون نجسًا؟ هذا هو التعليل بالألقاب.
ونظير هذا أيضًا النباش الذي ينبش القبور، فيأخذ الأكفان، فهل يعتبر سارقًا، فيدخل في عموم السرقة فتقطع كفه إذا سرق قدر النصاب، أو له لقب مستقل غير لقب السارق، نعتبر لقب السارق يخرج منه النباش؛ لأن له لقبًا يختص به.
والراجح اختلاف العلماء أن مفهوم اللقب يعتبر، وأن التعليل بالألقاب لا يصلح.
السؤال: [هل يجوز حمل الجارية في الصلاة؟]
الجواب: الجارية لا فرق بينها وبين الصبي في هذا، بل الصبي أولى منها بذلك؛ لأن نجاستهما جاء الفرق بينهما في الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالنضح من بول الغلام، وبالغسل من بول الجارية، فدل ذلك على أن نجاسة الجارية أغلظ من نجاسة الغلام، وبهذا أخذ الحنابلة..
بارك الله فيكم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا إيمانًا ويقينًا وصدقًا وإخلاصًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر