إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [4]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تفسير القرآن الكريم أشرف العلوم الشرعية وأهمها وأوسعها لتناوله مختلف مجالات العلم، والذي يريد أن يعد درساً في التفسير له حالتان: الأولى: درساً علمياً، فيطبعه طابع النقل، وهذه الحالة لها مدارسها المشهورة: مدرسة الأثر التي تعتني بما ورد عن السلف في تفسير آيات كتاب الله، ومدرسة الرأي وهي لا تعتمد على مجرد النقل بل فيها الاستنباط من النص وذكر معانيه اللغوية وغيرها، والمدرسة التخصصية وهي التي تعتني بتفسير آيات مخصوصة كآيات الأحكام مثلاً أو آيات السلوك أو نحو ذلك, والحالة الثانية: ما يتعلق باختيار موضوعات من كتاب الله تعالى والاستنباط منها، وهذا الوجه ينبغي فيه جمع النظائر والعناية بها وغيرها.

    1.   

    طريقة تدريس التفسير

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فسنحاول إلقاء الظلال على طريقة تدريس التفسير.

    إن هذه المادة من أشرف العلوم الشرعية وأهمها وأوسعها لتناولها لمختلف مجالات العلم، فيدخل فيها العقائد والعبادات والمعاملات وعلوم المقاصد وعلوم الوسائل، وتدخل فيها اللغات، وتدخل فيها بالعموم علوم الرواية وعلوم الدراية، وعلوم ما يتعلق باختلاف القراءات وما ورد من الآثار في التفسير وأسباب النزول، وعلوم الدراية على أوجه الاستنباط من كتاب الله سبحانه وتعالى وما يتضمنه من الغرائب والعجائب التي لا حصر لها ولا نهاية، فهو مائدة الله في الأرض لا يشبع منه العلماء ولا تنتهي عجائبه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.

    طريقة الدرس العلمي

    والذي يريد أن يعد درساً في التفسير له حينئذٍ حالتان:

    الحالة الأولى: أن يريد درساً علمياً، معناه: يطبعه طابع النقل، وهذا لابد أن يرجع إلى كثير من المراجع في التفسير، ويفضل حينئذٍ التنويع في مشارب المراجع التي يرجع إليها؛ لأن للتفسير مدارس متنوعة من أشهرها:

    مدرسة الأثر

    المدرسة الأولى: مدرسة الأثر وهي: المدرسة التي تعتني بما ورد عن السلف في تفسير آيات كتاب الله، فيجمع ذلك سواءً كان أحاديث مرفوعة أو آثاراً موقوفاً على الصحابة أو على التابعين أو من دونهم فيجمع ذلك سواءً تعلق باستنباط حكم أو بتفسير كلمة أو ذكر مجلس أو نحو ذلك.

    ومن أشهر الكتب المؤلفة في هذه المدرسة كتاب أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وهو سيد هذه المدرسة ومقدمها، وكتابه من الكتب النافعة في شتى أوجه التفسير فإذا ذكر آية من كتاب الله أو مقطعاً من مقاطعه يقول: القول في تأويل قول الله تعالى كذا، ثم يبدأ بما جاء في المقطع الذي أورده من اختلاف القراءات وما يترتب على ذلك من اختلاف في الفهم، ثم يبدأ بتفسير المفردات وشواهده اللغوية وأقوال أهل اللغة فيها، ثم بعد ذلك يختم بما يستنبط منها ويعتني بالعقائد والفقه ويذكر أقوال أهل العلم وأدلتهم ويناقش ويختار هو رأياً في كل مسألة.

    إلا أن ابن جرير رحمه الله تعالى لا يمكن الاعتماد عليه في كل ذلك لأقدميته، والقرآن ليس منزلاً لعصر واحد من العصور ولا يمكن أن يقصر فهمه على طبقة من الطبقات أو وقت من الأوقات بل هو منزل لهذه الأمة بكاملها ولابد أن يدخر فيه لكل عصر ما لا يعطاه العصر الآخر؛ ولهذا فلا يستغنى عن تفسير في كل عصر من العصور، ما من عصر من العصور تعيشها هذه الأمة إلا احتاجت فيه إلى أن يكتب فيه تفسير مختص بذلك الوقت ملبٍ لاحتياجات الناس ومتتبع لما تجدد من مقاصد وأمور في العصر الذي هم فيه.

    وعموماً فتفسير ابن جرير كتب في وقت لم تكن القراءات فيه مشتهرة؛ ولهذا ربما حكم على قراءة بالشذوذ وهي متواترة وهذا من الملحوظات الواردة على ابن جرير رحمه الله فلم تكن القراءات في زمانه قد دونت وانتشرت؛ فلذلك يحكم على بعضها بالشذوذ مع تواترها.

    وأيضاً فهو مجتهد مطلق لا يتبع قواعد مذهب من المذاهب المشهورة؛ ولهذا ربما أتى بقول شاذ يخالف فيه جمهور أهل السنة، كقوله في تفسير قول الله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، حين أتى بالقراءتين قراءة: (وأرجلكم) وقراءة: (وأرجكم) كان الصواب: أن القراءتين كالآيتين فأنا أقول بالخيار إن شئت فاغسلهما وإن شئت فامسحهما، فخير في الاثنين بين الغسل والمسح فهذا قول شاذ مخالف لما عليه أهل السنة؛ فلهذا لا يمكن الاعتماد عليه أحياناً.

    ومن الكتب كذلك التي تعتني بالآثار وهي داخلة في كتب هذه المدرسة تفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وهو معاصر لـابن جرير الطبري فقد توفي ابن جرير سنة ثلاثمائة وعشر وتوفي عبد الرحمن سنة ثلاثمائة وسبع وعشرين، ومثل ذلك تفسير الإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي وهو من هذه الطبقة وفي هذا العصر وقد توفي سنة ثلاثمائة وثلاث، وكذلك تفاسير أهل الحديث المروية في كتبهم وكتاب التفسير في كتب الحديث كلها في هذه الطبقة.

    ومن الذين يعتنون بالآثار من بعد هذه الطبقة الإمام ابن كثير فقد جمع كثيراً من الآثار في كتابه وينقلها عن الكتب المعتمدة ويذكر في بعض الأحيان أسانيد تلك الكتب ويحكم في بعضها عن الآثار تصحيحاً وتضعيفاً لكنه ربما نقل بعض الإسرائيليات المشوشة مثل أن الشجرة كانت تأكل منها الملائكة ونحو هذا، فلا يخلو تفسيره من بعض هذه من الهفوات القليلة ومع ذلك فقد وضع عليه القبول وتداوله الناس في الروايات.

    وكذلك تفسير الإمام البغوي رحمه الله فهو أيضاً من هذه المدرسة التي تعتني بالآثار.

    وقد جاء الجلال السيوطي رحمه الله فجمع انتاج هذه المدرسة بكامله في كتابه الذي سماه الدر المنثور في التفسير بالمأثور، فجمع ما يرويه هؤلاء وسلك في ذلك طريقة المحدثين فإن اختلفت أسانيد هؤلاء وألفاظهم لم يبال بذلك بل يجمع النسبة إليهم فيقول: أخرج ابن منده وابن جرير والبغوي وفلان وفلان كذا ويأتي بلفظ أحدهم فيختار أتم الألفاظ وأكملها كما يفعل البيهقي وغيره من أئمة أهل الحديث؛ ولهذا قال العراقي رحمه الله في الألفية:

    والأصل يعني البيهقي ومن عزا وليت إذ زاد الحميدي ميزا

    فإنما يقصدون بذلك إخراج الأصل أنهم أخرجوا أصل الحديث لا أخرجوا هذا اللفظ بذاته.

    ومع هذا فلا يخلو الكتاب من كثير من الأحاديث والآثار الواهية والضعيفة بل وكثير من الموضوعات؛ لأن صاحبه لم يشترط فيه الصحة وإنما اشترط فيه الجمع وقد وفى بجمعه فقد جمع فأوعى وأتى على عدد كبير من تفاسير السلف المعتنين بالآثار فجمع ما فيها في هذا الكتاب.

    وجاء بعده الإمام الشوكاني رحمه الله فلخص كلام السيوطي في فتح القدير وزاد عليه بعض مختاره من تفسير القرطبي؛ ولذلك سمى كتابه فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير.

    مدرسة الرأي

    المدرسة الثانية: مدرسة الرأي، والمقصود بالرأي: أن لا يعتمد المفسر في تفسير آيات كتاب الله على مجرد النقل عن من سبقه بل يُعمل ذهنه في الاستنباط من النص وذكر معانيه اللغوية وما يمكن أن يستنبط من الأحكام من جمع هذا النص بغيره من النصوص، فهذه المدرسة هي التي انتشرت وكثر المؤلفون فيها.

    ومن مشاهير الكتب المؤلفة فيها كتاب ابن عطية المسمى بالمحرر الوجيز، وتفسير القرطبي أبي عبد الله المسمى بالجامع لأحكام القرآن، وقد تميز القرطبي بعنايته بنقل المذاهب الفقهية وذكر أدلتها والمقارنة بينها، والعناية بالأحاديث والشواهد اللغوية بتخريجها وذكر من هي له؛ ولهذا كان ديوانا ًمن دواوين العلم المهمة ومرجعاً من مراجع الإفتاء في كل العصور التي جاءت بعده.

    ومن كتب تفسير الرأي المهمة تفسير ابن الجوزي الذي سماه زاد المسير، وهو ينقل فيه بعض الآثار القليلة ولكن كثيراً مما يعتمد عليه في التفسير معلوماته هو ورأيه ولذلك هو مصنف في مدرسة الرأي، وهو ملخص جيد لخصه لولده يريد أن يغريه به عن شراء عدد كبير من كتب التفسير لكنه مع ذلك قد لا يشفي عليلاً في كثير من المسائل التي يتعرض لها لاختصاره.

    وكذلك تفسير الإمام الماوردي المسمى بالنكت والعيون، وهو مختصر ملخص إلا أن طريقة الماوردي رحمه الله هي طريقة منهجية فهو متقن لتنظيم المعلومات وترتيبها؛ ولذلك فمن أراد بحثاً في المسائل الفقهية فلينظر إلى تقسيمات الماوردي فإنها ستعينه على تصور المسألة وتتبع شعبها وما يتعلق بها، ومع هذا فهو مختصر كذلك لا يطيل النفس في بعض المواطن التي يحتاج فيها إلى توسع.

    وكذلك كتاب البحر المحيط لـأبي حيان الأندلسي، وهو كتاب حافل بما يتعلق بلغة القرآن سواءً كان ذلك متعلقاً بالنحو أو بالصرف أو بالبلاغة أو بغريب اللغة فعنايته بلغة القرآن بارزة جداً وكذلك بتوجيه القراءات وإعرابها، ولكنه لا يتوسع كثيراً في الأحكام وأسباب النزول ونحو ذلك.

    وكذلك من الكتب المهمة في هذا الباب تفسير الإمام الفخر الرازي المسمى بالتفسير الكبير أو بمفاتيح الغيب، وقد أطال فيه النفس كثيراً حتى إنه جعل تفسير الفاتحة في جزء كامل، وهذا التفسير قد ملأه بالعلوم العقلية للمنطق والفلسفة والجدل وغير ذلك، فهو مدرسة مخصوصة بما يتعلق بفهم القرآن واستيعابه على الطريقة العقلية، ولكن مشكلته أنه في كثير من الأحيان يورد كثيراً من المصطلحات غير المشهورة فلا يعرفها إلا المتخصصون في تلك العلوم العقلية، وكذلك يلام بأنه يورد في بعض الأحيان شبهاً فيرد عليها رداً أضعف منها، يقرر الشبهة ويوضحها ثم يرد عليها رداً أضعف من الشبهة، ولذلك يحتاج القارئ فيه إلى مهارة بعلم الكلام وعلم المنطق وعلم الفلسفة وإلى إتقان رد الشبهات كذلك.

    والغريب أن المؤلف رحمه الله استمر على هذه الطريقة حتى بلغ أواخر سورة الأنبياء فتوفي رحمه الله عند تفسيره لقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101-103]، فهذا المقطع هو آخر مقطع فسره من القرآن وتوفي، فانتدب أحد تلامذته لإكمال الكتاب فأكمله على طريقة المؤلف ولا يستطيع الماهر أن يفصل بين كلام الفخر الرازي وكلام تلميذه لمهارته بأسلوب الشيخ وإتقانه له.

    وكذلك من الكتب المهمة في هذه المدرسة كتاب الزمخشري الذي سماه بالكشاف، وقد سلك فيه أسلوباً رصيناً قوياً في تفهيم معاني القرآن ودلالاته، وأغرق في علم البلاغة وأوجه الإعجاز اللفظي، ولكنه مع ذلك يلمح فيه بإشارات خفية إلى مذهب المعتزلة فيستر فيه مذهب المعتزلة في الأماكن التي تخفى وتدق، وقد اعتمد عليه عدد من المفسرين الذين جاءوا بعده، فمن الذين اعتمدوا اعتماداً كلياً البيضاوي، وأبو السعود، فكلاهما اعتمدا عليه وأخذوا طريقته، ومن طريقته أنه يختم تفسير كل سورة بما ورد في فضلها، وقد أتى بحديث طويل وضعه أحد الوضاعين في فضائل السور، وتبعه على ذلك البيضاوي وأبو السعود، وهذا خطأ فادح، لكن عذر هؤلاء أنهم لم يكونوا يعلمون أن هذا الحديث موضوع، وإنما رأوا عبارته فاستحسنوها واستهوتهم؛ فلذلك أوردوه في تفاسيرهم، وقد أثنى المؤلف على هذا الكتاب ثناءً عطراً، فقد قال فيه: (الكتب كالداء والكشاف كالشافي).

    إن التصانيف في الدنيا ذوو عدد وليس فيها لعمري مثل كشافي

    وقد أثنى عليه أمير مكة الذي ساكنه فيها، ولهذا قال مجد الدين الفيروزآبادي في القاموس: (زمخشر كسفرجل بلدة بنواحي خوارزم، اجتاز بها أعرابي فسأل عن اسمها واسم كبيرها، فقيل زمخشر والرداد، فقال: لا خير في شر ورد) وتركها، منها جار الله محمود بن عمر وفيه يقول أمير مكة علي بن عيسى بن وهاس الحسني:

    جميع قرى الدنيا سوى القرية التي تبوأها داراً فداء زمخشرا

    وأحر بأن تزهى زمخشر بامرئ إذا عد في أسد الشرى زمخ الشرا

    وكذلك الذين استفادوا منه واتبعوه كـالبيضاوي الذي ألف كتابه فأتقن صنعته وترتيب المعلومات فيه على جودة سبك ودقة في العبارة، وذكر لكثير من النكت البديعة، ومن غرائب ما حصل له فيه أنه حين ألفه وهو بأرض الروم التي تسمى اليوم بتركيا ذهب به يريد إهدائه إلى أحد الملوك، فنزل على رجل من الزهاد من الصوفية فبات عنده فسأله: أين تقصد أيها الشيخ؟ فقال: ألفت كتاباً نادراً في التفسير أريد أن أهديه لهذا الملك لعله يعينني على أمور دنياي، فسكت الرجل، ثم بعد وقت سأله فقال: ماذا قلت في تفسير قول الله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؟ ففهم البيضاوي إشارة الصوفي، فقطع رحلته ورجع إلى بيته فما وصل البيت حتى أتته معونة الملك، وكانت أضعاف ما كان يتوقعه، لكنه مع هذا يتأول كثيراً في آيات الصفات على مذهبه.

    وأيضا فإن اتباعه للزمخشري في التفسير أوقعه كما ذكرنا في جلب بعض الأحاديث الموضوعة، ومثل ذلك أبو السعود، إلا أنه قد أتقن جانب إعراب القرآن وبرز فيه، فإعراب مفردات القرآن وجمله من أحسن ما يميز تفسير أبي السعود على اختصاره وبراعته في الإبداع، ومثله أيضا تفسير الإمام النسفي، فهو تفسير ملخص مختصر، حاو لكثير من أوجه الاستنباط في القرآن، ومن قرأه فتحت أمامه أبواب فهم الآية حين يرى ألفاظها وما يتعلق بها مربوطاً بآيات أخرى وبأوجه أخرى من أوجه الاستنباط، وقد وقع في الإشكال السابق في تأويل بعض آيات الصفات ونحو ذلك.

    ومن الكتب المختصرة النافعة في هذا الباب تفسير ابن جزي المسمى بـ(التسهيل) وقد خلا من كثير من العيوب السابقة، فخلا من الإسرائيليات، وكذلك يندر فيه تأويل الصفات، وخلا كذلك من الأحاديث الموضوعة، وأتى بعبارة مختصرة دقيقة، ومؤلفه مشهور بدقة العبارة والاختصار، فهو مؤلف القوانين الفقهية في المذاهب الأربعة، ومؤلف التقريب في أصول الفقه، وكتبه مختصرة، جيدة السبك، وقد توفي شهيداً رحمه الله نسأل الله أن يتقبله في قتال الروم بالأندلس؛ ولذلك فكتابه من الكتب التي ينبغي أن تقرر في البدايات على صغار الطلبة، وللدروس المسجدية ونحو ذلك، وكتابه سهل يسهل تدبره والتذاكر فيه، ومعلوماته منضبطة، فإذا أراد الإنسان أن يتقيد بشرح كتاب واحد في التفسير كما سنذكره في طرائق التفسير فبالإمكان أن يخصص هذا الكتاب لذلك.

    وكذلك من الكتب المختصرة في هذا الباب تفسير الجلالين، الجلال المحلي والجلال السيوطي، وهذا الكتاب بدأه الجلال المحلي رحمه الله فافتتحه بتفسير سورة الكهف حتى أكمل القرآن، وفسر سورة الفاتحة، ووافاه الأجل المحتوم عندما أكمل تفسير الفاتحة، وقد أتقن سبكه فيدرج الكلمات في أثناء مواقعها ليتبين لك بها الإعراب وأوجه القراءات دون أن يفصلها عن القرآن، ولهذا كان بعض علمائنا يحفظه مع القرآن حفظا كما هو، يحفظ كلماته مع القرآن كما هي، له كلمات قليلة مختصرة، وأسلوبه رصين جداً، ومن العجيب دقته في التعبير ونباهة صاحبه وذكاؤه في تقدير المضمرات وتقدير الأفعال التي ينصب بها ونحو ذلك، فيقدرها بدقة بالغة، وقد أكمله الجلال السيوطي رحمه الله فافتتح تفسيره من بداية سورة البقرة حتى وصل سورة الكهف، وقد وضع القبول على هذا الكتاب فانتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكثرت الحواشي عليه، وأهمها على الإطلاق حاشية الشيخ سليمان الجمل الشافعي، المسماة بالفتوحات الإلهية.

    وهذا الكتاب تميز بجمعه لما يتعلق بإعراب القرآن، فقد أتقنه إتقانا عجيباً، وقد رجع للذين سبقوه في الإعراب فحصر أقوالهم ونقحها، فجمع ما ذكره أبو حيان في تفسيره وما ذكره أبو السعود في تفسيره، وما ذكره كذلك السمين الحلبي في إعرابه للقرآن، وما ذكره العكبري في إملاء ما من به الرحمن من إعراب القرآن، فجمع كل ما في هذه المراجع، فكان مغنياً عن كتب إعراب القرآن.

    كذلك من الكتب النافعة في هذا الباب كتب المتأخرين ومن أهمها: كتاب روح المعاني للألوسي رحمه الله فقد سلك فيه طريقة بديعة في التفسير، فيذكر الآثار الواردة في التفسير، ثم يذكر أوجه الاستنباط على طريقة الرأي، ثم يورد بعد ذلك ما يسميه بالتفسير الإشاري أي ما يمكن أن يفهم من الآية أو ترمز إليه بوجه من الوجوه، حتى لو كان ذلك بأعداد الحروف أو نحو هذا، وكتابه سلس العبارة، سهل الفهم، إلا أن التفسير الإشاري فيه مزالق حين يجزم الإنسان بأن هذا من تفسير القرآن أو من معنى الآية أو نحو ذلك، ومثله كتاب شيخه روح البيان فهو كذلك جامع لكثير من هذه الأوجه.

    وكذلك من الكتب النافعة في الرأي من كتب المتأخرين كتاب جمال الدين القاسمي، وقد حاول المؤلف كذلك التعبير فيه بلغة عصرية وأن يكون دقيقاً في تنظيم معلوماته وترتيبها، وهو مشهور بذلك فكتبه مشهورة بدقة الاختيار والنقل، فكتابه قواعد التحديث هو أهم كتب المتأخرين في مصطلح الحديث بلا منازع، وإتقانه لتلخيص التفسير جيد إلا أنه قد وقع في بعض ما وقع فيه من سبقه من الأخطاء في تأويل بعض الآيات ونحو ذلك.

    وكذلك من الكتب النافعة من كتب المتأخرين كتاب الإمام محمد الطاهر بن عاشور، فهو كتاب حافل، وبالأخص فيما يتعلق بإعجاز القرآن سواءً كان ذلك من ناحية التشريع، أو من ناحية علم الاجتماع، أو من ناحية البلاغة والتركيب، والمؤلف ضليع في هذه الفنون كلها فقد كان مفتي تونس في زمانه يلقب بشيخ الإسلام، وقد مهر في الحديث والتفسير وعلوم اللغة وعلم الاجتماع والفلسفة، واطلع على ثقافات الأمم الأخرى؛ فلذلك كان كتابه من أهم هذه الكتب على الإطلاق، وكتابه اسمه (التحرير والتنوير).

    وكذلك من كتب المتأخرين المهمة في هذا الباب تفسير السعدي رحمه الله فقد لخص فيه ما ذكره القرطبي، بالإضافة إلى كثير من فوائد ابن القيم في كتبه الكثيرة، وأتى بذلك على طريقة القرطبي، فـالقرطبي رحمه الله يقول: قول الله تعالى، ويأتي بآية ويقول: فيه كذا وكذا مسألة، مثلاً يقول: فيه مائة وسبع مسائل، أو سبعون مسألة، أو خمس وثلاثون مسألة، ويأتي بتلك المسائل مرتبة، وهذه الطريقة هي في الأصل لـابن العربي وابن الفرس في كتابيهما (أحكام القرآن) وسلكها القرطبي ثم تبعه عليها السعدي، وعدد من المتأثرين بـالقرطبي رحمه الله، وكتابه ملخص جيد كذلك إلا أن أسلوبه ليس أسلوباً معاصراً، بل الذي يقرأ فيه يستشعر أنه يقرأ في لغة عصور قد مضت من السالفين، لكنه مع هذا ملخص جيد خال من كثير من العيوب السابقة.

    وكذلك من الكتب أضواء البيان للشيخ محمد الأمين رحمه الله ولم يقصد به أن يكون تفسيراً متكاملاً للقرآن، وإنما قصد به أن يلم بالآيات التي يفسر بعضها بعضاً، فأصل الكتاب كله تفسير لآية واحدة من كتاب الله وهي قول الله تعالى: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ [الزمر:23]؛ ففكرة الكتاب كلها تفسير لهذه الآية وحدها، أراد أن يفسر هذه الآية فجنح إلى أن يذكر كل موضع من القرآن يفسر موضعاً آخر أو له به تعلق، ولذلك لم يستوعب كل آيات القرآن، وما كان منها واضح الدلالة تجاوزه، وقد استطرد الشيخ في مواطن من الكتاب، ففي سورة الأعراف استطرد في علم أصول الفقه وإثبات القياس وما يتعلق بذلك، وفي تفسير سورة الحج استطرد في أحكام الحج وما يتعلق به، والترجيح بين المذاهب، حتى كان تفسير آيات الحج من كتابه منسكاً واسعاً، بل هو من أكبر المناسك التي عرفت في زماننا هذا، وأوسعها على الإطلاق، والشيخ كذلك متأثر بأسلوب القرطبي، وإن كان الشيخ يتعرض لكثير من المسائل العصرية، كالقوانين الوضعية والحكم بغير ما أنزل الله، وكالعلاقات مع الدول الكافرة، العلاقات الدبلوماسية، وكالقوانين التي توقع عليها الدول الإسلامية من باب الإكراه، كقوانين الأمم المتحدة وغير ذلك، وتعرض كذلك لكثير مما يعرض للمسلمين في زماننا هذا من الأوضاع الحرجة كتقاسم الدول، فالأصل أن يكون خليفة المسلمين واحداً، وألا يكونوا دولاً، الأصل أن يكونوا دولة واحدة، ويترتب على ذلك أحكام، تعرض الشيخ لبعض هذه المسائل وأجاد فيها، وقد بحث في كثير من الأمور بحثاً علمياً دقيقاً، ومع هذا فإن كثيراً من الناس قد لا يستفيدون من بحثه، لأن أسلوب الشيخ أسلوب علمي، والذي يريد أن يفهمه لابد أن يكون متنوع المعلومات، فالشيخ يبحث في دقائق التفسير، وفي علم أصول الفقه، وفي علم الفقه، وفي علم الجدل، وفي غير ذلك من أنواع العلوم.

    كذلك من الكتب النافعة في هذا الباب كتاب (في ظلال القرآن) لـسيد قطب رحمه الله وهذا الكتاب كذلك لم يرد مؤلفه أن يجعله تفسيراً كاملاً للقرآن وإنما أراد أن يبين الوجهة الفكرية والثقافة الإسلامية البارزة من خلال القرآن لينشأ عليها الجيل وليتربى عليها، ولهذا فقد أبدع في المقدمات التي يضعها للسور، فكل سورة يضع لها مقدمة يذكر فيها الموضوع الذي ركزت عليه السورة، والمواضيع الجانبية التي تناولتها والعلاقة بين هذه المواضيع، فيجعل السورة وحدة متكاملة بين يديك، ولهذا فإن كثيراً من أهل العلم قال: إذا أردت درساً في التفسير فابدأ من مقدمة الظلال، المقدمة التي يضعها في السورة، ثم راجع ما شئت من كتب التفسير بعد ذلك في تفسير الآيات، ومع هذا فإن المؤلف رحمه الله قد ألف أكثره في السجن، ولما خرج راجعه إلى سورة الحديد، وقتل عند بلوغه في المراجعة قول الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ [الحديد:21].

    وكذلك من الكتب النافعة في هذا الباب تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا رحمة الله عليه، وهذا الكتاب يبدو فيه تنوع المعارف والاجتهادات لدى الرجل فقد بدأه في البداية على طريقته الأولى التي كان عليها أيام كان مع شيخه محمد عبده وبذلك يظهر في الأجزاء الأولى من الكتاب عقلانية الرجل وفلسفته، بل إنه كثيراً ما يُأول كثيراً من الأمور الغيبية ويحملها على أمور معنوية فقط، ثم رجع عن هذا المذهب بالكلية، واعتنى بدراسة الحديث وتخريجه والحكم عليه، وكان صاحب مدرسة بارزة في هذا الباب، تأثر بها عدد كبير من الناس كالشيخ أحمد شاكر رحمة الله عليه وكالإمام حسن البنا رحمة الله عليه فقد تأثر بـمحمد رشيد رضا في هذه المدرسة، مدرسة الرجوع إلى الحديث، وهذه المدرسة هي التي اشتهرت فيما بعد بمدرسة التخريج، وأثرت في الشام وفي مصر ثم انتشرت في البلدان الأخرى، والشيخ هو منشئ هذه المدرسة رحمة الله عليه، وقد بلغ في التفسير قول الله تعالى في سورة يوسف: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، فكتب تفسير هذه الآية بعد صلاة العصر، وتوقف ومات في حادث سير في صبيحة اليوم الذي يليه، رحمة الله عليه، ومع هذا فهذا القدر الذي كتبه في التفسير فيه كثير من الأبحاث المعاصرة، والرد على شبهات المستشرقين والعلمانيين، والمدارس المختلفة، وتعرض لكثير من النوازل والمستجدات التي حصلت في زمانه، فهو مرجع في هذا الباب، وعنايته بما يتجدد من الأمور واضحة، وأسلوبه كذلك أسلوب عصري سلس، فإذا راجع الإنسان كتب هذه المدرسة تبين بجلاء أن الفكرة التي تدور على ألسنة كثير من الناس بذم مدرسة الرأي، وتمجيد مدرسة الأثر في التفسير فكرة غير صحيحة، فليس المقصود بمدرسة الأثر أنها المدرسة التي لا تأتي بشيء من الرأي وإنما تأتي فقط بالأحاديث، بل أكثر ما ينقله الذين ذكرناهم من مدرسة الأثر كله آراء عن بعض الصحابة أو بعض التابعين، والمرفوع من ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيء يسير جداً لا يمثل إلا واحداً في المائة أو أقل، وما عدا ذلك كله آراء لكنها آراء مروية عن بعض الصحابة أو التابعين أو من دونهم، فإذاً ما هي إلا رأي، لكنه رأي لأولئك السلف السابقين، وكذلك مدرسة الرأي ليست كما يتصورها كثير من الناس أنها من الرأي المذموم، والقول على الله بغير علم، أو القول في كتابه بما يخالف ما قال به رسوله صلى الله عليه وسلم كما يتوهمه كثير من الناس، بل المقصود أن المؤلف فيها لا ينطلق من قناعات من سبقه، بل ينطلق من قناعاته هو، فيؤلف على أساس فهمه وما توصل إليه وعلى أساس اختياره في التفسير.

    مدرسة التخصص

    المدرسة الثالثة: المدرسة التخصصية في تفسير كتاب الله، وهي التي تعتني بتفسير آيات مخصوصة كآيات الأحكام مثلاً أو آيات السلوك أو نحو ذلك، وهذه المدرسة من مشاهير المؤلفين فيها البيهقي رحمه الله فقد جمع أحكام القرآن للشافعي، وهو كتاب مطبوع، جمع فيه الآيات التي نزع بها الشافعي واستدل بها وبين أوجه استدلاله بها، ثم بعده الإمام الجصاص الحنفي، فقد ألف كتابه (أحكام القرآن) وأورد فيه كثيراً من المسائل الفقهية التي مرجعها الاستنباط من آيات الأحكام من كتاب الله، وكثيراً ما ينتصر للمذهب الحنفي عندما يبين مأخذه من القرآن، ومع ذلك فهو متحرر إلى حد كبير، بل إنه يخالف الحنفية في بعض المسائل مخالفة صريحة، كمسألة الخروج على الحكام ونحوها من المسائل التي تعرض لها؛ فإنه كان يرى أن لا إجماع في المسألة وأن ركون المتأخرين إلى عدم الخروج على حكام الجور إنما هو من باب الذلة والمسكنة والاستضعاف وأن الأدلة تدل على خلافه، وأطال النفس في هذا الباب وذكر أن هدي الصحابة خير من هدي الفقهاء، وقد خرج الصحابة والتابعون وذكر كثيراً من السلف الذين خرجوا في الحكم بغير ما أنزل الله.

    وكذلك ابن الفرس المالكي الأندلسي، فقد ألف أحكام القرآن على هذه الطريقة، ولكن كتابه لم يطبع حسب علمي إلى الآن وهو موجود مخطوط، وكذلك ابن العربي أبو بكر القاضي، فقد ألف كتابه أحكام القرآن، وحاول فيه حصر الاستنباط، من كتاب الله دون التحيز لمذهب محدد، لكنه كان سليط اللسان، شديداً على خصومه، فكثيراً ما يتهكم بالأئمة، فيقول مثلاً قال: الشافعي وهو عند أصحابه سحبان وائل، ويقول: قال مالك: ولم يبلغنا فيها شيء، قلت: فماذا؟ فيتهكم بالأئمة، وذلك لسلاطة لسانه وقوة أسلوبه، وكثيراً ما يأتي بمسألة ينقل فيها كلام من سبقه من العلماء ثم يقول: بالله الذي لا إله إلا هو لقد زلت أقدام العلماء في هذه المسألة، ومع ذلك فالرجل مؤتىً له في تلخيص العلم، عندما بلغ تفسير قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] قال: البيوع التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وخمسون بيعاً وحصرها بالترتيب، وهذه دقة نادرة، حيث يحصر كل الأحاديث الواردة في الباب ويلخصها لك في نصف صفحة، ومع ذلك فمن المؤسف أن الكتاب لم يطبع حتى الآن طبعة صحيحة، فالطبعات الموجودة المنتشرة لا تمثل شيئاً من الكتاب، بل كثيراً ما يقول: قول الله تعالى كذا فيه خمس مسائل أصولية، وثلاث فقهية، وأربع مسائل عقدية، فإذا رجعت أنت إلى المسائل وجدت أربعا فقهية، وثلاثاً أصولية، واثنتين عقديتين وهكذا، فلا تجد المسائل منضبطة مع العد الذي ذكره، وهذا يبين لك أنه حصل فيه سقط كثير، وحذف منه كثير من المباحث المهمة، وكان ابن العربي رحمه الله في المجال السياسي توفيقياً، يسعى للتوفيق بين طوائف الأمة المختلفة، ولهذا كان يرد التهم التي يوجهها المؤرخون في أيام دولة بني العباس إلى بني أمية، وكان يرى أن كثيراً منها لا يصح من ناحية الإسناد وهو كذلك منكر من ناحية العقل، ولهذا ألف كتابه (العواصم من القواصم) بدأ فيه أولا بالصحابة رضوان الله عليهم وكل التهم السياسية الموجهة إليهم، وكل ما يثار بينهم، إما أن ينفيه ويقول لا يصح هذا ويدرسه من ناحية الإسناد ويحكم عليه بالضعف أو الوضع، وإما أن يثبته ثم يجد له مخرجاً شرعياً، ووجهاً واضحاً من أوجه الاجتهاد، ثم بعد ذلك عدل إلى خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس، فرأى أن التاريخ الإسلامي مشوه وأن كل دولة يكتب مؤرخوها على حسب هوى ملوكها، وعموماً فكتابه هذا من الكتب التي لا يستغنى عنها في مجال تفسير آيات الأحكام.

    ومن أهم الكتب المختصة في آيات الأحكام كتاب السيوطي (الإكليل في استنباطات التنزيل) وهو كتاب صغير الحجم كثير العلم غزير الفائدة، أوراقه قليلة، حيث جمع فيه ما يستنبط من هذه الآيات التي هي آيات الأحكام خمسمائة آية أورد ما يستنبط منها دون أن يرجح في ذلك مذهباً من المذاهب بأسلوب مختصر دقيق؛ ولهذا فإن بعض أهل العلم يمتحنون طلابهم في الاستنباط من هذا الكتاب، عندما يذكر مثلاً الكثير من المسائل المستنبطة من الآية الواحدة يقال: بين وجه الاستنباط في هذه المسألة؟ وهكذا على طريقة الامتحان.

    ومن الكتب (دقائق التفسير) المنسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهي دقائق في بعض آيات القرآن، ولم تكن تفسيراً كاملاً، ومثل ذلك الكتاب المنسوب إليه المطبوع تحت عنوان التفسير الكبير لـابن تيمية، فليس هو تفسيراً مقصوداً لكل القرآن وإنما هو دقائق استنباط الشيخ من الآيات، ومثل ذلك الكتاب المطبوع تحت عنوان (التفسير القيم لـابن القيم) إنما هو من باب كلامه في آيات مختلفة بأوجه الاستنباط العجيبة، فـابن القيم رحمه الله كثيراً ما يستنبط من آية واحدة كثيراً من الفوائد، وظهر ذلك في كثير من كتبه ولهذا فكتابه (مدارج السالكين بين مقامي إياك نعبد وإياك نستعين) مع أنه تلخيص لكتاب الهروي، لكنه جعله تفسيراً فقط لمنازل إياك نعبد وإياك نستعين.

    فهذه المدارس الثلاث إذا كان الإنسان يريد أن يكون مفسراً لا بد أن يختار من كتبها ما يناسبه من المراجع فيرجع إليه في الموضوع الذي سيحضر فيه درساً وإذا استطاع الرجوع إلى هذه الكتب كلها فبها ونعمت، والكتب التي سميناها هي مختارات فقط ولا تمثل كتب التفسير كلها ولا أغلبها بل هي مختارات، وقد كان بعض أهل العلم إذا أراد أن يفسر رجع إلى ثلاثين مفسراً، فيجمع الأقوال في ذهنه، ومن رجع إليها استطاع أن يثبت المعلومات لديه، وأن يكون ما سيقدمه في الدرس بعض ما لديه فقط كما بينا في القواعد السابقة.

    وهذا النوع إذا أراد فيه الإنسان درسا متسلسلاً فإما أن يلتزم كتابا معيناً يقرأ عليه ويشرحه بما قرأ في الكتب الأخرى، وينبغي له حينئذ أن يعلم أن القرآن لم تنته معانيه عند الحد الذي بلغه أهل التفسير به، بل لابد أن يبحث هو عن أوجه الاستنباط الجديدة، وعما يتعلق بواقعه، وأن يجتهد في ذلك، ولعلنا نذكر أمثلة إن شاء الله تعالى حيث نختار بعض الآيات مما كان هو مقرراً ونتناولها من أوجه متعددة، نذكر منها ما يتصل بواقعنا وما نعيشه.

    أما إذا كان الإنسان لا يتقيد بكتاب واحد بل يفسر من تلقاء نفسه فهذا مستوىً عال راق يحتاج فيه الإنسان إلى صفاء ذهن وجودة حفظ، وإتقان لتسلسل المعلومات، ولذلك لا ينبغي أن يقدم عليه إلا من هو أهل لذلك، كما قال أبو العلاء المعري:

    أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا

    فالذي ينطلق في التفسير من خلفيته العلمية دون الارتباط بكتاب معين لابد أن يكون أعد لذلك العدة، هذا هو الوجه الأول فيما يتعلق بتحضير درس في التفسير.

    طريقة الدرس الموضوعي

    الحالة الثانية: ما يتعلق باختيار موضوعات من كتاب الله تعالى والاستنباط منها، وهذا الوجه ينبغي فيه جمع النظائر والعناية بها، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا لمن درس علوم القرآن، فالدارس لعلوم القرآن يعرف النظائر في القرآن وأوجه التقابل فيها والتقارب، فإن أهل علوم القرآن لم يتركوا وجهاً مما يتعلق بالقرآن إلا وألفوا فيه وخدموه، كل شيء في القرآن معدود، حروف القرآن معدودة، نقاط القرآن معدودة، والمصحف ما فيه من النقاط معدود، مليون وخمسة وعشرون ألفاً وثلاثون نقطة، هي ما في القرآن من النقاط، ومثل ذلك ما فيه من الفواصل، وما فيه مما يتعلق بالمواضيع المحددة مثلاً ما يتعلق بالبعث بعد الموت جاء فيه سبع مائة وسبعة وستون آية في القرآن، في إثبات البعث بعد الموت فقط، وهكذا، فالذي يريد هذا النوع من التفسير عليه أن يرجع إلى كتب علوم القرآن حتى يعرف النظائر والأشباه، وإذا انطلق من هذه الخلفية استطاع حينئذ أن يحصل هذه المعلومات في ذهنه، ويستطيع تفسير بعض القرآن ببعض، وحينئذ لن يركز على معاني الألفاظ وأوجه القراءات ونحو ذلك كما يركز عليه المفسر في الطريقة الأولى وإنما يركز على المعاني التي يريد إبرازها، كالذي يريد إبراز معنى التضحية في سبيل الله مثلاً في القرآن فيختار لذلك الآيات التي ورد فيها هذا مثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:38-41]، وقوله تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ [الصف:10-13]، فيجمع المقدم للدرس هذه الآيات، ويستنبط منها ويجعل لها محوراً تدور عليه مثل محور الترغيب ومحور الترهيب مثلاً، أو أنواع الحوافز التي أتى الله بها في كتابه للحفز على التضحية والبذل في سبيله.

    ثم محور آخر وهو أنواع البذل المطلوبة، البذل من البدن، البذل من الوقت، البذل من الجاه، البذل من المال، البذل من العلم.. إلى آخره، ويستنبطها من مجموع هذه الآيات، وحينئذ لا يبالي بدلالات الألفاظ، ولا بأوجه القراءات، ولا بما يتعلق بذلك مما يعتني به المفسر في الطريقة الأولى، وهذه الطرية تشبه ما نسميه اليوم بالمحاضرات العامة، وإن كانت هي وجهاً من أوجه دروس التفسير، وهو تقريباً ما يسمى بالتفسير الموضوعي، أو تشبه التفسير الموضوعي إلا أن التفسير الموضوعي فيه مع ذلك تعرض للجوانب السابقة.

    وعموماً سواءً اخترت الطريقة الأولى أو الطريقة الثانية عليك أن تحاول الإبداع وألا تكون من المتحجرين الذين يتقيدون باجترار آراء من سبقهم، وأن تحاول أن تأتي بجديد، وأن تتعرض لنفحات الله فأنت تريد خدمة كتابه العظيم، والله سبحانه وتعالى خص كثيراً من الذين خدموا كتابه بكثير من الفتوحات التي لم ينلها من قبلهم، فلتتعرض لذلك بإنابة وإخلاص وخشوع واحترام لما تقرأه وتفسره من كتاب الله سبحانه وتعالى فلعل الله يفتح لك بما لم يفتح به على من سبقك، ولتتذكر أن الفهم في كتاب الله تعالى كما ذكرنا من قبل نعمة ينعم الله بها على من شاء من عباده، ولا تختص بإنسان ولا بزمان، لهذا قال أحد العلماء:

    وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل

    فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل

    القضية حظوظ مقسومة، ولهذا فاستنباط علي رضي الله عنه لأقل مدة الحمل من الجمع بين قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، وقوله تعالى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14] وجه دقيق جداً اختصه الله به، فإن قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، جعلت مدة الرضاع ومدة الحمل محصورة في ثلاثين شهراً، وقوله تعالى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14] جعلت الرضاع في سنتين، فبقي من ثلاثين شهراً ستة أشهر هي أقل الحمل، ومثل ذلك استنباط مالك رحمه الله جواز إصباح الصائم جنباً من قول الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] قال: لم يترك الله وقتاً للاغتسال، قال: (فالآن باشروهن) ولم يحد ذلك إلا بقوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، فلم يترك وقتاً للاغتسال فدل هذا على جواز إصباح الإنسان جنباً، وهذا استيعاب عجيب وفهم دقيق في هذه الآيات.

    كذلك إذا أراد الإنسان أن يفسر عليه أن يراعي مستويات الحضور الذين يحضرون عنده، فلا ينبغي للذي يشتغل بالتفسير العام على الطريقة الأولى من الطريقتين اللتين ذكرنا أن يجعل ذلك درساً عاماً يحضره عوام الناس وبلداؤهم وجهالهم لأنه بذلك سيفتنهم، فيسمعهم كثيراً مما يحدث لديهم شبهات لا يستطيعون ردها، إنما يحسن بالعوام الطريقة الثانية، التي هي طريقة محاضرة عامة يورد فيها الإنسان شواهد متعددة من القرآن على معنىً من المعاني، أو قاعدة من القواعد الشرعية المسلمة، ويستنبط لذلك أوجهاً تطبيقية من واقعه الذي هو فيه يسهل على العوام إدراكها، أما ما يتعلق بجمع النصوص التي ظاهرها التعارض، وكذلك الجمع بين أوجه القراءات ونحو هذا فهذا من الدقائق التي لا يدركها العوام ولا ينبغي تحديثهم بها، ( وما أنت بمحدث قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة عليهم )، وقال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟).

    هذا أهم شيء فيما يتعلق بتحضير درس في التفسير، وإذا أراد الإنسان تطبيق ذلك كأن يكلف بدرس منهجي لمجموعة محددة عليه أن ينظر إلى مدى استيعابها وإلى مدى الوقت الذي يريد أن يقدم فيه الدرس، فإن كان الدرس مفتوح الوقت متسع الوقت فحينئذ بالإمكان أن يرجع إلى مراجع كثيرة وأن يكثر النقول والاستشهادات وأن يستطرد في المجالات العلمية المفيدة، وإذا كان الوقت محدوداً غير قابل للتمديد فحينئذ عليه أن يقتصر على الأهم، وأن يستوعب هو ما يمكن أن يعرض من الأسئلة فإذا سئل عن شيء كان الجواب حاضراً في ذهنه لأنه قد توسع في الدراسة وقرأ أكثر مما كتب.

    وفي الترتيب على الذي يفسر الآية أن يبدأ أولا بضبط ألفاظها سواء كان ذلك على مقتضى قراءة واحدة أو قراءات، وبعد ذلك يبين دلالات مفرداتها، ثم يبين إعرابها، ثم يبين معناها جملة، ثم يبين بعد هذا ما يتعلق بها من الآثار، سواءً كان ذلك في أسباب النزول أو مكان النزول المكي والمدني أو نحو ذلك، ثم يورد في الأخير ما يستنبط منها من الأحكام، وتنزيلها على واقع الناس الذي يعيشونه، وينبغي للذي يكتب في التفسير أو يقدم فيه درساً أن يتقيد بآداب التفسير، فكثير من المصطلحات يمكن أن تطلق في غير تفسير القرآن، فمثلاً إذا أردت إعراب بيت من الشعر بالإمكان أن تقول: (من) هنا زائدة أو (لا) زائدة، أو نحو هذا وإذا أردت التفسير فينبغي أن تتحرز من مثل هذه الألفاظ الاصطلاحية التي فيها نقص أدب مع القرآن، ولهذا يقول المفسرون: (من) صلة أو (لا) صلة، لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]، يقولون (لا) صلة ثم استأنف بقوله: (أقسم بهذا البلد) أو هي نفي لمحذوف وهكذا، ومثل ذلك تقدير المحذوف فعلى الإنسان أن لا يجزم بلفظ واحد في الجملة، إنما يبين المعنى كقول الله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ [ق:1] فأين المقسم عليه؟ المقسم عليه محذوف لا محالة لكن ما هو؟ يمكن أن تقول: (لتبعثن) أو هو إثبات البعث لأن كل ما جاء بعده يصب في هذا السياق والسورة جاءت لذلك، ولهذا قال بعده مباشرة: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:2-4]؛ فهذا كله لإثبات البعث بعد الموت فعلم أن المحذوف هنا هو إثبات البعث، لكن لا ينبغي أن تجزم بلفظ واحد تقول المقسم عليه هو إثبات البعث عموماً فيمكن أن يقدر ذلك بقوله: ( لتبعثن) لأن هذا اللفظ جاء في آية أخرى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ [التغابن:7].

    كذلك على الإنسان الذي يكتب في هذا الزمان في تفسير القرآن أن ينظم ذلك بطريقة منهجية، وألا يستهويه كلام السابقين، فكثير من الناس إذا درس في مدرسة تأثر بأسلوب تلك المدرسة، وينبغي للإنسان ألا يكون إمعة حتى في اتباع أهل العلم في تعبيراتهم وفي ألفاظهم، بل عليه أن يكون ذا أسلوب يتميز هو به وأن يكون ذلك الأسلوب واضحاً يفهمه الناس وألا يكون من المتقعرين، فقد ذم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقعرين المتفيهقين في الكلام، والله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، يأمره بأن يقول ذلك عن نفسه، فقد ذم التكلف عموماً، وعلى هذا فعلى الإنسان إذا كتب لأهل زمان أن يكتب بما يتناسب مع واقعه.

    ومن الذين سلكوا هذا المنهج الترتيبي من المعاصرين المراغي رحمه الله؛ فإنه بتفسيره أتى به على طريقة مدرسية منهجية فيذكر المقطع ثم يذكر بعده تفسير المفردات وأسباب النزول ثم يذكر المعنى الإجمالي وما يستنبط من الآيات، وكذلك سلك بعضه الصابوني، إلا أن الصابوني أراد تلخيص كتب سابقة فلذلك عباراته ليست عبارات معاصرة إنما هي عبارات منقولة عن من سبق ولذلك كتبه تلخيصات لكلام السابقين ويحذف كثيراً مما لا يتناسب مع هذا الوقت أو مما فيه إسهاب أو تطويل ويلخص زبدة المقصود من التفسير الذي يريد تلخيصه.

    أما تفسير الشيخ سعيد حوى رحمه الله المسمى بـ(الأساس في التفسير) فلا شك أن أسلوب الشيخ فيه متميز بين لكنه ركز على جهة التأثير الروحي في القرآن والتربية فيه؛ وبهذا فيمكن أن لا يعد تفسيراً كاملاً من كل الأوجه وإنما يركز على أمثال القرآن ومواعظه ورقائقه ونحو هذا.

    1.   

    الأسئلة

    الاستنباطات في القرآن

    السؤال: [هل يشترط للاستنباطات الاطلاع على كتب السابقين؟]

    الجواب: بالنسبة للاستنباطات لا يشترط فيها أن يكون الإنسان قد اطلع عليها من غيره بل هذا لا يسمى استنباطاً إنما الاستنباط هو ما أعمل الإنسان فيه ذهنه حتى يستخرجه من دلالة القرآن، ويجوز للإنسان أن يفعل ذلك وليس هذا من القول على الله بغير علم بل قد أمر الله بتدبر القرآن بقوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وفي قوله: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2] وحض على التدبر في كتابه ولا يمكن أن يتعارض هذا مع قوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، ولا مع قوله: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36]؛ لأن الاستنباط إعمال الذهن في تدبر آيات القرآن وما تدل عليه، وقد ذكرنا أن دلالاتها لا يمكن أن تكون محصورة على زمان وإلا لانتهى الإعجاز منها.

    أما ما لا يعلمه الإنسان فالقول فيه على الله بغير علم من أعظم الذنوب وأشدها والوعيد الوارد فيه شديد جداً كتحرج أبي بكر رضي الله عنه من تفسير (الأب) في قوله: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31]؛ لأنها ليست من لغته ولم يكن يعرف معناها فلذلك ما لا يعرف الإنسان معناه لا يحل له أن يتجاسر عليه ولا أن يتجرأ عليه.

    كتاب في ظلال القرآن

    السؤال: [الأخطاء في كتاب في ظلال القرآن]

    الجواب: بالنسبة لكتاب في ظلال القرآن مثل غيره من كتب التفسير كما ذكرنا، لا تسلم من خطأ، والذي لا خطأ فيه هو القرآن فقط أما ما سواه من الكتب فلابد أن يكون فيه أخطاء ولذلك فإن البويطي رحمه الله قال: (ناولني الشافعي كتابه فقال: خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه قلت: يا أبا عبد الله أصلحه لنا قال: كيف وقد قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] أبى الله العصمة إلا لكتابه) فكتاب الله وحده هو المعصوم أما ما سواه من الكتب فلابد أن تبقى فيها أخطاء لقول الله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، ومع هذا يكفي الكتاب أن يكون نفعه أكثر من ضرره وأن يكون صوابه أكثر من خطأه؛ فهذا كاف ولذلك يقول الحكماء:

    إذا كنت في كل الأمور معاتبا صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

    ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه

    ويقول النابغة:

    ولست بمستبق أخاً لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب

    وبالنسبة لأخطاء الكتاب قليلة جداً إذا ما قورنت بما فيه من النفع وأوجه الاستنباط الواضحة والصواب الكثير، وأكثرها تبع فيه سيد رحمه الله بعض السابقين له من المفسرين وكثير منها قد رجع عنه وأصلحه كما ذكرنا فقد أصلح الكتاب إلى سورة الحديد، أما ما بعد سورة الحديد فقد بقي فيه بعض الأخطاء لأنه لم يصلحها هو توفي قبل إصلاحها ولم يصلحها أحد، لم ينبر لها أحد على أن يصلحها على الطريقة التي فعل هو؛ ولذلك ما بعد سورة الحديد فيه بعض الأحيان تأويل بعض الصفات أو نحو ذلك من الألفاظ الموهمة التي ينقلها عن غيره من المفسرين.

    بالنسبة للذين وقعوا في مخاطرات في مجال الإعجاز إنما هم الذين جزموا بمعان غير معروفة في لغة العرب وجزموا بدلالة الآية عليها ومن هؤلاء رفاعة الطهطاوي في تفسيره "الجواهر" ومثل ذلك الغماري في "إعجاز القرآن" فقد ذكرا كثيراً من الأمور جزماً بأنها هي دلالة القرآن، القرآن يدل عليها وهي من النظريات العلمية التي في زماننا هذا بالإمكان أن يشكك فيها أصلاً، وجزما أنها المقصود بالآيات وهذا خطر وخطأ، لكن طريقة الشيخ عبد المجيد الزنداني مخالفة لهذه فلا يجزم أولاً بالطريقة العلمية وإنما يقول: إن هذه الآية أو الحديث يلمح إلى كذا أو يمكن أن يفهم منه كذا وقد جربنا ذلك فنجح وبالإمكان أن تلاحظوا التجربة ويظهر التجربة للناس أو يذكر المراجع العلمية المثبتة له، ويذكر أن أصل الفكرة أنه قرأ هذه الآية أو هذه السورة في وقت من الأوقات فلفت انتباهه الموضوع الفلاني فيها.

    تفسير ابن العربي

    السؤال: [الكلام على تفسير ابن العربي]

    الجواب: الكتاب الكبير لـابن العربي الأسلوب الذي فيه قطعاً أسلوب ابن العربي، لكن كتب ابن العربي كلها المشهور منها لا يمثلها، مثلاً كتابه "عارضة الأحوذي في شرح صحيح الترمذي " مبتورة كذلك وحذف منها كثير من الأبواب بكاملها وكثير من المسائل ومثل ذلك أحكام القرآن، و ابن العربي من طريقته أن يؤلف كتاباً كبيراً ثم يختصر منه مثل ما فعل في شروح الموطأ فقد ألف كتاباً كبيراً شرح الموطأ وسماه " المدارك في تفسير موطأ الإمام مالك " ثم لخصه بكتابه "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" وطريقته هكذا مثل طريقة الأندلسيين كلهم، الباجي أيضاً كتابه الكبير في شرح الموطأ وسماه " الانتهاء" واختصره بـ"المنتقى".

    المجاز في القرآن

    السؤال: عن القول بثبوت المجاز في القرآن، وهذا من المسائل التي تعرض أمام المفسر ويكثر الخوض فيها؟

    الجواب: أن المسائل الاصطلاحية، والألفاظ الاصطلاحية كلها يستفصل فيها فيبحث أولاً عن دلالتها لأنه لا مشاحة في الاصطلاح فإذا عرفت المعنى فاحكم عليه هل هذا المعنى صحيح أو غير صحيح، أما اللفظ فلا مشاحة فيه لأنه اصطلاح وتسمية لك الحق أن تسميها؛ ولهذا فإن أهل البلاغة يقسمون دلالة اللفظ إلى قسمين: حقيقة ومجاز؛ فالحقيقة هي اللفظ المستعمل في ما وضع له أولاً أي: في المعنى المتبادر عند إطلاقه والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا أي: في المعنى الذي لا يتبادر عند إطلاق اللفظ، ولا يكون ذلك في المفردات وإنما يكون في التركيب؛ فالمفردات كلها حقيقة والتركيب هو الذي تعرف به هل اللفظ حقيقة أو مجاز عند التركيب، ولا شك أن العرب تستعمل أساليب متنوعة في التعبير عن المعاني، هذه الأساليب سواء سميناها مجازاً أو لم نسمها مجازاً لا مشاحة في مثل هذا؛ ولهذا فالذين ينفون المجاز في القرآن يقولون.. إذا وصلوا إلى مجاز من مجازاته يقولون: هذا أسلوب من أساليب العربية، نحن ما ادعينا أن المجاز أسلوب من أساليب الإنجليزية! المجاز ما هو إلا أسلوب من أساليب العربية، وخلافنا إذاً خلاف في الاصطلاح فقط وسبب التشدد في منعه -حتى قال ابن القيم: هو أحد الطواغيت الأربعة- راجع فقط إلى أن كثيراً من المتأولين الذين يؤولون صفات الله سبحانه وتعالى يعتمدون في ذلك على حمل هذا على المجاز، ولكن ذلك لا يستقيم حتى مع قاعدة المجاز لأن المجاز يشترط له أمران:

    أولاً: القرينة التي تدل على عدم إرادة الحقيقة، ثانياً: العلاقة بين المعنيين، لابد أن تكون بين المعنيين المعنى الأصلي والمعنى الذي نقل إليه اللفظ علاقة، وهذه العلائق خمسة وعشرون علاقة معروفة في البلاغة وفي الأصول كذلك، ولابد كذلك من قرينة تدل على عدم إرادة المعنى الأصلي.

    وكذلك فالذين يعترضون على إطلاق المجاز منهم من أبعد النجعة كشيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: المجاز كذب لأنه ضد الحقيقة، فالحقيقة هي الحق وضدها مجاز ولا يمكن أن يكون الكذب في القرآن، والجواب عن هذا: أن الحق يطلق على ضد الكذب ويطلق على ما يستحقه الإنسان ويطلق على الثبوت، فتقول: لي حق على فلان، الحق الذي لك على فلان هل هو ثابت أو غير ثابت؟ لو كان الحق هنا ضد الكذب لما قلت: هل الحق ثابت أو غير ثابت؟ فالحق بمعنى المستحق الذي يمكن استحقاقه، وتقول: حق عليهم القول معناه: وقع وليس معنى ذلك: صدق عليهم القول؛ لأن القول كان صدقاً، كلام الله صدق على كل حال، حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [غافر:6] معنى (حقت كلمات ربك)؟ أي: وقعت وليس معناه أنها كانت كاذبة فتحققت معاذ الله! وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا [النساء:87]؛ فإذاً هذا مصادرة لأنه لا يقصد بالحقيقة لدى أهل البلاغة الصدق حتى يكون ضدها الكذب وإنما يقصد بها ما تقرر عليه وضع اللفظ أي: ما وقع عليه اللفظ وليس المقصود كذلك ما توهمه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين ذكر أن البحث في الحقيقة والمجاز مقتض من الإنسان أن يحضر وضع اللغة أصلاً حتى يعرف لأي معنى وضع اللفظ؛ فيقول: هل حضرتم وضع المعاني حتى عرفتم أن الأسد في الأصل يطلق على الحيوان المفترس لا على الرجل الشجاع؟ الجواب عن هذا أنه لا يقصد بذلك الوضع التاريخي وإنما يقصد به الأسبقية في الذهن فقط، أول ما يتبادر إلى ذهنك وأنت من أهل اللغة إذا سمعت كلمة (أسد) ما هو؟ الذي يتبادر إلى ذهنك هو الحقيقة والذي يدل عليه هذا اللفظ دون أن يتبادر إلى ذهنك فهو المجاز، وحينئذ كان الاعتراض في غير موضعه، وعلى هذا فلا مانع أبداً من إثبات المجاز في القرآن كما تثبت فيه الحقيقة ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله حين سأل عن قول الله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] قال: هذا من مجاز اللغة، حيث جمع العين فقال (بأعيننا) ولا يقتضي ذلك إثبات الأعين لله سبحانه وتعالى بصيغة الجمع.

    ولا يمكن أن تقول مثلاً: لا يدخل المجاز في آيات الأسماء والصفات؛ لأن هذا مصادرة أيضاً غير صحيح بل يدخل المجاز في آيات الأسماء والصفات لكنه يدخل على وجه لا يقتضي تأويلها على غير المراد مثل قول تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، هذه آية من آيات الصفات وقطعاً فيها مجاز وهو قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ [الشورى:11]؛ لأنه أتى بأداتي تشبيه الكاف و (مثل) ولا يمكن أن يكون المعنى: (ليس مثل مثله شيء) هذا لا يمكن أن يحمله عليه عاقل، بل هو مجاز والمقصود بذلك (ليس مثله شيء) هذا النوع يسمى المجاز بالزيادة.

    وكذلك فيما ذكرنا في: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]؛ فأثبت لنفسه عيناً في هذه الآية، وفي هذه الآية جاء الجمع وقد حمله الإمام أحمد وغيره على أن الجمع مجاز؛ لأنه لا يحسن أن يضاف المفرد إلى الضمير الذي يدل على الجمع وهو (نا) فلو قال: (تجري بعيننا) أو (بعينينا) لكان هذا مستبشعاً في اللفظ فلذلك حسن في اللفظ أن يقال: (بأعيننا)، مثل قوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]، ومثل قولك: قطعت رؤوس الكبشين، على القاعدة المعروفة في اللغة.

    الكلام على تفسير الشوكاني

    بالنسبة للشوكاني رحمه الله تفسيره يمكن أن يكون جامعاً بين مدرستين كما سماه هو؛ ولهذا فإنه يذكر الرأي أولاً ثم يذكر الآثار في آخر تفسيره للمقطع الذي يفسره؛ وبذلك فهو من الكتب النافعة لو قرر تدريسها، ولكنه يحتاج إلى أن يحكم الإنسان على الآثار التي يوردها لأن الشوكاني يعتمد فيها على السيوطي اعتماداً مطلقاً ولا يحكم على شيء منها، وإنما ينقل كلام السيوطي كما هو، وكذلك في الرأي يعتمد على القرطبي اعتماداً كاملاً في تفسير المفردات والاستنباط وبعض المسائل الفقهية التي تعرض لها مع أنه لم يكثر كثيراً من المسائل الفقهية وكذلك في أوجه القراءات مع أن القرطبي توسع في نسبة القراءات إلى ذويها والشوكاني لم يفعل ذلك رحمه الله، بل اعتمد قراءة نافع فتفسيره كتب معه القرآن بطريق الأصفهاني عن ورش عن نافع وقد كانت طريق الأصفهاني مقروءً بها في اليمن ذلك الوقت وقد اندرست اليوم فنحن نقرأ بـورش ولا نعرف طريق الأصفهاني إنما نقرأ بطريق أبي يعقوب الأزرق عن ورش وبينهما فروق كثيرة جداً، ولذلك إذا قرأ الإنسان المصحف المكتوب مع تفسير الشوكاني وبالأخص الطبعات القديمة قبل أن يغيره الطابعون ربما استشكل بعض الكلمات أو كتابتها لأنها على رواية ورش بطريق الأصفهاني.

    العناية بطبعات التفاسير

    بالنسبة للعناية بالطبعات في كتب التفسير من الأمور المهمة جداً لأن كثيراً من كتب التفسير قد مسخت بالطباعة التي طبعت بها؛ فالبتر والتحريف وتغيير الكلمات كثير جداً؛ ولهذا فعلى الإنسان أن يختار الطبعات وإن استطاع أن يقارن بين طبعتين فأكثر فهذا أجود؛ ولذلك فإن أهل الحديث منعوا أن يقرأ الإنسان في كتاب لم يقابل على أصول خطية موثوق بها وحرموا ذلك في الحديث، ونظيره في التفسير، والنووي رحمه الله قال: على أصل واحد قال العراقي: قال النووي: أصل فقط، قال: إذا كان لديه أصل موثوق فيه بلاغات وسماعات فيمكن أن يقابل عليها، على أصل واحد، فيكفيه ذلك لكن ابن الصلاح وغيره رأوا أنه لابد من عدة أصول، ومن هنا فالطبعات لهذه الكتب لابد من الاختيار فيها، بالنسبة لـابن جرير الطبري خير طبعاته الطبعة التي خدمها الشيخ أحمد شاكر رحمة الله عليه قد خدمها من الناحية الحديثية مع أنه لم يتعب نفسه كثيراً فيما يتعلق بالقراءات واللغة مع أنه هو لا بأس به في اللغة ومع ذلك فلم يكمل الكتاب رحمة الله عليه، وفي الطبعات الأخرى كثير من الأخطاء هذا لابد من مقارنة الطبعات.

    وكذلك تفسير ابن كثير فإن له حوالي أربع عشرة طبعة في المكتبات اليوم، وأكثرها لا تخلو من أخطاء ومن أضعف هذه الطبعات طبعة دار الكتب العلمية وطبعة دار الشعب في مصر ففيهما كثير من التحريف والسقط وغير ذلك، والذي يريد الرجوع إلى تفسير من هذه التفاسير لابد أن يتوثق من مقارنة بين الطبعات.

    وأما تفسير ابن أبي حاتم وتفسير البغوي وتفسير النسائي فهذه قد حققت في رسائل علمية؛ فعلى الأقل حكم على أحاديثها ومع هذا لا تخلو من أخطاء طباعية ويبدو أن الخطأ الطباعي سمة المطبوعات في زماننا هذا، إذا قرأ الإنسان الصفحة قل ما يجد صفحة خالية من الأخطاء.

    وكذلك تفسير القرطبي خير نسخه النسخة التي حققها إبراهيم أطفيش ورفقاؤه هي الطبعة القديمة وهي أحسن الطبعات وأدقها.

    وبالنسبة لتفسير ابن عطية قد طبع طبعتين، الطبعة مشتركة بين قطر والمغرب والطبعة الجديدة التي في خمس مجلدات والطبعة القديمة خير من الجديدة، وكذلك تفسير أبي حيان طبع ثلاث طبعات ومن أحسنها التي هي في ثمان مجلدات خرج بعض أبياتها وشواهدها، وكذلك تفسير الرازي طبع طبعتين كلتاهما فيها أخطاء وينبغي الاعتماد على النسخة القديمة فيه وقد بينا من قبل أن الطبعة الأولى من الظلال فيها أخطاء فادحة وأن المؤلف أصلحها إلى سورة الحديد فالطبعات التي طبعتها دار الشروق أحسن من الطبعات القديمة، طبعة دار الشروق هي أحسن طبعاته، وهكذا في بقية التفاسير لابد أن يعتني الإنسان باختيار النسخ وإن استطاع مراجعتها على مخطوطات أو على الأقل مقابلة عدة أصول مطبوعة فسيتبين له كثير من الأخطاء الفادحة التي فيها.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    765173037