إسلام ويب

شرح متن الرحبية [13]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عادة أهل الفرائض أن يفصلوا مسائل الجد والإخوة عن مسائل الحجب، وإن كانت منها؛ لأن لها أحكاماً مختصةً، وذلك للاضطراب الحاصل في توريث الإخوة مع الجد، فلم يرد في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر للجد في التركة، وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من العلماء في توريث الإخوة مع الجد على قولين: الأول: أنهم لا يرثون. والثاني: أنهم يرثون، وعلى القول بتوريثهم فلهم أحوال متعددة مع الجد في كيفية التوريث ما بين المقاسمة والسدس وثلث الباقي.

    1.   

    أحوال ميراث الجد مع الإخوة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    كنا نتكلم في مسائل الحجب، وعادة أهل الفرائض أن يفصلوا مسائل الجد والإخوة عن مسائل الحجب، وإن كانت منها؛ لأن لها أحكاماً مختصةً، وذلك للاضطراب الحاصل في توريث الإخوة مع الجد، فلم يرد في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر للجد في التركة، وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في توريث الإخوة معه، فذهب أبو بكر الصديق إلى أن الجد أب، فلا يورث معه أحداً من الإخوة، وهذا المذهب مروي أيضاً عن عدد من التابعين، وبه أخذ أبو حنيفة، وأحمد في رواية عنه، وهو قول لبعض الشافعية.

    والقول الثاني: توريث الإخوة مع الجد، وهو الثابت عن علي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وغيرهم من الصحابة، وقد روي أيضاً عن عدد من التابعين، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، وهو رواية عن أحمد صححها بعض أصحابه، والرواية الأولى هي اختيار ابن تيمية، وابن القيم؛ الرواية الأولى عن أحمد هي اختيار ابن تيمية، وابن القيم.

    أما القول الأول بعدم توريث الإخوة مع الجد، فأصحابه يستدلون بأن الجد أب؛ لأن الله يقول: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، ويقول: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ [يوسف:38]، فهؤلاء آباء مع أن الأب منهم واحد، وهو يعقوب، -وإبراهيم، وإسحاق، كلاهما جد لا أب- ولكن يجاب عن هذا بأن العم أيضاً يطلق عليه أنه أب، والإجماع منعقد على أنه لا ينزل منزلة الأب بين الجميع، والخال -أيضاً- ورد في الحديث أنه أب ( الخال والد، والرب شاهد )، فهذه الأبوة لا يقصد بها الأبوة في الميراث.

    وأما الذين يورثون الإخوة معه، فإنهم يعتمدون أساساً على القياس، فقد حصلت هذه النازلة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد مات أحد أولاده، وهو أحد عوابد الرحمن في حياته، فـعمر له ثلاثة، كل واحد منهم اسمه: عبد الرحمن، أولاده تسعة هم: عبد الله، وعبيد الله، وعاصم، وزيد، وزيد الثاني، وعبد الرحمن، وعبد الرحمن، وعبد الرحمن، وعياض، فأحد عوابد الرحمن توفي في حياته، فترك ثلاثة أولاد، فمات أحدهم، فأراد عمر أن يرثه دون أخويه، فرد عليه الصحابة في ذلك، فقال: كيف أكون له أباً يرثني دون إخوتي، ولا يكون لي ابناً أرثه دون إخوته؟ فاصطلح معه عبد الرحمن بن عوف على المقاسمة، على أن يجعل نفسه كالأخوين، فيورث هذا الولد عن التثليث، فالجد له ثلث، والأخوان كل واحد منهما له ثلث، وقد ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، في ميراث الجد أخرجه أبو داود، والترمذي، وصححه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم، أتاه جد، فسأله عن فرضه من ميراث ابن ابنه؟ فقال: السدس، فلما أدبر دعاه، فقال: والسدس أيضاً، فأعطاه سدساً أيضاً، فلما أدبر دعاه فقال: والسدس الثالث طعمة )، معناه: أنه هدية من النبي صلى الله عليه وسلم له، وهذا يقتضي أنه ورث في البداية سدساً، ثم ورث ثلثاً، ثم أعطاه سدساً آخر تكملةً للنصف، وليس ميراثاً، وإنما هو طعمة، وحمل ذلك الذين يرون بيت المال جهةً من جهات الورثة، على أن هذا الميت ليس له من الورثة إلا هذا الجد، وباقي ماله لبيت المال؛ فلذلك أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، منه تمام النصف طعمةً، أعطاه السدس المكمل للنصف طعمة.

    وقد جاء عن السلف كثير من التحذير من الإفتاء، والقضاء في مسألة الجد والإخوة، فعن علي رضي الله عنه: (من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليحكم بين الجد والإخوة).

    من أراد أن يقتحم، الاقتحام، معناه: الدخول عنوةً، وذلك عبارة عن الدخول بقوة وسرعة، جراثيم جهنم، الجراثيم معناه: الأصول، جرثومة الشيء، معناه: أصله، جرثومة المجد، معناها: أصل المجد، والمقصود بذلك أن يقتحم أصل جهنم، معناه: أن يصل إلى قعرها.

    أصل هذا التحذير أن الله يقول: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

    فالذي يحكم بين الجد والإخوة، يقول على الله ما لا يعلم في رأي علي رضي الله عنه، والذي يقول على الله بغير علم قد اقتحم نهياً عظيماً؛ لأن الله ربطه بالشرك وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

    وجاء عن عدد من الصحابة التحذير من هذه المسألة أيضاً، وبيان خطرها، وأن أجسر الناس عليها أجرؤهم على النار، جاء ذلك في الفتيا مطلقاً، وجاء في الفتيا في مسألة الجد والإخوة بالخصوص، وعموماً فالذين رأوا توريث الإخوة مع الجد من الصحابة، وهم علي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود لم يتفقوا، فـعلي له طريقة في التوريث، وزيد له طريقة في التوريث، وابن مسعود جمع بين الطريقتين، فكانت مذاهب الصحابة الذين ورثوا الإخوة مع الجد في طريقة التوريث على ثلاثة مذاهب، سنبينها إن شاء الله تعالى، ولذلك فيمكن أن تقول: إن مذهب الجمهور هو توريث الإخوة مع الجد عموماً، وأن المذهب الأول الذي هو عدم التوريث أيضاً له وجود في المذاهب كلها، ما عدا المالكية، فهو مذهب أبي حنيفة، وهو رواية عن أحمد، أخذ بها ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب من المتأخرين،، وهي كذلك قول لبعض الشافعية.

    والتوريث هو مذهب مالك، والصاحبين: أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعي، وهو رواية عن أحمد صححها بعض أصحابه: كـالمرداوي في الإنصاف، وغيره، فلذلك لا بد من الانتباه لهذه المسألة، وهي مسألة الجد، والإخوة، وبيان ما فيها من الخطر، وقد أشاد المؤلف رحمه الله بهذه المسألة، فعقد لها باباً مستقلاً، فقال: ( باب الجد والإخوة )، والمقصود بالجد هنا هو: الجد الصالح أو الصحيح، وهو غير المفصول بأنثى، فالجد المفصول بأنثى؛ كأبي الأم، وأبي أم الأب، وأبي أم الجد لا يرث إجماعاً، فلا دخل له في هذه المسألة، فالجد هنا المقصود به الجد الصالح، وهو غير المفصول بأنثى، ويسمى الجد الصحيح.

    والإخوة المقصود بهم الإخوة الأشقاء أو لأب، والنسب كله للميت كما تعلمون في الفرائض، فلا يدخل فيهم الإخوة لأم فإنهم محجوبون بالجد قطعاً إجماعاً، فالإخوة بالأم لا يحجبون مع أصل، ولا فرع؛ لأنهم لا يرثون إلا في الكلالة، فالإخوة إذاً هم الإخوة الأشقاء أو لأب، ولا يدخل أيضاً أبناء الإخوة، سواءً كانوا أشقاء أو لأب، فإنهم جهة أخرى عند الجمهور خلافاً لـأبي حنيفة، فقد سبق أن أبا حنيفة يعد جهات التعصيب خمساً فقط، ويجعل الجد داخلاً في الأب، ويجعل بني الإخوة مع الإخوة، وهذا فائدة الحذف الذي انتهجه أبو حنيفة، فائدة ما سبق في عد الجهات: أن أبا حنيفة يرى الجد كالأب تماماً، فلذلك يرى أنه كالأب فيما يتعلق بحجب الإخوة، ويرى أن بني الإخوة مع الإخوة جهة واحدة، فلذلك لا يرثون مع الجد، والجمهور يعدون الإخوة مع الجد جهةً واحدةً في التوريث، ويعدون بني الإخوة جهةً مستقلة، ويستثنى من تشبيه الجد بالأب ما إذا ورث مع الأم، فإذا هلك هالك عن أم وجد، فإن الأم ترث الثلث، والجد يعصب فيرث ما بقي، وإذا كانت المسألة فيها إخوة، فيحجبون الأم من الثلث إلى السدس، ويرث معهم الجد عند من يورثه، فقال المؤلف في ذلك:

    (ونبتدي الآن بما أردنا في الجد والإخوة إذ وعدنا)

    ونبتدئ الآن، الجملة معطوفة على سابقتها بالواو، ونبتدئ الآن، وهي جملة فعلية للتجدد، والحدوث، والآن؛ أي: في هذا الظرف الذي نحن فيه، بما أردنا في الجد والإخوة، معناه: بما أردنا بيانه في الجد، والإخوة معناه: في توريث الجد، والإخوة، إذ وعدنا، (إذ) إما أن تكون تعليليةً، وإما أن تكون ظرفاً، فـ (إذ) تأتي ظرفاً للماضي، وتأتي حرف تعليل، فإذا كانت ظرفاً فهي اسم يضاف إلى الجملة، وهي تضاف -كما تعلمون- إلى الجمل الاسمية والفعلية معاً، بخلاف إذا؛ لأنها مختصة بجمل الأفعال.

    إذ وعدنا، إما أن يكون المعنى: لكوننا وعدنا بذلك؛ لأنه قد ذكر في أكثر من موضع، أحال إلى قضية الجد والإخوة، أو أن يكون المعنى: حين وعدنا، فهذا الحين هو الذي وعدنا فيه بالحديث عن الجد والإخوة.

    (فألق نحو ما أقول السمعا)

    معناه: (فألق): سمعك، (نحو)؛ أي: جهة (ما أقول)، والسمع في الواقع لا يحتاج إلى جهة؛ لأن ما ذكره المفسرون في حكمة تقديم السمع على البصر في القرآن في عدد من المواضع أن السمع يتعلق بالجهات الست بخلاف البصر، فيختص بجهة واحدة، فالسمع قدم على البصر في عدد من الآيات سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2]، السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78]، وفي غير ذلك، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مريم:38]، عدد من الآيات يبدأ فيها بالسمع قبل البصر، فذكر المفسرون من حكمة ذلك أن السمع يتعلق بالجهات الست، وأن البصر يختص بجهة واحدة، فالبصر يحتاج فعلاً إلى إلقائه بما تنظر إليه، والسمع لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه يتعلق بالجهات الست كلها.

    ونحن ذكرنا أنه في أغلب الأحيان في القرآن يقدم السمع على البصر، وفي بعض الأحيان يقدم البصر على السمع.

    (فألق نحو ما أقول السمع)، لكنه استعار بذلك عن الانتباه، فهو استعارة للانتباه، معناه: انتبه لما أقول، و(أل) التي في قوله: (السمع) هي خلف عن الضمير، معناه: ألق نحو ما أقول سمعك، فـ(أل) التي هي خلف عن الضمير، تأتي قبل الاسم الذي كان مضافاً للضمير، فيعرف بها، ويعوضه ذلك عن الإضافة تعريفاً آخر، مثل ما جاء في حديث أم زرع: ( زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب )، معناه: زوجي مسه مس أرنب، وريحه ريح أرنب، ولهذا تقرءون في سورة النور في آيتين متواليتين، في آية وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ [النور:59].

    والآية الأخرى التي بعدها (الآيات).

    الأولى (الآيات)، والثانية (آياته)، فالأولى: الآيات يعني التي فيها خلف عن الضمير، والثانية: جاء فيها الضمير، مما يدل على صحة التقدير، فمن صحة التقدير النطق به في بعض الأحيان، أن ينطق بالتقدير في بعض الأحيان.

    (واجمع حواشي الكلمات جمعاً)، واجمع حواشي الكلمات، الحواشي، معناه: الأطراف، وهي في مصطلح أهل الفرائض تطلق على الإخوة، والأعمام، فهم الحواشي، معناه: الوارث الذي ليس أصلاً، ولا فرعاً هو الذي يسمى بالحاشية، كالأخ، والأخت، والعم، وابن العم.. إلى آخره، هؤلاء هم الوارث الذي ليس أصلاً، ولا فرعاً، وليس زوجاً، من ليس زوجاً، ولا أصلاً، ولا فرعاً، ولا معتقاً، هذا الذي يسمى حاشية، وارث النسب الذي ليس أصلاً، ولا فرعاً، من يرث بالنسب، وليس أصلاً، ولا فرعاً هو الحواشي، لكن هنا إنما يطلق بالحواشي أطراف الكلام معناه: أستذكر محترزات الكلمات، فكل مثال يذكره أو كل صورة يذكرها فلها محترز، وهو ما يقابلها.

    وقد تفنن الفرضيون في مسألة الجد، والإخوة، فيحاولون حصر الاحتمالات، فيوصلون بعض الاحتمالات إلى اثنتين وسبعين صورةً، وبعض الاحتمالات يقولون: في غير محصور، وبعض الاحتمالات يوصلونه إلى اثنتي عشرة صورةً، وبعضها إلى أكثر من ذلك.. إلى آخره.

    (واجمع حواشي الكلمات جمعاً)، الكلمات معناه: كلماتي أيضاً التي أقولها هنا، اجمعها جمعاً، وهذا مما يرشد به الطالب دائماً أن يجمع حواشي الكلمات، وأهل الحديث يقولون:

    قمش إذا قرأت قمش قمش فتش إذا حدثت فتش فتش

    قمش إذا قرأت، معناه: في حال قراءة الحديث اجمع الطرق، والأطراف، وفي حال التحديث فتش؛ لأن كثيراً منها يكون ضعيفاً أو موضوعاً، وأنت إنما أردت به عند القراءة الجمع، وعند التحديث لا بد من الاحتياط؛ ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: الأدب أن تكتب أحسن ما سمعت، وأن تحفظ أحسن ما كتبت، وأن تحدث بأحسن ما حفظت، فهذا التدرج بالانتقاء؛ أن تكتب أحسن ما سمعت، وأن تحفظ أحسن ما كتبت، وأن تحدث بأحسن ما حفظت، الانتقاء فيه مراتب، وقد أرشد أحد المشايخ ولده عندما أرسله للعلامة محمد علي بن سيدي بن سعيد، ولقبه المشهور (معي)، لقبه المشهور محمد علي بن سيدي بن سعيد لقبه المشهور (معي)، وقد ذكر هو عن نفسه أن ابن مالك سماه في الألفية؛ لأن ابن مالك يقول:

    ومع مع فيها قليل ونقل فتح وكسر لسكون يتصل

    الكسر إذا اتصل به للسكون تقول: معي القوم، فهذه معي، هذا اسمه هو، كان نحوياً، فقال: إن ابن مالك سماه في الألفية عندما قال: ونقل فتح فكسر لسكون يتصل، هذا الشيخ يقول لولده:

    لمعي الهمام اللوذعي الألمعي سر واجمعن علومه في مجمع

    وكن الوعاء لما يفوه معي به لا تفلتنك كلمة من في معي

    ثم يخاطب الشيخ فيقول:

    ولقد بعثت إليكم ريحانةً لي في تشممها المنى ولمن معي

    يوصيه أيضاً على التلميذ، وهذه عادة بعض الآباء في المحاضر عندنا هنا، أن يوصوا المشايخ بأولادهم مثلما فعل أبو مدين رحمة الله عليه لما أرسل أولاده للشيخ محمد علي رحمة الله عليه يوصي مع كل واحد منهم بقصيدة، مثلاً يقول في يعقوب:

    أتاك يطلب منك العلم يعقوب والعلم منك بهذا القطر مطلوب

    والعلم قسمان قسم منه مكتسب يلفى لديكم، وقسم منه موهوب

    وكل هذين من فضل الإله إذا جنا بحضرتك الغراء منسوب

    فاردده بالفور مصحوباً بحاجته فالفور عند نفوس الناس محبوب

    وإن في رده بشرى تسر كما برد يوسف ...... يعقوب

    ويقول في إسحاق:

    قل للمدرس نبراس الدجى النبه إسحاق جاءك للتدريس فاعن به

    إسحاق لن يرضى إلا ما رضيت له فأنت أولى به إذ ذاك من أبه

    فاملأ مسامعه نصحاً وتذكرةً وامنعه من قرناء السوء والسفه

    وأنزل الناس إن جاءوا منازلهم ليس الشريف مع الأدنى بمشتبه

    فلذلك المؤلف أيضاً ينصحك بجمع حواشي الكلام؛ لذكر المحترزات، وبيان ما تسقطه مثل ما ذكرنا بالأمس في المشتركة أن لها محترزات، فإذا جعلت ذات الثلث بدل ذات السدس خرجت عن الاشتراك، وإذا جعلت أخت واحدة بدل الأخ الشقيق، أو بدل الأخوين الشقيقين أو الإخوة الأشقاء كانت صاحبة فرض، فلم تكن تدخل في المشتركة أصلاً، كانت صاحبة فرض ترث النصف..، وهكذا.

    كذلك إذا كان في المسألة أختان شقيقتان، فهما صاحبتا فرض ترثان الثلثلين.. وهكذا.

    (واعلم بأن الجد ذو أحوال أنبيك عنهن على التوالي)

    (واعلم بأن الجد ذو أحوال)، من نصيحته لك أن تعلم أن الجد له أحوال مع الإخوة؛ لأنه إما أن يكون الأحظ له أن يقتصر على السدس، وهو لا ينزل عن السدس أبداً، لا يكون نصيبه أقل من السدس، وإما أن يكون الأحظ له المقاسمة؛ أن يعد نفسه كأحد الإخوة، وإما أن يكون الأحظ له أن يعطى ثلث ما بقي بعد أصحاب الفروض، وإما أن يكون الأحظ له أن يرث الثلث إذا لم يكن في المسألة صاحب فرض، ورث هو مع الإخوة ثلث رأس المال ثلث المسألة بكاملها، فهذه أحوالهم، لكن هذه الأحوال الأربعة لا تجتمع أبداً، لا بد أن يكون فيها ثلاثة فقط، لا يمكن أن يقع التخيير بين الأحوال الأربعة في مسألة واحدة؛ لأنه إن كان معه صاحب فرض خير بين الثلاثة بين الأحظ له من المقاسمة، والسدس، وثلث الباقي، وإن لم يكن فيها صاحب فرض خير بين الأحظ له من ثلاثة أيضاً، هي المقاسمة، والسدس، والثلث، ثلث المسألة.

    (اعلم بأن الجد ذو أحوال أنبيك عنها)، أصل الكلام: أنبئك عنها، بالرفع، ولكن بما أن الهمزة صعبة النطق، والهمز في النطق به تكلف، كما قال ابن بري رحمه الله:

    والهمــــز فــــي النطــــق بـــه تكـــلف فســـــــــهلوه تـــــــــارة وحـــــــــذفوا

    وأبدلـــــــوه حــــــرف مــــــد محضــــــا ونقلـــــــــوه للســـــــــكون رفضـــــــــا

    ولذلك يصعب النطق بقوله: أنبئك عنها، فأبدل الهمزة ياءً، وحينئذ؛ لأن الياء سبقتها كسرة، فسكنت؛ ولأن الضمة لا تثبت عليها، سكنت الياء فصارت مدّاً للباء التي قبلها، قال: (أنبيك).

    فالهمزة سقطت، أبدلت ياءً، والياء لا تثبت عليها الضمة، والهمزة كانت متحركة بضمة، وأبدلت الهمزة ياءً، ولا تثبت الضمة على الياء. و استثقلت الضمة فسكنت الياء، فإذا سكنت، وقبلها كسرة، فإنها تكون مدّاً لها.

    (أنبيك عنهن) عن هذه الأحوال ( على التوالي )، ما هي هذه الأحوال؟

    (يقاسم الإخوة فيهن إذا لم يعد القسم عليه بالأذى)

    (يقاسم الإخوة) معناه: فيكون كأحدهم، (إذا لم يعد القسم عليه بالأذى)، إذا كان القسم لا ينقص نصيبه؛ بأن كان معه أخوان فقط في المسألة مثلاً، فيكون هو مع الأخوين كأحدهما، فتكون التركة مقسومة بين ثلاثة بالتساوي، فلا يعود ذلك عليه بالأذى، فهو أفضل له من السدس، وهو مساوٍ للثلث، مقاسم ومساوية للثلث، ولأهل الفرائض صور في هذا؛ لأنه قد يكون الأحظ له السدس فقط، وقد يكون المقاسمة، وقد يكون الثلث، وقد تجتمع المقاسمة تستوي بالثلث، قد تستوي بالسدس، وقد تستوي المقاسمة بثلث الباقي، وقد تستوي الثلاثة: المقاسمة، والسدس، والثلث.

    هذه الاحتمالات السبعة التي يذكرونها سنبينها إن شاء الله في مسائلها.

    (وتارةً يأخذ ثلثاً كاملاً)، وتارةً يأخذ ثلثاً؛ أي: يأخذ ثلث المال كاملاً، والأصل أنه ليس صاحب فرض من الذين يرثون الثلث، فقد سبق أن الثلث يرثه اثنان: الأم عند عدم وجود الفرع الوارث، والعدد من الإخوة، والإخوة لأم عند التعدد، ولم نذكر ذلك، لكن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أعطاه سدسين، أعطاه سدساً، ثم أعطاه سدساً، فالذين يرون أن السدس الأول هو سهمه يرون أنه وارث للسدس، هذا ميراث الجدة دائماً، كما ذكرنا في عَدّ أصحاب الفروض، فقد عددنا الجدة في الذين يرثون السدس، والذين يعتبرون أن السدس الثاني مع السدس الأول فرض له، يرون أنه يرث الثلث في هذه الحالة، فلذلك قال: ( فتارةً يأخذ ثلثاً كاملاً إن كان بالقسمة عنه نازلاً )، إن كان بالقسمة عنه نازلاً، معناه: إذا قاسم الإخوة نزلوا به عن الثلث، فإن كان الإخوة الذين معه ثلاثةً، فإذا قاسمهم كان له الربع، فيأخذ الثلث، ويترك ما بقي للإخوة الثلاثة يقتسمونه فيما بينهم.

    (إن لم يكن هناك ذو سهام)، محل ما ذكر إذا لم يكن هناك ذو سهام، معناه: ذو فرض، فإن كان في المسألة ذو فرض، فإنه لا يرث الثلث، وإنما يرث السدس، أو يقاسم، أو يأخذ ثلث ما بقي، ثلث الباقي.

    (إن لم يكن هناك ذو سهام فاقنع بإيضاحي عن استفهام)

    فاقنع بإيضاحي، اقنع معناه: اتصف بالقناعة، والقناعة رضا النفس، ويقال: قَنِعَ: إذا رضيت نفسه، ويقال: قَنَعَ: إذا طمع، قَنَع معناه: كان صاحب طمع، وقنِع بالكسر: إذا كان صاحب قناعة، بينهما ضد، ولذلك يقول الشاعر:

    العبد حر إن قنِع والحر عبد إن قنَع

    فاقنع ولا تقنع فما شيء يشين كالطمع

    اقنِع، المأمور بها من قنع بالكسر، والمنهي عنها من قنع بالفتح، بمعنى: طمع.

    بالنسبة للثلاثي لا يقاس مصدره دائماً، لكن غير الثلاثي هو الذي يقاس مصدره، وغير ذي ثلاثة مقيس مصدره.

    (فاقنع بإيضاحي)، معناه: بالإيضاح الذي أوضح به المسائل ( عن استفهام )، والاستفهام: طلب الفهم، فيمكن أن يكون المصدر هنا مضافاً إلى فاعله، ويمكن أن يكون مضافاً إلى مفعوله، ويمكن أن يكون مقطوعاً عن الإضافة، يكون عن استفهام، أو عن استفهامك لي، أو عن استفهامي بمعنى: طلبي الإفهام، فإنني أوضح ذلك، وتوضيح الواضحات من الفاضحات، فلا يحتاج إليه الإنسان؛ لأنه -الأمر الواضح- لا يحوج إلى استفهام؛ ولذلك قال: (فاقنع بإيضاحي عن استفهام).

    إما أن يكون المصدر مقطوعاً عن الإضافة، عن استفهام نكرة، معناه: استفهام مطلقاً لا تسأل، وإما أن يكون مضافاً، فالمضاف حينئذ مضاف إلى الياء ياء المتكلم، وحينئذ إما أن تكون الياء المقصود بها عن استفهامي، لأن استفهامي بمعنى: أنا أستفهمك أنا، لا تحوجني إلى ذلك، فإيضاح لك فيه يغني عن الامتحان، وإما أن يكون عن استفهامك لي طلبك أن أفهمك، فالاحتمالات ثلاثة فقط في اللفظ.

    (وتارةً يأخذ ثلث الباقي)، وتارةً يأخذ؛ أي: الجد؛ أي: يستحق ثلث الباقي؛ أي: ثلث ما أبقت الفروض، (بعد ذوي الفروض والأرزاق)، الأرزاق هذا عطف تفسير، فالعطف الأصل فيه أن يدل على المغايرة، إذا أتاك حرف عطف، فما بعده مغاير لما قبله على الأصل، مثل قول الله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فالأمر هو القرآن، وقد عطف على الخلق، فدل ذلك على أن القرآن غير مخلوق، لكن قد يأتي العطف تفسيراً عطف تفسير، والأصل أن حرف التفسير هو ما يتبع بعده الأجلى للأخفى، وهو: أي، وأن، ونحوهما، فتقول: عسجد؛ أي: ذهب، وغضنفر؛ أي: أسد، وهذا الذي يقول فيه الشيخ محمود بابا رحمة الله عليه: أي حرف تفسير كعندي عسجد؛ أي: ذهب وخادر؛ أي: أسد، تفسير الخادر بالأسد، وهو ما يتبع بعده الأجلى للأخفى، ومثل ذلك أن، لكن (أن) حرف تفسير للجملة، وأي: حرف تفسير للمفرد، فتقول: أشرت إليه أن افعل كذا، فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً [مريم:11]، (أن) هنا حرف تفسيري، معناه: وحيه إليهم، إشارته إليهم، تفسيرها: (أن سبحوا بكرةً وعشياً)، و(سبحوا) بمعنى: صلوا، أقيموا الصلاة، فقد شغل هو عنهم، وختم على لسانه مدة ثلاثة أيام لا يتكلم، وهذه آية بشارته بيحيى عليهما السلام.

    لكن قد يأتي حرف العطف غير التفسيري دالاً على التفسير، وحينئذ يسمى ذلك في عرف أهل البلاغة بالحشو غير المخل، وهو يكثر في الأسلوب الخطابي، فالأسلوب الخطابي تكثر فيه المترادفات، ويعطف بعضها على بعض؛ لأنه يقصد به جزالة اللفظ وقوة التأثير على الناس، فالخطيب إذا حاول التنفير من أمر، بالغ فذكر المترادفات تباعاً، وإذا حاول الحض على أمر، بالغ فذكر المترادفات تباعاً أيضاً، وهذا الذي يسمى سحر البلاغة؛ لأنه يؤثر في سامعه تأثيراً شديداً، فيبكي الإنسان إذا اتعظ، ويضحكه إذا عجب..، وهكذا، ولهذا يقولون:

    تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تعب قلت ذا قيء الزنابير

    مدح وذم وذات الشيء واحدة سحر البيان يري الظلماء كالنور

    ( والنبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه وفد تميم فسأل عمرو بن الأهتم الزبرقان أن يعرفه عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأثنى عليه بما يعرفه، فغضب عمرو، وقال: يا رسول الله، والله لقد عرف في أكثر مما قال، ولكنه حسدني، فعابه الزبرقان بما يعرف أيضاً، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى احمرت عيناه حين تناقض الزبرقان في كلامه في مشهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحضرته، فقال الزبرقان: يا رسول الله، والله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية، ولكني رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت سوء ما علمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً ).

    فهذا بمثابة السحر؛ لأنه رضي، فقال أحسن ما علم، وغضب، فقال أسوأ ما علم، ولم يكذب في الأولى، وصدق في الثانية، فهذا سحر في الواقع.

    ومن هذا النوع قول الشاعر:

    فقددت الأديم لراهشيه فألفى قولها كذباً وميناً

    فالمين هو الكذب تماماً، وعطفه عليه إنما هو زيادة تحذير منه، وتحقير له، ونظير هذا ما تقرءون في الجرح والتعديل أن ألفاظ التعديل أرفعها ما كان بصيغة أفعل التفضيل، ثم ما كان بالعطف، صيغة أفعل التفضيل مثل ما يقول فلان: مالك أوثق الناس، مالك أثبت في كل شيء، كما قال أحمد بن حنبل لما سئل عن مالك، و سفيان بن عيينة، قيل: أيهما أثبت في الزهري قال: مالك أثبت في كل شيء، هذه أفعل التفضيل، لكن بعد هذه المرتبة ما كان فيه عطف، مثل ما يقال: ثقة وثبت، أو ثقة وحافظ، أو يحذف العطف فيجعل ذلك نعتاً مثلما يقال: ثقة ثقة للتأكيد، أو ثقة ثبت، فهذا تفسير لكنه أريد من قبيل المترادف كان أقوى، وكذلك العكس أيضاً في التجريح، إذا قيل: فلان كذاب ووضاع ودجال، ونحو ذلك بالعطف، أو بدون عطف كذاب وضاع، أو دجال، أو ساقط بالمرة لا خير فيه، أو ساقط بالمرة ولا خير فيه، فهذا النوع بالعطف أو بدون عطف هو شر التجريح، وهو في الواقع أن الجملة الثانية هي تفسير للأولى، وكذلك الكلمة هي تفسير للكلمة الأولى، فالفروض هي أرزاق من الله ساقها لأصحابها، ولذلك أهل الفقه يقولون: أوجه الحلال التي لا شبهة فيها من أعظمها الميراث، فما ورثته عن مورثك حلال بالنسبة إليك لا شبهة فيه حتى لو كان هو أخذه من حرام أو كان من شبهة، لكن لا تصل إليك أنت تلك الشبهة أنك ورثته عنه، وهو مجهول، لكن إذا كان معلوم العين، مثل: كتاب سرقه من فلان، أو غصبه من فلان، أو مال أخذه من فلان، فهذا عند الجمهور لا يحل بالميراث، خلافاً للحنفية، فالحنفية يرون أن الحرام لا يتعدى ذمتين، أو لا يتعلق بذمتين، ويرون أن الغصب يزيل الملك، وأن السرقة تزيل الملك، والجمهور على خلاف ذلك، مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة أن الغصب لا يزيل الملك، وأن السرقة لا تزيل الملك، وأن الملك الأول باق كما هو، وأن الملك لا يزول بالتقادم، وأنتم لاحظتم كسر الميم في المِلك، والـمُلك أيضاً يغصب ويسرق في بعض الأحيان، لكن الـمُلك بمعنى: القيادة والزعامة، فهذا الملك بالضم، والملك بالكسر معناها: ملك الإنسان لعين الشيء.

    كذلك من أوجه الرزق الحلال الاحتطاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عده ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب إلى الجبل فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ).

    وكذلك منها الاصطياد للفقيه، وأسهله صيد البحر؛ لأنه لا يحتاج إلى ذكاة بخلاف صيد البر، فصيد البر له ضوابط كثيرة، تعرفون ما قال فيها ابن غازي:

    كل صيد مسلم صحيح الذبح غير مفرط بنحو الرمح

    أو جارح مكلب ومرسل من يده بصيده مشتغل

    يصيد مرئياً أخاً امتناعي يموت من جرح بلا نزاعي

    هذه كلها شروط الصيد، وقد أضاف إليها محمد بن عبد القادر الفاسي رحمة الله عليه:

    وما ببندق الرصاص صيدا جواز أكله قد استفيدا

    أفتى به والدنا الأواه وانعقد الإجماع من فتواه

    واختلف في المهر والميراث أيهما آصل في الحلية؟ فالمهر حلال للمرأة قطعاً؛ لأنه في مقابل المتعة، أو في مقابل صدق النية في العقد، وقد قال الله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، والنحلة: ما ليس له مقابل، فالصداق ليس ثمناً للمرأة، وقول خليل رحمه الله: الصداق كالثمن، التشبيه ناقص لا تام؛ لأن المقصود به أن ما لا يصلح ثمناً لا يصلح صداقاً، وما يصلح ثمناً يصلح صداقاً، فالخنزير، وما لا يملك، والعين المتنجسة التي لا ينتفع بها، كل ما لا يصلح ثمناً واختلت فيه الشروط الستة التي ذكرها في قوله بعد: شروط المعقود عليه طهارة وانتفاعاً.. إلى آخره، فهذه الشروط الستة مشروطة في الثمن كما سيأتي، وهي مشروطة في الصداق، فاختصر هو كعادته، ولذلك يقولون في قوله في الصلاة: وتربع كالمتنفل، يقولون: شبه مجهولاً بمجهول فأفادنا حكمين، المتنفل لم يأت بعد ما يفعل، ولم يذكر، وهو كيفية التنفل، لكنه بأسلوبه المختصر يفيد الإنسان حكمين مجرد تشبيه مجهول بمجهول، وهذه في الواقع إبداع من خليل رحمه الله.

    هذا إذا ما كانت المقاسمة تنقصه عن ذاك بالمزاحمة، هذا؛ أي: أخذه لثلث الباقي إذا ما كانت المقاسمة مقاسمة الإخوة تنقصه عن ذاك؛ أي: عن نصيبه الذي هو السدس أو ثلث الباقي بالمزاحمة معناه: بسبب مزاحمة الإخوة؛ أي: زيادة عددهم، قد سبق أن المزاحمة تؤدي إلى النقص، فهي من حجب النقصان، وهذا؛ أي: أنواع المزاحمة؟ الزحام البارحة ذكرنا أنه ثلاثة أنواع: زحام في فرض، وزحام في تعصيب، وزحام في عول، هذا زحام في تعصيب، نعم، المزاحمة ثلاثة أنواع فقط التبست عليك بالانتقال، الانتقال أربعة أنواع، لكن المزاحمة ثلاثة أنواع، هذا إذا ما كانت المقاسمة تنقصه عن ذاك، وذاك هنا في الأصل إشارة لمفرد مذكر.

    بذا لمفرد مذكر أشر بذي وذه تي تا على الأنثى اقتصر

    والذي يشار إليه هنا اثنان: سدس المال، وثلث الباقي، فلماذا يشير إليهما هنا بصيغة المفرد بما يشار به للمفرد، وهو ذا لماذا؟ لأنه يعتبرهما كالكتلة الواحدة كالهيئة الواحدة، وهذا أسلوب من أساليب العربية، ومنه قول الله تعالى: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68]؛ أي: عوان بين ذينك، ومنه قول الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67]؛ أي: بين ذينك، الحالين الماضيين، تنقصه عن ذاك بالمزاحمة.

    (وتارةً يأخذ سدس المال)، وهذه الحالة الثالثة أن يأخذ سدس المال، معناه: سدس المسألة، فيكون بمثابة الأب مع الأولاد، ويكون الإخوة بمثابة البنين؛ لأنه هو أنزل من الأب بدرجة، والإخوة أنزل من البنين بدرجة، فيحمل الإخوة على البنين، ويحمل هو كذلك بالنزول، فحينئذ يكون كالسدس يرجع إلى السدس كالجد مع البنين، كالأب مع البنين، لكن هو أيضاً الجد نصيبه السدس مع البنين دائماً، الجد لا يرث مع البنين أكثر من السدس، إذا كان للميت ولد أو بنت أو عدد من الأولاد، أو ابن ابن، أو بنت ابن، فالجد لا يرث إلا السدس دائماً، كل هذا البحث هنا في الجد مع الإخوة، ولا تنسوا هذه المسألة، قد تأتي في الامتحان.

    (وتارةً يأخذ سدس المال وليس عنه نازلاً بحال)

    لا ينزل عن سدس المال بحال من الأحوال؛ لأنه لا يحجبه إلا الأب، وقد سبق أن الأصول لا تحجب إلا بالأصول، وأن كل طبقة تحجب التي فوقها، فالجد إذا كان مباشراً كان أباً للأب لا يحجبه إلا الأب، وإذا كان أباً لأبي الأب كان جداً للأب فإنه يحجب بالأب، وبالجد..، وهكذا، فكل طبقة تحجب التي فوقها، لكن لا يحجبوا بالأولاد، كما أن الفروع أيضاً لا يحجبون بالأصول، فالفرع لا يحجب إلا بالفرع.

    (وليس عنه نازلاً بحال)؛ أي: لا ينزل عن السدس في الميراث بحال من الأحوال، إما أن يسقط بالكلية إذا حجب، وإذا ورث أقل مما يرثه السدس.

    (وهو مع الإناث عند القسم مثل أخ في سهمه والحكم)

    الإخوة هنا هذا اللفظ عند الفرضيين يشمل الذكور، والإناث، فهو شامل للذكور، والإناث، لكن فيما يتعلق بانفراد الجد مع الإناث له حالات مخصوصة، ولذلك قال:

    (وهو مع الإناث عند القسم مثل أخ في سهمه والحكم)

    فالجد مع الإناث من الأخوات معصب لهن كالأخ، فلذلك ينقلهن من فرض إلى تعصيب؛ ليضر بهن أو ليشاركهن في نصيبهن.

    (وهو مع الإناث عند القسم مثل أخ في سهمه والحكم)

    في سهمه، أنه للذكر مثل حظ الأنثيين، والحكم أنه إذا كان ذا قوة، فالأخ إنما يرث إذا ساوى أخته في القوة، أما إذا نزل عنها فإنه لا يرث معها، والجد دائماً ذو قوة؛ لأن الإخوة لأب والإخوة الأشقاء نسبتهم إلى الجد واحدة، لا فرق بينهم بتساوي الجد، علاقتهم التي فيها القوة والضعف، إنما هي بالرجوع إلى الميت.

    وسيأتي أنه بعض الحالات تعاد به الشقيقة... تعاد به الجد، إذا هلك هالك عن جد، وأخت شقيقة، وأخ لأب، فالأخ للأب لا يرث مع الأخت الشقيقة هنا؛ لأن الجد هو العاصب، لكنها تعاده به فتقول: هذا أخي، ونسبتنا إليك واحدة؛ لتنقص به نصيب الجد، ثم بعد ذلك ترجع على ما بيد أخيها، وتقول: أنت ساقط، وتأخذ منه نصف ما أخذ.

    هذه المعادة، ستأتينا إن شاء الله المعادة، ولذلك يقولون: المعادة في علم الفرائض تعلم الخداع، الذي يدرس علم الفرائض إذا تعلم المعادة يتعلم الخداع.

    (وهو مع الإناث عند القسم مثل أخ في سهمه والحكم)

    (إلا مع الأم فلا يحجبها بل ثلث المال لها يصحبها)

    هو عددناه بمثابة الأخ، وحينئذ إذا كان معه أخت حصل بهما التعدد، لكن هذا التعدد لا تتضرر به الأم؛ لأن الأم إنما يحجبها من الثلث إلى السدس العدد من الإخوة، وهذا عدد وهمي، وإن كانت الصورة في القسمة أخ وأخت، لكن الأخ غير صحيح، والجد ليس أخاً، فلذلك لا يحجب الأم مع ابنة ابنه، لا يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، بل يعتبر هو أخاً فيما يتعلق بالميراث، لكن فيما يتعلق بالحجب لا يحجب الأم حجب نقص.

    (إلا مع الأم فلا يحجبها بل ثلث المال لها يصحبها)

    بل ثلث المال لها، للأم حينئذ؛ لأنها لا تحجب إلا بالعدد من الإخوة، والأخت الواحدة ليست عدداً من الإخوة، قد سبق الخلاف في الحجب بالإناث عموماً، وفيما يتعلق بالعدد، هل أقل الجمع فيه اثنان أو ثلاثة؟ سبق بيان ذلك.

    وأيضاً حتى لو كان معه أخ فإنه لا يحجب الأم؛ لأن الأخ الواحد إذا كان معه جد ليس عدداً من الإخوة، هو نظيره في الميراث لكن ليس أخاً، ولا يحجب الأم من الثلث إلى السدس.

    (بل ثلث المال لها)؛ أي: للأم (يصحبها) يصحبها، معناه: إلى قبرها لو ماتت؛ لأنه من مالها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ( إذا مات ابن آدم صحبه ثلاثة: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يرجع أهله، وماله، ويبقى عمله )، فهذا معنى قوله: ( يصحبها ).

    (واحسب بني الأب لدى الأعداد وارفض بني الأم مع الأجداد)

    (واحسب بني الأب لدى الأعداد)، عندما يكونوا الإخوة فيهم شقيقة، ومعها أخ لأب، أو إخوة لأب فإنها تعاد الجدة بهم، وتحسبهم عليه لتنقص نصيبه، ثم ترجع عليهم لما أخذوا، فهم يظنون أنهم سيرثون ما أخذوا، ثم تأخذه من أيديهم؛ لأنها وارثة دونهم بالقوة، والقوة هي الشقاقة.

    (وارفض بني الأم مع الأجداد)، فبنو الأم؛ أي: الإخوة لأم لا يرثون مع الجد؛ لأنه أصل وارث، والأصل الوارث يحجب الإخوة لأم مطلقاً، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12]، هذا محله (إن كان رجل يورث كلالةً أو امرأة)، والكلالة معناه: ألا يكون له أصل، ولا فرع وارث، فمن له أصل وارث، سواءً كان أباً أو جداً، أو له فرع وارث سواءً، كان ابناً أو بنتاً أو بنت ابن أو ابن ابن فإنه لا يرثه الإخوة لأم، لهذا قال: (وارفض)؛ أي: ارفض توريث، فالرفض معناه: الرد وعدم قبوله، (وارفض بني الأم مع الأجداد) مع الأجداد يقصد في مسائل متعددة لا في المسألة الواحدة، المسألة الواحدة لا يرث فيها إلا جد واحد، فالجد ليس مثل الجدات، الجدة يمكن أن تتعدد في الميراث في المسألة الواحدة كما سبق، المالكية يورثون جدتين في المسألة الواحدة، والحنابلة ثلاث جدات، وغيرهم أربع جدات، لكن الجد ما يمكن أن يتعدد في المسألة الواحدة.

    (واحكم على الإخوة بعد العد حكمك فيهم عند فقد الجد)، بعد أن تعاد الشقيقة بأخيها الذي هو لأب، أو بأخوتها الذين لأب، ترجع عليهم فتأخذ ما في أيديهم، فلذلك قال: (واحكم على الإخوة)؛ أي: الإخوة لأب (بعد العد) معناه: بعد المعادة به لتنقص به نصيب الجد.

    (حكمك فيهم عند فقد الجد)، كما لو كانت الأخت وارثةً، الأخت الشقيقة وارثة من دون الجد، فإن كان معها صاحب فرض فاستوعب فإن الإخوة لأب يسقطون، وإن لم يستوعبوا لم يستوعب أصحاب الفروض فإنها هي تأخذ النصف، وما بقي للعصبة يأخذه الإخوة لأب إذا كانوا ذكوراً طبعاً. (حكمك فيهم عند فقد الجد).

    هنا في النسخة التي بين أيديكم: (واسقِط بني الإخوة بالأجداد).

    يمكن أن تحذفوا الواو فتقولوا: اسقط بني الإخوة بالأجداد؛ لأنه لا حاجة للعطف، والهمزة همزة قطع، ولو أدرجتم الهمزة فجعلتموها همزة وصل، هذا يسمى وصل الهمزة فهي لغة للعرب، فوصل همزة القطع لغة من لغات العرب مثل قول الشاعر:

    يا ليتني كنت صبيا مرضعا تحملني الذلفاء حولا أكتعا

    إذا بكيت قبلتني أربعا ثم اربعا ثم اربعا ثم اربعا

    إذن ظللت الدهر أبكي أجمعا

    ثم أربعاً أربع، همزة قطع، ولكنها توصل؛ أي: تجعل همزة وصل في لغة من لغات العرب، وبعضهم يعبر عنها فيقول: في لغية للعرب، معناه: أنها غير فصيحة، هذا معنى تصغيرها.

    (اسقط بني الإخوة بالأجداد)، فبنو الإخوة عند غير أبي حنيفة جهة مستقلة، وهي محجوبة بالجهة التي هي أقوى منها، وهي جهة الجد، والإخوة؛ لأن الجد بمثابة الإخوة، والإخوة حاجبون لبني الإخوة، والجد مساو لهم، فلا يمكن أن يرث معه أولاد الإخوة أصلاً، سواءً كانوا أشقاء أو لأب.

    (حكماً بعدل ظاهر الإرشاد)، كذلك حكم بالعدل، وقد أمرنا بالحكم بالعدل، ظاهر الإرشاد، أو ظاهر الرشاد، ظاهر الإرشاد، معناه: ظاهر إرشاده للناس، وإذا قلت: ظاهر الرشاد؛ أي: هذا الحكم ظاهر الرشاد، معناه: بادي الصواب، صوابه بادي، فالرشاد هنا مضاف إليه ما قبله، وهو في الأصل فاعل الصفة المشبهة، وإضافتها إليه كثيرة، وهي من الحسن، يحسن إضافتها إلى ما بعدها هنا، ظاهر الرشاد أصل الكلام: ظاهر رشاده، فهو فاعل الصفة المشبهة، ولكنه أضيف، تعرفون.

    فارفع بها وانصب وجر مع أل ودون أل مصحوب أل وما اتصل

    بها مضافاً أو مجرداً ولا تجرر بها مع أل سماً من أل خلا

    ومن إضافة لتاليها وما لم يخل فهو بالجواز وسما

    هذا الذي ذكره المؤلف هنا.

    وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا إيماناً، ويقيناً، وصدقاً، وإخلاصاً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718743

    عدد مرات الحفظ

    766036018