شرع الأذان إشعاراً بدخول وقت الصلاة، وهو سنة في حق الأفراد, وفرض كفاية على أهل البلد الواحد، إذا أتى به أحدهم سقط عن الباقين, وللأذان والإقامة ألفاظ معلومة متعبد بها المسلمون، لا يزيدون عليها ولا ينقصون، ولا يجوز لإنسان أن يخرج من المسجد بعد سماع الأذان لما في ذلك من الوعيد الشديد، فضلاً عما يلحق فاعل ذلك من الظن به ظن السوء.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال المصنف رحمه الله: [ أبواب الأذان والسنة فيها.
باب بدء الأذان].
والأذان سنة على الأفراد, وأما بالنسبة للبلدان فهو فرض كفاية, يقوم به الواحد فيسقطه عن الباقين, وأما من قال بأنه سنة مؤكدة على الإطلاق على البلدان في المساجد وفي الأفراد فهذا فيه نظر, فقد بالغ بعض الفقهاء من الحنفية كـأبي المعالي الحنفي رحمه الله وحكى الاتفاق على أنه سنة مؤكدة, بل نسبه إلى الصحابة، وفي ذلك نظر.
قال: [ حدثنا أبو عبيد محمد بن عبيد بن ميمون المدني، قال: حدثنا محمد بن سلمة الحراني، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال حدثنا محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هم بالبوق وأمر بالناقوس فنحت, فأري عبد الله بن زيد في المنام قال: رأيت رجلاً عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً، فقلت له: يا عبد الله تبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: أنادي به إلى الصلاة, قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر, أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله, حي على الصلاة، حي على الصلاة, حي على الفلاح، حي على الفلاح, الله أكبر، الله أكبر, لا إله إلا الله.
قال: فخرج عبد الله بن زيد حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما رأى, قال: يا رسول الله! رأيت رجلاً عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً، فقص عليه الخبر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم قد أري رؤيا، فاخرج مع بلال إلى المسجد فألقها عليه وليناد بلال؛ فإنه أندى صوتاً منك, قال: فخرجت مع بلال إلى المسجد فجعلت ألقيها عليه وهو ينادي بها, قال: فسمع عمر بن الخطاب بالصوت فخرج, فقال: يا رسول الله! والله لقد رأيت مثل الذي رأى ).
قال أبو عبيد: فأخبرني أبو بكر الحكمي، أن عبد الله بن زيد الأنصاري قال في ذلك:
أحمد الله ذا الجلال وذا الإكـ ـرام حمداً على الأذان كثيراً
إذ أتاني به البشير من اللـ ـه فأكرم به لدي بشيراً
في ليال والى بهن ثلاث كلما جاء زادني توقيراً ].
وفي هذا تعظيم الرؤى, وفيه إشارة إلى أن من قرائن الرؤى الحق أن يذكر الله عز وجل في الرؤيا, بالتسبيح أو التهليل, وكذلك وجود اللباس الأخضر أو الأبيض في الرؤيا من القرائن على أنها رؤيا حق ورؤيا خير.
قال: [ حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي، قال: حدثنا أبي، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الناس لما يهمهم إلى الصلاة, فذكروا البوق, فكرهه من أجل اليهود, ثم ذكروا الناقوس، فكرهه من أجل النصارى, فأري النداء تلك الليلة رجل من الأنصار يقال له: عبد الله بن زيد, وعمر بن الخطاب، فطرق الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن به ). قال الزهري: ( وزاد بلال في نداء صلاة الغداة: الصلاة خير من النوم, فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: يا رسول الله! قد رأيت مثل الذي رأى ولكنه سبقني ) ].
قال المصنف رحمه الله: [ باب الترجيع في الأذان.
حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن يحيى، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة: ( عن عبد الله بن محيريز وكان يتيماً في حجر أبي محذورة بن معير حين جهزه إلى الشام, فقلت لـأبي محذورة: أي عم! إني خارج إلى الشام وإني أسأل عن تأذينك, فأخبرني أن أبا محذورة قال: خرجت في نفر فكنا ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسمعنا صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون، فصرخنا نحكيه تهزّؤًا, فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلينا قوماً فأقعدونا بين يديه، فقال: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار إلي القوم كلهم وصدقوا, فأرسل كلهم وحبسني، وقال: قم فأذن, فقمت ولا شيء أكره إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا مما يأمرني به, فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه, فقال: قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر, أشهد ألا إله إلا الله، أشهد ألا إله إلا الله, أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله, ثم قال لي: ارفع فمد من صوتك, أشهد ألا إله إلا الله، أشهد ألا إله إلا الله, أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله, حي على الصلاة، حي على الصلاة, حي على الفلاح، حي على الفلاح, الله أكبر، الله أكبر, لا إله إلا الله.
ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة, ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمرها على وجهه، ثم من بين ثدييه، ثم على كبده، حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك وبارك عليك, فقلت: يا رسول الله! أمرتني بالتأذين بمكة؟ قال: نعم, قد أمرتك, فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
قال: وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي من أدرك أبا محذورة، على ما أخبرني عبد الله بن محيريز ].
وفي هذا جواز تولية بعض الولايات التعبدية لبعض من لم يكن من المقربين، أو كامل الصحبة والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أبا محذورة يعلم من حاله أنه لم يكن تام الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمره, ومع ذلك ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا تأليفاً وتقريباً, وكان له أثر عليه أن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وثق به وأعطاه تلك الولاية.
قال: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا همام بن يحيى، عن عامر الأحول، أن مكحولاً حدثه، أن عبد الله بن محيريز حدثه، أن أبا محذورة حدثه، قال: ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة كلمة, والإقامة سبع عشرة كلمة, الأذان: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر, أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله, أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله, حي على الصلاة، حي على الصلاة, حي على الفلاح، حي على الفلاح, الله أكبر، الله أكبر, لا إله إلا الله.
والإقامة سبع عشرة كلمة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر, أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله, حي على الصلاة، حي على الصلاة, حي على الفلاح، حي على الفلاح, قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة, الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله ) ].
ولا خلاف عند الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في مسألة الترجيع، وذلك لثبوته واشتهاره وعدم وجود المخالف له, ومثله مما يستفيض, ولهذا يحكي بعض الفقهاء الإجماع على ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [ باب إذا أذن وأنت في المسجد فلا تخرج.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن إبراهيم بن مهاجر، عن أبي الشعثاء، قال: ( كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة، فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي, فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة : أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ).
حدثنا حرملة بن يحيى، قال: حدثنا عبد الله بن وهب، قال: حدثنا عبد الجبار بن عمر، عن ابن أبي فروة، عن محمد بن يوسف مولى عثمان بن عفان، عن أبيه، عن عثمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج، لم يخرج لحاجة، وهو لا يريد الرجعة، فهو منافق ) ].
ذكر النفاق غير محفوظ, والصواب في ذلك ( عصى أبا القاسم ), ولا يجوز لإنسان أن يخرج بعد سماع الأذان حتى لو كانت له حاجة, ثم لا يرجع، وذلك أنه قد يُظن به أنه لا يريد الصلاة, فربما رآه الإنسان حال انصرافه ولا يراه حال عودته, فيتهم في دينه, والشريعة جاءت بالبعد عن مواضع الشبهات.
كذلك ألا يكون مدخلاً للمنافق أن يخرج من المسجد فيدعي أن له حاجة, فإذا أغلق هذا الباب على الأخيار وعلى الصالحين فإنه يغلق أيضاً على من دونهم.
كذلك فإنه في مسألة الأذان قد نص غير واحد من العلماء على أن الإنسان إذا دخل المسجد فسمع المؤذن أنه يستحب له أن يجلس ولو كان إماماً, وقد ذكر ابن عقيل رحمه الله الإجماع على ذلك فقال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الإمام إذا سمع المؤذن يجلس, يعني: ولو لم يصل تحية المسجد, إشارة إلى مكثه وبقائه, ثم بعد ذلك يقوم.
كذلك ذكر غير واحد من العلماء في مسألة الإقامة, إذا سُمع المؤذن يقيم ثم دخل الإنسان أو كان الإمام حاضراً فإنه يجلس ثم يقوم, ذكر ذلك الإمام أحمد عليه رحمة الله في رواية عنه, وقال به بعض الأئمة كـابن تيمية رحمه الله.
نقف على هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.