ورد في قراءة سورة (يس) على الموتى أحاديث حكم عليها العلماء بالضعف بسبب النكارة في سندها ومتنها، وورد في مسألة تغسيل الزوج لزوجته زيادة حكم عليها العلماء بالإنكار، وكذلك ما يتعلق باتباع جنازة الكافر ، فللعلماء رحمهم الله كلام في أسانيدها ومتونها، وبيان ما خفي من عللها.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنشرع في هذا المجلس في الكلام على كتاب الجنائز، وما في ذلك من أحكام:
أول أحاديث الجنائز: هو حديث معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اقرءوها، يعني: (يس) على موتاكم ).
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في كتابه المسند وأبو داود و الدارمي وغيرهم من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان وليس بـالنهدي عن أبيه عن معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم.
هذا الحديث معلول بعدة علل: وهو خبر منكر:
أول هذه العلل: أن هذا الحديث لا يعرف إلا من طريق الجهالة هذه من حديث أبي عثمان عن أبيه عن معقل بن يسار وجاء من طرق مطروحة جداً، ولكن نقول: ما يدخل في دائرة الاعتبار عادة.
وتقدمت الإشارة معنا: أن الأحاديث إذا جاءت بإسناد ضعيف جداً فإنه لا يحفل به ولا يجعله العلماء في أبواب المتابعات والشواهد، وإذا قال العلماء: إن هذا الحديث لا يعرف إلا من طريق فلان، فوجد من طريق شديدة الضعف وواهية، فإنه ليس لأحدٍ أن يستدرك على من أعل الحديث بالتفرد من هذا الوجه، وقد نبه على هذا جماعة من العلماء.
فهذا الحديث يرويه سليمان التيمي عن أبي عثمان عن أبيه عن معقل بن يسار .
وجاء أيضاً من وجه آخر عند الإمام أحمد رحمه الله من حديث معتمر بن سليمان عن أبي عثمان عن رجل عن أبيه عن معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم.
وهذا أيضاً يرجع فيه إلى الجهالة، فإن هذا الحديث تفرد به أبو عثمان عن أبيه عن معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهذا الحديث على ما تقدم يرويه التيمي واختلف عليه فيه: فرواه عبد الله بن المبارك و يحيى بن سعيد القطان كلهم عن سليمان التيمي وجعلوه مرفوعاً.
ورواه يحيى بن سعيد القطان من وجه آخر عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن أبيه عن معقل بن يسار وجعله موقوفاً عليه ولم يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا اضطراب في الإسناد مع ضعفه، ومع ورود الجهالة فيه.
ولهذا نقول: إن هذا الحديث منكر، وعلته الوقف، والجهالة في إسناده في طبقتين: في رواية أبي عثمان ، وكذلك أيضاً عن أبيه، فهذه علل.
إضافة إلى النكارة المتنية، والنكارة المتنية في هذا: أن في أمر النبي عليه الصلاة والسلام بقراءة (يس) على الموتى بقوله: ( اقرءوها على موتاكم ) يلزم فيه أن يثبت بإسناد قوي، وهو شبيه بما جاء بتلقين الميت لا إله إلا الله، فينبغي أن تثبت بهذا الإسناد، وهي لم تقارب هذا الإسناد فضلاً أن توازيه، وهذا من وجوه النكارة، والأصل في قواعد العلل: أن الحكمين إذا توازيا أو تساويا في الأمر والمنزلة، وجب إن لم يتساويا أن يتقاربا في الإسناد.
ولو لم يكن ثمة تلقين للميت أصلاً بلا إله إلا الله وغيرها وجاء هذا الحديث ولو كان بإسناد فيه لين، أو أمتن من هذا لاحتمل أن يقبل، وألا يعل، ولكن لما وجد حديث: لا إله إلا الله، فإنه يعله، وذلك لو كانت (يس) تقرأ على الميت لقرنت بلا إله إلا الله في حديث لا إله إلا الله، فدل على نكارة هذا الحديث وهو حديث معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويقول الدارقطني رحمه الله: هذا حديث ضعيف، وليس في الباب شيء صحيح يعني: في تلقين الميت (يس)، والأظهر أنه لا يثبت في سورة (يس) فضلٌ ولا حكمٌ عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم، فلا فضل لها عن غيرها من بقية السور، ولا حكمٌ يتعلق بشيء من الأحكام من أمور تلقين الميت أو قراءتها عند النوم أو غير ذلك، والأحاديث الواردة في هذا ضعيفة ولا تصلح للعمل فضلاً عن الاحتجاج، ولهذا نقول: لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في تلقين الميت إلا لا إله إلا الله، وأما بغير التلقين مما جاء من الاستغفار للميت بعد موته أو عند قبره والدعاء له، فهذا أمر آخر، وليس من أمور التلقين.
وعلى هذا نعلم نكارة ما يروى في هذا من قراءة الفاتحة عند الميت أو بعد موته، فهذا لا أصل له عن النبي عليه الصلاة والسلام لا بإسناد صحيح ولا بإسناد ضعيف.
الحديث الرابع: هو حديث كعب بن مالك عليه رضوان الله: ( أن ثابت بن قيس توفيت أمه وكانت نصرانية، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يحضر جنازتها فقال النبي صلى الله وعليه وسلم: اركب راحلتك أو دابتك أمامها، فإنك إن كنت أمامها لم تكن معها ).
هذا الحديث رواه أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه كعب بن مالك أن ثابت بن قيس وذكره.
وهذا الحديث حديث منكر جداً، وذلك أنه تفرد به أبو معشر يرويه عن محمد بن كعب القرظي وهو واهي الحديث، وضعيف الحديث جداً.
ثم إن في المتن نكارة، وهي: حضور الجنازة ولو كانت كافرة خاصة من وليها لمن يقوم عليها أدنى أحواله الجواز، وذلك أن الميت إذا كان كافراً، ثم أريد دفنه فمن يدفنه إلا من حضر جنازته، فهل يترك، واستئذانه بالحضور : هو أن يأتي مع الجنازة حتى تدفن، وذلك وإن لم يكن في مقابر المسلمين، فكان في مقابر غيرهم فإن هذا من الأمور المستفيضة من جهة العمل، ولم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن زيارة قبر مشرك، بل ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي ).
وكانت قبور المشركين ممن كانوا قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام من أهل الفترة، ومن كان بعد ذلك يدفنون في المدينة كل في بلده، وقبورهم معلومة، وكذلك قبور يهود كانت في المدينة بغض النظر عن كون هل للقبر حرمة أو ليس له حرمة.
نحن نتكلم على مسألة زيارة تلك المقابر واتباع الجنازة، وذلك أن اتباع الجنائز له مقاصد منها: طلب الأجر في التشييع، وهذا يكون في المسلم لا في الكافر، فإذا تبع مسلم جنازة مشرك كيهودي أو نصراني أو وثني يرجو من ذلك الأجر فإننا نقول: هذا عمل باطل، فلا يرجى في مثل هذا الأجر، ولكن في مسألة دفنه دفعاً لأذاه يؤجر على نية دفع الأذى ولا يؤجر على مسألة الاتباع، ولا يأخذ الحكم في ذلك في مسألة الغسل، وكذلك أيضاً التكفين وغير ذلك من الأحكام فهي خاصة بالمسلمين.
أما الأحكام الأخرى من التذكير بالآخرة وغير ذلك: فلا حرج على المسلم أن يقف على جنازة ميت ولو كان مشركاً ليعتبر، ولهذا ثبت ( أن النبي عليه الصلاة والسلام مرت به جنازة مشرك فقام، فقيل له: إنها جنازة مشرك، فقال النبي صلى الله وعليه وسلم: إن للموت لفزعاً ).
وجاء في رواية عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أليست نفساً ).
وفي هذا إشارة إلى أن ما يتعلق بشهود دفن مشرك في هذا لا تشييع الجنازة وإنما الاعتبار، كذلك المرور بقبر مشرك للاعتبار هذا مما لا يقال بالنهي عنه، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة وتزهد في الدنيا ).
وهذا في جميع القبور سواءً كانت من قبور المسلمين، أو كانت من قبور المشركين، فإذا جاء أحدٌ ومر على المقبرة، وقيل: هذه مقبرة للجاهليين أو كانوا من المشركين أو نحو ذلك فأراد أن يتعظ عند المرور عليها فيدخلها ويتعظ بها، ولكن لا يقول ما يتعلق بالمسلمين من الدعاء لهم: ( أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون ) فهذه أحكام تتعلق بقبور المسلمين.
ولهذا نقول: إن هذا الحديث منكر من جهة إسناده بتفرد أبي معشر بروايته لهذا الحديث، وكذلك النكارة المتعلقة بمتنه، وذلك أنه يخالف ما جرى عليه في الأصول من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استأذن ربه أن يزور قبر أمه فأذن له، ومعلوم أن زيارة القبر الذي قد مات صاحبه إن لم يكن في قصدك لذلك حاجة، وأنت تعلم أنه ميت جائز، فدل على أن حضور جنازة المشرك، أو عناية الابن بجنازة أبيه، أو أمه المشركة لدفنها أن هذا من جهة الأصل من الأمور الجائزة، ولا يقال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولكن نقول: الأحكام لا تتعلق بها، ومن ذلك المشي خلف الجنازة، وكذلك المسائل المتعلقة بالحمل والأجر في ذلك والتكفين والأجر في ذلك، والغسل والأجر في ذلك، وما يتعلق بالاحتياط في مسائل التوجيه إلى القبلة، وكذلك اللحد والشق وأيهما أفضل، هذه كلها تتعلق بقبور المسلمين.
أما بالنسبة لغيرهم: فيقال حينئذٍ: إن التكليف في ذلك هو بدفنهم، باعتبار أن هذه سنة فطرية فطر الله عز وجل عليها الناس، وكذلك فيه دفع للأذى الذي ربما يكون من تلك الجنازة لو أبقيت على وجه الأرض.
والله أعلم.
ونتوقف عند هذا الحد، ونكمل في المجلس اللاحق بإذن الله عز وجل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.