... أن الإمام أملك بالإقامة، ولكن يقال: إن هذا ليس بصريح، وقد يقال: إن أصرح منه ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لا تقوموا حتى تروني )، ولكن هذا قد يقال: إنه في الإمام الأعظم الذي قد جمع بين الإمامة العظمى وبين إمامة الناس في الصلاة، وهذا يكون في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حال الخلفاء الراشدين، كـأبي بكر ، و عمر ، و عثمان ، و علي بن أبي طالب وأضرابهم، وأما غيرهم فهل يدخلون في الحكم أم لا؟
هذا محل كلام في مسألة الإقامة، إذا قلنا: إنهم يدخلون في الحكم فإنه لا يحق للمؤذن أن يضع ضابطاً في الوقت يؤذن فيه إذا تأخر الإمام، فيكون الضابط حينئذ في ذلك الوقت وليس الضابط الإمام، فإذا ضبط الوقت بشيء وخرج الإمام منه لم يكن هو الحكم في ذلك، ولهذا نقول بأن هذا الحديث صراحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة منكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث الثاني: حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المؤذنون أحق بالإقامة، والأئمة أحق بالأذان )، وهذا الحديث منكر، فقد رواه أبو الشيخ من حديث معلى بن عباد ، عن يحيى بن أبي الفضل ، عن أبي الجوزاء ، عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث قد تفرد به معلى بن عباد ، وقال فيه الإمام أحمد رحمه الله: لا أعرفه، وضعفه أبو حاتم ، و البخاري ، و الدارقطني ، وغيرهم، وقال أبو زرعة : منكر الحديث، وله أحاديث تستنكر عليه، قد تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه، وله أحاديث منكرة لا يقبلها العلماء، ومن ذلك ما أخرجه الإمام الترمذي رحمه الله من حديث أحمد بن الحسين أنه قال: كنا عند أحمد بن حنبل رحمه الله، فجاء الحديث في مسألة على من تجب صلاة الجمعة؟
فلم يذكر فيه أحمد بن حنبل شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فقلت له: فيه حديث عن رسول الله، فقال أحمد بن الحسين : حدثنا الحجاج بن نصير ، قال: حدثنا معلى بن عباد ، عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الجمعة على من آواه الليل في بيته )، والإمام أحمد رحمه الله لما سمع هذا الحديث قال لـأحمد بن الحسين : استغفر ربك استغفر ربك، وذلك لنكارة متنه، وقد بين الترمذي رحمه الله أن الإمام أحمد رحمه الله إنما أعل هذا الحديث لضعف إسناده، وإنما ضعف إسناده لتفرد معلى بن عباد به، وللمعلى مفاريد لا يوافق عليها، ومنها: ما رواه الطبراني كما في كتابه المعجم الكبير من حديث معلى بن عباد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن من أحسن الإمامة كان له أجر من خلفه )، وهذا الحديث لا يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، وهو حديث منكر لا يتابع عليه معلى بن عباد ، وقد رده غير واحد من العلماء، وهذا الراوي معلى بن عباد بتفرده بهذا الحديث وأمثاله نرد جميع حديثه، وبهذا نعلم أن العلماء لديهم قاعدة في رد مفاريده، وهي أن الراوي إذا تفرد بمتن كبير يستنكر التبعة في فقهه، والتفرد بحكمه ثقيلة، يرد مجموع حديثه، وذلك أن المفاريد عند العلماء في رد أحاديث الرواة على صنفين: الصنف الأول: أنهم ينظرون إلى مفاريد الرواة كثرة وقلة، فإذا كثرت مفاريد الراوي طرحت حديثه، فإذا كان له مثلاً عشرة أحاديث أو عشرين أو ثلاثين، وتفرد بخمسة، فإن هذا يطرح حديثه ويحكم عليه بالضعف؛ لأن الخمسة من العشرة والثلاثين كثيرة، فيرد بها الحديث، وأما إذا كان له حديث واحد، وقد روى عشرين وثلاثين ونحو ذلك، فإن هذا لا يرد به الحديث الذي يتفرد به.
والصنف الثاني: أن ينظر إلى عظم ما تفرد به، فإذا تفرد بشيء ثقيل من المعاني لا يفوت على فقيه وعلى راو حافظ، فإن هذا يطرح حديثه، فالواحد منها يطرح الخمسين والمائة، وذلك أن مثل هذا لا يمكن أن ينطلي على حافظ ناقد بصير، ولهذا الأئمة رحمهم الله ينظرون إلى تفرد الراوي من جهة نوعه ومن جهة كمه، و معلى بن عباد يتفرد بالأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث ثقيل في فضل الإمامة، والإمامة يتنافس فيها الناس، وأمثال هذا الفضل ينبغي أن ينتشر عند أهل العلم والعبادة والديانة، والتنافس في ذلك.
كذلك مسألة الإقامة، وأحقية الإمام والمؤذن فيها والفيصل في ذلك، فإن هذا من المسائل المهمة التي يحتاج إليها، ولهذا ذكر بعض النقاد في بعض الرواة حينما تفرد بالحديث قال: هذا الحديث يطرح له خمسمائة حديث يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه التفردات التي يتفرد بها إذا كانت تحمل معنىً ثقيلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم طرحت حديثه، وهذا ما ينبغي أن ينظر إليه عند مفاريد الرواة، وثمة قرائن يقبل فيها تفرد الراوي، وهذا قد تقدم الإشارة إلى شيء من مجموعها، من هذه القرائن التي يقبل فيها تفرد الراوي إذا تفرد بحديث أن يكون من طبقة متقدمة، والطبقة المتقدمة يقبل فيها التفرد.
الأمر الثاني: أن يكون من المكثرين بالرحلة، ولقاء الشيوخ، والأخذ عنهم، فإن هذا يحمل منه التفرد أكثر من غيره، كـابن شهاب الزهري فإن الإمام مسلماً رحمه الله ذكر عنه أنه تفرد بسبعين سنة، وهذه السبعين لا يحمل عشرها إذا رواها غير الزهري، لأن الزهري من أئمة الرواية والإكثار، والرحلة في البلدان، فلما تفرد بمثل هذا حمل منه، لأن أحاديثه بالآلاف، بأن يتفرد بسبعين، يقبل هذا، كذلك مع تقدمه، ومن القرائن في ذلك أن يكون الراوي من أهل اختصاص بالرواية عن شيخه، فإن هذا مما يحمل عليه.
ومن القرائن أيضاً: أن يكون المتفرد بتفرده بحديث من الأحاديث في بلدٍ يحمل منها التفرد، كمكة والمدينة إذا تفرد ببعض الأحاديث عن غيرها من البلدان، كتفرد المدنيين والمكيين عن غيرهم في بعض الأحاديث، كتفردهم عن الكوفة والبصرة، والشام ومصر وخراسان واليمن، وغيرها، فيحمل من حديثهم ما لا يحمل من غيرهم.
ومن القرائن أن يتفرد الراوي بحديث وهو من أهل الاختصاص بمعناه، كتفرد الراوي الذي يختص بالأذان بمسألة من الأذان، أو يختص بالقضاء بمسألة في القضاء، ولو لم يكن من المكثرين فإن الاختصاص دليل على التتبع، وهو يوازي ويقارن الإكثار، فلهذا يؤكد على معرفة حال الراوي واختصاصه بمهنةٍ أو حرفة، أو بمسائل معينة يتفرد عن غيره من أهل طبقته بها، كتفرد بعض الرواة في بعض المسائل، أو تفرد بعض النساء ببعض المسائل، وكتفردهن ببعض المسائل من الطلاق أو بعض الطهارة الخاصة بهن ونحو ذلك، فإن هذا في الغالب يكون من خصائص النساء، وقد تقدم الإشارة إلى شيء من هذا.
الحديث الخامس: حديث بلال عليه رضوان الله تعالى قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذنا ألا تزل أقدامنا عن مواضعها )، وفيه إشارة إلى الثبات في ذات الموضع، وهذا الحديث رواه ابن عدي في كتابه الكامل، ورواه البيهقي من حديث الحسن بن عمارة ، عن طلحة بن مصرف ، عن سويد بن غفلة ، عن بلال ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث في ذلك منكر، والنكارة فيه لتفرد الحسن بن عمارة بهذا الحديث، وقد أعله بالتفرد ابن عدي ، و الدارقطني في كتابه الأفراد، و الحسن بن عمارة متروك الحديث وقد تفرد به، ومثل هذا المعنى يحتاج إليه.
والأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب، خاصة في العبادات، والقرينة الأخرى: أنه قال: أمرنا، والأمر يتوجه إلى الجماعة، سواءً كان بلالاً أو غير بلال ، يعني: أذنتم في حال الحضر أو أذنتم في حال السفر ألا تزل أقدامكم، والخطاب إذا توجه إلى جماعة آكد من الخطاب إذا توجه إلى فرد، وهذا من قرائن صرف الأمر إلى الوجوب.
يقول: الأمر في الصلاة أقوى من الأذان، وما جاء أمر بالثبات، فيسوغ أن يتقدم ويتأخر، علة قوية، مثل هذا يشتهر؛ لأنه ما من أحدٍ إلا ويؤذن في حال سفر أو في حال إقامة، كذلك مجموع ما جاء في أذان الصحابة على الرواحل كانوا يؤذنون، وهذا يمشي.
وفي قوله أيضاً: ألا تزل أقدامنا، إشارة إلى أنه يجب عليه القيام، وجاء في ذلك عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين جواز الأذان للقاعد، وإذا كان الأمر ينصرف على هذا الأمر فنقول بحتمية ظهوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتماً، إذا كان قد ورد عنه، ولكن نقول بأن هذا الحديث منكر.
الصلاة على الرواحل فيها حركة، تحرك المصلي في صلاته، النبي عليه الصلاة والسلام تقدم وتأخر في صلاته، هذا يدل على عدم الثبات، كون الناس تصلي على الرواحل في النوافل، ومعلوم أن الأذان يكون من النافلة في بعض الأحيان على الناس، كحال السفر مثلاً، ولا حرج على الإنسان إعادة أذان قد أذن بالسابق كما جاء معنا في حديث أبي محذورة عليه رضوان الله، لهذا نقول: إن هذا الحديث منكر إسناداً، ومنكر متناً.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.