اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , استثمار الأدب في خدمة الدعوة للشيخ : عائض القرني
إن البرية يوم مبعث أحمد>>>>>نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من>>>>>خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة>>>>>جبتِ الكنوزَ فكسَّرت أغلالها
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فإنها سعادة لي أن ألتقي بهذه الوجوه الباسمة الغانمة في هذا النادي، الذي أتى القائمون عليه ليثبتوا للناس أننا أمة العلم، يوم كانت الجاهلية تُخيِّم على الأذهان، وأننا أمة الفكر يوم سيطرت الهلوسة والهوج على عقول الناس.
وأننا أمة العلم والجمال والفن العفيف المسير بطاعة الله على نور من لا إله إلا الله، يوم عرف الناس أن الفن والجمال بالمعصية والصد عن سبيل الله، فنحن أمة علم، وأمة أدب نثراً وشعراً، ندل به على الله، ونسير به إلى الله، نحتسب بالبيت الشعري ما نحتسبه بالكلمة، ونحتسب في البيت الشعري ما نحتسبه بالتسبيحة التي يسبحها العابد في المسجد؛ لأن الله أرسل رسل هداية، كما يقول ربعي بن عامر يوم أن دخل على رستم فهز إيوانه، فقال له رستم: ماذا جاء بكم؟ قال ربعي: [[جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
فالرسول صلى الله عليه وسلم يوم أتى لنا -نحن أمة العرب- قبل الأمم الأخرى: ماذا كان مجدنا؟ وماذا كان تاريخنا؟ وما هي ثقافتنا؟ وما هي معرفتـنا؟ لا شـيء قال الله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] فأخرج أعراباً كان أحدهم يطارد الضبع، ولا يدري ما تاريخه، ولا ما مصيره! ولا لماذا خلقه الله! فوضأهم بماء التوبة، وأسمعهم أذان بلال، وأسجدهم لله على الصحراء، ونفض كل ذرة من ذرات الشرك من قلوبهم؛ فانطلقوا يهللون ويكبرون، أخذوا سيف الله تحت لا إله إلا الله، وساروا على أمواج بحر الله يُعلون لا إلا الله في المعمورة، فمات بعض الصحابة في طاشقند، ومات بعضهم في نهاوند، على أبواب القسطنطينية، وماتوا على مشارف أسبانيا، وفي رُبَى نهر الجانج، حتى قيل لـعمر حين قال: مَن الذي قُتل في نهاوند؟ قال الأحنف: قتل فلان وفلان وفلان، وأناس لا نعرفهم، فدمعت عينا عمر وقال: [[ لكن الله يعرفهم]] الله يعرف الذين قتلوا من أجله وبسببه لينشروا راية لا إله إلا الله، يعرفهم يوم يجمع الأولين والآخرين.
فاستفاقت على صباح جديد >>>>>ملء آذانَها أذانُ بلال
فتسابق الصحابة ليأخذوا رحله عليه الصلاة والسلام، وليكون لهم شرف استضافته صلى الله عليه وسلم، ليتشرفوا برؤيته عليه الصلاة والسلام، ولكن كان ذلك السبق لـأبي أيوب.
أتى فأخذ بزمام ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {دعوها فإنها مأمورة} لأنها مسيَّرة في خدمة دعوة لا إله إلا الله، فلما نزل صلى الله عليه وسلم، سبق أبو أيوب إلى رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم للناس وهو يبتسم: {المرء مع رحله} ثم قام باستضافته، وانتهت حياة أبي أيوب، لكن إيمانه لم ينتهِ، وحين كَبُر وشاخ، وأصبح يدبُّ على عصا كان إيمانه وقلبه شابين لم يهرما ولم يشيبا، فكثير من الناس شابٌّ، ولكنه كهل في تفكيره وإيمانه، وكثير من الناس قوي في جسمه، ولكنه هزيل ضعيف في يقينه وإيمانه: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4].
فقال أبو أيوب للصحابة - وهو في دمشق -: [[خذوني فوالله لأقاتلنَّ معكم الروم - وقد نيف على مائة عام - قالوا: كيف نأخذك وقد عفا الله عنك وعذرك عن الجهاد، قال: لا. إني سمعت الله يقول: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] وأنا ثقيل فوالله لأنفرنَّ]] فلما وصل إلى أبواب القسطنطينية، قال: [[اللهم لا ترجعني من هنا وادفني في هذا المكان، حتى تبعثني يوم القيامة، بين قوم كفار، أقول بينهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك]] ولبَّى الله له ما سأل؛ لأنه كان صادقاً، فلما انتهت المعركة، مات ودفن عند أبواب القسطنطينية، وهو مدفون هناك، وأرضه ومنزله في طيبة الطَّيِّبة؛ لكنه دفن في القسطنطينية ليشهد الإنسانية أننا حملة رسالة.
كنا جبالاً في الجبال وربما>>>>>سرنا على موج البحار بحارا
فهذا شاعر الباكستان - محمد إقبال - أعجمي في لغته، لكنه متيقظ متنور، عربي في قلبه وفي فطرته، أتى يحج في مكة قبل خمسين سنة، وظن أنه سوف يلقى أبناء الصحابة، وأحفاد التابعين، حملة الرسالة الذين رفعوا لا إله إلا الله، ودوخوا كسرى وقيصر، وبنوا المساجد في المعمورة، حتى أصبحت مآذنها سبابات، كما يقول الأستاذ علي الطنطاوي في قصص من التاريخ، يقول: دخلت أسبانيا، فرأيت المآذن كأنها سبابات فبكيت والله؛ لأن المساجد حولت إلى خمارات.
حين تحولنا نحن من لا إله إلا الله إلى غيرها، حولت مساجدنا التي بناها أجدادنا إلى خمارات، وإلى أرض للدعارات، وإلى حانات للفسق والخيانة والعهر، مات أصحاب الرسالة، ومات حملة لا إله إلا الله، فحج محمد إقبال شاعر الباكستان، فأخذ يتلمح في وجوه الناس، فإذا أناس لا يعيشون لله - إلا من رحم الله - الوجوه كأنها أتت من باريس، أين السنة التي تظهر على الوجوه؟ القلوب كأنها مستوردة، فهمُّ أحدهم قصر وسيارة، ووظيفة ومنصب، فأين حملة الرسالة؟ فبكى، وسجل قصيدته شكوى وجواب، يقول وهو يبتهل إلى الله ويطوف:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسـ >>>>>ـمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما>>>>>سرنا على موج البحار بحارا
أما سار خالد بن الوليد على موج النهر؟!
أما ركب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقال للخيل -وكانت ثلاثين ألفاً-: [[يا خيل الله اركبي]] فسمعت الصوت فاقتحمت النهر، فجمد الله لهم النهر فساروا عليه، كما جمد الله البحر لموسى عليه السلام؟!
أما وصل عقبة بن نافع إلى أطراف المحيط وقال: [[والله لو كنت أعلم أن وراءك أرضاً لخضت بفرسي هذا المحيط، حتى أبلغ دعوة الله في تلك الأرض؟!]]
.
أما وقف عقبة بن نافع وهو في أرض أفريقيا، يتكلم في الغابات ويقول: [[يا أيتها الغابات! أخرجي وحوشك، وثعابينك، وذئابك، وسباعك، فإن معي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]]؟! فوالله لقد خرجت الأسود من الغابة، وخرجت الثعابين، وزحفت الحيات، ثم سار بجيشه.
ولذلك يقول محمد إقبال:
بمعابد الإفرنج كان أذاننا>>>>>قبل الكتائب يفتح الأمصارا
دخلنا قبرص لا بجيش ولا بكتائب، أذن مؤذن المسلمين، فانقشعت كل قلاع قبرص، وأعلنوا الإستسلام ورفعوا أيديهم؛ لأنهم سمعوا الأذان.
بمعابد الإفرنج كان أذاننا>>>>>قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها >>>>>سجداتنا والأرض تقذف نارا
كم سجدنا في أفريقيا! وكم سجد أجدادنا في سيبيريا وفي آسيا! ولكن حين تغير الحال وأتى أناس لا يسجدون لله، ولا يعرفون الله؛ فسلط الله عليهم أعداءهم، فساموهم سوء العذاب، واستذلوهم، وأهانوهم ومقتوهم أمام العال؛ لأن من لم يعرف الله يسلط الله عليه إنساناً لا يعرف الله سبحانه وتعالى، والذي لا يخاف الله يسلط الله عليه مجرماً لا يخاف الله عز وجل، فالله عز وجل يبتلي من لا يعرفه ولا يتقرب إليه بمن لا يعرفه ولا يتقرب إليه.
نحن أمة رجولة ودعوة، وأمة رسالة، نجيد الشعر، لكن في مواضعه، فرسولنا ومعلمنا صلى الله عليه وسلم أجاز الشعر، واستمعه؛ ومع أنه لم يقله عليه الصلاة والسلام، لكنه هش وبش وحيَّا شعراءه في مسجده، ألم بقرِّب المنبر لـحسان وقال: (اهجهم وروح القدس يؤيدك)؟
أما جمع الشعراء في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقال: (اهجوهم وانتصروا؛ فإن الله عز وجل يحب من المؤمن أن ينصره بكنانِه، وينصره بلسانِه) فجهاد الكلمة، وجهاد اليد، وجهاد القلب، وجهاد المال مطلوب.
ويقول إقبال كذلك في المقطوعة نفسها - ولا أظن أنه نُظَم مثلها -:
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهـ>>>>>ـدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها>>>>>كنـزاً وصاغ الحلي والدينارا
أتى محمود بن سبكتكين أحد سلاطين الإسلام، الذي كان يملك المشرق، وسجادته ومصحفه بشماله -كما يقول الذهبي - ومسواكه دائماً بيمينه، والذي يراه يقول: عابد من العُباد، ثوبه بسبعة دراهم، وعنده من الجيوش التي يقول فيها أحد الشعراء:
ففي جيشه خمسون ألفاً كـعنتر >>>>> وأمضى وفي خُزَّانه ألف حاتم
مضى بالجيش، فلما عبر نهر السند، أتى إلى بعض ملوك الهند، وإذا صنم هناك، فقال له الملك: " خذ هذا الصـنم -رشوة - واتركنا في بلادنا، قال: هذا الصنم من ذهب، والله لا آخذه مالاً ولا أحوزه كنزاً؛ لأنه عُبد من دون الله " فأتى بالملك فقتله، ثم جعله فوق الصنم، ثم أشعل النار في الصنم وفي الملك، ولذلك يقول محمد إقبال:
كنا نرى الأصنام من ذهب>>>>>فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها>>>>>كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
فيا إخوتي في الله! تعالوا لنرى كيف عاش صلى الله عليه وسلم بالأدب، وكيف كان يعيش مع النوادي الأدبية، التي يجب أن تتحول -وهي الآن في طريقها- إلى أن تؤدي للأمة رسالتها الحقيقية، وتؤدي كلمة الحق، وتنفع شباب الإسلام، وتردهم إلى الله عز وجل، مسجده صلى الله عليه وسلم في المدينة بُني من طين، ليس من (بُلُك) ولا من حديد، ولا فيه زخرفة، وليس فيه كهرباء، وليس فيه (زل شيرازي) وليس فيه (كنبات) ولا زينات ولا زخارف، بل لُبينات من طين، لكنه منارة من منارات الأرض تتلقى نور السماء، كان إمامه محمد صلى الله عليه وسلم تلتقي به القلوب كل يوم خمس مرات، وفكر في ذهنك أنت: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يصلي بك العشاء الليلة، وسوف تسمعه يقرأ، ثم يسلم، ثم تصافحه وتسلم عليه , وتجلس معه، أي شعور وأي كرامة! وأي نعمة فوق هذه النعمة! عاش الصحابة هذا الشعور، فكان صلى الله عليه وسلم، يصلي بهم وهو رسول الله، وأكرم مَن خَلَقَ الله، وأرفع من أوجد الله عز وجل، فيلتفت إليهم، ووجهُهُ كالقمر ليلة البدر:
لو لم تكن فيه آيات مبينة>>>>>لكان منظره ينبيك بالخبر
فيتحدث معهم، فإذا هو مفتي الأمة، وليس في فن خاص؛ في الفرائض دون الفقه، أو في الفقه دون الفرائض، أو في التفسير بلا حديث، لكنَّ الله أفاض عليه من نعمته، فهو بحر لا ساحل له، يأتي إليه ملوك العرب فيعلمهم ويعطيهم، وتأتي المرأة بطفلها تستفتيه، فيأخذ طفلها -شفقة ورحمة ورقة- فيُقَبِّل طفلها ويضمه بين يديه، حتى يقول الله له: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] أي: عظيم هذا الخلق الذي تتعامل مع الناس به، عظيم هذا التحمل الذي تسري في الأمة به، ويقول له: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] أي: أنت لَيِّن، وأنت سهل، وأنت حبيب للقلوب، تحبك الأرواح، ولذلك يقول أحد المفكرين: " نحن العرب قبل أن يبعث الله فينا محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يجمعنا أحد، لا سيف عنترة، ولا صحفة حاتم ولا جود هرم بن سنان أبداً؛ لأننا -كما يقولون- كقرون الثوم، كلما كَسَرتَ قرناً، وجدتَ داخله قروناً، فلمَّا أتى عليه الصلاة والسلام، تسامح كل التسامح، نسي الحقد والغضب، كظم غيظه، بش للناس، كان قريباً إلى الأرواح والقلوب، فكيف لا يحبونه؟! وكيف لا يتمنون الجلوس معه؟!
يقوم في الصلاة -وانظروا إلى هذا المشهد- فيريد أن يطمئن ويقر عينه بالصلاة مع الله؛ لأنها قرة عينه، يريد أن يطيل الصلاة وأن يتدبر الآيات في الصلاة، وهو يصلي بالناس، فيسمع بكاء الطفل، فيعلم أن أمه تجد مشقةً وهي تصلي، فيتجوز في الصلاة ويسلِّم، ثم يلتفت إلى الناس فيقول: {أيها الناس! إني أريد أن أطيل الصلاة، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه} صلى الله عليك وسلم يا صاحـب الخـلق العظيم! فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
ويأتي في صلاة العصر بطفلة -وهي بنت ابنته صلى الله عليه وسلم-: {فيحملها على كتفه، ويصلي إماماً بالناس، فإذا سجد وضعها في الأرض، وإذا قام رفعها} من يفعل ذلك؟! إنه صلى الله عليه وسلم، يريد أن يكون قدوة للناس أجمعين.
وإذا خطبتَ فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء
يقول أنس: والله إني كنت ألتفتُ يوم الجمعة، فإذا الناس لهم خنين في المسجد، وكل وضع رأسه على ركبتيه من البكاء؛ لأنه كان يوصل القلوب بالله عز وجل.
لما التقينا كشفنا عن جماجمنا ليعلموا أننا بَكر فينصرفوا
قال البقية والهندي يحصدهم ولا بقيةَ إلا السيف فانكشَفوا
أتى يريد أن يسلم، ويريد أن يهديه الله عز وجل، ولكن كأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى علم عدم محبة الهداية من قلبه، والله سبحانه إذا علم منك حب الخير والهداية، والمسير إليه هداك وتولاك ورعاك: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:23-24] وقال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] وقال سبحانه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5] هم الذين زاغوا، فأزاغ قلوبهم بعد أن زاغوا.
فأتى هذا الرجل من اليمامة وأراد المال والدنيا، ولم يرد الهداية، فركب ناقته وكان أعْشَى لا يبصر إلا قليلاً، فلما ركب ناقته نظم قصيدة عصماء من أجلِّ القصائد عند العرب، يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يعطيه من مال الدنيا وذهَبِها وفضَّتِها، وجهل هذا الشاعر أن نعمة الله ورحمته أجلُّ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] فالسعادة عند المسلم ليست ذهباً وفضة، أو سيارة أو قصراً، أو منصباً أو وظيفة، فهذه والله أتفه من الحذاء الذي في أرجلنا! وكل هذه الأمور لا تساوي جلوسك في المسجد ساعة تسبح وتقرأ القرآن، أو تدعو الله عز وجل! والله لو طلعت الشمس على كنوز الدنيا وذهبها وفضتها، ثم قلت -كما صح في صحيح مسلم.
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر -وهن أربع كلمات- لما كانت الدنيا كلها تعدل هذه الكلمات الأربع، يقول صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) أحب إلي مما طلعت عليه الشمس} فهذه الدنيا زهيدة رخيصة، وسخيفة لا يعشقها إلا السخفاء، إنما نحن نتمول منها، نأكل ونشرب، ونسكن ونتعاطها؛ لأننا نمتهنها، أما إذا دخلت قلوبنا فنعوذ بالله منها.
فأتى الأعشى يريد الدنيا، يقول عَزَّ مِن قائلٍ: كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء:20] من أراد الدنيا يؤتيه الله من الدنيا، ومن أراد منصبها يعطيه من مناصبها، ومن أراد ذهبها وفضتها فليأخذ من ذهبها وفضتها، ولكن من أراد التقوى أعطاه الله من التقوى، ومن أراد العلم والفقه في الدين أعطاه الله من العلم والفقه في الدين: كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء:20] فركب الأعشى ناقته، وأخذ يترنَّم على الناقة، يجهِّز قصيدة؛ ليعرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا>>>>>وعادك ما عاد السليم مسهدا
شباب وشيب وافتقار وثروة >>>>>فللَّه هذا الدهر كيف ترددا
فآليت لا أرثي لها من كلالة >>>>>ولا من وجى حتى تزور محمدا
متى ما تناخي عن باب ابن هاشم>>>>>تراحي وتلقي من فواضله يدا
ثم أتى ببيتين من أحسن الأبيات، ويا ليته نفع نفسه بها واتعظ بها وأفادته في الحياة! لكن لم تنفعه، يقول:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى >>>>>ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألاَّ تكون كمثله >>>>>وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
فهذه موعظة؛ لكن ما اتعظ بها صاحبها، وكم من واعظ لا يتعظ، وكم من ناصح لا ينتصح، وكم من إنسان يرى الحق ولكن لا يتبعه! يقول الله عز وجل للإنسان: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] أي: فلماذا لا يهتدي؟! ولماذا لا يسلك الطريق الصواب؟!
فذهب هذا الرجل فلقيه أبو سفيان - وكان أبو سفيان عدواً للرسول في تلك الفترة - فقال: إلى أين يا أعشى؟ قال: أذهب إلى محمد الذي يزعم أنه نبي صلى الله عليه وسلم قال: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أمدحه بقصيدة؛ كما أمدح ملوك العرب، فيعطيني مائة ناقة، هذا مراده، وهذا مقصده، ولو كان يريد الهداية لسهل الله له الهداية، ولو كان يريد الاستقامة لأعطاه الله الاستقامة، لكن أراد الدنيا، فقال له أبو سفيان: أنا أعطيك مائة ناقة وعد من هنا؛ لأن أبا سفيان خاف أن يسلم هذا الشاعر -وقد كان وزارة إعلام متنقلة- فيفضح الجاهلية، ويندد بها في شعره، فرده بمائة ناقة فعاد، ولما قرب من الرياض، في ديراب - المكان المعروف الذي ذكره المؤرخون -وقصته ناقته، فإذا هو ميت، فلا دين ولا دنيا، لا ناقات سلمت له ولا حياة سعد بها، ولا (لا إله إلا الله) تمكنت في قلبه، ولا توجَّه إلى الله، فهذا هو التباب والخسار، وبقي هذان البيتان شاهدين عليه، يشهد كل بيت عليه، لأنه لم يتعظ.
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يستمع للشعر وكان يقبله.
تبسَّم صلى الله عليه وسلم لما سمع أن هذا الشاعر له قصيدة يمدح الله عز وجل، فقال: {إن ربك يحب المدح} ثم أنشده ما تيسر.
يقول ابن كثير في البداية والنهاية: " لما توفي أبو نواس، وكان أبو نواس من شعراء الدولة العباسية - وكان من الفساق في شعره وفي حياته، وعلمه عند الله -فلما توفي رئي في المنام، قيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: نظمت قصيدة وصفت فيها الوردة، ثم رددتها إلى قدرة الله عز وجل ".
فانظر كيف دخل الجنة من هذا الباب، فقد أتى إلى وردة باسقة في بستان، فوصفها، فأدخله الله الجنة، وقد أورد هذه الأبيات ابن كثير في تفسير سورة البقرة، ومنها:
تأمل في نبات الأرض وانظر>>>>>إلى آثار ما صنع المليكُ
عيون من لجين شاخصات>>>>>بأحداق هي الذهب السبيكُ
على قضب الزبرجد شاهداتٌ>>>>>بأن الله ليس له شريكُ
فأدخله الله بهذه المقطوعة الجنة. ثم يقول ابن كثير في ترجمة جرير الشاعر قال: " رئي في المنام، قالـوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قالوا: بماذا؟ قال: أذَّنتُ وحدي في البادية حيث لا يراني إلا الله؛ فغفر الله لي بذلك الأذان ".
هل أعظم من المسلم حين يكون في سفر ويصبح وحده في الصحراء لا يراه إلا الله، ولا يطلع عليه إلا الله، فينزل من سيارته، أو من مركوبه، ويقف ويتوضأ ثم يؤذن في الصحراء، يرفع كلمة التوحيد في الصحراء، حيث لا يسمعه إلا الشجر أو الحجر أو المدر، لأن هذه تشهد له يوم القيامة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل الإنسان إلى هذا الدين وإلى أبواب الجنة، إن كنت متكلماً خطيباً فاتقِ الله في خطابتك، واخدم بها هذا الدين، وإن كنت شاعراً مطبقاً مصقعاً فادخل أبواب الجنة بشعرك، وارفع به راية الإسلام، وإن كنت راسماً فناناً فاتقِ الله في رسمك واخدم به دينك، ارسم ما يقرب قدره إلى الأذهان، ممَّا لا روح فيه، ولا تضاه خلق الله، ولكن قرب الطبيعة إلى الناس، علمهم قدرة الله، بين لهم كيف خلق الله الزهرة، وكيف أبدع لونها، وكيف أرسل شذاها، وكيف جمل مرآها، وكيف سوَّى معناها؛ لتنال المحبة من الله عز وجل والرضا.
إن من أراد دخول الجنة ما عليه إلا أن يصدق مع الله، ثم ليفتح باباً له، فإن الأبواب بعدد الأنفاس.
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
فهو يحلف على نفسه أن تنزل إلى المعركة. فنزل مع الغروب، وأدركته الراية، لأنه هو القائد الثالث من القواد الذين عيَّنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثة آلاف في مقابل مائتي ألف، فلما أتى الغروب قال للناس: إني صائم ولا أستطيع المقاتلة، فناولوني شيئاً آكله، فناولوه عرق لحم، فأخذ منه قطعة - لقمة - فأراد أن يستسيغها وأن يبتلعها فما استطاع - فهو يسمع مع الغروب تحطيم السيوف، ويسمع الرماح وهي تتكسر على رءوس الأبطال، ومعه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - قال: والله لا آكل من هذا ولا آكل إلا في الجنة - إن شاء الله - ثم رمى بالعرق من يده، ثم أقبل وهو يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
يقول: أما تسمعين حَطَمَة السيوف؟ من يكره الجنة؟!
الذي يبقى في الحياة، ويحب أن يحيا بلا طاعة ولا عبادة، ولا اتصال بالله يكره الجنة. وقبله أتى الشاب جعفر رضي الله عنه وأرضاه، فأتى يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها>>>>>طيبة وبارد شرابها
إي والله، أمَّا الدنيا فليست بطيبة، لأنك إذا شبعتَ في الدنيا تنغصتَ بذلك، وإذا سررت وفرحت بأبنائك نغص عليك الموت هذه الفرحة، وإذا اجتمع أهلك فرقهم هاذم اللذات، وإذا صحَّ جسمك أتاه الهرم والأمراض والتعاسة، وإذا رأيت ببصرك، وأمعنت النظر، أتاك العمى والعمش، وإذا سمعت الصوت الجميل بأذنَيك، فهي مرحلة ويصيبك بعدها الصمم أو تموت، فهي دنيا منغصة، يقول الحسن البصري: [[ابتغوا لأنفسكم داراً غير هذه الدار، فإن الموت قد فضح هذه الدار]]. حتى يقول عبد الملك بن مروان لما حضرته الوفاة -كما ذكر عنه الذهبي في المجلد الرابع من سير أعلام النبلاء - يقول: [[أنزلوني من على عرش الملك وسريره، فأنزلوه، فأخذ يمرغ وجهه في التراب ويبكي، ويقول: يا من لا يزول ملكه! ارحم من زال ملكه، وسمع وهو في سكرات الموت غسالاً ينشد، فقال: يا ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت غسالاً! يا ليتني ما توليت أمر الأمة!]] قال سعيد بن المسيب: [[الحمد الذي جعلهم يفرون عند الموت إلينا، ولا نفر إليهم]] ولذلك يقول علي فيما حُفِظ عنه رضي الله عنه وأرضاه وهو يبكي على منبر الكوفة يوم الجمعة:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها>>>>>إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه>>>>>وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها>>>>>ودورنا لخراب الدار نبنيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة>>>>>حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
فاعمل لدار غداً رضوانُ خازنها>>>>>والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها>>>>>والزعفران حشيش نابت فيها
فلذلك كان من المهم عند المسلم أن يعمل لتلك الدار.
والشاهد من هذه القصة، أن العمل والاتجاه إنما يكون لدار البقاء لا لدار الفناء. التي لا بقاء فيها، فهي دار ذاهبة مرتحلة.
نحن الملوك فلا حي يغالبنا منا الملوك وفينا تنصب البِيَعُ
فألقى حوالي خمسين بيتاً في مدح بني تميم، وسكت عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أنت يا حسان؟ قال: عندك يا رسول الله! -وحسان بن ثابت شاعر الإسلام، شاعر الدعوة - قال: أتستطيع أن ترد على هذا؟- لأن هذا بهت الناس، جاء بقصيدة جزلة قوية، ارتجلها وأعد لها، ومحص كلماتها، والموقف عجل، لا يتحمل أن يعد حسان، بل يَرُد في الحال، فقال حسان عندي رد لهم يا رسول الله! عندي لسان لو وضعتُه على شعر لحلقه، ولو وضعتُه على حجر لفلقه، ثم أخرج لسانه وضرب أرنبة أنفه، ثم ألقى قصيدة عصماء، فكانت أعظم من قصيدتهم، وقالوا: غلب خطيبك خطيبنا، وشاعرك شاعرنا، مدَّ يدك نبايعك على لا إله إلا الله، فدخلوا في دين الله.
يقول الأول لما رأى مجدنا، ورأى مساجد طويلة عريضة ولا يصلي فيها إلا صف، والحارات والأحياء مكتظة بالسكان! فأين الأمة الحية؟! أين أمة الرسالة؟! أين أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وطارق؟! أين هم؟! أماتوا؟!
أرى التفكير أدركه خمول >>>>>ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور >>>>>ولا سحر يطل من المقال
وعند الناس فلسفة وفكر>>>>>ولكن أين تلقين الغزالي
منائركم علت في كل ساحٍ>>>>>ومسجدكم من العباد خالي
اتقوا الله، زخرفنا المنائر، جملنا المساجد، تباهينا بالعمران، لكن القلوب ميتة.
وجلجلة الأذان بكل حي >>>>>ولكن أين صوت من بلال
أما الأذان والمؤذنون فإنهم على الأوقات، لأن هناك أجراً، ولكن لا مصلين، لا علم يُدرس في المساجد، لا فقه في الدين، لا تحمس لرسالة الله عز وجل، فموقفنا هذا ينبغي أن يكون أحسن وأحسن، أقرب إلى الله وأقرب وأجد، لأن الأمة التي تحمل الرسالة، لا تشتغل من الدنيا إلا بما تقوم به حياتها، ولا تأخذ من الدنيا إلا حاجتها، فليُعْلم ذلك، فإنه من العلم الذي لا بد أن يعلمه الناس، وهو معلوم عند الكثير.
نسينا في ودادك كل غالٍ >>>>>فأنت الآن أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي >>>>>لنا شرفاً نلام وما علينا
ولمَّا نلقكم لكنَّ شوقاً >>>>>يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا >>>>>لعمر الله بعدك ما سلينا
الذي يريد أن يهديه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الصراط المستقيم، فليجعل من حياته عملاً صالحاً وليجعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة له.
قيل لـابن المبارك: [[كيف تذهب وتتركنا، وتجلس وحدك في البيت؟ قال: أنتم لا خير فيكم، أنتم تغتابون الناس، وأنا أجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع الصحابة، قالوا: كيف تجلس وبينك وبينهم مائة وعشرين سنة؟ قال: إني أقرأ في الكتب أخبارهم وأعلامهم، فكأني جالس معهم]] جلوسك من صحيح البخاري، وصحيح مسلم جنة إن كان في الدنيا جنة، وسعادة إن كانت في الدنيا سعادة، أحسن لك وأولى من أن تجلس مع المعرضين الصادين عن الله عز وجل.
وأسأل الله عز وجل -كما جمعنا في هذا المجلس الطيب العامر، والنادي القوي الموجَّه- أن يجمعنا في مستقر رحمته، يوم يتقبل الله عنا أحسن ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، اللهم بعلمك الغيب , وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى على محمد وعلى آله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً.
.
الجواب: لا بأس بذلك، سبق في الكلمة أنني ذكرت أنه نسب إلى علي رضي الله عنه قوله:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها >>>>>إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه>>>>>وإن بناها بشر خاب بانيها
ولي قصيدة على تلك القصيدة اسميتها: دمعة الخنساء:
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها>>>>>إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم>>>>>ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
عاريّة المال قد ردت لصاحبها>>>>>وأكنف البيت قد عادت لبانيها
والأينق العشر قد هضت أجنتها>>>>>وثلة الورق قد ضجت بواكيها
يا رب نفسي كبت مما ألم بها>>>>>فزكها يا كريم أنت هاديها
هامت إليك فلما أجهدت تعباً>>>>>رنت إليك فحنت قبل حاديها
إذا تشكت كلال السير أسعدها>>>>>شوق القدوم فتعدو في تدانيها
حتى إذا ما كبت خوفاً لخالقها>>>>>ترقرق الدمع حزناً من مآقيها
فإن عفوت فظني فيك يا أملي>>>>>وإن سطوت فقد حلت بجانيها
إن لم تجرني برشد منك في سفري>>>>>فسوف أبقى ضليلاً في الفلا فيها
وهنا أبيات من قصيدة نظمتها في موسم الحج، في الدعاة:
يا مجمع الخير حيوا لي محياه نداء حق من الفصحى سمعناه
قد أطرب الأذن فانصاغت لنغمته>>>>>وأطرقت برهة تصغي لفحواه
يقول للجيل والإيمان رافده >>>>>عودوا إلى الله فقد ناداكم الله
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا >>>>>وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا >>>>>فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا >>>>>فإن رجعنا إلى الشاطي نسيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة >>>>>فما سقطنا لأن الحافظ الله
فلا تغرنك الدنيا وزينتها >>>>>فإنها طلل قد هد أعلاه
كن كالصحابة في زهد وفي ورع >>>>>القوم هم ما لهم في الناس أشباه
عُبَّاد ليل إذا جن الظلام بهم >>>>>كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد به >>>>>هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً >>>>>يشيدوا لنا مجداً أضعناه
الجواب: هذا الكلام واقع، والشيوعية الماركسية جربت نشر الإلحاد بالمادة وبالاقتصاد قبل ما يقارب أربعين سنة، فنجحت بعض النجاح، فلما أتى الأدب واشتغل الناس بالثقافة، وردت إلى السوق بالأدب، وهذا الأدب الإلحادي يصد الإنسان ويجعله أديباً منسلخاً عن قيمه ورسالته ومبادئه، ولذلك وجد في العالم العربي شعراء ألحدوا بالله عز وجل، وكفروا به؛ لأنهم اتجهوا إلى الفن، وظنوا أن معنى الأدب أن ينسلخ الإنسان عن إيمانه، وأتوا بقصائد الكفر والإلحاد، مثل قصيدة بشارة الخوري، المسيحي، الذي يقول عن القومية العربية مهاجماً بها الدين:
بلادك قدمها على كل ملة>>>>>ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
هبوا لي دينا يجعل العرب أمة>>>>>وسيروا بجثماني على دين برهم
يقول: سيروا بجثماني على دين برهمٍ، ولا تذكروا لي الإسلام، إذا كان يفرق بين العروبة، فكفر بهذه الكلمة، وأتى السياب في العراق بقصائد يستحي الإنسان أن يقولها، وأتى أدونيس وهو شاعر فلسطيني، سمى نفسه باسم صنم من أصنام اليونان التي كانت تعبد من دون الله، ثم ألحد بشعره، فأتت هذه الموجة تدعو الناس أن يتجهوا إلى هذا المذهب الفكري المنسلخ من لا إله إلا الله، ولكن بقي الحق في الساحة، لأن سنة الله تعالى في الخلق أن تبقى عصابة تدافع عن الدين بالأدب وبالشعر وبالنثر وبالخطابة وبالقصة وبالموعظة وبالعلم وبالعبادة، فأبقى الله عز وجل من يذب عن دينه من الأدباء الصالحين، ومن التمس أدبهم وجده، لكن هذا السؤال يحتاج إلى محاضرة واستقراءٍ لما قالوا في الساحة، ولما تكلموا به ولما كفروا في شعرهم به -نعوذ بالله من ذلك- فإن بعض الكلام يُسْتَحيا أن يُذْكَر في مثل هذا المجلس، ونكرم مجلسنا أن نذكر كلامهم فيه.
الجواب: أولاً هذا الكلام الوارد عارٍ من الدليل، وما أعرف أحداً من أهل العلم ولا أهل السير، ولا أهل التاريخ، ذكر هذه القضية.
أولاً: كان كعب بن زهير مزنياً من مُزَينة، وكعب بن مالك أنصاري، رضي الله عنه أورضاه.
ثانياً: كيف يُنكَر أن القصيدة لذاك الرجل، وهو فحل في الشعر لا يقارَن، وهو ابن زهير بن أبي سلمى، الذي كان من شعراء العرب، فما هو دليله على إيراد هذه الكلمة؟ على أن حديث بانت سعاد، ضعيف عند المحدثين، بأنه ألقاه عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكنه يستند أولاً إلى أن القصيدة في جودتها وفي أصالتها، لا بد أن لها أصلاً، ولا يقولها إلاً مثل كعب، أما هذا الكلام فليس بصحيح، من ثلاثة واجهات:
أولاً: بُعْدُ ما بين الرجلين.
ثانياً: شاعرية كعب بن زهير، فهو أقوى من شاعرية كعب بن مالك فكيف يحتاج إليه؟!
ثالثاً: أنه ذكر التوبة والإنابة فيها، والرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما كعب بن مالك فلم يقع منه ذلك في تلك الفترة حتى يذكر هذا.
الجواب: نعم، هذا الكلام ورد، ولذلك ألفت النقائض، والعجيب أن مطابع النصارى، مثل مطابع لبنان، لا تخرج إلا النقائض، أمسكت عن الشعر الإسلامي الذي يستفاد منه، وديوان حسان وأمثاله، ثم أخذت النقائض ونشرتها بين الناس وبين الأمة العربية الإسلامية، لتثير الدخيلة بينهم والضغائن والحقد والغش، كما وقع بين جرير والفرزدق، وكلاهما من بني تميم.
النقائض: هذا يهجو هذا، وهذا يرد عليه، وربما تطرق للقبيلة بأسرها فهجاها، وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {إن من أفرى الفرى أن يهجو الشاعر القبيلة بأسرها} وهذه فرية على الله عز وجل، فرأي الإسلام أن هذا الأمر حرام، وسب المسلم أو شتمه أو لعنه كقتله، نعوذ بالله من ذلك، فليُعْلم - بارك الله فيكم - أن هذا فرى، وأنه دجل وضياع للعمر، وأنه صد عن طاعة الله عز وجل، ولا يفعل ذلك إلا من سفه نفسه، وليس له رسالة في الحياة، وهؤلاء نأخذ شعرهم مثل جرير والفرزدق في جانب الأدب والاستشهاد، أما في جانب القضايا الاجتماعية والأخلاق، فلا نأخذ ديننا إلا من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , استثمار الأدب في خدمة الدعوة للشيخ : عائض القرني
https://audio.islamweb.net