إسلام ويب

استثمار الأدب في خدمة الدعوةللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأدب في الإسلام له دوره ومجاله في نشر الإسلام والدعوة إليه، وقد شجع الرسول الصحابة على الشعر المحمود في موطنه. فأمتنا هي أمة الأدب والعلم والفكر والجمال.
    الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، كانت أعيننا عمياً ففتحها بإذن الله، وكانت رءوسنا مخفوضة فرفعها بعون الله:

    إن البرية يوم مبعث أحمد     نظر الإله لها فبدل حالها

    بل كرم الإنسان حين اختار من     خير البرية نجمها وهلالها

    لبس المرقع وهو قائد أمة     جبتِ الكنوزَ فكسَّرت أغلالها

    صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    فإنها سعادة لي أن ألتقي بهذه الوجوه الباسمة الغانمة في هذا النادي، الذي أتى القائمون عليه ليثبتوا للناس أننا أمة العلم، يوم كانت الجاهلية تُخيِّم على الأذهان، وأننا أمة الفكر يوم سيطرت الهلوسة والهوج على عقول الناس.

    وأننا أمة العلم والجمال والفن العفيف المسير بطاعة الله على نور من لا إله إلا الله، يوم عرف الناس أن الفن والجمال بالمعصية والصد عن سبيل الله، فنحن أمة علم، وأمة أدب نثراً وشعراً، ندل به على الله، ونسير به إلى الله، نحتسب بالبيت الشعري ما نحتسبه بالكلمة، ونحتسب في البيت الشعري ما نحتسبه بالتسبيحة التي يسبحها العابد في المسجد؛ لأن الله أرسل رسل هداية، كما يقول ربعي بن عامر يوم أن دخل على رستم فهز إيوانه، فقال له رستم: ماذا جاء بكم؟ قال ربعي: [[جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].

    فالرسول صلى الله عليه وسلم يوم أتى لنا -نحن أمة العرب- قبل الأمم الأخرى: ماذا كان مجدنا؟ وماذا كان تاريخنا؟ وما هي ثقافتنا؟ وما هي معرفتـنا؟ لا شـيء قال الله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] فأخرج أعراباً كان أحدهم يطارد الضبع، ولا يدري ما تاريخه، ولا ما مصيره! ولا لماذا خلقه الله! فوضأهم بماء التوبة، وأسمعهم أذان بلال، وأسجدهم لله على الصحراء، ونفض كل ذرة من ذرات الشرك من قلوبهم؛ فانطلقوا يهللون ويكبرون، أخذوا سيف الله تحت لا إله إلا الله، وساروا على أمواج بحر الله يُعلون لا إلا الله في المعمورة، فمات بعض الصحابة في طاشقند، ومات بعضهم في نهاوند، على أبواب القسطنطينية، وماتوا على مشارف أسبانيا، وفي رُبَى نهر الجانج، حتى قيل لـعمر حين قال: مَن الذي قُتل في نهاوند؟ قال الأحنف: قتل فلان وفلان وفلان، وأناس لا نعرفهم، فدمعت عينا عمر وقال: [[ لكن الله يعرفهم]] الله يعرف الذين قتلوا من أجله وبسببه لينشروا راية لا إله إلا الله، يعرفهم يوم يجمع الأولين والآخرين.

    شهيد القسطنطينية

    ولذلك يقول الشيخ الكبير أبو أيوب الأنصاري الذي استضاف النبي صلى الله عليه وسلم يوم أن نزل إلى المدينة، فكان له شرف مقدمه عليه الصلاة والسلام؛ يوم أتى إلى أهل المدينة، كما يأتي النسيم العليل إلى صدر المريض، أو كما يأتي الماء البارد إلى كبد الظمآن الشديد الظمأ أو كما تأتي العافية إلى المحموم، دخل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة.

    فاستفاقت على صباح جديد      ملء آذانَها أذانُ بلال

    فتسابق الصحابة ليأخذوا رحله عليه الصلاة والسلام، وليكون لهم شرف استضافته صلى الله عليه وسلم، ليتشرفوا برؤيته عليه الصلاة والسلام، ولكن كان ذلك السبق لـأبي أيوب.

    أتى فأخذ بزمام ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {دعوها فإنها مأمورة} لأنها مسيَّرة في خدمة دعوة لا إله إلا الله، فلما نزل صلى الله عليه وسلم، سبق أبو أيوب إلى رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم للناس وهو يبتسم: {المرء مع رحله} ثم قام باستضافته، وانتهت حياة أبي أيوب، لكن إيمانه لم ينتهِ، وحين كَبُر وشاخ، وأصبح يدبُّ على عصا كان إيمانه وقلبه شابين لم يهرما ولم يشيبا، فكثير من الناس شابٌّ، ولكنه كهل في تفكيره وإيمانه، وكثير من الناس قوي في جسمه، ولكنه هزيل ضعيف في يقينه وإيمانه: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4].

    فقال أبو أيوب للصحابة - وهو في دمشق -: [[خذوني فوالله لأقاتلنَّ معكم الروم - وقد نيف على مائة عام - قالوا: كيف نأخذك وقد عفا الله عنك وعذرك عن الجهاد، قال: لا. إني سمعت الله يقول: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] وأنا ثقيل فوالله لأنفرنَّ]] فلما وصل إلى أبواب القسطنطينية، قال: [[اللهم لا ترجعني من هنا وادفني في هذا المكان، حتى تبعثني يوم القيامة، بين قوم كفار، أقول بينهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك]] ولبَّى الله له ما سأل؛ لأنه كان صادقاً، فلما انتهت المعركة، مات ودفن عند أبواب القسطنطينية، وهو مدفون هناك، وأرضه ومنزله في طيبة الطَّيِّبة؛ لكنه دفن في القسطنطينية ليشهد الإنسانية أننا حملة رسالة.

    محمد إقبال يصف حال المسلمين

    من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسـ      ـمك فوق هامات النجوم منارا

    كنا جبالاً في الجبال وربما     سرنا على موج البحار بحارا

    فهذا شاعر الباكستان - محمد إقبال - أعجمي في لغته، لكنه متيقظ متنور، عربي في قلبه وفي فطرته، أتى يحج في مكة قبل خمسين سنة، وظن أنه سوف يلقى أبناء الصحابة، وأحفاد التابعين، حملة الرسالة الذين رفعوا لا إله إلا الله، ودوخوا كسرى وقيصر، وبنوا المساجد في المعمورة، حتى أصبحت مآذنها سبابات، كما يقول الأستاذ علي الطنطاوي في قصص من التاريخ، يقول: دخلت أسبانيا، فرأيت المآذن كأنها سبابات فبكيت والله؛ لأن المساجد حولت إلى خمارات.

    حين تحولنا نحن من لا إله إلا الله إلى غيرها، حولت مساجدنا التي بناها أجدادنا إلى خمارات، وإلى أرض للدعارات، وإلى حانات للفسق والخيانة والعهر، مات أصحاب الرسالة، ومات حملة لا إله إلا الله، فحج محمد إقبال شاعر الباكستان، فأخذ يتلمح في وجوه الناس، فإذا أناس لا يعيشون لله - إلا من رحم الله - الوجوه كأنها أتت من باريس، أين السنة التي تظهر على الوجوه؟ القلوب كأنها مستوردة، فهمُّ أحدهم قصر وسيارة، ووظيفة ومنصب، فأين حملة الرسالة؟ فبكى، وسجل قصيدته شكوى وجواب، يقول وهو يبتهل إلى الله ويطوف:

    من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسـ      ـمك فوق هامات النجوم منارا

    كنا جبالاً في الجبال وربما     سرنا على موج البحار بحارا

    أما سار خالد بن الوليد على موج النهر؟!

    أما ركب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقال للخيل -وكانت ثلاثين ألفاً-: [[يا خيل الله اركبي]] فسمعت الصوت فاقتحمت النهر، فجمد الله لهم النهر فساروا عليه، كما جمد الله البحر لموسى عليه السلام؟!

    أما وصل عقبة بن نافع إلى أطراف المحيط وقال: [[والله لو كنت أعلم أن وراءك أرضاً لخضت بفرسي هذا المحيط، حتى أبلغ دعوة الله في تلك الأرض؟!]]

    .

    أما وقف عقبة بن نافع وهو في أرض أفريقيا، يتكلم في الغابات ويقول: [[يا أيتها الغابات! أخرجي وحوشك، وثعابينك، وذئابك، وسباعك، فإن معي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]]؟! فوالله لقد خرجت الأسود من الغابة، وخرجت الثعابين، وزحفت الحيات، ثم سار بجيشه.

    ولذلك يقول محمد إقبال:

    بمعابد الإفرنج كان أذاننا     قبل الكتائب يفتح الأمصارا

    دخلنا قبرص لا بجيش ولا بكتائب، أذن مؤذن المسلمين، فانقشعت كل قلاع قبرص، وأعلنوا الإستسلام ورفعوا أيديهم؛ لأنهم سمعوا الأذان.

    بمعابد الإفرنج كان أذاننا     قبل الكتائب يفتح الأمصارا

    لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها      سجداتنا والأرض تقذف نارا

    كم سجدنا في أفريقيا! وكم سجد أجدادنا في سيبيريا وفي آسيا! ولكن حين تغير الحال وأتى أناس لا يسجدون لله، ولا يعرفون الله؛ فسلط الله عليهم أعداءهم، فساموهم سوء العذاب، واستذلوهم، وأهانوهم ومقتوهم أمام العال؛ لأن من لم يعرف الله يسلط الله عليه إنساناً لا يعرف الله سبحانه وتعالى، والذي لا يخاف الله يسلط الله عليه مجرماً لا يخاف الله عز وجل، فالله عز وجل يبتلي من لا يعرفه ولا يتقرب إليه بمن لا يعرفه ولا يتقرب إليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088795337

    عدد مرات الحفظ

    779090996