أما بعد:
فإن الغيرة من الغرائز البشرية التي أودعها الله في الإنسان، وهي مشتقةٌ من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وهي الحمية وكره شركة الغير في حق الإنسان، وهذه الغيرة شرعت لحفظ الأنساب، وهي مقصد من مقاصد الشريعة، ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب؛ ولذا قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها.
لقد اعتبر الشارع من قتل في سبيل الدفاع عن عرضه شهيداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون أهله فهو شهيد).
ومن لا يغار على أهله ولا محارمه يسمى ديوثاً، والدياثة من الرذائل التي ورد فيها وعيد شديد، وهي من الكبائر عند العلماء، كما دل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا ينظر الله عزَّ وجلَّ إليهم يوم القيامة ... وذكر منهم: الديوث) وهو الذي يقر الخبث في أهله.
وفي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه).
وفي الصحيحين في خطبته صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف أنه قال: (يا أمة محمد! والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد! لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً. ثم رفع يديه، فقال: اللهم هل بلغت؟) وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقيب صلاة الكسوف سرٌ بديع لمن تأمله، فظهور الزنا من أمارات خراب العالم، وهو من أشراط الساعة كما أخبر عليه الصلاة والسلام بقوله في أشراطها: (ويظهر الزنا)، وقد جرت سنة الله سبحانه في خلقه، أنه عند ظهور الزنا يغضب الله سبحانه وتعالى ويشتد غضبه، فلا بد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبةً؛ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ما ظهر الربا والزنا في قريةٍ إلا أذن الله بهلاكها].
وغيرة الله صفة من صفاته سبحانه وتعالى، نثبتها له كما يليق بجلاله وعظمته، والمؤمن يستفيد من أسماء الرب وصفاته، ويتخلق بما يناسب ذلك منها في حق المخلوق وبما يليق، فإذا كان الله يغار والغيرة تناسب المخلوق؛ فإن المخلوق يغار أيضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المؤمن يغار.
وإذا تأملت كلام السلف في حفظ النساء، وجدته نابعاً من غيرتهم؛ قال عبد الله عن قرار النساء في البيوت: [فإن النساء عورة، وإن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وقال لها: إنك لا تمرين بأحدٍ إلا أُعجب بك] وفي كلام بعض السلف الاستعانة على حفظ النساء في البيوت، وعدم الإكثار من ثيابهن وزينتهن؛ لأنها إذا كثرت ثيابها وحسنت زينتها أعجبها الخروج.
وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: [كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها].
وكذلك كانت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن بالليل إلى المناصع يتبرزن فيه وهو صعيد أفيح، فكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: [احجب نساءك] فلم يكن يفعل؛ لأن الوجوب لم ينزل بذلك، فخرجت سودة ليلةً من الليالي، وكانت امرأة طويلةً رضي الله عنها وهي أم المؤمنين، فناداها عمر: قد عرفناك يا سودة . حرصاً على أن ينزل الحجاب، قالت عائشة: [فأنزل الحجاب].
وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: [إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر -الضيوف عندك كثر.. الأعراب وزعماء القبائل والناس يأتون إليك يا رسول الله- فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب].
أيها الإخوة: إن غيرة عمر رضي الله تعالى عنه لو رأى بها ما أحدث الناس في هذا الزمان لكان له شأن آخر.
وقال محمد بن علي بن الحسين : [وما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب].
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فيمن طلع إلى بيته فوجد عند امرأته رجلاً أجنبياً، فوفاها حقها وطلقها، ثم رجع وصالحها، وسمع أنها وجدت بجنب أجنبي مرةً أخرى؟
فأجاب رحمه الله: في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الجنة قال: وعزتي وجلالي لا يدخلكِ بخيل ولا كذابٌ ولا ديوث) والديوث: الذي لا غيرة له، وفي الصحيح، وذكر حديث: (إن المؤمن يغار وإن الله يغار) وقد قال تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ... الآية[النور:3] ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء: أن الزانية لا يجوز تزوجها إلا بعد التوبة، وكذلك إذا كانت المرأة تزني لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال؛ بل يفارقها وإلا كان ديوثاً.
وقد ذكر العلماء في اشتراط المحرم للمرأة في سفر الحج والعمرة -فما بالك بالأسفار الأخرى- أنه إذا كان المحرم قليل الحمية لا يغار عليها، فإنه لا يكتفى به في السفر، وأما إذا كان يغار ولو كان فاسقاً في نفسه جاز أن يكون محرماً؛ لأن بعض الناس قد يكون فاسقاً لكن له غيرة على محارمه لا يرضى لهن مواضع الريبة، والنساء من طبعهن التبرج والتبهرج، والتبهرج: هو لبس أفخر الثياب والتجمل والتحسن عند إرادة الخروج، وهذه لو سلمت لم يسلم الناس منها، ولذلك كان لا بد للأزواج وللآباء وللإخوان -بل حتى للأولاد- أن يغاروا على نسائهم.. من زوجاتٍ وبناتٍ وأخواتٍ وأمهات، وأن تفهم المرأة أنها ما التمست وجه الله بمثل أن تقعد في بيتها، وتعبد ربها، وتطيع بعلها.
وقال علي رضي الله تعالى عنه لزوجته فاطمة : [ما خيرٌ للمرأة؟ قالت: ألاَّ ترى الرجال ولا يروها]، وكان علي رضي الله عنه يقول: [ألا تستحون؟! ألا تغارون؟! يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها] ولذلك كان ينبغي على المرأة أن تغض طرفها حتى هي عن الرجال؛ اتقاء الفتنة، وإذا اضطرت للخروج لزيارة والدٍ أو غيره خرجت بإذن زوجها غير متبهرجةٍ، وتغض طرفها في مشيتها، ولا تنظر يميناً ولا شمالاً، كما ذكر العلماء في آداب خروج المرأة من بيتها.
عباد الله: إن الزوج الشهم العظيم الحسن الخلق الذي يخاف الله تعالى ويغار على زوجته أن يرى أجنبيٌ شيئاً من جسدها، إنه لا يخرج بها كاشفةً وجهها ولا مقدم شعرها، لا في سيارةٍ ينظر إليها الغادي والرائح عند إشارات المرور، ولا في الأسواق يمشي بجانبها قد أشهد العالمين على دياثته في رضاه بتبرجها، وإنه يغار عليها أن ينفرد بها أجنبيٌ في سيارةٍ أو غيرها، ويغار عليها أن يسترسل معها أجنبيٌ بحديث في محلٍ أو غيره، ويغار عليها أن تختلط بالرجال في أماكن العمل.. وهكذا تحفظ المرأة إذا كان الرجل صاحب غيرة.
أما إذا لم يكن فالشكوى لله، ولا شك أن من أسباب الفساد في هذا الزمان: فسق النساء، ودياثة الرجال، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وإذا قال قائل: ما هو الرأي فيما يسمى بـ(جرائم الشرف) التي تتحدث عنها بعض الصحف، ويثيرون هذه القضية فيمن يقتل ابنته أو أخته أو زوجته إذا رآها مع رجل؟
فالجواب: أن حدود الله معلومة معروفة، ولا يجوز لإنسان إذا رأى ابنته أو أخته أن يقتلها في مثل هذه الحال إذا لم يكن الحد الشرعي هو القتل، كأن تكون غير متزوجة، فإن الشارع لم يقل بقتلها حتى لو زنت، وكذلك فإنها تعطى الفرصة لتتوب، وقتلها يفوت الفرصة، ثم هو اعتداء، ثم إن إقامة الحدود مناطة بالحاكم الشرعي وحكم القاضي العدل وليس إلى أهواء الناس.
ولكنني أنبه -أيها الأخوة- إلى أن بعض هؤلاء الكتاب الذين يتناولون قضية (جرائم الشرف) ويهولون في الأمر ويعظمونه، لا يريدون من وراء ذلك إظهار حكم الشريعة، ولا أن ينهوا عن الاعتداء الذي حرمه الله كما تبين لكم، وإنما يريدون انهيار الحدود، وتدمير الأخلاق، وشيوع الفاحشة؛ فينتهزون فرصة تعدي بعض الناس فيما يسمى بـ(جرائم الشرف) ليصلوا من وراء ذلك إلى ترك الأخوات والبنات في غاية الحرية يفعلن ما يشأن.
إذاً: يريدون من وراء تناول قضايا (جرائم الشرف) -من منظورهم- إعطاء البنت والأخت الحرية لتفعل ما تشاء ولو بالحرام، ويدسون في كلامهم من أجل الوصول إلى هذه الغاية الخبيثة، والمسلم نبيه فطن لا تروج عليه مثل هذه الكتابات الفاسدة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يغار على حرماته.
اللهم إنا نسألك الغيرة الشرعية، وأن تجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنك سميع مجيب قريب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله: إن الغيرة أنواع، وإنها بحسب ما يغار عليه في الأحكام، وإن الغيرة على شريعة الله ودينه عبادة واجبة يتقرب بها إلى الله، وقد ضيعها اليوم كثيرٌ من المسلمين، فترى دين الله ينتهك في المجالس، وآياته يكفر بها ويستهزأ بها، ولا تجد في المجلس من يغار لله فيرد ويدافع عن شريعته، ويغضب لله عزَّ وجلَّ فيقوم بالواجب في إنكار المنكر.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله في شرح حديث سفيان التمار : (أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً) رواه البخاري .
قال: كم قد سرى في تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها:
اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرةٌ على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا.
وبالجملة: إنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ومع هذا المنكر الشنيع، والكفر الفضيع، لا تجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف؛ لا عالماً ولا متعلماً ولا أميراً ولا وزيراً، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء المقبورين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجراً، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة!!
فيا علماء الدين! أي رزءٍ للإسلام أشد من الكفر؟! وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟! وأي مصيبةٍ يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟! وأي منكرٍ يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجباً؟!
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي |
ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد |
هذا كلامه -رحمه الله- عن بعض ما شاهده في بلاد اليمن التي كان فيها، وهو من علماء القرون المتأخرة رحمه الله.
إن الغيرة هي التي تدفع لإنكار المنكر، وقالت عائشة رضي الله عنها: [ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها] غيرة لله، وغيرة على دينه.
وإن من الغيرة أن يغار في الإخلاص؛ فيغار العبد أن يكون لغير الله في عمله نصيب، ولا يرضى أن يشوب عمله رياء ولا إعجاب ولا استشراف لمدح الخلق وثنائهم غيرةً على عمله أن يفسد ويحبط.
وكذلك فإن المسلم يغار على أوقاته أن تذهب سدى في غير رضا محبوبه وهو الله عزَّ وجلَّ.
والغيرة على حقوق الآدميين مطلوبة.. الحقوق التي أقرها الشرع وجاء باحترامها وصيانتها، ومنها: أموال المسلمين وأعراضهم، فلو رأيت مالاً لمسلمٍ ينتهك، ورأيت عرضه ينتهك؛ فعليك بالغيرة عليه والدفاع عنه؛ تغار لأن حرمات المسلمين قد انتهكت، وحرمات المسلمين في المسجد الأقصى منتهكة، فأين غيرة المسلمين لله ضد هؤلاء اليهود الخونة الآثمين الفجرة العابثين في مقدساتنا؟!
عباد الله: إن غيرة الزوجة من الأمور الفطرية الموجودة عندها في غريزتها، ولذلك كان لابد للزوج أن يتحمل غيرة زوجته التي قد تطغى فتتجاوز الحد، وأن يعذرها لأجل ما ركب فيها من هذا الطبع، وقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم من غيرة نسائه ما تحمل.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا بدينه مستمسكين، وأن يجعلنا ممن يغار على حرماته إنه سميعٌ مجيب.
اللهم إنا نسألك أن تصلح شأننا، وترفع قدرنا، وتستر عيوبنا، وتحسن أخلاقنا يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر