أيها الأحبة! عنوان محاضرتنا: طوق النجاة، ننجو من ماذا؟ وأي طوق نتقلده حتى ننجو؟ وأي مصيبة تعترضنا؟ وأي فتنة تلك التي نخاف منها حتى تنجو؟
والله إن أعمالنا في صباحنا ومسائنا وذهابنا وإيابنا وغدونا ورواحنا كلها هلاك علينا، وبوار بنا وخسارة في سعينا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] بنص كلام الله جل وعلا حيث قال وأقسم جل من قائل عليماً: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] إن جميع بني الإنسانية، إن جميع أفراد البشرية لفي خسر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].
أيها الأحبة في الله! أما الفتن التي نلقاها فحدث عنها ولا حرج، وليس الخبر عنها بدعاً من متأخري زماننا، بل هي من معجزات نبوته صلى الله عليه وسلم: (تكون فيكم فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل) ويقول صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب عوداً عوداً فأيما قلب أشربها؛ نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب دفعها أو نجا منها كان فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على واحد من اثنين) أو كما يقول صلى الله عليه وسلم، إما أن يكون قلباً أسود مرباداً كالكوز مجخياً، أو أن يكون القلب فيه مثل السراج يزهر أصبح أبيض جميلاً صقيلاً، هذا معنى مجموع من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة في الله! والله إن الفتن لتعرض علينا عوداً عوداً، قال العلماء: عوداً عوداً، شبه عرض الفتن على القلوب كعرض الحصير، كعرض العود في الحصير، عود بجانب عود، وآخر بجانب مثله، فهكذا تعرض الفتن على هذه القلوب وعلى معنى وتفسير آخر: عَوداً عَوداً أي مرة بعد مرة، والحاصل: أنه لا يسلم أحد من عرض هذه الفتن عليه.
فتلك فتنة في الأسماع، إما أن تدخل إلى الأسماع فتنفذ إلى القلوب، وإما أن تبعد واحدة بعد الأخرى، إما رجل يفتح أذنه بل بمكبرات الصوت التي يسلطها على أذنه لكي تعرض الأغنية تلو الأغنية، والمصيبة تلو المصيبة، والرديء من القول يعقبه ساقط الكلام، والغيبة تتلوها النميمة على هذه الأذن، فتن تعرض على هذه الأذن واحدة بعد الأخرى، فإذا قبلت الفتنة الأولى استعدت للفتنة الثانية، وإذا قبلت الثانية استعدت للفتنة الثالثة وهلم جراً، حتى تمتلئ هذه الأذن بكل نغم ماجن وبكل صوت خليع وبكل عزف وضيع، فإذا سمعت كلام الله نفرت، وإذا سمعت ذكر الله ابتعدت، وأصبحت كالحمر المستنفرة فرت من قسورة.
والله ثم والله هذا شأن طائفة من عباد الله من البشر الذين رأيناهم في هذا الزمان، يوم أن يعلو صوت كلام الله أو سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم، أو داعٍ إلى الله على أسماعهم ينفرون كما تنفر الحمر، لماذا؟ لأن هذه الآذان قد امتلأت قيحاً وصديداً من رديء يسخط الله ويغضبه، وهل تستطيع أن تملأ في كوزٍ واحد مادتين في آنٍ واحد، فهو إما أن تملأ فيه خيراً، وإما أن يخرج الخير منه ويمتلأ الشر به، وإما أن يختلط الخير بالشر على مداهنة ونفاق وذلك شر العباد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وتعرض الفتن على أبصارنا عوداً عوداً، وتعرض الفتن على أعيننا عَوداً عَوداً، مرة بعد أخرى، فنرى منظراً لا يجوز النظر إليه ثم نكرر النظر، ولو كانت لنا الأولى فليست لنا الثانية، فنديم النظر ثم نطلق العنان للخطرات، ونطلق للخيال عنانه حتى يتأمل هذه الصورة ويستحسنها، وكما قال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي : إن الشيطان يقول لجنوده وأتباعه: عليكم بثغر الأذن! الله الله لا يدخل منه كلام مما توجل منه القلوب أو تخشع له الأفئدة، بل زينوا في هذه الآذان كل لحن وعزف وغناء، ثم عليكم بثغر العين فاجعلوها لا تنظر إلا إلى ما حرم الله، واحجبوا نظرها عن أن تنظر في ملكوت الله في سماواته، أو أن تنظر إلى بديع صنع الله في مخلوقاته، واحجبوا ذلك كله، واجعلوا هذه العين تنظر إلى ما حرم الله، فإذا رسخت هذه الصورة المحرمة زينوها في قلب هذا الناظر وانقشوها فيه ومنوه بها حتى تخالجه الخطرات في اللقاء، وتزين له الخطوات الدنو، فإذا قاب قوسين أو أدنى من المعصية فدعوه لي وأنا دونكم عنده أصرعه على فاحشة وعلى مصيبة تجعله من أهل الفواحش والكبائر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذه فتن تعرض على أبصارنا على الشاشات والمجلات، وفي الأسواق بين الغاديات والرائحات، وفي كثير من الأماكن والمناسبات، وفتن تعرض في مجالسنا إما أن يستطيل الكلام في أعراض الأبرياء، وإما أن يطول الحديث في أعراض المحصنات، وإما أن تملأ المجالس بالغيبة والنميمة، وما يثقل الموازين بالسيئات، ففتن الكلام كلمة تتلوها كلمة، فإذا تحدث واحد ممن تسلط ألسنتهم أو تسلطت ألسنتهم عليهم زين أحد الجالسين حديثه بابتسامة وأكمل بقية الحاضرين حديثه بضحكٍ وإعجاب، فما يزال بعضنا يثني على كلام بعض، حتى نستمرئ الغفلة ونستلذ الكلام في المعصية، ونأنف أن نتلذذ بسماع خطاب الله وجميل كلام نبيه صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة في الله! العصمة في كتاب الله، وطوق النجاة في قرآن أنزله الله، وفي سنة أوحاها الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) أي: السنة النبوية، فطوق النجاة فيها أيها الأحبة.
نعم أيها الأحبة! الحديث مع القلوب بالصراحة هو سبيل إلى التوبة، أما أن نتزين بالمظاهر والملابس، والله أعلم ببواطننا، فإننا سنقف يوم العرض الأكبر على الله يومئذٍ لا تخفى على الله خافية، لا يمكن أن نخبئ شيئاً عن الله، ولا يمكن أن نجعل جريمة تبقى في طي الكتمان والنسيان، كيف نستطيع أن نكتم شيئاً والله جل وعلا يقول: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
تأمل نفسك يا أخي وأتأمل نفسي أيضاً! يوم ينصب الميزان ويدعى عبد من عباد الله باسمه واسم أمه وأبيه، ولو دعي باسمه لعرف أنه المقصود المراد لم يحتج إلى بينة أو قرينة لا تتشابه الأسماء ولا الأنساب، ولا الصفات ولا اللغات، كل يكون أدرى بالخطاب يوم أن يوجه النداء، فإذا قيل: يا فلان بن فلان! قم يوم الحساب إلى الحساب ومناقشة الأعمال أمام العرض الأكبر عند الله جل وعلا، فيوضع الميزان وأنت حينئذٍ يدور بك شريط ذكرياتك، ما أول سيئة توضع في كفة السيئات؟ وتبحث أيمن منك وأشأم منك أي حسنة تظن أن فعلتها خالصة نقية على سنة واتباع وإخلاص ترجو أن توضع في موازين حسناتك، سنقف هذا الموقف وكل سيكون أدرى بما سيوضع في ميزان حسناته وسيئاته.
ثم يسدل الله ستره على عبده وهو الستار الحليم الغفور الرحيم، يقول: يا عبدي! أتذكر ذنب كذا، الذنب قد وضع في الميزان، المعصية الفاحشة الجريمة الخطيئة الزلة قد وضعت في الميزان، عبدي! أتذكر ذنب كذا في يوم كذا وكذا، فتقول: إي يا رب والله -تكذب على الله، تقول: ما فعلتها يا رب، أنت لستَ أمام البشر الذين تنطلي عليهم الحيل، لا والله، لا تستطيع أن تكذب أو تزيد أو تنقص- تقول: نعم إي والله يا رب أذكرها ولا أنساها، ولو كذبت على الله الذي لا تخفى عليه خافية لأنطق الجارحة التي فعلت المعصية، فإن كانت المعصية بقدمك تكلمت رجلك، وإن كانت المعصية بيدك تكلمت اليدان، وإن كانت المعصية بفرجك تكلم الفرج، وإن كانت المعصية ببصرك تكلم البصر، وإن كانت المعصية بسمعك تكلم السمع.
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ومهما يكتم الكاتم الله يعلم |
لا يمكن أن يكتم الله شيئاً وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:19-21] لماذا تشهد؟ أيتها القدم التي لذذتك بهذه العملية، لماذا تشهدين؟ أيتها اليد التي جملتك بهذه الشيء لماذا تشهدين؟ أيتها العين التي متعتك بهذا المنظر لماذا تشهدين؟ أيتها الأذن التي أسمعتك هذا اللحن لماذا تشهدين؟ (قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ) ليس الأمر بأيدينا (أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) رب خلقنا من العدم فهل يعجز أن ينطقنا؟! رب خلقنا من التراب من مني يمنى حتى كنا نطفة فعلقة فمضغة فطفلاً فبلغنا أشدنا ثم كنا شيوخاً، ثم توفانا ثم بعثنا بعد موتنا، يعجز أن ينطقنا!! والله ما ذلك على الله بعزيز.
هكذا ظن الكفار لما وقف العاص بن وائل، وأخذ عظماً قد رمّ، فقام يفته ويفركه بين يديه وقال: يزعم محمد أننا إذا متنا وكنا عظاماً كهذا وقد أصبحنا رميماً أن الله يبعثنا! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (نعم. يبعثك الله ثم يحشرك إلى جهنم).
وأنزل الله جل وعلا قوله في كتابه الكريم في سورة يس: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] هذا المعاند المتكبر العاصي نسي أنه خلق من عدم أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36] .. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:78-80].
قال العلماء: أورد الله جل وعلا هذه الآية إبلاغاً في دفع حجج الكفار وعنادهم في قضية البعث الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً [يس:80] الشجر يتولد من التراب والطين وأصل ذلك من الماء، العنصر الناري محرق، والعنصر المائي مطفئ مبتل، الذي يخلق من هذا العنصر المائي المطفئ المبتل يجعل منه ناراً الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80] والله قادر على أن يجعل البحار المائية والمحيطات العظيمة نيراناً متأججة وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6] أشعلت وجعلت ناراً.
يقف العباد يوم العرض الأكبر على الله يقولون: لم شهدتم علينا وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ [فصلت:21-22] هلَّا يوم أن أردتم أن تفعلوا فاحشة أو معصية أو جريمة أو أردتم أن تتجرءوا على أمر الله استترتم يميناً أو يساراً، وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:22-23].
أقول: يا إخواني، لو قلت لكم: أنا أنكر الكمبيوتر، هذا الكمبيوتر أنا لا يمكن أن أصدق ما فيه، تقولون: هذا شيخ مجنون أهبل، الكمبيوتر خلال لحظة -مركز معلومات- يعطيك أسماء دولة كاملة بأفرادها وأبنائها وأمهاتها وتعداد سكانها ومنابع نفطها وموارد مائها وعدد إشاراتها خلال لحظات أمام الشاشة تخرج أمامك المعلومات بكاملها، هذا أنت يا مخلوق يا ضعيف صنعت الكمبيوتر الذي أتى بهذه المعلومات كلها، فالخالق القوي الذي خلقك أيها المخلوق أيعجزه أن ينثر أعمالك هكذا في لحظة؟! ثم تعرض عليك واحدة بعد الأخرى، لا والله لا يمكن أن تخفى على الله خافية.
ثم ملائكة الله الذين هم أضعاف أعداد سكان الأرض، ملائكة لا يحصيهم إلا الله، إذا صار كل شخص معه ملكان يكتبان حسناته وسيئاته، نفر من الله إلى أين؟ إلى الله.
الله أكبر يا عباد الله! عجب في شأننا مع الله، يرزقنا ونشكر غيره، يخلقنا ونعصيه، يحفظنا ولا نحفظ أمره، يهدينا ولا نهتدي بهديه، ما أحلم الله على عباده، والله إنها لآيات عظيمات تدل على أن الله رحيم حليم وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45] والله لو أن العبد يؤاخذ بالمعصية، والله ما سلم أحد خطوة بعد معصية، تفعل معصية ثم لا تكون بعدها خطوة واحدة.
أين أنت ممن يعصي رب السماوات بين الأرض والسماوات، معصية في الطائرة، أين أنت ممن يعصي الله بين الأمواج المتلاطمات.
إخواني! متى نرتبط بالله؟ متى نقول: يا الله، من خالص قلوبنا؟ متى نصيح ونجأر إلى الله ونقول: يا الله، لقد أسرفنا في أمرنا وأفرطنا تفريطاً عظيماً؟ متى نقول ذلك؟ إذا وقع الواحد منا مريضاً، ارتفعت درجة الحرارة إلى أربعين ثم وضع جهاز الضغط على اليد، ثم جاء الطبيب ويقف وأنت تقول: يا الله يا الله يا الله، وأين يا الله يوم أن كنت قوياً معافى؟ أين كلمة يا الله يوم أن كنت تجلس الساعات الطول أمام الفيديو والشاشة؟ أين كلمة يا الله يوم أن كنت تملأ هذه الآذان بألوان الغناء أو الطرب الذي يبلغ به الأمر إلى الاستهزاء بالله وسنة رسول الله ونبي الله وكلام الله والصالحين من عباد الله، أين كلمة يا الله؟
حصين بن عبيد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا
نبي الله يونس بن متى كان من المسبحين، فلما ألقي في البحر والتقمه الحوت نادى في الظلمات أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] قالت الملائكة: يا رب! صوت مسموع- ليست أول مرة يسبح - فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [الصافات:143] فلولا أنه كان فيما مضى من المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:144] ولكن لأنه كان من المسبحين في الرخاء فسبح في الشدة، فجاء الفرج عاجلاً بين الكاف والنون إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].
إخواني في الله! ينبغي أن نتعرف على الله في الرخاء، ينبغي أن نقوم بأمر الله في الرخاء، ينبغي أن نبادر إلى الله ما دمنا أقوياء، اغتنم بادر (اغتنم خمساً قبل خمس: فراغك قبل شغلك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وشبابك قبل هرمك، وخذ من دنياك لآخرتك، ومن نفسك لنفسك).
الخاتمة الحيات تنتظره، الموت، والأسد يدركه، وعمره هذا الحبل، والفأران الأبيض والأسود هما الليل والنهار يقرضان كل يوم من حبلك حتى ينقطع بك الحبل، أفتشتغل بعد هذا وتأكل عسلاً، تأكل من عسل هذه الدنيا يا أخي، أتشتغل بهذا والحية تحتك والفأر يقرض في حبلك، أم تحاول أن تبحث عن النجاة ثم بعد ذلك تجد فسحة ومتسعاً للعسل والحلوى وما لذ وطاب، هذا هو شأن كثير من الناس في هذا الزمان، والله ما جعلنا لله وقاراً، والله ما قام لأمر الله في قلوبهم غضب ولا غيرة، والله ما غضب أحدهم غضباً كغضبه على أحدٍ من أولاده يوم أن ضيع مائة ريال، ما غضب لله جل وعلا لحظة، وإذا رأى معصية أو منكراً مما يعصى به الله ربما ضحك وربما سكت، وإذا سمع كلمة في عرضه أو نسبه أو أصله أو شرفه، أخذ يزمجر ويزأر، ويثبت وهو يقول: أنا ابن جلَّا وطلاع الثنايا، من هذا الذي يتكلم فينا وفي أسرتنا وفي قبيلتنا ونحن ونحن ونحن، والكلام في دين الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل والنهار عبر كثير من الوسائل وعبر كثير من الأجهزة وعبر كثير من الوسائل المختلفة، بل وفي كثير من المجالس يستطيل وينتشر وما ترى غضبة لله، أو تغيراً لله.. لماذا يا إخوان؟
يا إخواني، والله لقد مرَّ بأهل هذه الجزيرة زمن ما أدركناه وحدثنا عنه كبار السن الذين بلغوا المائة في هذا وهم حتى الآن أحياء.
امرأة في منطقة ليست بعيدة من هذه المنطقة كان معها مزادة، أتت ومعها بُنيات إلى صاحب بستان والناس يحرثون البساتين؛ لأن الجوع مستطير يخشون أن تداهم الثمرة ويأكل المال، جاءت امرأة وقالت: من فضلك وإحسانك حط عندك هذه المزادة، قال: مربوطة ووضعتها، فإذا جاء آخر النهار طرقت علي الباب، وقالت: أعطني المزادة التي عندك، قال: وتأخذها وتتنحى هي وبُنياتها وتفتح وكاء هذه المزادة وتخرج شيئاً ثم تجلس هي وبناتها ثم تعود وترد لي هذه المزادة وتقول: جزاك الله خيراً على الذي كان، قال: فسولت لي نفسي يوماً أن أفتح لأرى ما بهذه المزادة، قال: فوجدت فإذا رأس حمار يأكلونه من الجوع، من الجوع الذي بلغ بأهل هذه البلاد يا من تلبسون المشالح وتركبون السيارات بلغ بكم منذ زمن قريب جوع لا يعلمه إلا الله، تقطع من لحم رأس هذا الحمار وتقدم لبنياتها على شواء أو ملح أو غير ذلك، بلغ بالناس مبلغاً لا يعلمه إلا الله جل وعلا، إذاً: لا تطمئنوا لهذه الدنيا.
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان |
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان |
وهذه الدار لا تبقي على أحدٍ ولا يدوم على حالٍ لها شان |
أين الملوك ذوي التيجان من يمنٍ وأين منهم أكاليل وتيجان |
وأين ما شاده شداد في إرم وأين ما ساسه في الفرس ساسان |
أتى على الكل أمر لا مرد لـه حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا |
يعني فلنفرض أنك ملذذ منعم من كل شيء والله لا يساوي ذلك لحظة تواجه فيك سكرة من سكرات الموت.
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور |
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى الحساب وقلبه مذعور |
يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً [المزمل:17]
هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور |
الله أكبر! يا إخوان: كم بلغنا من العمر؟ ثلاثين سنة! أربعين سنة! هل حفظنا القرآن؟ هل جاهدنا في سبيل الله؟ فلان نعم أسس نفسه قدم على البنك وبنى له فيلة، رجل ممتاز، هكذا أصبحنا نقيس الناس، نحن لا نمنع من ذلك، ما بذلة الإنسان في حلال فخير، والله جل وعلا يؤجره عليه، لكن أين حظنا من الآخرة؟ لقد عمرنا الدنيا وخربنا الآخرة.
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع |
عجبت للجنة كيف نام طالبها، وللنار كيف نام هاربها!
عمر بن الخطاب الذي نزل الكتاب موافقاً لقوله، عمر بن الخطاب الإمام الأواب، شهيد المحراب، عمر بن الخطاب الذي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما سلك
عبد الله بن عمر رأس والده على حجره، فيقول عمر : إليك عني ويل عمر وويل أم عمر إن لم يرحمه ربه، ثم يمرغ لحيته في التراب، ويقول: يا رب! رحماك، يا رب! رحماك، عمر بن الخطاب يسأل حذيفة بن اليمان يقول: سألتك بالله، يعني: ما ترك له فرصة يفر من الجواب للحديث: (من سألكم بالله فأجيبوه) سألتك بالله: هل عدني رسول الله من المنافقين؟ الله أكبر! إذا كان عمر يخاف على نفسه النفاق نحن ماذا نكون؟ من العشرة المبشرين بالجنة، نكون من أهل بدر، نكون من أهل بيعة الرضوان، من أهل الشجرة، ماذا نكون يا إخوان؟ نحن لا نقنط أنفسنا من رحمة الله، ولكن أسوق هذا الكلام لأننا نرى غروراً من أنفسنا، الواحد منا يرضى عن نفسه إذا صلى مع الجماعة وبس.
احمد ربك أني أصلي مع الجماعة، هناك أناس والله لا يصلي في المسجد، لا يركع في المسجد، احمد ربك أنني لا أسافر مثل الذين يسافرون، احمد ربك أنا أنا أنا .... إلخ، وكأنما يستكثر على الله، يا مسكين.. يا مسكين المنة لله عليك، والفضل لله عليك، وأنت لا تنفع إلا نفسك، الله غني عن العباد وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
يا إخواني: فلنستعد لله، واعلموا أننا على خطر، لا بد أن نرتدي طوق النجاة من هذه اللحظة، لا بد أن نلبس لباس النجاة وهي التوبة من هذه اللحظة.
يا إخوان: والله إنها لفتن، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، والواقع شاهد بذلك، كما عرفنا من كثير من أبناء الأسر وشباب المجتمع، تفلتوا رويداً رويداً حتى قلَّ حظهم من الإيمان، واستحكم في قلوبهم أمر الشيطان، وزين لهم الفسوق والعصيان، فماتوا على خاتمة سيئة أو كفر بالله جلَّ وعلا.
يا إخوان! سوء الخاتمة ليس بعيداً عن أن تقلب القلوب، كان صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أكثر ما يدعو وهو ساجد، وأكثر دعائه في سجوده أن يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وكان كثيراً ما يحلف ويقول: لا ومقلب القلوب، يحلف بالله مقلب القلوب، أفيأمن أحدنا على نفسه يا إخوان.
وفي هذه القصة عبرة: وهي أن الفساق لا يطمئنون لترك الأبرار والأخيار على خير، فإما أن يتجه الأبرار لدعوة الفساق فيكونون صالحين أمثالهم، وإلا فإن الفسق يسري حتى يعم الصالح والطالح، إذا كان الفساق يتمالئون على الأبرار، فما بالك بالشخص العادي الذي مثلك، عادي يعرف الصلاة في المسجد فقط، وليس هناك التزام ولا استقامة، مع الأغاني أغاني، ومع البلوت بلوت، ومع السفر سفر، ومع الشلة شلة، ومع الغفلة غفلة.. إلى آخر ذلك.
قالوا: نريد أن تجعليه يقبلك قالت: لا. أجعله يزني، فوقفت له مع استغنائها بجمالها، وزادت فيما يجملها عطراً، يفوح شذاه بالمعصية ويطرح ضعاف الإيمان، فلما وقفت له في طريق، ثم أماطت الرداء عن بدنها فوقفت له، فقال الربيع : كيف بهذا البدن إذا نخره الدود، وكيف بهذه العين إذا غارت في التراب، وكيف بهذا اللسان إذا شهد عليك، فصاحت صيحة وصرخت صرخة، ثم قالت: قتلني الربيع بن خثيم، قتلني الربيع بن خثيم.
وفي مجلس قريب حدثني أحد الشباب أن شاباً سافر ولم يزل بصاحبه ليسافر معه، والشاب حصلت منه سابقة لكنه مل من الفساد، والعاصي يا إخوان ترى ما يطمئن للمعصية ولو ضحك، ولو شرب ولو سكر، كما يقول الحسن البصري: [والله وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه] والله لو مر قدامك (كادلك) أو (مرسيدس) ولا معه أجمل وأحسن وأفضل شيء وهو عاصٍ لله، والله إنك أيها المسلم التقي الحفي حافي القدمين متقلب في طمرين أشعث أغبر والله إن في قلبك عزة ما يبلغها هذا الذي في السيارة، لأن ذل المعصية لا يفارق أصحاب المعاصي.
المهم: شاب حصل منه ما حصل، وأراد أن يكون عادياً، وهذا الزمن لا تصلح فيه كلمة عادي، الدين الذي يريده كثير من الناس يقول: لا تكن فاسداً ومدمن مخدرات، ولا تكن ملتزماً جداً كالذين لا يسمعون الأغاني، ولا ينظرون إلى النساء، كن وسطاً، ككل الناس، المهم أن هذا الشاب أراد أن يكون عادياً نسأل الله أن يعفو عنا وعنه وقد أفضى إلى ربه، ما زال ابن عمه يحاول معه ويحاول، قال: يا أخي أنا طفشت ومليت يعني في هذه اللحظة لو وفق ذاك الشاب بجلساء طيبين يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة لتاب إلى الله توبة صادقة نصوحاً.
المهم يا إخوان قال: تذكر صديقتنا فلانة، الدعوة المجردة لم تنفع، تذكر صديقتنا فلانة التي في الفندق، وتذكر صديقتنا فلانة التي طلعنا معها، وأخذ يذكره بفلانة وفلانة، حتى ما زال به وسافر معه، فلما سافر معه لا زال قلبه كارهاً، فاتفق مع واحدة، دائماً أهل الفجور لو يسافر ثلاثة فساق فيزني اثنان والثالث لم يزنِ مستعدين أن يأتوا له بفاجرة لكي يزني مثلهم، هذا معروف معلوم، يحب أهل المعصية أن يشتركوا في العذاب والذنوب والمعاصي.
فذهب وأتى بامرأة وأدخلها عليه، فإذا بابن عمه يسمع رفيقه هذا الذي وصل له تقريباً على هذا الشيء، غصب إكراه يعني مجاملة وهلم جراً، إذا به يسمع ضحك ومداعبة وأخذ يكلم صديقه، ابن عمي فلان! تحرك، قم فلان استيقظ، نائم ما يسمع صوت، وإذا بنفسه قد سكنت ومات بعد أن قذف الماء فيها، الله أكبر يا إخوان! هذه خاتمة، هذه خاتمة يا إخوان فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176] ذكر القصص والاستشهاد بها من الواقع لا من الخيال، لا من ألف ليلة وليلة، حتى نعتبر ونتدبر ونتذكر، ما الذي أقلق الأولين والآخرين والصحابة والسلف والصالحين، إنه سوء الخاتمة.
وكل نفس لها يوم منيتها تأتي إليها صباحاً أو تماسيها |
والله ما تردي موتك يأتيك على فراش الصبح أو فراش الليل أوفي الدوام أو أو .. إلخ.
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر |
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر |
وكم من عروس زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري |
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر |
لا يعلم الإنسان متى يلقى الله جل وعلا.
إخواني: لو دخل ملك الموت من هذا الباب، وقال: من المستعد للموت بعمل صالح الآن إلى الجنة؟ من يقوم منكم؟ والله ما منا مستعد، والله ما فينا مستعد، صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم قد استعدوا للقاء الله وأحبوا لقاء الله فأحب الله لقاءهم، ومع ذلك مع حبهم للقاء الله يخشون، عملوا عملاً صالحاً ويرجون رحمة الله ويخشون أن تزل بهم القدم، والحسن البصري رحمه الله لما حضرته الوفاة بكى، قيل: يا أبا عبد الله، أنت الذي تصيح؟ أنت الذي تبكي؟ أنت تبكي إذا حضرك الموت، فماذا نفعل نحن؟! قال: أخشى أن يقذف بي في النار ولا أبالي، من أنت على الله يا مسكين أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف:99] .. وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر:48] .. وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] كان إذا قرأها السلف أخذوا يبكون وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ .
على عملنا هذا أنت لو سألناك وقلنا لك: أنت يا أخي والثاني والثالث العمل الذي أنت عليه هل تريد به جنة وحريراً، وحور عين، وأمناً عند رب العالمين، يعني: أنت دليلك حاكم على نفسك بأنك مقصر وما بلغت هذه الدرجة وهذه المنـزلة، لم لا تستعد للقاء الله؟ لم لا تبدأ طوق النجاة بالتوبة الصادقة إلى الله.
تفقد نفسك! ما هو أمر الله في نفسك؟ ما هو أمر الله في استقامتك؟ ما هو أمر الله في بيتك؟ فقل: سمعت وأطعت ونفذ منذ هذه اللحظة، لا نشاور الجماعة والأصدقاء، أو نشاور الشباب وننظر هل فلان يستقيم أم لا يستقيم؟ فلان يلتزم أو لا يلتزم؟
أحد الشباب كان في طريقه إلى منطقة جلاج، كنت أتحدث أنا وإياه عن أحد الفنانين الذين هداهم الله جل وعلا مطرب فنان محبوب الجماهير على ما قالوا، يقولون له: يا فلان، والله لا تهتدي، قال: والله لو يهتدي فلان بن فلان لاهتديت، والعجيب أن مطربه هذا الآن وإن كان مسجوناً إلا أن الله قد منَّ عليه بتوبة صادقة نصوح، فتاب إلى الله توبة من الفن والطرب، وأخذ ينصح ويعظ المساجين في السجن، وإذا جئنا لصاحبنا هذا وقلنا له: هذا مطربك المفضل تاب فتب إلى الله، قال: هاه أنظر، يمكن أن أقلب، أو يقول: أنا سأتوب ولكن الأغاني لا أستطيع تركها، والدخان هذا صعب، واللحية ماذا يقول الناس عني؟! مطوع معقد!! والثوب أخاف من كلامهم، ويمكث يجمع لك (أتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) يخشون الناس ولا يخشون الله، الناس هؤلاء يؤخرون الأجل لحظة؟ يعجلون عرضك على الله يوم القيامة؟ يدخلونك الجنة؟ يخرجونك من النار؟
ما قتل الناس مثل الناس، وما ذبح الناس مثل الناس، مجاملة الناس، مراءاة الناس، الأصدقاء، الشلة، الآخرون وهلم جراً، ولو جئت إلى أحدهم في ريال أو عشرة أخذ يقلب عينه فيك ويحسب ويناظر وأنت كفء أم لا، وأنت تستحق أم لا، ويمكن يعطيك وينظر ما هو مردودها معك، وربما يستغلك فيما يعطيك، لكن عليك برب كريم يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ينزل ربنا في ثلث الليل الآخر فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟
أين التائبون؟ أين المستغفرون؟ أين المقبلون على الله؟
هكذا تفقد نفسك وتفقد حالك، ثم بعد ذلك أقنع نفسك وأهلك وذريتك رويداً رويداً حتى تقنعهم بما منَّ الله به عليك، بما في قلبك من الخير والهداية، ثم تقول: هذا فيه شر، ممكن نستفيد منه إذا أردنا ذلك، وإذا لم تستفد، أو كان ضرره أغلب علينا من نفعه، نخرجه، الذي ينفعنا في ديننا ودنيانا نبقيه، والذي يضرنا في ديننا ودنيانا نخرجه، الذي ينفعنا في ديننا ودنيانا نفعله، وهلم جراً.
هكذا تكون الاستقامة ويكون الالتزام، ويكون صدق الإقبال على الله جل وعلا، وعند ذلك تنام مطمئناً، والله لو مرت بك لحظة مرض شديد قلت: الحمد لله على هذه الساعة الذي جاء هذا المرض وقد يكون مرض موت وأنا قد تبت إلى الله، وأنا قد أقبلت على الله واستجبت لله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] الله يدعونا لما يحيينا وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] أنت الآن تدعى لكي تستجيب لله، فإذا لم تستجب فلست في كل حال تستطيع الاستجابة، ليس في كل وقت تستطيع الاستجابة، إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر لا تستطيع الاستجابة.
ما فائدة الكلام في أن الله يحول بين المرء وقلبه بعد أن يستجيبوا، أي: إذا لم تستجيبوا الآن بعد أن أقيمت عليكم الحجة وبلغتكم النذارة فليس بالضرورة أن تستجيبوا في كل وقت وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] تشتهي التوبة، التوبة مفتوحة وقد هيئت لك فرصها ونفحاتها ولكنك أعرضت عنها وما استجبت لله جل وعلا، فتوبوا إلى الله واذكروا الله، فذكر الله دواء، وذكر الناس داء.
وصلى الله وسلم على محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر