اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تبقِ فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وذهاب همومنا وغمومنا، وجلاء أحزاننا، اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نُسِّينا، وارزقنا تلاوته، والتأمل والنظر فيه، والعمل بأحكامه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، يا أرحم الرحمين!
هذا الدرس يلقى في مدينة جدة بمسجد (الأمير متعب) في مساء يوم السبت، الموافق: (23/جمادي الثاني/1415هـ)، وهو بعنوان: (تأملات قرآنية)، ليس تفسيراً، وإنما هو وقفات وتأملات ونظرات، تتبعتُها وجمعتُها من كلام بعض المفسرين، وأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن ينفعني وإياكم بها، وأن يرزقنا النظر والتأمل والتفكر والاعتبار في هذا القرآن العظيم.
إن من أعظم المصائب التي مُنِيت بها الأمة أيها الإخوة: أن حيل بينها وبين كتاب ربها، تقرأه ولكنها لا تعيه ولا تفهمه، تجد الرجل يقبل على القرآن ويتناول المصحف ويهذُّه هَذَّ الشعر، وينثره نثر الدَّقْل، وينتهي من آخر سورة، وتسأله: ما الذي فهمت من خلال هذه القراءة؟! فلا تكاد تجد أنه قذفهم شيئاً، وإنما يقرأ وهمه آخر السورة.
إن القرآن ما أنزل لهذا أيها الإخوة! لقد طلب الله منَّا أن نتأمل القرآن ونتدبره، قـال تبـارك وتعـالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29].
ويقول عز وجل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82].
إذا وجدت أنك لا تعي ولا تتدبر ولا تتأمل ولا تعتبر فلتعرف أنَّ على قلبك قفلاً أو أقفالاً، فحاول أن تفتح هذه الأقفال، وأن تزيلها حتى تدخل في ميدان النظر والتأمل في كتاب الله عز وجل، إنَّ على القلوب أقفالاً كثيرة أيها الإخوة؛ أقفال الشبهات، والشهوات، والماديات، والمشاغل.. كلها تحول بين الإنسان وبين فهم كلام الله عز وجل؛ ولكن إذا أزال الإنسان هذه المعوقات، وأبعد هذه الحواجز، ودخل بنية خالصة لوجه الله ليقرأ وليتأمل كلام الله، وليشعر مَن هو هذا المتكلم بهذا الكلامَ؟ وما هو هذا الكلام؟ أي عظمة لك يا أخي! أن يخاطبك الله من فوق سبع سماوات؟ أي عزة أن ينزل الله عليك قرآناً؟ أي كرامة أن تخاطَب من الملك الجليل تبارك وتعالى؟ إنه فخرٌ عظيم، ومقامٌ جليل، لكن لمن عرفه وقدره.
والتأملات في هذه الدروس إن شاء الله ستكون من خلال النظر في سورة الأنعام.
إذا أراد إنسانٌ أن يقيم عمارةً فإن تركيزه يكون على:
على دراسة التربة أولاً.
ومعرفة قوة تحملها.
ثم معرفة حجم الأساسات.
ويبذل جهده ويركزه ويخسر كثيراً في سبيل تأسيس العمارة.
وكلما فكر في أن يزيد أدوار العمارة ويرتفع بها إلى أعلى؛ كلما كان التفكير في التأسيس مناسباً لارتفاع العمارة.
وبناء وعمارة الدين الإسلامي، بناء شامل، وعمارة ضاربة في جذور الزمن، وممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فكان لا بد أن يكون لها أساس قوي .. لا تُبنى على جرف هار حتى تنهار، ولا تبنى على تصورات واندفاعات وحماسات وخيالات وتذوقات، إنما تبنى على عقيدة في الله، توحي وتفسر كل ما هو حول الإنسان في هذه الحياة، مقتبسة من الوحي الرباني، والهدي النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام.
فكانت هذه المدة الطويلة -ثلاث عشرة سنة- من عمر الدعوة وهي تُصْرف في تثبيت هذه العقيدة قبل تلقي أي شيء من الأحكام، فلما ثبتت العقيدة، واستقرت حقائق الإيمان في النفوس، جاءت التكاليف الشرعية، فجاءت سهلة، بل طلبها الناس قبل مجيئها، طلبوا القتال قبل أن يؤذن لهم فيه، جاءت الصلاة فباشروها، والزكاة فدفعوها، والصيام فصاموا، والحج فحجوا، وتحريم الخمر فحرموه دفعة واحدة، منهم من كان الكوب في يده فرماه، ومنهم من كان في فمه فوالله ما شرب الشربة تلك فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91]؟! مباشرة: قالوا: انتهينا .. انتهينا، لماذا؟! لأن القاعدة قوية، والأساس سليم، ابنِ ما شئت، حَمِّل هذه القاعدة ما شئت؛ لكن يوم أن يُبنى البناء على قاعدة هشة لا تتحمل شيئاً، ولو كانت الطلاءات جميلة، والجدران مزخرفة، والنوافذ من الألمونيوم، والأبواب من الخشب، والفُرُش ضخمة؛ لكن الأساس فاسد، ولذا لا تعجب من دين إنسان مهما بلغ دينه .. مهما بلغت عبادته وأذكاره، انظر إلى التوحيد؛ فإن كان متيناً، وعقيدته قوية؛ فابن عليه، لماذا؟ لأنه أسِّس على رضوان من الله تبارك وتعالى، وعلى هدى، وإن كان شيئاً فارغاً من غير عقيدة ولا دين فإن هذا سينهار إما في الدنيا وإما في الآخرة.
قضية الربوبية أولاً.
ثم قضية الألوهية.
ثم قضية الأسماء والصفات.
وهذه الأشياء الثلاثة هي أقسام التوحيد.
واهتمام بعض الناس بالألوهية، والأسماء والصفات، وإغفال جانب الربوبية خطأ في الدعوة، لا بد أن نعمق توحيد الربوبية في قلوب الناس؛ لأنهم إذا عرفوا الرب وحَّدوه، لماذا يحصل الشرك في حياة الناس؟ لعدم معرفتهم بالرب تبارك وتعالى، أو يعرف معرفة ذهنية صورية؛ لكن نريد معرفة حقيقية، ولذا الذين عرفوا الله وحَّدوه إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ [فاطر:28] مَنْ؟! الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] أي: إنما تقع الخشية والخوف لله من العلماء، العلماء يخشون الله؛ لأن مَن كان بالله أعْرَف كان منه أخْوَف.
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12].
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام:1]، هذه ربوبية.
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا [المؤمنون:84].
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام:12].
قل.. قل.. قل.. في القرآن الكريم وفي سورة الأنعام بالذات تأكيدٌ أكيدٌ وشديدٌ على قضية الربوبية.
وعندما يحصل عند الإنسان قناعة ويقين على أنَّ الله هو خالق الكون لا يسعه إلا أن يوحِّد خالق الكون، يوحِّده بفعله؛ لأن توحيد الربوبية هو: توحيد الرب بفعل الرب، فلا تجعل لله شريكاً فيما فعل، فتعتقد أنه الخالق، والرازق، والمحيي والمميت، والمعطي والمانع، والمدبِّر، والمسيِّر لهذا الكون، لا ينازعه بهذا أحد، وهذا أقرَّ به المشركون؛ لكن يأتي نتيجةً لتوحيد الربوبية التوحيدُ الآخر وهو: توحيد الألوهية، وهو: توحيد الرب بفعل العبد.
فلا تعبد إلا الله.
ولا تدعُ إلا الله.
ولا تذبح إلا لله.
ولا تنذر إلا لله.
ولا تستغث إلا بالله.
ولا تستعن إلا بالله.
ولا تتوكل إلا على الله.
ولا ترجُ إلا الله.
ولا تخَف إلا من الله.
ما رأيك إذا استقرَّت هذه القضايا في قلب الإنسان كيف سيكون توحيده؟!
لا نعني بالاستقرار هنا الاستقرار الذهني، لا، بل الاستقرار اليقيني.
إذا عرفتَ أن الحياة بيد الله، ماذا بقي عندك من خوف؟!
إذا عرفتَ أن الرزق بيد الله، ماذا بقي عندك من الخوف من الفقر؟!
من يبيع الدخان في دكانه إذا قيل له: لا تبع الدخان، هذا حرام، لا يجوز لك.
قال: الدخان يجلب الزبون، إذا لم يوجد دخان يأتي الزبون يقول: هل يوجد دخان؟ فأقول: لا، فيذهب، ولا يشتري مني، لكن عندما يكون الدخان موجوداً فإنه يشتري مع الدخان جريدة وسكراً وأرزاً، يا هذا ليس الدخان هو الرزاق؛ لكن هذه عقيدته، مسكين! لم يوحد الله، لم يعرف توحيد الألوهية إلى الآن، هل الرزاق هو الدخان أم الرحمن؟! إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ [الذاريات:58] هو الذي يجلب المشتري، ويجعله يقف على دكانك، ويشتري منك غير الدخان.
أنت أيها الزبون عندما تشتري من السوق، لماذا تقف عند هذا وتصرف نفسك عن هذا؟ هل هذا أعطاك شيئاً أو دعاك، أو ذاك طردك؟! لا؛ لكن الرزاق جعل في مالك رزقاً لهذا فساقك إليه، ولم يجعل في مالك رزقاً لهذا فصرفك عنه فلماذا تعتقد أيها البائع في سيجارة أنها ترزق؟! لا إله إلا الله!! هذا خلل، ينبغي أن تراجع فيه نفسك وحساباتك، فتكون عابداً بكل تصوراتك وأحوالك.
ولهذا يقول ربيعة لما جاءه الرجل المبتدع قال:كيف استوى الله؟ يريد أن يسأل عن الاستواء، والاستواء قضية ضلَّت فيها أممٌ حتى عطَّلوا الله عن الاستواء الذي أثبته الله عز وجل في القرآن في سبع آيات الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فعطلوا هذه الصفة، لماذا تعطلونها؟
قالوا: لتنزيه الله.
فذهبوا إلى التنزيه فوقعوا في التعطيل.
فجاء المبتدع يسأل ربيعة: كيف استوى؟! فقال له ربيعة الرأي -شيخ الإمام مالك -: كيف الله؟! قلب السؤال عليه، يعني: كيف ذات الله؟! قال المبتدع: لا أدري قال: وكذلك الصفة فرع عن الذات، فكما أن الله لا يُكَيَّف، فأيضاً الصفات لا تُكَيَّف.
لا تقل كيف استوى كيف النزولْ أنت لا تعرف من أنت ولا كيف تبولْ! |
ولما جاء الرجل يسأل الإمام مالك عن الاستواء قال له: الاستواء معلوم -يعني: معناه الشرعي واللغوي عندنا معلوم- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم طرده، وقال: اخرج إنك مبتدع.
فلا تسأل عن الصفة، وإنما تؤمن كما قال الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] بمعنى: أنك لا تستطيع أن تكيِّف الصفة، (الكاف) هنا للتشبيه، ليس مِن شبيهٍ مثل الله، ليس كمثل الله شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
فنؤمن بجميع الأسماء والصفات، وهذه العقيدة أيها الإخوان! هي عقيدة السلف، والذين ضلوا من الأشاعرة والجهمية والمعتزلة وأهل الكلام والكَرَّامية ؛ ضلوا لأنهم دخلوا بعقولهم البسيطة في هذه القضايا، فضاعوا وتاهوا، وتمنوا وهم يموتون أنهم ما تاهوا في هذه الضلالات، حتى قال واحد منهم اسمه الخونجي : ها أنا أموت وليتني أموت على عقيدة جدتي أو أمي. وهو عالم من علماء الكلام.
والآخر يقول:
نهاية إقدام العقول عِقالُ وآكثر سعي العالمين ضلالُ |
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا |
لكن اترك القيل والقال، واسمع مقال الملك المتعال .. قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي يقتصر على الوحيين: الكتاب والسنة بفهم السلف؛ فهذا طريق النجاة، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]
من هو؟!
ما مصدر هذا الخلق؟!
ماذا وراءه من أسرار وألغاز؟!
كيف تعرف؟!
مَن يخبرك؟!
يخبرك الذي يعلم السر في السماوات والأرض، وستبقى ضالاً وتائهاً حائراً إذا لم تتعلم مَن الذي خلق الكون والحياة، فجاءت السورة لتخبرك: مَن هو الله عن طريق عرض بيان أسمائه وصفاته:
مَن هو الخالق لهذا الكون؟!
ما وراء هذا الكون؟!
ثم مَن هم العباد؟!
مَن الذي جاء بهم إلى هذا الوجود؟!
مَن أنشأهم؟!
مَن الذي يطعمهم؟!
مَن الذي يكفلهم؟!
مَن الذي يدبر أمورهم؟!
مَن الذي يقلِّب أفئدتهم وأبصارهم؟!
مَن الذي يقلِّب ليلهم ونهارهم؟!
مَن الذي يبدئهم، ثم يفنيهم، ثم يعيدهم؟!
ولأي شيء خلقهم؟!
عبثاً؟ لا. إن الله مُنَزَّهٌ عن العبث، والله قد أبطل هذه الفِرْية التي عند الناس، وتوعد من قال بها بالويل في النار، يقول عز وجل: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [المؤمنون:115-116].
ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:16] يعني: عبثاً، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:17-18]، لهم الويل بما يصفون الله بأنه خلق هذه الدنيا عبثاً.
ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً [ص:27] أي: عبثاً، ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27].
الآن البشرية كلها مِن أولها إلى آخرها كثير ممن هم على وجه الأرض -إلا الموحِّد المسلم- يقولون: إن الدنيا خلقت عبثاً، فقط. وإذا سئل: لماذا خُلِقْتَ؟ قال: لنأكل، ونشرب، ونتمتع؛ ولذا يقضون ليلهم ونهارهم في التنافس والإكثار من الشهوات، لماذا؟ مستعجلون؟ لأنهم يعرفون أنهم سيموتون، فيريدون أن يشبعوا ويحصلوا أكبر قدر منها؛ لأنهم لم يعرفوا من الدنيا إلا هذا، ولهذا يسميهم الله بهائم، حيوانات يقول عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12].
إذاً: ما دام أن الله لم يخلقك عبثاً فلا بد أن يكون هناك حكمة من خلقك، من أين تعرفها؟ مِن عندك؟ لا؛ لأنك لست أنت الذي خلقت نفسك، لو أنك خلقت نفسك لعرفت حكمة خلقك؛ لكن أنت خُلِقت رغم إرادتك، إذاً: الذي خلقك هو الذي يعرف لماذا خلقك.
فمن الذي خلق الناس؟!
الله.
ولأي شيء خلقهم؟!
وإلى أي أجلٍ أجَّلهم؟
وإلى أي مصيرٍ يُسْلِمهم؟
هذه الحياة المبثوثة في كل مكان في الأرض من يبثها ويوجدها بعد الموت؟!
هذا الماء الهاطل، والنبات النابت، والحب المتراكب، والنجم الثاقب، والصبح البازغ، والليل الداجي، والضحى الساجي، والفلك الدوار، والقمر المنير، والشمس المضيئة، والكون كله، مَنْ وراءه؟! وماذا وراءه؟! وما هو خبره؟!
الناس يموتون .. فلماذا يموتون؟! وإلى أين يذهبون؟!
وأناس يولدون، لماذا يولدون؟! لماذا لم يستمر أولئك في الحياة ويأتِ أناسٌ جُدُد؟! لكن هذا يمشي رغماً عنه وهذا يموت، وهذا يولد رغماً عنه وهذا يمشي، هذا يؤدي دوراً، وذاك يؤدي نفس الدور، ويختلف معه بحسب سلوكه للسبيل السَّوِي أو السبيل الغَوِي! أسرار .. مجاهيل!
هذه الأمم: أمة تباد، وأمة تحيا.
هذه القرون: تذهب، وتجيء غيرها، وتُهلك.
وأمم تُسْتَخْلف، مَن الذي يستخلف الأمم؟! ومن الذي يهلك الأمم؟! ولماذا يدركها البوار؟!
وماذا بعد الاستخلاف والابتلاء؟!
وماذا بعد الوفاة من مصير وحساب وجزاء؟!
ويكاد اتجاه السورة يمضي إلى هذا الهدف من أولها إلى آخرها: الله هو الخالق، وتلـمس هذه القضيـة من أول آية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام:1] وماذا بعد ذلك؟ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] جعل الظلمات ثم جمعها ووحد النور، النور واحد، والظلمات كثيرة: ظلمات الكفر، والنفاق، والشُّبَه، والضلالات، والأهواء، والشهوات ... كثيرة؛ لكن طريق الله واحد، ولهذا يقول الله عز وجل: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [البقرة:257] أي: الظلمات الكثيرة، إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257].
فمِن أول وهلة وأنت تقرأ السورة تجد ثناءً على الله. لِمَ هذا الثناء؟! لأنه أهل الثناء والمجد؛ لأنه الخالق.
الْحَمْدُ لِلَّهِ [الأنعام:1]، وليس الحمد لِهُبَل، ولا للشيطان، ولا لِلاَّت، ولا للنفس، ولا للرغبات، بل لله، لماذا؟! الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] نور تكشف به.
يقول العلماء: إن النور مهما كان ضئيلاً يبدِّد الظلمات مهما كانت معتمة، إذا دخلت مجلساً أو صالة وقد انطفأت الكهرباء وخيَّم الظلام حتى لا ترى يدك، وأردت أن تبدد الظلمة من هذا المكان، ماذا تصنع لتبديد الظلام؟ تأخذ العصا؟! تلاكم؟! تضارب؟! لا، لا تفعل شيئاً، عليك أن تشعل النور، أي نور كان، مهما كانت نسبته، ولو صفراً، هذه (السهَّارية) نور، لو أن القوة فيها صفر أو (5) وات، أو (5) شمعات، لو أنرتها فإن الظلام الذي يملأ الغرفة أين يذهب؟! سوف يخرج من الباب، ولن يبقى، لماذا؟! لأنه دخل الذي يخرجه، وهو النور.
فإذا كان في قلبك ظلمة فكيف تخرجها؟! أشعل النور، بعض الناس في قلبه ظلمة، فيحاول إخراج الظلمة فيضيف ظلمة، عنده هم وغم فيقال له: أنت غضبان؟
فيقول: نعم.
فيقال: هيا نتمشى، نرى منظراً جميلاً.
فيخرج إلى السوق ليرى منظراً محرماً فتزداد الظلمات في قلبه.
أو يقول: هيا لنشتري شريطاً فيه أغنية، فيسمع الأغنية من أجل أن يزيل الظلمة، فيزيدها ظلمة على ظلمة.
أو يشتري شريط فيديو، أو يركِّب فوق سطح بيته صحناً فضائياً من أجل أن تنصبَّ عليه حمم الظلمات من كل أرض، ما عاد يريد ظلمة واحدة، بل يريد ظلمات العالم كله فوق رأسه، تخرخر على رأسه وامرأته وعياله، وكلما انتهت ظلمة انتقل إلى ظلمة، يعيش على الظلمات، هذا مظلم -والعياذ بالله- ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40].
والذي يعيش في ظلمات هنا يموت وهو مظلم القلب، ويتحول قبره إلى ظلمات، ويُحشر يوم القيامة في الظلمات.
وسَمَّى رسوله نوراً: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [الأحزاب:45-46].
وسمى الله نفسه نوراً تبارك وتعالى، ومن أسمائه الحسنى: النور: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35].
فإذا اكتسبت الأنوار من عبوديتك للجبار، وقراءتك لكلام الله، ومن الرسول صلى الله عليه وسلم عشت في النور، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ [الحديد:28] ماذا ؟! نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد:28].
ويقـول الله عز وجل: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] وهل هذا مثل هذا؟!
ما رأيكم برجل في ليلة مظلمة كُلِّف أن يعبر الطريق من قرية إلى قرية، وليس معه شيء، فكيف يصل هذا المسكين؟! لن يصل إلا وقد جرحته الحجارة، وأصابته الأشواك، وربما يقع في الحفر، ويسقط ويتعثر في (المطبات)، ويصطدم في الجدران، مسكين، ليس عنده نور.
وآخر كُلِّف بالمشي في نفس الطريق، وقالوا له: خذ (الكشاف)، ثم مشى، إذا رأى حفرة أو جداراً تجنبه، وإذا رأى شوكة تعداها، ويصل إلى المكان الذي قصده سليماً
يسألونه: ماذا رأيتَ؟!
لا شيء.
لماذا؟
معي نور؛ الحمد لله.
وهذه الدنيا هكذا، أنت مكلف أن تعبر هذه الدار إلى الله، وتمر وتجوز من هذه الدنيا إما إلى الجنة وإما إلى النار، فكيف تمشي بدون نور؟ إذا كانت الرحلة ساعة أو ساعتين فإنك تتعثر فيها إذا كنت بغير نور، فكيف تعيش ستين سنة بدون نور؟! أين هذا النور؟! تذهب إلى شركة الكهرباء؟! لا، هذا نور الدنيا، ينوِّر لك البيت فقط؛ لكن تريد نوراً ينور لك الدنيا والآخرة فبتمسكك بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم تحصل على النور.
يقول المفسرون: انظرونا [الحديد:13] لها معنيان: أي انظروا إلينا؛ لكي تنعكس أنوار وجوهكم علينا فنرى الطريق.
وقيل: انظرونا [الحديد:13] يعني: انتظروننا، كشخص عنده نور وهو ماشٍ بسيارته، وأنت ليس عندك نور وتطارده، وتمشي على نوره، وفرَّ وتركك، فتقول: على مهلك، دعنا نرى الطريق معك، فيقول لك: إي نعم هذا في الدنيا.
يقولون: فررتم وتركتمونا، انتظرونا نقتبس من نوركم.
قِيلَ [الحديد:13] هنا فعلٌ ماضٍ مبني للمجهول .. بنى الله الفعل للمجهول لماذا؟ قال العلماء: لجهالة المخاطَبين، هؤلاء المنافقون مجهولون عند الله، ولذا لا يستحقون أن يقول الله لهم إلا هكذا، ولا يستحقون أن تقول لهم الملائكة إلا هكذا، ولا يستحقون أن يقول لهم المؤمنون إلا هكذا، وإنما (قيل) من القائل؟! مجهول، قِيلَ ارْجِعُوا [الحديد:13] ابحثوا لكم عن نور من الوراء، ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ [الحديد:13] اذهبوا إلى الدنيا، هذا نورنا تزودنا به من دار العمل، ارجعوا وراءكم، ابحثوا لكم عن نور، يقول العلماء: إن في هذا نوعاً من التهكم بأهل النار والمنافقين؛ لأنهم يحوِّلونهم إلى المستحيل، ارْجِعُوا [الحديد:13] وهم يعلمون أن الرجعة مستحيلة.
وقيل: إن في هذا لفت نظرهم إلى النار؛ لأن النار من ورائهم، يقولون: ابحثوا لكم عن نور من النار، والنار ليس فيها نور، نار الدنيا فيها نور؛ لكن نار الآخرة لا نور فيها؛ لأنها مظلمة؛ أوقد الله عليها ثلاثة آلاف سنة، ألف سنة حتى احمرَّت، ثم ألف سنة حتى ابيضَّت، ثم ألف سنة حتى اسودَّت، فهي سوداء مظلمة كالليل البهيم، نعوذ بالله وإياكم من النار.
قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُـرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] يفصل الله بين أهل النور وهم المؤمنون -جعلنا الله وإياكم منهم- وبين أهل الظلمة -نعوذ بالله وإياكم منهم- وأنت هل تريد النور، أو الظلمة؟! لا بد أن تعلم من الآن، بعض الناس يقول: أريد أن أكون مع المؤمنين؛ لكن لا أعمل، مثلاً: شخص بنى عمارة وقال: أريد أن أدخل الكهرباء، ماذا يتطلب الموضوع منه؟! شخص يريد الكهرباء ولم يضعه في المخطط، عندما جاء المخطط الكهربائي قال: لا، لا نريد، وقال للمقاول: انتبه! نحن لا نريد الكهرباء، ثم لما اكتملت العمارة قالوا له: أدخل الكهرباء.
قال: لا.
ودخل في العمارة، هل يستأجرها أحد منه، أو يسكن فيها، لا يريد كهرباء من أساسها؛ لكن نحن حينما نضع مخطط العمارة هناك لوحة اسمها: المخطط الكهربائي، ثم نختار أحسن مخطط، وأحسن منفذ، وإذا انتهى نختار أحسن أسلاك، ومفاتيح، و(أفياش)، وإذا انتهينا ذهبنا لنقدِّم الطلب:
هات ملفاً، اعمل، ادفع، قل .. حاضر، تفضل، خذ.
ارتفعت التسعيرة .. لا يهم، بسيط، هي كهرباء، لا نقدر أن نعيش من غير كهرباء .. لماذا وهي نور الدنيا، ونور ستين سنة.
إذاً: نور القبر ما رأيك فيه؟!
تريد أن يكون معك نور في القبر يضيء لك، وهي الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور) فأنت إذا أردت هذا النور اشغل نفسك به، راجع محطات النور .. هذه المساجد هي محطات النور الربانية، اجعل لك علاقة بها، بحيث أنك لا تغادرها في اليوم خمس مرات، في الفجر والظهر والعصر وأنت الأول، تكتسب الأنوار من محطة النور، ثم اجعل لك ورداً مع القرآن الكريم، اجعل لك ورداً مع السنة المطهرة، اجعل لك موعداً مع العلماء، الآن جلستكم في هذا المجلس هي نور لكم، ليس مني هذا النور؛ ولكنه من الله؛ لأنكم ما جلستم تريدون مالاً، ولا ثَمَّ عشاء بعد الجلسة، وإنما جلستم من أجل الله، والله ما أتى بكم إلا الله تبارك وتعالى، ولا نزكي على الله أحداً، هذه الجلسة نور، وستشعرون وأنتم تخرجون من المجلس كيف هي قلوبكم؟!
هل هي مثلما دخلت، أم أنها ازدادت نوراً، إن شاء الله تزداد نوراً.
عندما تجلس في محطات النور، وتجلس عند العلماء والدعاة يزيدك الله تبارك وتعالى نوراً، إي نعم، قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ [الحديد:13] الذي من جهة أهل الإيمان -اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين- وما أفقرنا أيها الإخوان! وما أحوجنا إلى رحمة الله في الدنيا والآخرة -اللهم ارحمنا برحمتك في الدنيا والآخرة. الملائكة تدعوا لكم يا إخواني! وأنتم في هذا المجلس، ملائكة الرحمن، وحملة العرش، يقول الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7] أي: لكم رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ [غافر:7] لأهل صفتين: لِلَّذِينَ تَابُوا [غافر:7] ثم ماذا؟ وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غافر:7].
أول شيء: التوبة، بعض الناس يتبع سبيل الله وهو على المعاصي، ما نَصَح؛ لأنه يبني ويهدم، تراه يصلي ويذهب ليغني، يصلي ويذهب ليطارد النساء في الشارع، يصلي ويذهب ليدخن عند باب المسجد .. هذا ما تاب.
أول شيء: (التَّخْلِية) كما يسميها العلماء، إذا كان عندك كوب مملوء بالتراب، وأردت أن تشرب في هذا الكوب لبناً أو ماءً فماذا تعمل؟ وماذا ينبغي لك أن تفعله؟! العقل يقول لك: صُب التراب من الكوب، ونظِّفه، ثم ضع فيه ماءً أو حليباً واشرب؛ لكن لو قال لك واحد: اغسل كوبك من التراب؛ لكي نصب لك فيه حليباً أو ماءً، فقلتَ: لا، ما يهمك، يصلح، ضع الحليب على التراب، ماذا يحصل؟! هل تشرب بعد ذلك؟! هل تنتفع بالحليب؟! لا، رغم أنه حليب؛ لكن وضعته على تراب، كذلك بعض الناس يضع طاعةً، وصياماً، وصلاةً؛ لكن يضعها على تراب في قلبه، قلبه مملوء بالزيغ والضلال، نظف قلبك، ولهذا الملائكة تقول: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا [غافر:7] أي: أقلعوا عن الذنوب وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ [غافر:7-9] هذه دعوة من الملائكة، اللهم استجبها يا رب! فينا وفي إخواننا المسلمين، تدعوا لك الملائكة أن الله يقيك السيئات، أي: يحميك من الذنوب، ثم قالت: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ [غافر:9] أنت تعرف الآن هل أنت ممن رحمك الله، أم لا؟ إذا رأيت نفسك وعرضتها على المعاصي والسيئات، فإن كنت صرفت نفسك، أعانك الله، فقد رحمك الله، وإن كنت وقعت فمسكين، ابحث عن رحمة الله، وهذه في يديك، وأنت تمر على مؤشر المذياع على أغنية سيئة، إذا أبعـدتها فقد رحمك، وقاك السيئة وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:9].
هذا هو الفوز، هذه هي العزة، هذا هو الانتصار أن تنتصر على نفسك وشهوتك، وإن من ينتصر على نفسه سيكون حرياً بالنصر في كل ميدان؛ لكن المهزوم داخل نفسه كيف ينتصر على غيره؟! ولهذا تجد بعض الناس مهزوماً أمام سيجارة، أو منظر امرأة، يقف في الشوارع والطرقات، ويخرج إلى الأسواق ويتلصص بعين سقيمة مريضة إلى محارم الله، تراه مثل الكلب يُشَمْشِم، هذا مهزوم، لا يصلح؛ لكن ذاك المنتصر إذا رأى امرأة يقول: صحيحٌ أنه منظرٌ جميل، لكن طاعة الله أحلى، عذاب الله أقوى، أنا أقارن بين لذة المعصية وبين عقوبتها فأجد أن لذتها بسيطة، وعقوبتها طويلة عظيمة، إذا كان (مَن ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله مِن جمر جهنم) و(من استمع إلى الغناء صبَّ الله في أذنيه يوم القيامة الآنك -أي: الرصاص المذاب-) إذاً كيف تعمل؟! صعب جداً عليك أيها الإنسان.
إذاً: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ [غافر:9] اللهم قنا السيئات يا رب العالمين.
هكذا أيها الإخوة: السورة من أولها إلى آخرها تبدأ وتطوف وتحدد هذه المعاني العظيمة:
فأولها: يدلك على الخالق: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام:1] وهو الرازق، يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14] رزق العباد كلهم عليه، نفقة العباد كلهم عليه، ثم إنه مالِك؛ صاحب قدرة، الناس كلهم في قبضته، مَن الذي يستطيع أن يخرج عن قبضة الله؟! مَن الذي يستطيع أن يمتنع عن الله؟! والله لا غني يمتنع بغناه، ولا قوي يمتنع بقوته، ولا ملك يمتنع بمُلكه، ولا صاحب مال يمتنع بماله، وإنما الناس كلهم ضعفاء أمام قوته، فهو المالك المتصرف في الكون ومن فيه، بيده مقاليد الليل والنهار، بيده ملكوت السماوات والأرض، يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88]، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:6] وهو العليم بالغيوب والأسرار، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] لا إله إلا الله! ولو كانت ورقة من شجرة في صحراء تنزل وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ [الأنعام:59] لا إله إلا الله! هل يُعْصى هذا الرب؟! أين أنت يا إنسان؟! إذا كانت الملائكة لا تعصي الله لأنها عرفت الله، عرفته المعرفة الحقيقية، يقول عليه الصلاة والسلام: (أطَّت السماء -أي: احدودبت وانحنت- وحُقَّ لها أن تئط، فما فيها موضع قدم إلا وملك راكع أو ساجد، يسبحون الليل والنهار) مِن الملائكة مَن هو راكع من يوم أن خلقه الله إلى يوم القيامة، وإذا بُعِثَ ونُفِخ في الصور بُعِث وهو يسبح ويقول: سبحانك! ما عبدتك حق عبادتك.
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، يقول صلى الله عليه وسلم، وهو يتحدث عن ملك من حملة العرش، والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير وصححه الألباني ، يقول: (أُذِنَ لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقة مسيرة سبعمائة عام) هذا رقبة الملك وما بين شحمة الأذن إلى العاتق مسيرة سبعمائة سنة، إذاً: كيف الباقي؟ لا يعلمه إلا الله.
وجاء في الحديث الصحيح عن وصف جبريل أنه: (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فَرَد اثنين من أجنحته، فسَدَّ ما بين الخافقين) ما بين المشرق والمغرب، اثنان فقط، بقي بعدهما خمسمائة وثمانية وتسعون جناحاً، له ستمائة جناح، اثنان سَدَّا ما بين المشرق والمغرب.
يقول العلماء: كيف يسأل الله تبارك وتعالى عيسى عليه السلام وهو يعلم أنه ما قال هذا الكلام؟! قالوا: ليقطع العذر على عُبَّاد عيسى، يعني: عُبَّاد عيسى قد يقولون يوم القيامة: إنَّا عبدناه لأنه قال لنا، فالله بدأ بعيسى: أنت قلت لهم يعبدونك وأمك من دوني؟ قال: ما قلت لهم. فلا يأتي واحد منهم يقول: يا رب! إنَّا عبدناه لأنه قال لنا، انتهى لقد قطع الطريق عليهم من أول شيء؛ لكن انظروا أدب الخطاب مع الله.
يقول: أنا لستُ منهم؛ لكن ألحقني بالصالحين، وهو العابد الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؛ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام وسائر الأنبياء.
قال: منذ متى وأنا مريض؟
قالت: منذ ثماني عشرة سنة.
قال: وكم مكثت متعافٍ من قبل؟
قالت: ثمانون سنة.
قال: إني أستحي أن أطلب العافية حتى تبلغ مدة مرضي مدة عافيتي.
يقول: إذا أكملنا ثمانين سنة أخبريني أو أعلميني حتى أطلب من ربي أن يعافيني.
هؤلاء هم الذين يعرفون الله.
ثم لما دخلت دودة في قلبه، ودودة أخرى في لسانه، وبدأت تقرص، لم يبق هناك لحم، لم يبق إلا العظم، وحمى الله لسانه بالذكر، وحمى الله قلبه بالشكر، فلما أن جاءت الدودة تبحث وأرادت لسانه، صاح، وقال: ربِّ إنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء:83] ولم يقل: فعافني، وإنما قال: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، إن كنت تريد أن تعافيني يا ربِّ، أو تميتني، أو تتركني فأنت أرحم الراحمين، رحمتك أختارها، انظروا إلى الأنبياء!! يقول العلماء: إن الضر الذي مس أيوب ليس ضر الألم، فقد مسه الضر منذ ثماني عشرة سنة؛ لكنه ضر التعطيل عن ذكر الله وشكره، هؤلاء هم الأنبياء.
فالذين يعرفون الله تبارك وتعالى؛ الملائكة، والأنبياء، والصالحون، يعرفون الله فلا يعصونه، وإذا وقعوا في معصية رجعوا إلى الله تبارك وتعالى.
فالله عز وجل هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار، هو الحاكم في الكون، الأمر أمرُه، والنهي نهيُه، والشرع شرعُه، والحكم حكمُه، لا تحليل لما حرم، ولا تحريم لما أحل، هذا كله من خصائص الرب وخصائص الإله، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] ما دام أنه الخالق لوحده فلا بد أن يكون هو الآمر لوحده، ولا يجوز أن يمارس أحدٌ هذه الأشياء مع الله تبارك وتعالى، أو مِن دون الله؛ لأنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يحيي ولا يميت إلا الله، ولا يضر ولا ينفع إلا الله، ولا يمنح ولا يمنع إلا الله، فلا يملك أحدٌ لنفسه ولا لغيره شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة، فكيف ينافس الله في خصائص الألوهية، ما دام أن كل هذه الخصائص لله إذاً فله الأمر، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير.
هذا الموكب من الملائكة، وهذا الارتجاج في الأرض واضح في السورة، كما يقول بعض المفسرين: إنها هي نفسها ذات موكب، وموكبها ترتج له النفس، ويهتز له القلب، إنها مملوءة بالمواقف، وبالإيحاءات، وبالمشاهد، وبالمعاني، فما جاء في هيئة الملائكة من المعاني موجود فيها.
وتبدأ السورة بمواجهة المشركين؛ الذين يتخذون آلهة ويسوونها بالله، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] أي: يسوون، حتى إنهم من فرط جهلهم ساوموا النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: اعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، يعني: مبادلة، القضية تجارية، سنة بسنة، فقال الله عز وجل حاسماً للقضية: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6]، دينكم باطل فكيف أتبعه، آلهتكم مزيفة باطلة لا تملك، لا تخلق، لا تعطي، لا جزاء عندها، ولا جنة، ولا نار، فكيف أعبدها، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] مفاصلة؛ ولذا جاءت السورة: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] يتخذون آلهة من دون الله، بينما دلائل التوحيد تجبههم وتواجههم وتحيط بهم في الآفاق، والسماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، بل تلامسهم في أنفسهم وكل ما حولهم، وكل ذرة من ذراتهم، وكل خلية من خلاياهم شاهدة على أن الله واحد
وفي كل شيء له آيـةٌ تدل على أنه واحدُ |
ولكن ما الذي يحملهم على الشرك؟!
إنه الجحود والإنكار، ولهذا يقول الله في السورة: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
تبدأ السورة بثلاث سمات ترسم الوضع كاملاً:
أول سمة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] وفي هذه اللحظة تبدأ تعرض: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام:1-2] أعندكم شك بعد كل هذه الآيات؟! وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3] ثلاث آيات تغطي الوجود الكوني كله.
الأولى: في خلق السماوات.
الثانية: في الوجود الإنساني كله.
الثالثة: في إحاطة معاني الألوهية كلها.
أي إعجازٍ وأي روعة في كلام الله عز وجل!!
إنه كلام الله، لا يمكن ولا يتصور أن هذا الكلام كلام بشر، إنه كلام الله الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
ثم تعرض السورة بعد ذلك موقف المكذبين الذين يرون آيات الله مبثوثة في الكون والحياة مِن حولهم، بل مع أنفسهم، ومع هذا العرض ينكرون، فيأتي التهديد بعرض مصارع الأمم التي كذَّبت، ويتجلى السلطان القاهر الذي أوقع بهم هذه المصارع والقوارع، فيبدوا عجباً موقف هؤلاء المنكرين، وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام:4]، والآية هنا تعني: العلامة والدلالة، ما تأتيهم دلالة، ولا حجة، ولا علامة مِن العلامات التي تدلهم على الله إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام:4] فماذا ينفع فيهم هؤلاء؟!
قال الله: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام:5] هؤلاء الذين كذبوا بالحق المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزءوا بالحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يأتيهم الخبر.
تروي كتب السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم بدر على أهل القليب، وفيهم أبو جهل ، وأمية بن خلف ، ومجموعة من صناديد قريش، ثم قال لهم: (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ ثم سكت، ثم قال: أمَّا أنا فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً) قال الصحابة: يا رسول الله! كيف تخاطب قوماً قد جيَّفوا؟! -كفار ماتوا، وانتفخت بطونهم، كيف تكلمهم؟!- قال: (والذي نفس محمدٍ بيده! إنهم أَسْمَع لكلامي منكم) يسمعون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر مما يسمعه هؤلاء؛ فهو على سبيل التقريع والتوبيخ.
فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ [الأنعام:5] إذا قال الله: سوف يأتيهم؛ فمن الذي يرد حكم الله؟! فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَلَمْ يَرَوْا [الأنعام:6] أما عندهم نظر؟! أليس هناك تأمُّل؟! أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام:6] الأمم السالفة مكن الله لهم من القدرات، وأعطاهم من القوى والإمكانات ما ليس لكفار قريش كعاد قوم هود إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:7-8] وقوم صالح هم هؤلاء بجانبنا هنا في مدائن صالح، كانوا ينحتون الجبال -بدون جرافات- بأصابعهم، يحفرون الجبال وتحفر لهم، ويبنون في الجبال بيوتاً، ثم يدخلون في الجبل، ويخرِّمونه من الداخل، ويعملون مجالس، وغرفاً، ومستودعات داخل الجبل، ولهذا الذي يمر منها ويراها يبكي، ويمر وهو مسرع -كما جاءت به السنة- لأنها منازل القوم الظالمين، ظلموا أنفسهم، فالله يقول لكفار قريش: أَلَمْ يَرَوْا [الأنعام:6]، أما رأوا هذه الأشياء؟! أما سمعوا بعاد، وثمود، والأمم السالفة الذين أفناهم الله؟! أين هم؟! ألم يأخذوا العبرة منهم؟! أليس الذي أفنى أولئك قادر على أن يفني هؤلاء؟! أَلَمْ يَرَوْا [الأنعام:6] في هذا لفت نظر قوي: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ [الأنعام:6] فماذا حصل؟! فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأنعام:6] وكما أهلكناهم بذنوبهم سوف يهلك الله كل صاحب معصية وذنب ويؤاخذه فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [الأنعام:6] عملية تجديد للبشر، يأتي أناس ويذهب آخرون، والذي يذهب يذهب بما عمل، والذي يأتي يأتي ليجد ما يعمل، وكلٌّ يمر واللقاء عند الله تبارك وتعالى.
إذا أردت أن يكون الله لك كما تريد:
رحيماً. غفوراً. ودوداً. يدخلك الجنة. ينجيك من النار. يجعل قبرك روضة من رياض الجنة. يجعلك في درجات عالية. يعطيك النعيم؛ فكن أنت له كما يريد. ماذا يريد منك أن تكون؟ يريدك أن تكون:
عبداً. طائعاً. تواباً. منيباً. خائفاً. وجلاً. مشفقاً. في قلبك مثل النار. كأن النار ما خلقت إلا لك. ترى كل حسنة تعملها تقول: ربما لن يقبلها ربي. ترى أي معصية تعملها كأنها جبل. هذا هو المؤمن، يرى الحسنات العظيمة يقول: هذه بسيطة، ماذا فعلتُ؟! ويرى السيئة البسيطة يقول: الله! أنا أعملها؟! أأنظر إلى النساء؟! أأسمع أغنية؟! أأنا آكل ريالاً حراماً؟! أأنا أنام عن صلاة مفروضة؟! أأنا أعق والدتي؟! أأنا أرفع صوتي على أبي؟! أأنا أقطع رحمي؟! أأنا أخون؟! أأنا أكذب؟! أأنا أغش؟! أأنا ألعن؟! أأنا أغتاب؟! أأنا أنم؟!
حاسب نفسك، أنت بهذا الوضع تكون لله كما يريد، فيكون الله لك كما تريد، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل:89] وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ [النمل:89] ليس معه إلا الذي جاء به، ماذا تريد من الله أن يعطيك؟ غير الذي جئت به؟! فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:90]، الآن كل واحد منا يأتي بشيء، واحد يأتي بذهب، وواحـد جـاء ببَعَر -أكرم الله السامعين-، ذهب إلى زريبة الغنم وجمع البعر وملأ حقيبته، ونزل إلى السوق، ماذا سيلقى هذا؟! يلقى بَعَراً، وذاك عندما أتى بالذهب فإنه سيلقى ذهباً.
هذه أيها الإخوة! بشرى حقيقية لأهل جدة ، وهي فضل من الله ورحمة ونعمة؛ أن يأتي العلماء من أماكنهم ليلقوا الدروس عليكم في هذه المدينة الطيبة الطاهرة إن شاء الله، وخصوصاً أصحاب الاختصاص؛ الدكتور أحمد معروف لدى طلبة العلم، ومعروف لديَّ أنا شخصياً، ولا أزكِّي على الله أحداً، معروف بالفضل والعلم والنبوغ، فقد كان أحد المناقشين لي في رسالتي للماجستير، وقد عرفت منه العلم والغزارة والاطلاع والعمق.
وهذه الرسالة رسالة الإمام ابن تيمية كتبها لأهل تدمر ، تتحدث في مضمونها عن مجمل اعتقاد السلف؛ العقيدة الصحيحة لسلف هذه الأمة تضمنتها هذه الرسالة، فبناها على ثلاثة أشياء:
على مَثَلَين.
وعلى أصْلَين.
وعلى سبع قواعد.
من أدرك المَثَلَين، وعرف الأصْلَين، وعرف السبع القواعد عَرَفَ مجمل اعتقاد السلف.
وهذه الرسالة ليست سهلة، فهي من أصعب الكتب لطالب العلم، وقد مرت بي أنا؛ كانت مقررة علينا في السنة الأولى، في كلية الشريعة، سنة: (1396هـ)، يعني: قبل عشرين سنة، لكن الجامعة فيما بعد -جامعة الإمام محمد بن سعود- غيرت المنهج، وجعلتها بعد أن كانت مقررة على السنة الأولى جعلتها مقررة على السنة الرابعة، وكنا نسميها ونحن في السنة الأولى شريعة: إنجليزي الكلية؛ لأنها مثل الطلاسم، مبهمات، ما ندري ماذا يقول الأستاذ؛ لأن ابن تيمية ألَّفها بأسلوب المناطقة، وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية كلام قوي، كأنما يَفْصُل من جبل؛ ولكن إذا وجدتْ هذه الرسالة العالم -ولا نزكي على الله أحداً- مثل الشيخ أحمد ، فسيبسطها إن شاء الله وتفهمونها بإذن الله.
ولذا أدعو كل من في المجلس هذا أن يخصص يوم الثلاثاء من كل أسبوع من المغرب إلى العشاء، ساعة لعقيدتك، ساعة لسلامة قلبك من الضلالات، تعرف كيف هي العقيدة، إذا عرفت هذه العقيدة - الرسالة التدمرية - تستطيع أن تقف في أكبر مكان في الدنيا، وأمام أكبر عالم في الدنيا، وتُثْبِت عقيدة السلف؛ لأن عندك قواعد؛ عندك أصلان، ومثلان، وسبع قواعد تبني عليها العقيدة.
أرجو من الإخوة الكرام! طلبة العلم، أن يأخذ كل واحد منهم دفتراً، ويشتري الكتاب -والكتاب موجود في السوق، وله طبعة خرَّجها أحد طلبة العلم، ونال عليها درجة الماجستير- ويحضُر إلى المجلس بعد صلاة المغرب، ثم يعرف أن يوم الثلاثاء هذا اسمه: يوم التدمرية، إن كان معزوماً، فليقل: أنا معزوم من قبل، وإن كان سيسافر، فليجعل السفر يوم الأربعاء، لا يسافر يوم الثلاثاء، مهما كان، استمر مع الشيخ في جلساته، وستجد بإذن الله مصلحة ومنفعة كبيرة، أسأل الله أن ينفعني وإياكم بما نسمع وبما نقول.
الجواب: المقصود بالمتاهات هو: الخلط في علم الكلام، وعلم الكلام المقصود به كما يعرفه العلماء: هو العلم الذي يتناول قضايا الأسماء والصفات والخوض فيها.
والذي ينصح به العلماء والذي هو معتَقَد أهل السنة والجماعة هو: إثبات الأسماء والصفات بمعانيها ومدلولاتها الشرعية واللغوية أيضاً، من غير تكييف لها ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة .
أما الذين خاضوا في الكلام وخرجت بهم أفكارهم عن مدلولات الشرع، وعن نصوص الكتاب والسنة وأخضعوا القضية لعقولهم فقد ضلوا، وما وصلوا إلى شيء، بل -كما ذكرتُ لكم- ماتوا وهم لم يعرفوا شيئاً. هذا هو المقصود.
الجواب: مخالطة الناس، وتغيير وضعهم، والصبر على أذاهم أفضل في نظر الشرع من اعتزالهم؛ لأن الاعتزال عمل سلبي يقدر عليه كل واحد، ولكن الإيجابية في أن تختلط بالناس صعبة، ولكن بشرط: أن تؤثر فيهم بالخير، ولا يؤثرون فيك بالشر، شأنك في ذلك شأن المصلحين، أو الأطباء، فالطبيب إذا دخل بين المرضى أعطاهم الدواء، وامتنع عن أخذ الداء؛ لكن إذا انعزل عن المرضى وقيل له: هنا مرضى، قال: أنا لا أحب المرضى ولا أقدر أن أدخل عليهم، وأنا طبيب سأقعد لوحدي، ابحثوا لي عن أناسٍ أصحاء أجلس معهم، هل هذا يسمى طبيباً؟! لا.
فأنت أيها الرجل الصالح! أيها الأخ الملتزم! ما دام أن عندك زملاء مرضى؛ إما بالمعصية، أو بالفسق، أو بالاستهزاء، وهذا كفر -والعياذ بالله- لأن الاستهزاء بالله يصل بالإنسان إلى درجة الكفر -والعياذ بالله- فأنت مطلوب منك بحكم موقعك وعملك معهم أن تعالج أمراضهم، وأن توجههم، وتستمر في نصحهم، ولا تستعجل منهم الهداية، فإن الله لا يعجل لعجلة أحد، الهداية بيد الله، والله ليس على ما تريد، إي نعم، أنت على مراد الله، عليك الإبلاغ والنصح، والله هو الذي يتولى الهداية، وقد تستمر في النصح شهوراً وسنوات ولا يستجيب الله.
لكن متى يلزمك أن تنتقل من هذا المكان؟!
إذا رأيت عليك خطورة منهم، بحيث أنهم أصبحوا يشككونك، أو يؤثرون فيك، أو لا يسمعون كلامك، أو أنت نفسك لم تعد تدعوهم، لا بد لك أن تنجو بجلدك وتفر منهم.
ثم يقول: نرجو من سماحتكم نصحه وإرشاده كيف يتعامل معهم، وكذلك نرجو أن تقدموا نصيحة لهؤلاء القوم لأنه يريد أن يعرض هذا الشريط عليهم إن شاء الله؟!
الجواب: أولاً -أيها الإخوة- إن من فضل الله عز وجل على كثير من إخواننا المسلمين، أن جاءوا إلى هذه البلاد، جاء بعضهم للحج أو للعمرة أو للعمل والتكسب؛ لكن المفروض عليهم والمطلوب منهم أن يتزودوا بالعلم الشرعي المتاح في هذا البلد، وخصوصاً العقيدة الخالصة من شوائب الشرك، والبدع، والخرافة، وقد مَنَّ الله تبارك وتعالى على هذه البلاد بالعلماء الربانيين الذين يبيِّنون للأمة أصول دينها، وصحيح عقيدتها، المأخوذة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا يوجد عالم من العلماء الربانيين يأتيك ويقول لك: هذه عقيدة إلا ويعطيك دليلاً من كتاب أو سنة.
لا يوجد من يقول: قال شيخي، وقال الولي، وقال العارف، لا: بل قال الله، قال رسوله.
فإذا رزقك الله الإقامة هنا فينبغي لك أن تركز على علم العقيدة، ثم إذا ذهبتَ إلى بلدك، فلتحمل معك مع الهدايا، ومع الريالات، تحمل معك هذا العلم، وشيئاً من الكتب الشرعية والأشرطة من أجل أن تبدأ الدعوة هناك، وتبدأ التعليم، ولا شك أنك قبل أن تبدأ بالتعليم يجب أن تكون أيضاً على علم؛ لأنك إذا وقفت هناك وجادلت من عنده علم، وليس عندك علم فلا شك أنك ستكون مفلساً؛ لكن إذا تضلَّعت بالعلوم والأدلة من كتاب الله، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وواجهتهم، فإنك ستواجههم بقوة وبحزم، ولن يستطيعوا مقاومتك؛ لأنهم يفتقرون إلى الدليل، وأنت عندك النور: الكتاب، والسنة.
ثم لا تتصور أن القضية سهلة؛ لأنهم عاشوا على هذا الفكر أو على هذا الأمر منذ سنين، فسيكون تغييرهم صعباً، فلا بد من الصبر، وابدأ بطلبة العلم، وبمن عنده رغبة في الخير والحق، ولا تأتِ إلى المتصلِّب، والمتعصب، ولا إلى الذي قد امتلأ رأسه من هذا الضلال، دعه واشتغل بغيره من الناشئة، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما جاء إلى مشركي مكة كان تركيزه على الشباب، أما صناديد قريش لم يكن فيهم مصلحة، يعني: تضييع للوقت معهم، فكان يهتم بالشباب، ويهتم بالضعاف، ويهتم بالموالي، فهؤلاء اهتدوا، وأجرى الله عز وجل التغيير في الأرض على أيديهم.
فأنت إذا جئت فلا تبدأ بالعلماء الكبار؛ لأنك إذا أتيت بدعوة التوحيد إلى هؤلاء فكأنك تنافسهم أو تزيلهم من مواقعهم، فيتصدون لك؛ لكن دعهم على ضلالهم، وابدأ بمن تستطيع أن تصل إليه. حتى تتمكن وتنتشر الدعوة ثم ادع الكبار.
أما النصيحة إلى هؤلاء فنقول لهم: اتقوا الله تبارك وتعالى، واعلموا أنه لن يمنعكم من الله أحدٌ، ولن يقبل الله عزَّ وجلَّ منكم عبادة، إلا إذا توفر فيها شرطا العبادة الصحيحة:
الشرط الأول: أن تكون خالصة لوجه الله.
الشرط الثاني: أن تكون صواباً على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي عبادة، أو عمل يتقرب به العبد إلى الله إذا لم يكن فيه إخلاص ومتابعة، فهو مردودٌ وباطل، وما نلمسه أو نسمعه من شتى بقاع الأرض من عبادات وأذكار، وطواف بالقبور، وذبح ونذور للأضرحة، كل هذا ليس عليه أمر الله، ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو لا يخلو من الشرك أو البدع والخرافة والعياذ بالله.
الجواب: الحجاب أيها الإخوة! كما سبق وأن قلنا: هو دين وشريعة، تعبَّد الله المرأة به، كما تعبَّدها بالصلاة وبالزكاة وبالصيام وبالحج، أيضاً تعبَّدها بالحجاب، فالذي شرع الحجاب هو الذي شرع الصلاة، والذي أمر بالحجاب هو الذي أمر بالزكاة، فالمرأة تمارسه لا على أنه عادة، أو أنه تقليد، أو أنه نوع من الكبت، لا، بل تمارسه لأنه مأمور به شرعاً، تلبس الحجاب وهي تستشعر وقوفها بين يدي الله، فإذا استشعرت هذا، وجدت لذة وأنساً وطعماً لهذا الحجاب، الذي تنفِّذ فيه أمر ربها وخالقها.
الحجاب أيها الإخوة! الحجاب ليس جلباباً فحسب، بل الحجاب عقيدة ودين، مَن الذي أمر أيها الإخوة! أيها الأخوات! يا من تسمعون كلامي في المسجد أو في خارج المسجد! مَن الذي أمر بالحجاب؟!
إنه رب الأرباب، إنه الله، يقول الله للنساء: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ [النور:31] بدأ الحجاب هنا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ [النور:31] الخمار هو: الغطاء الذي تغطي به رأسها، تضرب المرأة بخمارها على جيبها وَلْيَضْـرِبْنَ بِخُـمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] أي: مروراً بوجهها، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا [النور:31] لثمانية أصناف من الأقارب، وأربعة من غير الأقارب، إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:31] البعل، وهل يحتاج الأمر إلى بيان هذا، معروف أن المرأة تبدي زينتها لبعلها؛ لكن لماذا الله يذكرها؟! لبيان أن غيره حرام، إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ [النور:31] أبوها؟! ينص الله على أنها تكشف وجهها له حتى يكون على غيره حراماً، أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ [النور:31] أبو بعلها، أَوْ أَبْنَائِهِنَّ [النور:31] أولادها، أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ [النور:31] ولد زوجها من غيرها، وهي عمَّته، أَوْ إِخْوَانِهِنَّ [النور:31] إخوتها، أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ [النور:31] أبناء أخيها، أَوْ بَنِي أَخَوَاتِـهِنَّ [النور:31] أبناء أختها، فقط، وقُفِلَ الطريق، لم يعد هناك أحدٌ من الأقارب.
أما ولد العم، وولد الخال، والجماعة؟!
لا، (الحمو الموت)، فأخو الزوج هو الموت؛ لأنه أجنبي، لو مات الزوج لتزوجها بعده، ما الذي يمنع؟! فلا يجوز.
أما الأربعة من غير الأقارب
أَوْ نِسَائِهِنَّ [النور:31] المرأة تكشف على المرأة، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [النور:31] امرأة غنية وعندها عبد مملوك ملك اليمين فهي تكشف عليه؛ لأنها سيدته؛ ولكن لا تكشف عورتها، أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ [النور:31] التابع للزوج، كالخادم، والسائق، والعامل، وأي واحد يتبع الزوج، تحت كفالته، أو تحت سيطرته وهيمنته؛ لكن بشرط أن يكون هذا السائق أو هذا العامل مَخْصِيَّاً، هذا كلام الله، أَوِ التَّابِعِينَ [النور:31] ماذا؟! غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ [النور:31] يعني: مَخْصِيَّاً، ليس معه ما مع الرجال؛ لكن إذا كان السائق ليس مَخْصِيَّاً، وتجعله يوصل المرأة؟! أين الغيرة يا إخواني؟! لا إله إلا الله! إنا لله وإنا إليه راجعون! والله مصيبة! أشهد بالله أنَّا نضحك مما يُبْكى منه يا إخواني! ثم قال بعدها: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ [النور:31] الطفل؟! الطفل له قيود؟! نعم، ولو كان طفلاً، بشرط: أن يكون الطفل هذا لم يظهر على عورات النساء، أما لو كان رجلاً بالغاً فهذا ليس فيه خلاف سواءً ظهر أم لم يظهر؛ وإذا كان طفلاً عمره ست سنوات، ويعرف كيف يميز الجميلة من القبيحة فإن المرأة تحتجب منه؛ لأن بعض الأطفال ولو كان عمره خمس سنوات تجده ذكياً مميزاً، يدخل البيت ويرى المرأة ويصورها كلها
ماذا بك؟!
دخلت البيت وفيه امرأة جميلة.
فهذا يجب أن تحتجب منـه؛ لأنه يعرف الجميلـة من القبيحـة، أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور:31].
هذا كلام الله يا إخواني!
فالمرأة المؤمنة تمارس الحجاب على أنه طاعة، ولذا تلبسه وتهتم به، بأن تغطي كل شعرة، وظفر وبشرة منها، لا يظهر منها شيء، تلبس القفازين في يديها، وتلبس (الشراب الأسود) في رجليها، وتلبس الحذاء العادي الذي ليس بكعبٍ؛ لكي لا يرفع عجيزتها، وتلبس الغطاء المتين الذي لا يصف ولا ينمُّ عن وجهها، وتلبس العباءة المسيطرة والمهيمنة على كل جسمها، ثم إنه ليس هناك عباءة مزركشة، في لبس المرأة المسلمة سمعنا الآن أن هناك -وقد رأينا- عباءات مطرَّزة، هذه لم تعد عباءة، ولم تعد حجاباً، هذا الحجاب أصبح فتنة. وسمعنا الآن أن نساءً يلبسن كاباً، ما هو الكاب؟! الكاب: مثل ثوب الرجل، ترى صدر وثدي المرأة، وكتفيها، ورقبتها، ومؤخرتها، لا يصلح هذا، لا بد من عباءة من رأسها إلى قدميها، بحيث لا يدري الناس ماذا تحته ، فقط يرون شكلاً أسوداً؛ لكن الكاب يفصِّل المرأة، وترى كل شيء في المرأة، بدلاً من أن تلبس الثوب الأحمر، أو الأخضر، فلتلبس الثوب الأسود، هذا هو الأصلح، وبعضهنَّ تلبس شيئاً مثل البِشْت على رقبتها كأنها رجل، لا بد أن تلبس العباءة من فوق رأسها إلى أسفل قدميها وتسحبها؛ لأن بعض النساء الآن بدأن يرفعن العباءات إلى نصف الساق، ونخاف من أن ترتفع إلى الركبة، الرجل يرخي ثوبه، والمرأة ترفع ثوبها، بالعكس، الله يأمرنا بأن نرفع ثيابنا، والنساء تسحب ذيلها؛ لكن نحن بالعكس؛ الرجل يرخي، والمرأة ترفع، لا حول ولا قوة إلا بالله!
ولا تتبرج بعطر ولا برائحة، وتلزم جانب الطريق، إذا خرجت المرأة في أي طريق لا تلتفت، لا تطالع إلا في موضع قدمها؛ لأن الالتفات دليل الرغبة في التفات الغير، فإذا رأى الناس واحدةً تتلفت هنا وهنا قالوا: والله إنها تبحث عن شيء؛ لكن عندما يرونها ماشية في الطريق، لا تلتفت لا يميناً ولا يساراً؛ فإن الرجل يعرف أن هذه ماشية مستقيمة، هذه (لا تعرف اللف ولا الدوران). فلا تلتفت، ثم تلزم جانب الطريق، وتلتصق بالجدار، ولا تسلم على أحد، ولا ترد السلام، لماذا؟ لأن صوتها فتنة.
هذا هو الحجاب الشرعي، وما سوى ذلك فهو مغالطة وكذب.
والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر