إسلام ويب

درجة الخوف من اللهللشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ حفظه الله عن الخوف والرجاء ووجوب اقترانها لصلاح العمل، وبيّن الكيفية الشرعية للتوسل إلى الله تبارك وتعالى، كما أورد صوراً من التوسل عند المشركين والأمم السابقة وحذر منها، ثم وضح المراد من آية الوسيلة، وفسرها تفسيراً ذكر فيه أركان العبادة الثلاثة: الخوف، والرجاء، والمحبة، موضحاً بعض صور الخوف المحرمة، مع ذكر كلام ابن القيم في التفريق بين الخوف والخشية، والرهبة والرغبة، والهيبة والوجل، والإشفاق. مبيناً خلال ذلك أن الخوف ليس مقصوداً لذاته؛ بل هو مقصود لغيره، وهو وسيلة للانزجار عما نهى الله عنه.

    1.   

    التوسل

    قال الإمام الطحاوي :

    ''ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم''.

    قال المصنف:-

    "وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله في حق نفسه وفي حق غيره، قال تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الإسراء:57] وقال تعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]وقال تعالى: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن [المائدة:44] ومدح أهل الخوف فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61].

    وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت:(قلت: يا رسول الله، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة [المؤمنون:60] أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه ) قال الحسن رضي الله عنه: [[عملوا -والله- بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشيـة، والمنافق جمع إساءةً وأمناً]] انتهى.

    وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218] فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إتيانهم بهذه الطاعات، فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى وشرعه وقدره وثوابه وكرمه، ولو أن رجلاً له أرض يؤمل أن يعود عليه من مَغَلِّها ما ينفعه، فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها، ورجا أنه يأتي من مَغَلِّها مثل ما يأتي من حَرَثَ وزَرَع وتعاهد الأرض، لَعّده الناس من أسفه السفهاء، وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع! أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب علم وحرص تام! وأمثال ذلك، فكذلك من حَسُن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى، والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه'' ا.هـ.

    الشرح :

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: ''على المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ في حق نفسه وفي حق غيره'' فذكر ما نعتقده في غيرنا من الناس، سواءً المؤمن منهم والمحسن، أم المسيء والفاجر، فيضيف المصنف ويقول: هذا ما نعتقده في حق أنفسنا وفي حق غيرنا، والإشارة ترجع إلى الخوف والرجاء وعدم الأمن وعدم القنوط، فنحن لأنفسنا نعتقد ذلك، فنخاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونخاف ذنوبنا، ولكن نرجو رحمة الله ومغفرته، وإذا عملنا عملاً صالحاً نخاف أن لا يقبله، ولكن نرجو أن يتقبله؛ لأنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فيكون حالنا بين الخوف والرجاء.

    التوسل عند المشركين

    ثم ذكر الشيخ هذه الآية العظيمة، وهي قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ [الإسراء:57] وفي قراءة لـابن مسعود: أُولَئِكَ الَّذِينَ تَدْعُونَ فيكون الخطاب فيها للكفار والمشركين لأنهم هم الذين يدعون آلهة من دون الله، والخطاب فيها بصيغة الغائب، قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الاسراء:57] ويوضح معنى هذه الآية الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً [الإسراء:56] فهي توضح أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لهؤلاء المشركين ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يستطيعون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وهذه الأصنام والأرباب جميعاً -من حجارة أو من بشر- لا تملك رزقاً ولا أجلاً، بل لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، فهم من خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا يملكون الحياة والممات وتدبير الأمور والتقديم والتأخير والعطاء والمنع؛ بل هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد، والنتيجة دعاء خاسر: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد:14] في الدنيا والآخرة ولكن تظهر عاقبته في الآخرة: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166] وتَبَرَّأَ الكبراء من الضعفاء، والرؤساء من الأتباع، وكانوا بعبادتهم كافرين، وأصبحت المودة التي كانت بينهم في الحياة الدنيا عداوة يوم القيامة، ويتلاعنون في النار كما بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أكثر من موضع، فهذا هو حالهم مع أولئك، فلا يرجى من وراء دعوتهم ودعائهم وعبادتهم إلا الخيبة والندامة والحسرة والخسران في الدنيا والآخرة، ولذلك ضرب الله تبارك وتعالى المثل للمشركين الذين يدعون غير الله، سواءً أكانوا ملائكةً أم جناً أم عباداً صالحين أم حجارةً فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] فليس له من ينقذه أو ينجيه أو يتمسك به، فهذا هو حال أولئك المشركين.

    ثم جاء بهذا البرهان القاطع الجلي، وهو: أن هؤلاء القوم المدعوين والمعبودين سواءٌ أكانوا ملائكة أم جناً أم أمواتاً أم صالحين -وهذا التفسير كما فسرها عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وغيره- الذين هم مؤمنون بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كالملائكة فإنه لا شك في إيمانهم، وأيضاً مؤمنو الجن، وعباد الله الصالحون، كما جاء في الحديث عن الرجال الصالحين من قوم نوح، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فكل من كان عبداً صالحاً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه لا يجوز أن يُعُبد؛ لأنه هو يعبد الله ويتقرب إلى ربه كما تتقرب أنت إلى ربك، فكيف تعبده وحاله حالك، وافتقاره افتقارك، وذُلّة ذلك، وخضوعه خضوعك، ورجاؤه رجاؤك؟! (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة).

    وهذه الوسيلة قد ضل فيها من ضل من الناس، ولو قابلت من الروافض المشركين، أو عباد القبور الصوفية في كل البلاد لقال: نحن نعتقد أن الله هو الخالق الرازق، وهؤلاء لا ينفعون ولا يضرون، وإنما نحن نذهب إلى الحسين والبدوي وندعو يا عباس، أو يا علي، أو يا حسن، أو يا حسين، ويقولون: نقصد بذلك الوسيلة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] فيقول: إن الله أمرنا أن نتخذ وسيلة وواسطة إليه، أما أنتم أيها الوهابية فتنكرون كتاب الله، وتعادون أولياء الله، وتكرهون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: لا نتخذ وسيلة إلى الله، فنقول: يقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، فهذه الآية تبين معنى الوسيلة وأنه وليس المقصود بالوسيلة الأشخاص والذوات، ولو كانت كذلك لما كان لهذه الآية معنى؛ لأن هؤلاء الأشخاص أو الذوات يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فهل هؤلاء الأشخاص ببتغون أشخاصاً آخرين، لا يمكن هذا؛ لأنهم هم الذين يُبْتغَون ويُعبَدون.

    معنى الوسيلة

    فالوسيلة هي: القُربة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح 8/397؛ حيث يقول: ''والمراد بالوسيلة القربة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، وأخرجه الطبري من طريق أخرى عن قتادة، ومن طريق ابن عباس أيضاً''.

    فالوسيلة هي: القربة قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] أي: ابتغوا إليه القربة، وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57] فكلمة أقرب توضح أن المراد هو: القربة، حيث إن كلاً منهم يريد القربة، فهم يتنافسون ويتسابقون أيهم أقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وأيهم أكثر ذلاً وخضوعاً وانقياداً واستسلاماً وعبوديةً ودعاءً وضراعةً ورغبةً ورهبةً وإنابةً، فهذا هو المعنى الصحيح.

    ولهذا ذكر الإمام البخاري رحمه الله بالسند المتصل عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: [[كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن، فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم]] فهم في الجاهلية كانوا يعبدون الجن ويوم القيامة تشهد عليهم الملائكة بذلك، كانوا يعبدون الجن وأكثرهم بهم مؤمنون، فلما بُعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستمع إليه نفرٌ من الجن ولَّوا إلى قومهم منذرين، كما أخبر الله تبارك وتعالى، وكما جاء في الأحاديث الأخرى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهب إليهم وعلمهم فآمنت الجن وكان ممن آمن منهم جنٌ كان يعبدهم المشركون من الإنس، فآمن المعبودون وظل العابدون على شركهم يعبدون من قد أناب وتاب وآمن، وهو يعبد الله ويبتغي إليه الوسيلة يرجو رحمة الله ويخاف عذابه.

    التوسل الممنوع

    يقول الحافظ ابن حجر: ''وهناك رواية عن ابن عباس أن المقصود في هذه الآية هم: الملائكة والمسيح وعزير'' .

    ولكن قال: إنها ضعيفة، والمعنى في هذه الآية واضح، وهو أن هؤلاء عباد صالحون الملائكة والمسيح وعزير منهم، وكذلك من ذكرهم عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، فهذه أمثلة وأنواع فيمن يُعْبد من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو غير راضٍ بهذه العبادة.

    وهناك الآن من يعبد علياً رضي الله تعالى عنه والحسن والحسين وأمثاله من الصالحين كـجعفر وعبد القادر الجيلاني، فهؤلاء كانوا يعبدون الله ويخافونه ويرجونه.

    ولكن الناس في الحاضر قاموا بعبادتهم، وهذه الحجة القرآنية قائمة على كل هؤلاء، فمثلاً البدوي وأمثاله لم يعرف عنهم صلاح وما جاء من أحوالهم يدل على أنهم زنادقة، مما يدل على أن الناس يتوسلون إلى الله بمن لا يؤمن بالله، كما كان بعض شيوخ الطرق الصوفية.

    فالناس يرونه يترك الجمعة والجماعات ويمشي وهو بادي العورة في الطرقات، ويفعل أقبح القبائح، ومع ذلك يعتقدون ولايته ويعبدونه، ويدعونه حياً وميتاً، فهؤلاء ليس لهم ولاية ولا مكانة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمن يتقرب ويظن أنه يتقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بهم فهو واضح الخسارة والخيبة، وليس لديه عقل ولا فكر ولا رأي.

    وأما الذي يتوسل إلى الله تبارك وتعالى بالملائكة، ويقول هؤلاء ملائكة الله نتقرب إلى الله بعباده المكرمين، أو يتوسل إلى الله بأنبيائه أو بعباد الله وأوليائه وأصفيائه، ويقول: نحن نتقرب إلى الله بهؤلاء، فالجواب عليه واضح في الحجة القرآنية، وهي أن هؤلاء أنفسهم إنما يعبدون ويدعون ويتقربون إلى الله، فالواجب التقرب إلى الله كتقربهم ولا نجعلهم هم الوسيلة.

    أركان العبادة في آية الوسيلة

    وقد ذكر الله في هذه الآية المراتب الثلاثة، وهي: أركان العبادة الثلاثة: الحب، والخوف، والرجاء، ونستطيع أن نستنبط الحب من قوله: (أيهم أقرب) فعندما تقول فلان أقرب إليك أي: أن محبته لك أكثر، فالقرب هو لازم المحبة.

    وأساس كل الطاعات هي المحبة، وأساس الإيمان بالله تعالى هو محبته ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونستنبط الرجاء من قوله: (يرجون رحمته) والخوف من قوله: (يخافون عذابه) ولذلك حقيقة العبودية هي: كمال الذل والخضوع، مع كمال المحبة والإجلال.

    فإذا جردنا العبودية من المحبة، فإنها تصبح خوفاً محضاً، ولذلك نوضح بالأمثلة عبودية الأقوام السابقة، فالطواغيت نوعان في جميع العصور:

    إما طواغيت سلطان ورئاسة وعلو في الأرض، كما أخبرنا الله تبارك وتعالى، وهؤلاء هم الذين يريدون علواً في الأرض، فهؤلاء طواغيت الرئاسة والحكم والسلطة والعلو يجعلون أنفسهم أرباباً وآلهةً من دون الله، ومن المعلوم أن من كره هؤلاء ومقتهم أنه غير عابد لهم، وإن كان مطيعاً لهم، فقد يكون من جنودهم وأتباعهم لكن ليس من عبادهم؛ لأن أساس العبادة هو: المحبة.

    والنوع الآخر من الطواغيت هم: طواغيت التدين والدين والخرافة والتبديل والتحريف، وهؤلاء لخطرهم ولضررهم هم الأكثر والتحذير منهم في القرآن أكثر، وأكثر شرك الناس بسببهم؛ لأنه لا يقترن بهم قوة ولا سلطان فإذا وجدت بين أهل مصر من يثني على فرعون، فيحتمل أنه يثني عليه خوفاً منه؛ لأنه الملك أو لمصلحة أو رابطة دنيوية ولا يكون عابداً له ولا مؤلهاً له، لكن من كان يحب البابا يوحنا أو شيخ الطريقة أو البدوي، فهذا لا سلطان له، وسبب محبته أنها محبة تَقَرُّب وتَنَسُّك وأنه يظن ذلك ديناً.

    والطاغوت: هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    فهؤلاء الذين ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أول صفاتهم المحبة؛ لأنها الركن الأساس من أركان العبادة أو العبودية، والرجاء هو الركن الثاني، فبالإجلال والتقدير والمحبة تكون العبادة، فإذا اجتمع هذان أصبحت عبادة، وإذا انتفى أحد هذين لم تصبح عبادة.

    1.   

    الخوف من الله تعالى

    وقال تعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] وقال تعالى: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] وقال تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44] أو فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [البقرة:150] فهذه الآيات كلها في الخوف والرهبة والخشية.

    قال: ''ومدح الله تعالى أهل الخوف وأثنى عليهم فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61] '' هذه الآيات من سورة المؤمنون آيات عظيمة ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وسياقها يبين ما جاء في تفسيرها، وأنه تفسير حق ودلالته صحيحة.

    وسياق الآيات هذه في بيان المحسنين السابقين كما ذكر في آخرها: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61] فالذي يسارع في الخيرات ويسابق هو في درجة الإحسان والتقوى، وأما حال الفريق الآخر فقال تعالى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون:54] وبين شعورهم ونظرتهم واعتقادهم فيما ينعم الله تبارك وتعالى به عليهم: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ [المؤمنون:55-56] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر صنفين: صنف معرض عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وغير مؤمن به، فهو في غمرة ولهو، وعندما يرزق ويعطى يظن أنه مسارعة من الله تبارك وتعالى له بالخيرات لفضله وخيره وصلاحه.

    والصنف الآخر: هم المؤمنون.

    وعندما يذكر الله تبارك وتعالى أحوال أهل الكفر مقابل أحوال أهل الإيمان فإنه يذكر أعلى صفاتهم، فعندما يذكر الكفار يذكر أعلى درجاتهم في الكفر، وكذلك عندما يذكر صفات أهل الإيمان يذكر أعلى درجاتهم في الإيمان، ولا يذكر ضعاف الإيمان في هذا المقام المقابل للكفر، إنما يذكر في مقابل الكفار أهل الإيمان وما هم فيه من الفضل والسابقة والمسارعة والخير، وفي هذا دليل على أن الآيات هي في هؤلاء، ولذلك ما جاء فيها من الحديث ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح في (8/299) أنه الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه الحاكم، وسكت الحافظ رحمه الله تعالى ولم يشر إلى أن فيه انقطاعاً ما بين عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني وعائشة؛ ولكن التفسير صحيح قالت: (قلت يا رسول الله، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ[المؤمنون:60] أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟)، فكان مقصودها رضي الله عنها أن هؤلاء العباد من إيمانهم وفضلهم وخيرهم إذا أتوا منكراً أو فعلوا فاحشة فإنهم يفعلونها وهم خائفون؛ لكن الأمر أجل وأعظم من ذلك، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه) فهم يؤتون ويعطون ويبذلون من القربات والطاعات وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، فلسان حاله يقول: نعم صمت وصليت وحججت واعتمرت وأحسنت إلى الفقراء والمساكين، وحفظت لساني عن غيبة إخواني المسلمين، وحفظت يدي عن حقوقهم، لكني والله لا أدري أتقبل مني هذه العبادة أم لا، وربما كان في الحج من الرفث واللغو والفسوق والجدال أو الرياء ما أحبط الحج، فلربما كان في الصلاة والزكاة ما يحبطها، وربما انتفت بعض الشروط أو بعض الواجبات، أو فسدت النية فلم تقبل هذه الطاعة، فالمؤمن يعمل الطاعة وهو يخاف أن لا تقبل منه.

    فهذه هي الدرجة التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن، لكن الواقع من كثير من الناس أنهم يعملون المعاصي، ويرتكبون المحرمات ولا توجل قلوبهم، ولا يخافون من الله، والله تعالى يقول: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] فالإنسان إذا عمل طاعةً أو معصيةً فعليه أن يتقي الله، ويشعر أنه راجع إلى الله، فإن كان ما عمله طاعةً فيخاف ألا تقبل وإن كان ما عمله معصيةً أو منكراً أو فاحشةً، فهو أحرى وأجدر أن يخاف الله، فليتب وينـزجر عن معصية الله تبارك وتعالى.

    الفرق بين الخوف والخشية

    وابن القيم رحمه الله في الجزء الأول من مدارج السالكين صفحة (502) ذكر شرحاً لمنزلة الخوف، وكلام المصنف رحمه الله مأخوذ من كلام ابن القيم حيث ذكر آية وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] وآية: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن [المائدة:44] وذكر أن الله مدح أهل الخوف.

    ثم ذكر الآيات من سورة المؤمنون، والحديث الذي ذكرناه آنفاً، ثم أتى رحمه الله بكلام نفيس في بيان الفرق بين هذه الألفاظ، مثل: الرهبة والوجل والخشية والخوف والإشفاق، والتفريق بينها من دقائق العلم التي لا يتفطن إليها إلا من وفقه الله، كما كان حال ابن القيم رحمه الله فيقول: ''الوجل والخوف والخشية والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة '' قال: ''قيل: إن الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره، وقيل اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف'' .

    وحقيقة الخوف واضحة، وإيضاح الواضح من المشكلات، فالخوف معروف، لكن نأخذ ما بعده ليتضح الفرق، ويقول رحمه الله: ''الخشية أخص من الخوف؛ فإن الخشية للعلماء بالله'' وأخذ هذا من قول الله تعالى : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فالعلماء هم الذين يخشون الله؛ لأن الناس في هذا أنواع:

    فالنوع الأول: العالم بالله، والعالم بدين الله، فهم من يخشى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    النوع الثاني: عالم بالله غير عالم بدين الله، وهذا الذي وقع فيه كثير من العباد، فهو لديه حقائق الإيمان واليقين والإخلاص والرجاء والرغبة والخوف؛ ولكنه غير عالم بدين الله، فلا يعرف الحلال من الحرام، وربما وقع في البدعة فخرج عن طريق الإيمان والعلم، ولم يعد عالماً بالله.

    النوع الثالث: من ليس عالماً بالله ولا عالماً بدين الله، وهذا حال أكثر الخلق، نسأل الله العفو والعافية.

    يقول ابن القيم: '' فهي -أي: الخشية- خوف مقرون بمعرفة، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إني أتقاكم لله، وأشدكم له خشية'' وفي رواية أخرى: إني لأعلمكم بالله، وأشدكم له خشية} فالخشية مقترنة بالعلم، ففيها زيادة العلم والمعرفة بالمعبود سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبيَّن ابن القيم الفرق بينهما فقال: ''فالخوف حركة، والخشية انجماع وانقباض، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان:

    إحداهما: حركة للهرب منه وهي حالة الخوف.

    والثانية: سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه وهي: الخشية... ثم قال: وأما الرهبة فهي الإمعان في الهرب من المكروه -فالرهبة خوف؛ ولكن فيها زيادة إمعان في الهرب من المخوف منه وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه'' فالرغبة زيادة عن مجرد المحبة، فالمحبة بلا رغبة لا يقترن بها الحرص والطلب، وأما الرغبة فيقترن بها العمل والحرص وطلب هذا المحبوب المراد، ثم يقول رحمه الله: ''وبين الرهب والهرب تناسب في اللفظ والمعنى''.

    وهذه عادة لغة القرآن واللغة العربية.

    الفرق بين الرهبة والرغبة والوجل والهيبة

    ثم قال: ''وأما الوجل فرجفان القلب، وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته، أو لرؤيته'' فالوجل خوف؛ ولكنه من نوع خاص بالنسبة لشعور الإنسان عندما يرى من يجل أو من يخاف منه أو إذا ذكر عنده من يخافه، ثم قال: ''وأما الهيبة فخوف مقارن للتعظيم والإجلال'' فالهيبة خوف؛ ولكنه ليس خوفاً مجرداً، إنما خوف مقترن به التعظيم والإجلال، كما قالت العرب:

    أهابك إجلالاً ومابك قدرة     علي ولكن ملء عينٍ حبيبها

    قال: ''وأكثر ما تكون مع المحبة والمعرفة، والإجلال: تعظيم مقرون بالحب، -ثم قال- فالخوف لعامة المؤمنين'' فكل مؤمن لابد أن يخاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا الذي نعتقده، وكل مؤمن مطالب أن يخاف على نفسه وعلى إخوانه المسلمين، وأن يخاف الله تبارك وتعالى، فالمقصود أن الخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء، فالعلماء عندهم زيادة خوف مع علم فتصبح خشية، والهيبة للمحبين سواء كانوا من العلماء أم من غيرهم، وهذه ليست متعارضة بل يوجد بينها قدر مشترك قد تزيد صفة، أو جانب من الجوانب في فرد وجانب يزيد في فرد آخر، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم والسلف، فبعضهم يزيد عنده جانب الرجاء قليلاً، وبعضهم جانب الخوف، وبعضهم جانب الهيبة، وبعضهم جانب الخشية، فمثلاً أبو سليمان الداراني رحمه الله وعامر بن عبد القيس، وعبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض، وسفيان الثوري، رحمهم الله غيرهم غلب عليهم جانب الخوف، وبعض العلماء يغلب عليهم جانب الهيبة والإجلال والمحبة، والله تبارك وتعالى جعل للنفوس التنوع في التعبدات؛ ليُعْبَد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بكل أنواع العبوديات، وهي في الأصل مشتركة ولها أصل مشترك بين جميع الناس، فيقول: ''الخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين، وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية}، وفي رواية {خوفاً} وقال: {لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى} فزيادة علم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدل على معرفته بربه وهيبته له تبارك وتعالى، وإجلاله في قلبه، ومن معرفته لما أعده الله تبارك وتعالى للمؤمنين من الثواب، وللمجرمين من العقاب، ومعرفته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمه بأيام الله وسنن الله في الذين خلوا من قبلنا.

    وهذه القلوب في مثل هذا تتفاوت تفاوتاً عظيماً جداً، وهذا هو موضع زيادة الإيمان ونقصانه وموضع التنافس: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] ثم يوضح ذلك بقوله: ''فصاحب الخوف يلتجئ إلى الهرب'' فيهرب كلما رأى شهوةً دفعته إليها عينه أو أذنه أو قلبه، فعلم: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] فيهرب من هذه المعصية ويخاف، وهذا هو حال المؤمن، ثم قال: ''وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم'' الذي في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أضرار هذه المعصية، ومن فسادها، وأثرها على القلب، وعلى الحياة في الدنيا والآخرة، ولذلك صاحب هذا العلم تحصن بأقوى حصن، فلا يرقى إليه هذا الوحش، ولا يطمع فيه ولا يصل إليه؛ لأنه ليس مجرد هارب، فالهارب قد يُدْرَك؛ لكن الذي يعتصم بحصن حصين لا يُنَال -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فكذلك الإنسان يعتصم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعتصم بالإيمان بالله وبكتاب الله، وبالعلم الذي يقربه من الله ويعرفه بالله عز وجل فلا يأتي شيئاً مما حرم الله؛ لأنه عرف ذلك بما أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما وهبه من العلم بخطر الذنوب والمعاصي وآثارها وضررها على الإنسان.

    علاقة الإشفاق بالخوف

    يقول ابن القيم في صفحة (514): ''والإشفاق: رقة الخوف'' الاشفاق خوف مع رقة، ثم يقول: ''وهو خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه'' وأرق الخوف هو الإشفاق والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر ذلك في القرآن، حيث ذكر أن أهل الجنة يتذكرون ما كانوا فيه من الدنيا، فقالوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26]، وقال في سورة المعارج: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27-28] وقال في سورة فاطر: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34]، فكانوا في الدنيا مشفقين، وكان الحزن في قلوبهم؛ لأنهم لا يعلمون كيف يلقون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما الذين كانوا في دنياهم فرحين بطرين، فإنهم يفاجئون يوم القيامة بأهوال لم يكونوا يتوقعونها.

    وأما المؤمنون فقد ذكر الله تعالى حالهم في الخوف فقال عنهم: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيرا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الإنسان:10-11] فهذا جزاء الخوف والحزن ولهذا قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:34-35] فكانوا يعانون في الدنيا التعب والألم والأحزان والمصائب، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر} فالمسجون -دائماً- خائف ومشفق حزين؛ لأنه مسجون، ولكن من الناس من يكون مطمئناً كما كان شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله لما وضع في السجن قال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] فالجنود والسلاطين الذين يقفون في الخارج في العذاب، وهو في الرحمة بالمقارنة لما أعده الله في الآخرة، فالمؤمن مسجون في الدنيا مع طمأنينته وفرحه بفضل الله قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] فهو مع فرحته وطمأنينته وسعادته بذكر الله مسجون؛ لأنه لم يدخل الجنة ولم ير وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا الحور العين، ولم يلتقِ بإخوانه المؤمنين على سرر متقابلين.

    وأما الكافر فقد يكون في الدنيا في منتهى الرفاهية والتنعم والتلذذ، ولكن هذه جنته بالمقارنة لما ينتظره هنالك من العذاب، ففي الآخرة ليس له جنة، حيث يقول تعالى للكافرين: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20] أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود:16] فجنتهم في الدنيا مع ما فيها من الشقاء والنكد والتنغيص، ولكن لأنهم ليس لهم في الآخرة إلا النار فإن جنتهم في الدنيا.

    ويُضرب مثل رائع لمقدار التمتع بالدنيا، فالحاكم عبد الرحمن الناصر حكم الأندلس خمسين سنة، والأندلس تسمى جنة الدنيا، ففي يوم من الأيام اجتمع في آخر ملكه مع بعض وزرائه، فتذاكروا هذا الأمر العظيم، وهل سبق أن أحداً حكم هذه المدة وهذه الجنة، وكعادة المنافقين من جلساء السلاطين في كل زمان ومكان أخذوا يمدحونه ويثنون عليه، ولكنه قال لهم: أتدرون كم أيام السرور في هذا الملك في الأندلس؟! قالوا: لا، قال : عددتها فإذا هي أربعة عشر يوماً! فالمقصود أنه لا بد للمؤمن من الخوف والرجاء والإشفاق والرهبة والرغبة والوجل.

    الخوف والرجاء بين الإيمان والنفاق

    وكما قال الحسن رحمه الله فيما نقله عنه ابن القيم قال : قال الحسن: ''عملوا والله بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً'' فإذا وجدت الخائف الوجل المشفق من عذاب الله، فتجد أن أعماله فيها الكثير من الخير والإحسان والفضل، وأما المطمئن فتجد فيه النفاق والبعد والمعصية، والعكس بالعكس، فالمؤمن يحسن العمل ولذلك أحسن الرجاء، وأما المنافق فإنه أمن من مكر الله ولم يخف الله ولم يبال بعقوبة الله؛ فلذلك اطمأن وعمل ما عمل، ولذلك إذا رأيت المؤمن شكا ذنوبه، وخاف من عدم قبول أعماله، ورأى ذنوبه كما جاء في الحديث: (المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يخشى أن يقع عليه، وأما المنافق فيرى الذنوب -جميعاً من شرور وخمور وفجور ولهو وإعراض وتهاون في طاعة الله وأكل لحقوق الناس- كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار) وإذا سألته وجالسته قال: نحن أحسن حالاً من غيرنا، ثم يذكر حسناته، أما المؤمن فلا يذكر حسناته لأنه يعلم أن هذا خطر عليه.

    لا بأس بذكر نعمة الله عليك؛ لكن مع شكر هذه النعمة، وأما في أمور الدين فينظر العبد إلى من هو فوقه في العبادة والإحسان، وأما في أمور الدنيا فينظر العبد إلى من هو دونه؛ لئلا يزدري نعمة الله عليه.

    خوف يؤدي إلى الأمن

    وهنا فائدة عظيمة ذكرها ابن القيم رحمه الله حيث يقول: ''والخوف ليس مقصوداً لذاته بل هو مقصود لغيره، فأهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون'' والمحبة مقصوده لذاتها، ولهذا نحب الله تبارك وتعالى في الدنيا، وإذا أدخل الله تعالى المؤمنين الجنة يظلون يحبون الله بل يزدادون حباً له؛ لأنها مطلوبة لذاتها، وأما الخوف فليس لذاته بل هو وسيلة للإنزجار عما حرم الله ونهى عنه، فإذا أمِن العبّاد وبشرتهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. زال الخوف، ولهذا قال تعالى في الجنة: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] فنفى الله تبارك وتعالى عنهم الخوف والحزن، فلا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما وراءهم؛ لأن الله تعالى يتولى المؤمنين والمتقين والصالحين، فلهذا يقول: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] فالخوف ليس مقصوداً لذاته، وإنما لما يترتب عليه من معرفة الله، ومعرفة وعد الله ووعيده، والانزجار عما نهى الله تبارك وتعالى عنه، ثم قال: ''والخوف يتعلق بالأفعال، والمحبة تتعلق بالذات والصفات'' فالخوف يتعلق بالأفعال، فتجد العبد يخاف من عذاب الله، والله تبارك وتعالى بين لنا أن العذاب فعله، وأن الرحمة والمغفرة صفته الذاتية، قال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50] وهذا من كمال رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك نجد في الفاتحة قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3] ورحمة الله سبقت غضبه، ولهذا جعل المحبة تتعلق بالذات والصفات، وأما الخوف فإنه متعلق بالأفعال؛ لأن عذابه هو من فعله، وأما محبته فهو يُحَبُّ لذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه غفور رحيم ودود كريم، فاسم الله الودود يشعر بمحبة خاصة جداً. ولو تأمل الناس في صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لعرفوا الله، وإذا عرفوه حق المعرفة وعرفوا أنه ودود وغفور ورحيم، أحبوه فلم يعصوه، وإذا انزجروا عن معصيته -لأنهم يؤمنون بأنه الرحمن الرحيم الغفور الودود- لكانوا من أهل الهيبة والإجلال، وهذا أفضل من أن يكونوا من مجرد أهل الخوف كما بين ابن القيم رحمه الله.

    والحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765791956