هذا الموضوع موضوع عظيم، فإن خير الموضوعات وأنفع العلوم ما كان عِلاجاً للقلوب وأدوائها وأسقامها، وأعظم البلايا والأسقام هو الشرك، كما تحدثنا عنه سابقاً.
ثم هنا نأتي إلى قاعدة عظيمة فيما دون الشرك، وهي الذنوب التي لا بد أن يصيبها العبد وأن يَلِم بها.
ولا يجوز أن يُغفل عنها، وهي قاعدة عظيمة من القواعد التي استخرجها أمثال هذا العالم الفاضل، ومن نقل عنهم -رحمهم الله أجمعين- استخرجوها من كتاب الله، ومن سنة رسول الله، ومن سير العباد من السلف الصالح، الذين قاموا لله تبارك وتعالى بواجب العبودية على نحوٍ يقتدي بهم من بعدهم.
قال: وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وإلى أي شيء يرجع الأمر في ذلك؟
قال: وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره.
ثم شرع في موضوع التوبة، وأسباب سقوط العقوبة التي أولها التوبة.
فالقاعدة هي أن الذنوب: إما كبائر وإما صغائر، لكن الكبيرة التي فعلها صاحبها -وصورة العمل الظاهر الخارجي أن هذا مرتكب للكبيرة- استدرك عليه بقوله: فعل الكبيرة قد يقترن به من الحياء، والخوف، والاستعظام ما يلحقها بالصغائر -وبالعكس- الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر. وهذا مفتاح لباب عظيم من أبواب التربية الإيمانية القلبية.
يقول بعض العلماء -وهي حكمة عظيمة مأثورة- '': رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً'' .
فبعض الناس قد يعصي الله، وتكون هذه المعصية سبب الخير وبداية التوبة والهداية في حياته، والبعض ربما كانت الطاعة بداية انحرافه وزيغه، ودخوله في باب الرياء والعجب، ثم خروجه نهائياً من طريق أهل الاستقامة وأهل السنة.
يقول: {إذا أنا مت فاجمعوا الحطب واحرقوني، ثم ذروني في الهواء، وضعوا نصفي في البحر، والنصف الآخر في البر، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، ثم جاءه السؤال من رب العالمين: لم فعلت ذلك؟ -ولم يكن السؤال عن الموبقات ولا عن الذنوب الأولى، إنما كان عن هذا الخطأ الكبير- فقال: خوفك يا رب، أو خشيتك يا رب، فغفر الله تبارك وتعالى له}.
إذاً، إذا اقترن بالذنوب والمعاصي خوف وتعظيم، وهيبة لله تبارك وتعالى، فإن هذه الذنوب: إما أن تمحى أو تكفر، أو تكون -كما قال الشيخ وهي كبائر- صغائر، أو كالصغائر، فتأخذ حكمها، كما قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31] تكفر لما اقترن بها من خوف وخشية وذلة، وهذا الدليل الأول.
وهذا الحديث -على كثرة ما فيه من الحكم والدلالات- يدل على فضل العالم على العابد، فقد قال هذا القاتل لذلك العابد: {إني رجل قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ فاستعظم الراهب ذلك، فقال: لا أجد لك توبة}.
وهذا من قلة العلم والفطنة -كما ذكر العلماء- فإذا قلت له: لا أجد لك توبة؛ فكيف تأمنه على نفسك، وعلى غيرك من الناس؟! على أقل القليل كان من الحكمة أن تقول له ما تدفع به شره في هذه الحياة الدنيا.
وجاء في بعض الروايات، من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {أنه أمر هذه أن تتباعد، وأمر هذه أن تتقارب، فقاسوا فوجدوه إلى أرض التوبة أقرب فغفر الله تبارك وتعالى له، وتولته ملائكة الرحمة}.
وعندما نستعرض موضوع التوبة -إن شاء الله- سنتعرض مسألة هل تقبل توبة القاتل أم لا؟
وهذا الرجل القاتل لما اقترن به الخوف من الله دفعه إلى أن يبحث عمن يرى له توبة، فقام بقلبه من ذلك الخوف والإنابة ما دفع تلك الكبيرة العظيمة.
وقد أحببت بهذه المناسبة أن أدل على مرجع مفيد في هذا الباب، ومفيد في جوانب عدة، وهو كتاب التوابين للإمام ابن قدامة -رحمه الله- بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، مع العلم أن المحقق لم يعلق عليه في مواضع كان ينبغي أن يعلق عليه فيها، منها أن أغلب من يتوب كما في هذا الكتاب يترك الدنيا بالكلية، ويذهب في البراري والجبال أو في المساجد، ويترك كل شيء، وليس هذا من صفة التوبة الشرعية، ولكن في الكتاب فوائد، ودرر عظيمة جداً، ولا سيما الذين يتوبون من الطرب والغناء، ومن الفسق والفجور كحال العالَم اليوم والله المستعان!
ونقتصر على ذكر أو عرض بعض التوبات التي تتعلق بحال العاصي الذي من خلال معصيته اهتدى، وقد ذكر صاحب الكتاب قاتل المائة وتوبته.
وقد نقل الإمام ابن قدامة توبته بالسند، وهو عالم مُحدِّث فقيه بارع كما هو معروف، ولذلك يورد القصص التي يوردها بالأسانيد إلى منتهى السند، سواء أكان إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم إلى أحد العلماء من المؤلفين، أو إلى كتب رواة الإسرائيليات، أو أخبار بني إسرائيل إن كان السند ينتهي إليهم.
وكان ابن قدامة رحمه الله تعالى من الأئمة المجاهدين مع صلاح الدين الأيوبي في معاركه، ومع ذلك كتب المغني الذي هو من أعظم وأنفع كتب الفقه المقارن، وغير ذلك من المؤلفات النافعة، فذكر بإسناده إلى ابن إسحاق صاحب السيرة.
يقول: تخلف أبو خيثمة أحد بني سالم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، حتى إذا سار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع أبو خيثمة ذات يوم إلى أهله.
والتخلف عن الغزو كبيرة، قال تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّه [التوبة:120] فاستخدم أقوى أنواع التعبير في التحذير والنهي، فلا يصح، ولا يليق أن يتخلف أحد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يرغب بنفسه عن نفس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيذهب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الخلق وأكرمهم على الله في الحر والرمضاء والحرب وهذا في الظل الظليل مع الأهل والبنين، وهذا هو الذي وقع فيه أبو خيثمة رضي الله عنه.
فعاد إلى امرأتين له في عريشين له في حائطه -أي: في مزرعته- وقد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماءً، وهيأت له طعاماً، فالزوجة، والعريش، والماء البارد والطعام، كلها في غاية المغريات المثبطات في زمانهم، فلما دخل قام على باب العريش ينظر، وهنا اشتعل حر الذنب، ثم قال: (رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الضحي والريح والحر -والضحي: حر الشمس قال الشاعر:
ضحوت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة ناقصاً |
و
ولو أن أبا خيثمة خرج أول الأمر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان ليقع في قلبه من الإيمان والأثر والخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والحرص على الجهاد، والرغبة فيه مثل ما وقع بعدما غلبه الضعف البشري، وتراخى وضعف، ثم ذهب الناس، وذهب هو وحده، وتصور راكباً يذهب وحده في هذه البراري، وهو مستشعر للذنب في شدة الحر، وكل أمله أن يلحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف يكون همه وحاله وشعوره في هذه الحالة؟!
إذاً قام بقلبه من حقائق الإيمان، والتوبة والندم، والاستغفار، والحياء من الله تبارك وتعالى، ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة اللحاق به أمور عظيمة جداً، فكان في هذا الذنب، وهذا التأخر، والتخلف خير له، وفعلاً: رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.
وقد كانوا حلفاء لهم في الجاهلية، وقاتل الله اليهود في كل زمان ومكان، فاليهود هم اليهود، فلا يصدق أن منهم متطرفون ومعتدلون، فكلهم أخباث أنجاس فأرسلوا يريدون أبا لبابة لأنه حليفهم.
{ قال: فدخلت عليهم، وقد اشتد عليهم الحصار فهشوا إلي، ورحبوا بي، وقالوا: يا
لأنه صحابي مؤمن لا يمكن أن يشير عليهم بغير ما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل يمكن أن يخالف حكم الله وحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
أو يطلب منهم غير ما طلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! لكن في آخر لحظة أخذته وقعة -وهو الضعف البشري الذي يقع فيه حتى الصحابة الأجلاء- {فقال: انزلوا على حكمه، ثم أومأ بيده هكذا} أي: حكمه فيكم الذبح.
وهنا علم أنه قد وقع في الذنب، وبدأ يؤنب نفسه على ما فعله مع أنه لم يره أحد من الصحابة، ورسول الله لا يعلم الغيب، فيقول رضي الله عنه: {فندمت واسترجعت، فقال
{ثم عاد حتى أتى المسجد فأخذ رباطاً من الشعر القوي وربط ذراعيه ونفسه في سارية من سواري المسجد وأحكمه قال: وبلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهابي وما صنعت، فقال: دعوه حتى يُحدث الله فيه ما يشاء}؛ لأنه هو الذي ربط نفسه، أي: لو كان جاءني لاستغفرت له، فأما إذ لم يأتني وذهب، فدعوه فإنه هو الذي جنى على نفسه فأنزل الله في شأنه: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء:64]، وهذه قيلت فيمن هو أعظم جرماً وذنباً من أبي لبابة وهم المنافقون الذين أعرضوا عن حكم الله.
قال الزهري: وارتبط أبو لبابة سبعاً في حر شديد لا يأكل ولا يشرب، وقال: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله عليّ.
فلم يزل كذلك حتى لا يكاد يسمع صوتاً من الجهد، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إليه بكرة وعشياً، ثم تاب الله عليه، فنودي: إن الله قد تاب عليه، وأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه ليطلق عنه رباطه، فأبى أن يطلقه عنه أحد غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الزهري: وحدثتني هند بنت الحارث عن أم سلمة زوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: [[رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحل رباطه، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرفع صوته يكلمه ويخبره بتوبته، وما يدري كثيراً مما يقول له من الجهد والضعف وقد كان الرباط حز في ذراعه، وكان من شعر، وكان يداويه بعد ذلك دهراً لتلوثه]].
فهذا الذنب والخطأ اقترن به من الخوف والحياء والمهابة والتعظيم، ما جعل صاحبه يفعل ذلك الفعل، فكانت التوبة من الله تبارك وتعالى عليه، وكان ذلك خيراً له فيما نرجو له عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مما لو لم يفعل شيئاً من ذلك، والله تعالى أعلم.
قال: دخلت عزة صاحبة كثير عزة -نسبة إلى المرأة التي عشقها، وكان هذا الرجل باطنياً خبيثاً كان على عقيدة الباطنية، وهو ممن كانوا يعتقدون أن الإمام في جبل رضوى، وأنه في أعلى الجبل، وأن عنده نمور تحرسه، وأن عنده عسل وعنده ماء، وسيخرج في آخر الزمان، وكان هذا في القرن الأول.
الشاهد أن عزة دخلت على أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر بن عبد العزيز وكانت تسمع من الشعراء، كأي امرأة مترفة ذات ملك وجاه ومال، فلما دخلت عزة سألتها أم البنين -لأنها تعرف خبرها مع كثير، كما يتناقل الناس الحكايات- فقالت لها أم البنين: ما معنى قول كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنَّى غريمها |
-وهذا السؤال من فضول الكلام، وذلك كما دخل بعض الناس على أحد السلف فقال: إني أرى خشبة في سقف البيت تريد أن تسقط، فقال له: يا رجل! إن لي عشرين سنة في هذا البيت ما نظرت إلى السقف، وكانوا يكرهون فضول النظر، كما يكرهون فضول الكلام- فقالت لها: ما هذا الدين الذي يذكره، قالت: اعفيني. فقالت أم البنين: لا أعفيك حتى تخبريني؟ فقالت: كنت وعدته قبلة فأتاني يطلبها، فتحرجت عليه ولم أفِ له'' .
وعشاق العرب عندهم العشق على نوعين: نوع إباحي، ونوع عذري، أو الهوى العذري -بزعمهم- وهو فقط الحديث والمزح والكلام دون أي شيء آخر... وهكذا كان كثير وعزة، وطائفة من العشاق.
والنوع الآخر هو: الإباحي، وهو الذي يؤدي -والعياذ بالله- إلى ارتكاب الفاحشة، وهؤلاء كانوا من الموصوفين بالفجور، فهذه المرأة لم تعطه ما وعدته لحيائها، أو لعروبتها، أو لقبيلتها رغم أنه يخلو بها ويواعدها، ويتحدثان ويخبرها بما قال فيها من شعر، ثم يرجع كل منهما إلى مكانه، وقد قال بعضهم: ''كان العشق فيما مضى أن الرجل يلاقي المرأة فيحدثها وتحدثه، ويناشدها وتناشده، أما اليوم فلا يكاد يخلو بها حتى يفعل بها الفاحشة، وكأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة رضي الله عنه'' وهذا الكلام قالوه في القرن الأول.
أقول: حتى المجرمين في ذلك الزمن كانوا أخف جرماً من مجرمي زماننا، فالمهم أن الشيطان جاء أم البنين، فقالت: ''أنجزيها منه وعلي إثمها'' فأوبقها الشيطان، ثم راجعت نفسها من وقتها واستغفرت الله، وأعتقت لكلمتها هذه أربعين رقبة، وكانت إذا تذكرت هذه الكلمة بكت حتى تبل خمارها، وتقول: ''يا ليتني خرس لساني عندما تكلمت بها'' وتحولت أم البنين من تلك التي تستقبل الشعراء، وتسمع أخبار العشاق، إلى امرأة عابدة مجتهدة صالحة فاضلة، قال: فرفضت فراش المملكة، وقامت تحيي ليلها، وكانت كل جمعة تحمل على فرس في سبيل الله، أي: تجهز فرساً يخرج في سبيل الله عز وجل.
وكانت تبعث إلى نسوة عابدات يجتمعن عندها، ويتحدثن معها فتقول أم البنين: ''أحب حديثكن! فإذا قمت إلى صلاتي لهوت عنكن''.
سبحان الله! كيف رسخ الإيمان في قلبها إلى هذا الحد، وكانت تقول: ''البخيل كل البخيل من بخل على نفسه بالجنة''.
وكانت تقول: ''جعل لكل إنسان نهمة في شيء، وجعلت نهمتي في البذل والإعطاء، والله للعطية والصلة والمواصلة في الله؛ أحب إلي من الطعام الطيب على الجوع، والشراب البارد على الظمأ''.
سبحان الله!! جعل الله نهمتها في العطاء والبذل والإحسان، وهذا خير عظيم فتح عليها، قالت: ''وهل ينال الخير إلا بالاصطناع''، وكانت على مذهب جميل حتى توفيت رحمها الله.
فالشاهد أنها وقعت في ذنب، ولكن أعقب ذلك هذه التوبة، وهذه الاستقامة، وهذا الخير، وربما لم تكن لتنال ذلك الخير ولا تحصل عليه لو لم تقع في تلك الكلمة.
لأنها تذكرت أنه ليس بعد هذه الدار من دار إلا الجنة أو النار.
وكان معها امرأة أخرى صالحة تمشي معها قالت: ''يا أُخية! دخلت بيت ربك اليوم؟ -تقصد الكعبة- قالت: والله ما أرى هاتين القدمين أهلاً للطواف حول بيت ربي، فكيف أراهما أهلاً أطأ بهما بيت ربي وقد علمت حيث مشتا وأين مشتا''
سبحان الله العظيم! تذكرت أن هاتين القدمين مشتا إلى فجور وإلى معاصٍ، والآن جاءها الندم، فكان تذكرها لتلك المعاصي والذنوب، أعظم دافع لتوفيق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لها أن تستقيم وأن تستشعر، وفي هذا الكتاب فوائد قيمة ولو علق عليه لاكتمل جماله.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتوب علينا وعليكم، وعلى جميع المسلمين، وأن يبصرنا ويفقهنا في الدين، إنه سميع مجيب.
وكذا القول في هرقل إذ عرض على قومه الدخول في الدين، فلما خافهم قال: إنما كنتُ أختبر شدتكم في دينكم.
فمن أسلم في باطنه هكذا، فيرجى له الخلاص من خلود النار، إذ قد حصَّل في باطنه إيماناً ما، وإنما يُخاف أن يكون قد خضع للإسلام وللرسول، وأعتقد أنهما حق، مع كون أنه على دين صحيح، فتراه يعظم الدينين.
يقول السائل: كيف توفق بين قول الذهبي رحمه الله في هرقل وما هو مدون في عقيدة أهل السنة والجماعة بأن الإيمان قول وعمل؟
الجواب: أول ما يجاب به: أن الحالات الفردية الخاصة لا ترد القاعدة العامة، والقاعدة العامة معروفة وأوضحها لكم بمثال: القاعدة العامة في الصلاة، قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، هو أن نصلي قياماً؛ لكن العاجز عن القيام يصلي قاعداً، أو على جنبه، فهذه حالة عارضة، وهكذا في جميع الأمور الشيء العارض فيها غير الأصل.
فالأصل العام هو أن الإيمان قول وعمل، وأن ندعو الناس إلى أن يقولوا ويعتقدوا ويعملوا، لكن قد يأتي حالة عارضة كحالة هرقل هذه، وكأن الإمام الذهبي يقول: خاف هرقل على ذهاب ملكه عندما ثارت عشيرته، فقال: إنما أردت أن أختبر قوة إيمانكم وإلا فإن دينكم هو الحق، والله تبارك وتعالى لا يضيع عمل عامل كائناً من كان.
يقول: لعل هذا حصل له إيمان ما، وبهذا الإيمان يمكن أن ينجو من الخلود في النار؛ لأن حديث الجهنميين: {أخرجوا من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان} وهو شيء لا يرى، فيقول: ربما يكون لـهرقل هذه الذرة التي نحن لا نراها ولا نعدها، فلا يُعد مؤمناً في أحكام الدنيا، والذهبي لم يعتبره مؤمناً أو مسلماً في أحكام الدنيا، وكذلك لم يعتبره ناجياً من النار مطلقاً، إنما تكلم عن الخلود بسبب هذه الحالة.
فهي حالة خاصة كما ظن رحمه الله وقد لا تتحقق، ولا تعارض بين هذا وبين الأصل الكلي المعلوم عند أهل السنة والجماعة.
والجواب الآخر: أن الذهبي رحمه الله اجتهد، ولا يعول على الرأي والاجتهاد الفردي في مثل هذه المواضع، ولا حرج في ذلك، ومسألة الإيمان أخطأ فيها بعض التابعين، فلا غرابة أن يخطأ في شيء منها إمام أو عالم من المتأخرين.
الجواب: يبدو لي أن هذه القصة لم يصح وقوعها في عهد عمر رضي الله عنه، وهذا لا يمنع أنها قد وقعت في عهد غيره، كما قد وقعت أشياء للعباد وللتوابين، لكن نسبتها إلى عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إلى عهد الصحابة يكون فيه الخطأ، وكثيراً ما نجد في حلية الأولياء وفي غيرها من الكتب، نجد كلاماً لا يمكن أن يقع في زمن النبوة، لكن قد يمكن أن يكون هذا فيما بعد والله أعلم.
الجواب: ليالي العشق حالة عجيبة جداً لا نستطيع أن نأتي عليها في ليلة ولا في ليالي نسأل الله أن يحفظني وإياكم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا |
وأساس العشق هو: خلو القلب من الإيمان بالله، وخلو القلب من الهم الذي يشغله بما ينفعه ويهمه في دنياه أو في أُخراه عن هذه السفاسف والأمور التافهات.
أما هؤلاء العشاق فهم ليسوا بعشاق ولكنهم دياييث، فالاسم الشرعي للرجل الذي يخرج وتتبرج زوجته، ويراها الناس من أجل مباراة أو غيرها هذا اسمه ديوث، والدياثة درجات -نسأل الله أن يحفظ المسلمين منها جميعاً- أسوؤها أن يعلم الفاحشة في أهله ويسكت عنها، فهؤلاء لا يُعدون من أهل الغيرة في شيء، وليسوا من الإيمان في شيء.
أما الإسلام -كما هو معروف- فلا نخرجهم منه، لكن لا يمكن أن يكون إنسان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، وهو يرضى بفاحشة في أهله ويسكت عنها، أو فيمن تحت ولايته نسأل الله العفو والعافية.
أما من يرضى بالتبرج، ويرضى بالنظرة فهذا له من الدياثة بقدر ما يرضى، ويكون فقد الغيرة بقدره وكلٌّ بحسبه.
وبعض الناس وصلت به هذه الدياثة وفقد الغيرة إلى أنه يجمل ابنته بنفسه، ويراها تتزين لتقدم برنامج الأطفال أو برنامج كذا وكذا، وربما افتخر بذلك، فهذا ممسوخ! وليس فيه من الغيرة شيء، فهو يرى الناس يتلذذون بالفتاة المسكينة، وربما لا يدري ولا يعلم.
وبعض الناس يقول: صغيرة، فهذه الآن بنت ثمان سنوات، ثم عشر سنوات ولا زالت صغيرة، ثم ثلاث عشرة سنة وهو يقول: صغيرة، وتبلغ وهي ما زالت في برنامج الأطفال، حتى إذا افتتن بها أحد وسأل بنت من هذه؟ وأين تدرس؟
قالوا: في مدرسة كذا، فيعاكسها، وأكثر المصائب سببها الدياثة، وهو أنه أخرجها أمام الناس، في برامج الأطفال، وكأن الأطفال لا يحتاجون إلا للطبل والرقص واللهو واللعب.
إن أطفال علماء السلف الصالح، وخيار هذه الأمة كانوا شباباً في مثل هذا العمر يقودون الجيوش:
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مولد |
قاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، واليوم يقال: ما زال طفلاً صغيراً اتركه يلعب، الرجال في مثل هذا السن قادوا الجيوش من عهد ابن قاسم الثقفي إلى محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية وهو في الرابعة والعشرين من عمره، أي: بعمر ضابط تخرج من الكلية، وهذا يقود أمة، ويفتح البلد التي عجز عنها الملوك والخلفاء قبله، وغير هذا كثير في تاريخنا.
الجواب: هذا دليل الخير -إن شاء الله- عندما يقف بين يدي الله عز وجل يستشعر كيف يقف وهو ذلك المذنب، كما قالت هذه المرأة: كيف أقوم في البيت بأقدامي وقد فعلت ما فعلت، وفي الحديث: (ما يزال العبد يذنب فيستغفر، فيذنب فيستغفر، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يغفر له، ويقول: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، قد غفرت له) وهذا إن كان صادقاً ونادماً.
أما إن كان نوعاً من الحيل الشيطانية فليتق الله، وليتب من هذا الذنب، ويبدو لي أن هذا الذنب من ذنوب الشهوات؛ لأن ذنوب الشبهات لا تصل إلى هذا الحد، ولكن هذا من ذنوب الشهوات وخاصة من الشباب، والشهوة لها علاج كما أن الشبهة لها علاج.
ومن علاج الشهوة: تذكر عظمة الله، وتذكر عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتذكر ضرر المعصية والذنب في الدنيا والآخرة -وكما أحلنا مراراً على كتاب الداء والدواء فقد تكلم عن آثار الذنوب وخطرها وضررها على القلب وعلى البدن، وعلى حياة الإنسان، حتى فيما بينه وبين الله.
وبعض العقوبات لا يفطن لها كثير من الناس وهذه من المصائب التي حلت في الذين لم يفقهوا الفقه الرباني الإيماني، أنه يظن أنه ما لم يقم عليه الحد -لا جلد ولا رجم- فلا شيء عليه، والنار لها وقت آخر ويمكن أن يتوب.
وعقوبات الذنوب أعظم، ومنها: أن يسلب الإنسان لذة قراءة القرآن، وكم من الناس لا يُفكِّر في هذه العقوبة!
فعلى كل شخص أن يختبر قلبه، لماذا يسمع القرآن ولا يتلذذ لسماعه، ولا يأنس به؟!
إذاً أنت معاقب يا مسكين عقوبة عظيمة جداً جداً!
ومنها: أن يبغض الصالحين والأخيار ويحب الفجار والأشرار، فإذا كان في مجلس فيه أخيار لم يحب أن يجلس معهم، وهو لا يدري أنه معاقب، فانظر إلى قلبك: لِم ألف قلبك الذي يعملون بعمل أهل النار ونفر من الذين يعملون عمل أهل الجنة؟
مقامك في الآخرة أنت تحدده في هذه الدنيا، فإن كنت تريد طريق الجنة فاسلك، وإن كنت تريد طريق النار فهو واضح: (الحلال بيِّن والحرام بين) فالقلب الذي لا يأنس بأهل الخير ويأنس بأهل الفجور والمعاصي فليعلم صاحبه أنه معاقب.
وقد يُعاقب الإنسان على الذنب بأن لا يتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فهو متبلد يرى الليل والنهار ولا يتفكر، يرى النجوم ويرى الكواكب ويرى خلق الله تبارك وتعالى في البر والبحر ولا يتذكر، بل ربما غفل عن هذه الأمور.
يقول أهل الفجور: الليلة قمر، فلنخرج لنلعب، فهم في لهو ومعاصٍ بدل التفكر والتدبر، بل وبعض ما خلق الله من الطيور ومن الحيوان أصبحت لهواً، يقولون: تعال! نذهب إلى حديقة الحيوان، لنلهو ونلعب، ولو نظر لها من جانب الإيمان لرأى العجب العجاب في خلق الله، لكن الحس -كما يقول ابن القيم رحمه الله-: الحس بهيمي، حتى لو رأى هذا الطائر الجميل أو الشجرة الجميلة فإنه يفكر بكم القيمة لو باعه، ويسأل هل هذا الطائر يؤكل لحمه أو لا يؤكل؟!
وهذا فيه شيء أبعد من أنك تأكله، هذا فيه جمال، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل في الجمال آية: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:6] فانظر كيف أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل هذا الريش، وركب هذه العيون، وجعل هذا المنقار، أشياء عجيبة من خلق الله.
حتى في جانب البحر ترى الألوان العجيبة في الأسماك، وليست القضية قضية حيوان يأكل في الماء ويمشي، لو كانت القضية هكذا لكان أي لون يصلح؛ لكن عشرة ألوان في بعضها طراز خاص، وشكل جميل، فتجد الشخص يُفكِّر كيف يصطادها ويأكلها، فهذا حس بهيمي، لكن الحس الإيماني هو أن تفكر وتقول: سبحان الخلاق الذي أبدع وخلق هذا الشيء!!
وأقول: من العقوبات: ألَّا يتفكر الإنسان في ملكوت السماوات والأرض، فهو معاقب بضيق القلب، ولا يوجد عقوبة أسوء من هذه -والعياذ بالله- وهي أن يموت القلب، فهذا ميت القلب؛ لأنه ألف هذا الشيء المحرم، أما إن كنت تغار على حدود الله، وعلى محارم الله، وتتمنى كما قال بعض السلف لما رأى رجلاً يعصي الله، قال: '' وددت لو أن جسدي قُرِّض بالمقاريض وأنه لم يعص الله '' إن كان هذا شعورك فأنت مؤمن.
أما إذا كنت ترى المعاصي والمنكرات ولا يهمك هذا، فهذا هو موت القلب، فحقيقة الإيمان: أن تغار على محارم الله، وعلى دين الله، وأن تنكر المنكر ما استطعت، وأقل شيء هو أن تغضب وأن تحزن.
الجواب: هذا شيء طيب، إن كانوا يعملون ذلك لوجه الله، ويا حبذا أن يصحبها قرار بمنع استيراد السجائر، على الأقل يكون هذا أنفع للأمة.
الجواب: أولاً: نوصي الإخوان كلهم بحفظ المجالس، احفظوا المجالس من هذه الأمور، وانصحوا الناس في خطبكم ومواعظكم ألا يتعرضوا لهذه الأمور، وهذا يدخل في قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النور:19]، قوله: تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15] فمسألة أن فلاناً يزني، وفلانة تزني، هذا الرجل ما مرض إلا من شيء، وحتى الملتزمين عندهم كذا!! وحتى التي تراهن محجبات يفعلن كذا، حتى حتى...!!
فالرجل هذا قلبه -فعلاً- لو رأى امرأة متحجبة متسترة تطوف بالبيت، يقول: حتى هذه، والذي علمه هو مجالس السوء، خاصة بعض دوائر الموظفين الذين ليس عندهم عمل في كثير من الإدارات -مع الأسف- بيروقراطية، وهذه دخلت علينا في الإدارة، كل اليوم كلام فارغ، كما يعبر عنه العامة: (من السرة وتحت)، كل الكلام فلان وفلان وفلان..! وهذا فيه تزيين للشهوات وتحبيب بها، فمجرد أن يُقال: إن الزنا يقع ويقع ويقع.. من غير دعوة ونصح وإنكار وإرشاد، مجرد ذلك تذكر الناس فيه وتثيرهم لهذا الشيء، وخاصة إذا اقترن بفلان وفلان، والأشخاص والبيت الفلاني، والقرية الفلانية، والحي الفلاني فربما بعض الناس لا يعلم أن هناك مناطق وأحياء، الزنا فيها أسهل من غيرها، فبعضهم يتحدث فيروج لهذه الأماكن، وكذلك الكلام عن مجلات خليعة إن هذا يروج لها عند الآخرين، مجلة اسمها كذا، ومجلة اسمها كذا فتشترى، فما لم يكن الكلام موزوناً وفي محله، ومع من ينكر ويغير فلا داعي لمثل هذه الأمور.
ثانياً: أنصح هذا الأخ وأقول له: لِمَ الغيرة؟ ولماذا التجسس؟ وهلاَّ اشتغلت بعيوبك!
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر