أما بعد:
فإننا استمعنا إلى ما قرأه إمامنا في هذه الليلة في صلاة المغرب، وهي ليلة السبت الحادي عشر من شهر ربيع الثاني عام (1416هـ) في المسجد النبوي، وقد قرأ في الركعة الأولى آخر سورة البقرة، وفي الركعة الثانية آخر سورة النحل، وكل الآيات مهمة جداً، ولكن نبدأ بالأول فالأول، نتكلم على الآيات التي قرأها من آخر سورة البقرة.
وفي الآية حصر، أي: حصر ملك السماوات والأرض لله وحده؛ والحصر: تخصيص شيء بشيء، فما هو طريق الحصر في هذه الآية؟
طريق الحصر أنه قدم ما حقه التأخير، فقوله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لو أردنا أن نعربها لقلنا: (ما) مبتدأ، و(لله) خبره، فقدم الخبر، وتقديم الخبر يفيد الحصر والاقتصار، فملك السماوات والأرض لله وحده، أما ملكنا نحن لما نملكه، كملك الإنسان لقلمه أو لساعته أو لثوبه فهذا ملكٌ قاصر، ولهذا لا يحل لنا أن نتصرف في هذا الملك إلا حسب ما أذن الله لنا فيه، أرأيتم لو أن إنساناً أراد أن ينفق ماله أيملك هذا؟ لا. لأن الله تعالى يقول: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5] يعني: فيفسدوها، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ انتبه لهذه الجملة من الآية: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ هذه الجملة شديدة على الإنسان؛ إن الإنسان إذا أضمر في نفسه شيئاً حاسبه الله سواء أبداه أو أخفاه، هذا صعب جداً، ولهذا نزلت الآية بعدها، وهي قول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فالحمد لله رب العالمين، ما لا يمكنك مما تحدثك به نفسك فإنه لا يضرك شيئاً ولو كان أعظم عظيم، لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ولقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) اللهم لك الحمد، نعمة امتن الله بها علينا، حديث النفس لا منتهى له، النفس تحدث الإنسان بأشياء ربما تكون فضيعة، ربما تكون كفراً وشركاً وإلحاداً، ولكن هل يؤاخذ على هذا؟ لا. لا يؤاخذ، إنما يجب عليه أن يفعل ما يطرد به هذا الحديث الذي حدثت به النفس، وهو -أي: ما يطرد هذا الحديث- شيئان، وصفهما لنا طبيب الأمة محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال: (وليستعذ بالله ولينته) كلمتان: إحداهما تستطيعها وباختيارك وهي الانتهاء، والثانية: بإذن الله عز وجل تستعيذ بالله.
ومعنى الاستعاذة بالله: الالتجاء والاعتصام، أعوذ بالله، أي: ألتجئ إلى الله وأعتصم به، مِمن؟ من الشيطان؛ لأن الذي يلقي هذه الوساوس في القلوب هو الشيطان.
الصحابة رضي الله عنهم شكوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هذا، وقالوا: (يا رسول الله! إننا نجد في نفوسنا ما نحب أن نخر من السماء ولا نتكلم به)، وفي حديثٍ آخر: (ما نحب أن يكون أحدنا حممة -أي: فحمة محترقة- ولا يتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: أوجدتم ذلك؟ قالوا: نعم. قال: هذا صريح الإيمان) وما معنى (صريح الإيمان)؟ الصريح من كل شيء خالصه، وإنما كان هذا صريح الإيمان؛ لأن الشيطان يحاول أن يكدر هذا الصريح، ولو كان الصريح كدراً ما حاول، ولهذا قيل لـابن مسعود أو ابن عباس : [إن اليهود يقولون: إننا لا نفكر في صلاتنا ولا نوسوس في صلاتنا -يعني: ونحن المسلمون نفكر في الصلاة، نفكر كثيراً بأشياء لا فائدة منها- فقال
فعليك أخي المسلم! ألا تستولي عليك هذه الوساوس حتى تنخدع وتخضع لها بل اطردها، اطردها بشيئين هما: الاستعاذة بالله، والإعراض عنها، انته عنها، صد عنها، لا تهمك، اشتغل بما بين يديك وانسها حتى تزول بالكلية، وهل هذا يشمل الوساوس في العلاقات بين الزوجين؟ بمعنى: لو أن الشيطان حدثك في نفسك بأنك طلقت زوجتك، أتطلق؟ لا. إنسان يحدث نفسه، يقول: هذه زوجة ليست صالحة، هذه أتعبتني، هذه فعلت ما فعلت، ثم يقول في نفسه: هي طالق دون أن ينطق بها بلسانه، تطلق أو لا؟ لا تطلق، ولهذا ليطمئن أولئك الذين يلقي الشيطان في قلوبهم أنهم طلقوا زوجاتهم دون أن يتكلموا بذلك ليطمئنوا أن زوجاتهم باقيات وأنهن لم يطلقن، وهذه من نعمة الله عز وجل.
وإن هم الإنسان أن يفعل معصية، ولكن تذكر عظمة الله، تذكر عقاب الله، تذكر ما تحدثه المعاصي في القلوب؛ لأن المعاصي سهام القلوب تخرق القلوب حتى تتلف، لما تذكر هذا خاف الله وترك الهم بالمعصية، ماذا يكون عليه؟ يأثم أو لا يأثم؟ لا يأثم بل يؤجر، يكتبها الله تعالى حسنة كاملة، ولله الحمد، قال في الحديث: (لأنه تركها من جرائي) معنى من جرائي: أي من أجلي. فهذه من نعمة الله عز وجل أن حديث النفس لا أثر له، ولكن اخش واحذر أن يتسلط عليك الشيطان حتى يكون هذا الحديث انفعالاً وإرادة فتهلك.
يقول الله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يكون الله تعالى قد أعلمنا في الآية الثانية: أنه إذا كان هذا الأمر ليس بوسعنا فإننا غير مكلفين به، ونبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبرنا: بأن الله تجاوز عنا ما حدثت به أنفسنا ما لم نعمل أو نتكلم: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ يعني: إذا حاسبنا الله عز وجل على ما في قلوبنا فإن المشيئة التامة له؛ إن شاء غفر وإن شاء عذب.
وفي الآية إثبات مشيئة الله عز وجل وأنه يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا يسأل عما يفعل؛ لأنه عز وجل لا يفعل شيئاً إلا لحكمة سواء علمناها أم لم نعلمها.
وفي آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] هذه الآية أوجبت للعصاة الذين يعصون الله بغير الشرك أن يتهاونوا، وإذا نهيته عن معصية ارتكبها يقول: الله غفور رحيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ هكذا الشيطان يوسوس لهم، يجعلهم يعملون بالمتشابه من القرآن ويتركون المحكم.
ولكن هل أنت على ثقة من أن تكون ممن شاء الله أن يغفر لهم؟ أجيبوا يا جماعة؟
لا؛ لأنه ما قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) ولم يقيده، بل قيده فقال: (لمن يشاء) فهل أنت على ثقة أنك ممن شاء الله أن يغفر له؟ لست على ثقة.
ثم إن المعاصي يجر بعضها بعضاً، ولذلك حرم النظر للمرأة التي ليست بينك وبينها محرمية، لماذا؟ نظرة فقط حرام؟ لأنه يجر إلى الزنا، فالمعاصي في الواقع مشترك بعضها ببعض، إذا تهاونت بمعصية هون عليك الشيطان ما هو أعظم منها، ثم ما هو أعظم، حتى يوصلك إلى الشرك.
واستمع إلى الذين غمرت قلوبهم المعصية ماذا قالوا عن آيات الله؟ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المطففين:1] يعني: هذه (سواليف) وليست بشيء، قال الله عز وجل: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] انظر المعاصي تجعل الإنسان يتصور أن آيات الله أساطير الأولين؛ لأنه لا يصل معناها إلى قلبه والعياذ بالله، بل هو قلب مغلق، فلا يصل الإيمان بهذه الآيات إلى قلبه، ولا تفيد قلبه شيئاً؛ لأنه قد ران على قلبه ما كان يكسب.
فالمعاصي يا أخي! احذرها ولا تتهاون بها: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284] (والله على كل شيء قدير) كل شيء، وهذه الكلمة فيها عمومٌ، كل شيء موجود فهو قادر على إعدامه بلحظة، وكل شيء مفقود فهو قادر على إيجاده بلحظة: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] والله على كل شيء قدير فما هي القدرة؟ القدرة هي: فعل الفاعل بلا عجز، يعني: أن يفعل الفاعل والشيء بلا عجز.
وما هي القوة؟ أن يفعل الشيء بلا ضعف، انتبه للفرق! كثير من الناس لا يفرق بين القدرة والقوة، والواقع أن بينهما فرقاً؛ القوة ضدها الضعف، والقدرة ضدها العجز، واستمع للفرق بين هذا وهذا من القرآن: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم:54] هذه تدل على أن ضد القوة الضعف.
وضد القدرة العجز، استمع: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44] ولم يقل: قوياً؛ لأن ضد العجز القدرة.
وهنا أضرب لكم مثلاً حسياً يبين لكم الفرق بين القدرة والقوة:
هذا رجل قلنا له: احمل هذا الحجر، فأراد أن ينقله من الأرض فعجز، فهل نقول: هذا غير قادر أو غير قوي؟ غير قادر.
رجل آخر قلنا: احمل هذا الحجر فحمله لكن بمشقة، فهل نقول: هذا غير قوي أو غير قادر؟ غير قوي، لأنه زحزحه بمشقة.
رجل ثالث قلنا: احمل هذا الحجر، قال: هذا الحجر؟ قلنا: نعم، قال: باسم الله ثم رفعهُ بقوة، هذا نقول عنه: قوي.
والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:
1/ الإيمان بوجوده.
2/ الإيمان بربوبيته.
3/ الإيمان بألوهيته.
4/ الإيمان بأسمائه وصفاته.
ولا حاجة أن نطيل الكلام فيها لأنها سبقت في لقاءات ماضية.
(كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ) الملائكة: هم عبادٌ خلقهم الله عز وجل ليقوموا بطاعته، وهم كما قال الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1] فنؤمن بالملائكة عموماً، ونؤمن بمن عرفنا أسماءهم خصوصاً، ومن أسمائهم:
1- جبريل: وهو أفضل الملائكة، وهو موكل بالوحي.
2- إسرافيل: موكل بنفخ الصور.
3- ميكائيل: موكل بالقطر والنبات.
هل جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هؤلاء الثلاثة في حديثٍ واحد؟
نعم. جمع النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة في استفتاح صلاة الليل، يقول في استفتاح صلاة الليل: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم) الله أكبر! الرسول يقول: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك) فكيف بنا نحن المعرضون للخطر والخطأ؟!! أكثر الناس إذا قال قولاً يظن أنه على الصواب، يقول: هذا هو الصواب، وما عداه فهو خطأ، سبحان الله! هل تدري هل هديت إلى ما اختلف فيه من الحق بإذن الله؟! لا تدري، لست معصوماً، قد تخطئ وقد تصيب، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يسأل ربه هذا السؤال، فجديرٌ بنا نحن أن نسأل الله هذا السؤال، ولاسيما عندما يورد علينا استفتاء، فإن الإنسان ينبغي له أن يلجأ إلى الله عز وجل بقلبه ولسانه وحاله أن يوفقه للصواب؛ لأن المفتي -يا إخواني!- معبر عمن؟ عن الله، معبر عن الله فليست المسألة هينة، ومع الأسف أن من الناس الآن من يتسابقون إلى الفتيا أيهم يفتي، وليس عندهم من العلم ما يجعلهم أهلاً للفتيا.
السلف الصالح هل كانوا يتسابقون في الفتيا أو يتدافعونها؟ يتدافعونها، كل واحد يقول: اذهب للثاني، لأن الإنسان يخشى، والله نخشى من الفتيا، ولولا أن الإنسان يخشى من كتمان العلم، أو أن السائل يذهب إلى إنسان جاهل ويفتيه لكان الإنسان يتوقف عن الفتيا ليسلم، لكن من استفتي وعنده علم فإن عدم إقدامه على الفتيا ليس بسلامة بل هو عطب.
هؤلاء الثلاثة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يذكرهم في استفتاح صلاة الليل.
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ نعرف من الكتب أشياء ويخفى علينا أكثر الكتب، فنؤمن بالكتب إجمالاً، وأن كل رسولٍ أرسله الله أنزل معه كتاباً حقاً ولكن نعرف من الكتب:
أول ما يدخل في الكتب القرآن لا شك، كتاب الله.
التوراة منزلة على من؟ على موسى.
الإنجيل على عيسى.
الزبور على داود.
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، أما صحف إبراهيم فلا نعرف لها إلا هذا الاسم، وأما صحف موسى فقيل: إنها التوراة وقيل: غيرها، والله أعلم.
(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) لا نفرق بين نوح أول الرسل ومحمد صلى الله عليه وسلم آخر الرسل، بماذا لا نفرق؟ بالتصديق والإيمان، نؤمن بأنهم رسل من عند الله حقاً، ونؤمن بما صح عنهم من الأخبار، وأما الأحكام فإن شريعتنا ناسخة لجميع الشرائع، كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48] فللقرآن السيطرة على جميع الكتب، لو جاء في التوراة أو الإنجيل حكم وصح صحة لا ريب فيها، ولكنه يخالف ما في القرآن؛ فالعبرة بما في القرآن، هذا بالنسبة للأحكام، أما الأخبار فإنها لا تنسخ، وكل ما صح من الأخبار عن الكتب السابقة فهو حق، لكن تعلمون أن الكتب السابقة لم يتكفل الله تعالى بحفظها، بل قال: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44] فجعل حفظها لمن أنزل عليهم، ولكنهم لم يقوموا بالحفظ، بل حرفوا وبدلوا وغيروا.
إذاً: الكتب أولها: القرآن، الرسل أولهم: نوح وآخرهم محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
ومن الطاعة: تصديق الخبر، ولهذا لو قال قائل: لماذا لم يقولوا: سمعنا وصدقنا؟ لأن الكتب فيها أوامر ونواه وفيها أخبار، الطاعة للأوامر والنواهي، والتصديق للأخبار، نقول: ومن الطاعة أن نصدق بالأخبار؛ لأنه يجب علينا أن نصدق بكل خبرٍ جاء في هذه الكتب إذا صح به النقل، ثم إنه يجب أن نسمع ونطيع سواء علمنا الحكمة أم لم نعلم، ومن كان لا يطيع إلا إذا علم الحكمة فإنه ليس بمؤمن، انتبه! لماذا؟ لأنه اتبع هواه، إذا قال الإنسان: أنا لا أصلي حتى أعرف الحكمة من الصلاة! لا أتطهر حتى أعرف الحكمة! قلنا: إذاً لست بمؤمن! المؤمن يقول: (سمعنا وأطعنا) صل الظهر أربعاً، قال واحد: حسناً ولكن ما الحكمة، لماذا أربعاً؟ لماذا لم تكن ركعتين أو ستاً؟ يقول: لا يصلي هو، هل هذا مؤمن؟!
لا. المؤمن يقول: (سمعنا وأطعنا) ولهذا قال الله تعالى في سورة الأحزاب: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36].
يقول: رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ هل المراد إليك المصير في عبادتنا فلا نشرع إلا ما شرعت، إليك المصير في تدبير أمورنا فأنت تدبر أمورنا، إليك المصير يوم القيامة، هل يشمل هذه الثلاثة وغيرها مما مصيره إلى الله؟ أو خاص بيوم القيامة؟
الجواب: يشمل، وسنعطيكم فائدة في التفسير: إذا رأيت الآية تشمل معانٍ متعددة لا ينافي بعضها بعضاً، وليس بعضها أولى من البعض، فاحملها على العموم، وهذه قاعدة تفيد طالب العلم.
انظروا إلى قول الله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير:17-18] ماذا قال المفسرون في (عسعس)؟ قالوا: أقبل، وبعضهم قال: أدبر، أي قالوا: إن الله أقسم بالليل حين إقباله، وبعضهم قال: أقسم بالليل حين إدباره، والآية تشمل التفسيرين، إذاً: (عسعس) من أفعال الأضداد، في اللغة العربية أفعال تكون للشيء وضده.
فعلى أيها تحمل الآية؟
نحملها على العموم، يعني: على المعنيين جميعاً، نقول: أقسم الله تعالى بالليل إذا أقبل والليل إذا أدبر؛ لأن إقبال الليل وإدباره من أعظم آيات الله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص:71-73].
إذاً: قول الله تعالى: (وإليه المصير) يشمل العموم: المصير في الآخرة، المصير في الشرع، المصير في القدر، كل شيء، المصير إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42].. إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [العلق:8].
وهذه قاعدة -يا إخواني!- في المأمورات، فلقاؤنا الليلة إن شاء الله قواعد، والقواعد خيرٌ من الفروع: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا هذه قاعدة المأمورات، كل شيءٍ لا تستطيعه من المأمورات يسقط عنك؛ لأن الله قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ، ثم إن كان لهذا الواجب بدل أتيت بالبدل، وإن لم يكن له بدل سقط عنك نهائياً.
ومثاله: إذا ظاهر الرجل من زوجته، فقال لها والعياذ بالله: هي عليه كظهر أمه، هذا منكر وكذب، كما قال الله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً [المجادلة:2] ماذا عليه؟ عليه أولاً: أن يعتق رقبة، هذا الواجب، لم يجد رقبة إما لعدم المال عنده وإما لعدم وجود الرقاب، فتسقط عنه الرقبة، يأتي دور: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4] يجب أن يصوم شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا بعذرٍ شرعي أو عذر قدري، ولكن لم يستطع الرجل لضعفه أن يصوم شهرين متتابعين، لا في الشتاء ولا في الصيف، يسقط الصيام أو لا؟ يسقط إلى شيء ثالث: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة:4] ما وجد، فقير لا يجد أن يطعم ستين مسكيناً، ماذا يكون؟
يسقط عنه، ودليل هذا قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا .
وقصة الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان وهو صائم استمعوا لها وفيها فائدة أيضاً:
جاء رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: (يا رسول الله! هلكت وأهلكت -هلك هو بنفسه وأهلك زوجته- وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم -ماذا كان من الرسول عليه الصلاة والسلام.. أنهره؟ ما نهره، ولا زجره، أمره بما يبرئ ذمته- أمره أن يعتق رقبة، قال: لا أجد، قال: صم شهرين متتابعين؟ قال: لا أستطيع، قال: أطعم ستين مسكيناً؟ قال: ما عندي -كل المراتب الثلاث لا يستطيعها- ثم جلس الرجل فجيء بتمر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: خذ هذا تصدق به، أطعم منه ستين مسكيناً، فقال الرجل: أعلى أفقر مني؟ والله ما بين لابتيها أهل بيتٍ أفقر مني -سبحان الله! الإنسان عنده طمع، أعلى أفقر مني؟- فضحك النبي عليه الصلاة والسلام -اللهم صلِّ وسلم عليه، هذا يدعو الناس إلى دين الله بالبشر والابتسامة والضحك والتيسير والتبشير، ليس بالعنف والغضب والغيظ- ضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه ثم قال: أطعمه أهلك) فرجع الرجل الذي خرج من عند زوجته وهو خائف، رجع وهو غانم؛ معه تمرٌ لأهله، وهل قال: وإذا قَدَرْتَ بعد ذلك فأطعم؟ لا. إذاً: سقط عنه حتى الإطعام؛ لأنه لا يستطيع، والله عز وجل يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا .
مثال آخر: رجل قتل نفساً خطأً، فقلنا له: أعتق رقبة، قال: ما عندي، قلنا: صم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، ماذا نقول؟
نقول له: ليس عليك شيء، يعني: الله ذكر خصلتين في كفارة القتل وهما: تحرير رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، وما ذكر الإطعام، إذاً: إذا قال هذا الذي وجبت عليه كفارة القتل: لا أجد الرقبة، قلنا: صم، قال: لا أستطيع الصيام، قلنا: ليس عليك شيء، لا يوجد إطعام، من أين نأخذ هذا الحكم؟ من قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا هذه في الأوامر.
نضرب أمثلة لهذا: رجل يصلي والذي يصلي لا يتكلم أبداً إلا مع الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فإنه يناجي ربه).. (تقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] فيقول الله: حمدني عبدي) المهم لا يتكلم كلام آدميين، لكنه قرع عليه الباب واحد يستأذن، فسمع الباب وقال: تفضل -يقول للذي قرع الباب- لكنه ناسٍ أنه في الصلاة، ماذا يكون عليه؟ لا شيء، تبطل صلاته أو لا تبطل؟ لا تبطل، لماذا؟ لأنه ناسٍ غافل.
رجل آخر يحب الخير ويحب أن يقوم بالواجبات فعطس إلى جنبه أحد المصلين وهو معه يصلي، فقال الذي عطس: الحمد لله، وهذا جائز ومشروع، إذا عطست وأنت تصلي قل: الحمد لله، الثاني زميله إلى جنبه قال: يرحمك الله، متأولاً؛ لأن يرحمك الله دعاء، وهو يتصور أن الدعاء في الصلاة لا يبطل الصلاة، ولو كان بكاف الخطاب، قال: يرحمك الله، فلما انتهت الصلاة، قال له بعض الحاضرين: أعد الصلاة لأنك تكلمت بكلام آدميين؛ تخاطب صاحبك تقول: يرحمك الله، فماذا نقول له بناءً على القاعدة التي ذكرها الله في الآية؟
نقول: لا شيء عليك، والذي قال: إن صلاتك باطلة ليس على صواب؛ لأن السنة تحكم بين الناس، والسنة وقعت بمثل هذه الصورة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من تكلم بإعادة الصلاة: (
وفي حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) هذا إنسان نسي أنه صائم فمر على البراد، فشرب لأنه عطشان، ونسي أن كان صائماً، ماذا نقول له؟ لا شيء عليه.
رجل آخر معه عنقود عنب، فجعل يأكل من العنقود ناسياً أنه صائم، فلما بقي حبة واحدة ذكر أنه صائم، فقال: سآكل هذه الحبة، إن كان العنقود الأول لا يفطرني فالحبة هذه لا تفطرني، وإن كان يفطرني فقد انتهى الموضوع، ماذا تقولون في هذا؟ أفطر بالحبة الأخيرة؛ لأنه كان الواجب عليه أن يتوقف ويسأل، ربما يقول قائل: هذا أكل الحبة جاهلاً، لكن نقول: هو مفرط، الواجب عليه أن يسأل.
رجلٌ احتجم وهو صائم يظن أن الحجامة لا تفطر، أيفسد صومه؟ لا. لأنه جاهل.
رجل أفطر يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أنها لم تغرب، فهل يفسد صومه؟ لا.
رجل أكل بعد طلوع الفجر يظن أن قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] أن المراد بالخيوط الحبال، وجعل يأكل ويشرب حتى تبين الحبل الأسود من الحبل الأبيض، أيفسد صومه؟
لا يفسد؛ لأنه كان جاهلاً.
وقد وقعت هاتان القصتان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام:
أما الأولى: فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أفطرنا في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في يوم غيمٍ ثم طلعت الشمس) ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به لوجوب الإبلاغ عليهم، فلما لم يأمر به علم بأنه ليس بواجب، وهو داخل في القاعدة: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا .
أما الثاني: فـعدي بن حاتم رضي الله عنه كان يريد أن يصوم، وفي الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ فجعل تحت وسادته عقالين أحدهما أسود والثاني أبيض، وجعل يأكل وينظر إلى العقالين فلما تبين الأبيض من الأسود توقف، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمره بالإعادة، لماذا؟ لأنه كان جاهلاً متأولاً؛ يظن أن هذا هو معنى الآية، فلهذا لم يلزمه النبي عليه الصلاة والسلام بالقضاء.
رجل محرم بالحج وفي ليلة العيد وهي ليلة مزدلفة ، بعد أن رجع من عرفة كانت معه زوجته فجامعها، وهو يظن أن الحج قد انتهى، مستدلاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة ) فقال: قد انتهينا من عرفة والحمد لله وظن أنه يجوز أن يجامع زوجته فجامعها.
وكان الجماع قبل التحلل الأول، وهو يفسد النسك، يعني: أن الحج فسد؛ لأن الجماع قبل التحلل الأول مع العلم والذكر يترتب عليه خمسة أمور:
الإثم، وفساد النسك، والمضي فيه، والقضاء من العام القادم، وفدية وهي بدنة، لكن هذا الرجل جاهل فجاء يسألنا، ماذا نقول له؟ نقول: الحج صحيح ولا شيء عليك لأنك جاهل، والرب عز وجل لما دعا المؤمنون: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال الله: قد فعلت.
المهم -يا إخواني- خذوا هذه القاعدة معكم، في الأوامر: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا .
وفي النواهي: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فقال الله تعالى: قد فعلت.
وعرفتم أمثلة واقعية من السنة في أن الإنسان المخطئ لا يعاقب، والناسي لا يعاقب، ولكن لاحظوا أنه متى زال العذر وجب التوقف عن المحظور، يعني: متى علم أو ذكر الإنسان بأنه الآن في محظور وجب عليه أن يتوقف.
ونضرب لكم مثلاً: بنو إسرائيل لما عبدوا العجل ماذا ألزموا به لتصح توبتهم؟
قيل لهم: لا توبة لكم إلا أن تقتلوا أنفسكم، وهذا إصر وغل عظيم، توبتنا نحن ولله الحمد بيننا وبين الله، إذا تاب الإنسان إلى ربه وتمت شروط التوبة الخمسة والتي أمليناها عليكم سابقاً فإنها تقبل، والخمسة نذكرها بإيجاز:
من يعطينا بإيجاز شروط التوبة الخمسة؟
1. الإخلاص بأن لا يحمل الإنسان على التوبة مراعاة الناس أو الرفعة عندهم أو الجاه أو ما أشبه ذلك.
2. الندم على فعل المعصية.
3. الإقلاع عن الذنب.
4. العزم على ألا يعود، ليس عدم الرجوع، لو قلنا: عدم الرجوع معناه: لو رجع إليه مرة ثانية لبطلت الأولى، أليس كذلك؟ لكن قلنا: العزم على ألا يعود، ولا نقول: ألا يعود، بل نقول: العزم على ألا يعود؛ لأنه إذا عزم ألا يعود ثم سولت له نفسه بعد ذلك أن يعود فالتوبة الأولى صحيحة.
5. أن تكون في وقت التوبة، وما هو وقت التوبة بالنسبة لكل واحد على انفراد؟
قبل حضور الأجل، ما هو الدليل؟ قال الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء:18] لا ينفع.
فرعون لما أدركه الغرق ماذا قال؟ قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ [يونس:90] انظروا -يا إخواني!- الذل، أعوذ بالله من الذل! فرعون ما قال: آمنت أنه لا إله إلا الله، قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ [يونس:90] فجعل نفسه تبعاً لبني إسرائيل، بينما كان في الأول يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ذل نسأل الله العافية! لكن ماذا قيل له؟ (آالآن تتوب) يعني: آلآن تتوب وتؤمن أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:91-92] ننجيك ببدنك: بأن نبقى بدنك ظاهراً، أما روحك ففي النار، لماذا؟ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92] والذين كانوا خلفه هم بنو إسرائيل، أي: لتكون علامة على أنك هلكت.
يا إخواني: بنو إسرائيل قد أفزعهم فرعون وآذاهم، وإذا غرق فرعون وقومه فقد يكون عند بني إسرائيل احتمال أن فرعون لم يغرق، فأنجى الله بدنه حتى يكون علامة على أنه هلك فيطمئن بنو إسرائيل.
إذاً: شروط التوبة خمسة، كلها سهلة يستطيع الإنسان أن يقوم بها بدون كلافة، لكن بنو إسرائيل عليهم آصار وأغلال، ومن الآصار والأغلال: أن الإنسان إذا قتل أحداً وجب عليه -أي: على أولياء المقتول- أن يقتلوا القاتل وجوباً، لماذا؟ لأنه هكذا قال: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45] ... إلى قوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] لكن هذه الأمة قال الله لهم لما ذكر: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:178] فالمهم أن الله تعالى رفع عنا والحمد لله الآصار التي كانت على من قبلنا.
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا [البقرة:286] هذه ثلاث جمل، هل معناها واحد؟
العفو: في مقابل التفريط في الواجبات، والمغفرة: في مقابل المعاصي وانتهاك المحرمات، والرحمة: هي إزالة أثر هذه الذنوب، أو الإخلال بالواجبات.
والأصل يا إخواني في الكلمات التباين، ولهذا قيل: العطف يقتضي المغايرة، فإذا وجدتَ كلمتين وظننت أن معناهما واحد فلا تظن هكذا، نعم يأتي أحياناً عطف المرادف على مرادفه مثل قول الشاعر:
فألفى قولها كذباً وميناً… |
المين: هو الكذب.
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا (أنت مولانا) أي: ولي أمرنا ومدبرنا وناصرنا: فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] هذا من باب التوسل بالصفة؛ لأن الله مولى المؤمنين كما قال تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:40] نتوسل إلى الله تعالى بكونه مولانا أن ينصرنا على القوم الكافرين.
هل القوم الكافرون منفصلون عنك أو متصلون بك؟! يعني: هل الكافر واحد آخر مختلف، أو شيء متصل بك؟!
إذا قابلنا الكفار فإنا نسأل الله أن ينصرنا عليهم، وهذا واضح؛ لكن هناك كافر يجري منك مجرى الدم، من هو؟
هو الشيطان.
الشيخ: (الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، والشيطان كافر، فتسأل الله أن ينصرك عليه بحيث لا تنخدع بغروره الذي حذرك الله منه في قوله: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33] أما كفار بني آدم فظاهرون.
وإننا بهذه المناسبة سندعو الله سبحانه وتعالى فنقول: اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد، يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! يا منان! يا بديع السماوات والأرض! نسألك اللهم أن تنصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك على أعدائك وأعدائهم من الصرب الكافرين، ونسألك اللهم أن تنصر إخواننا في الشيشان على أعدائك وأعدائهم من الشيوعيين الملحدين، ونسألك اللهم أن تنصر إخواننا في كشمير على أعدائهم الوثنيين، ونسألك اللهم أن تنصر المسلمين في كل مكان على أعدائهم.
ونسألك اللهم أن تؤلف بين قلوب المسلمين، وأن تجمع كلمتهم على الحق، وأن تهيئ لهم ولاة صالحين، يقودونهم بكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
ونسألك اللهم أن تؤلف بين قلوب شعوبنا، شبابها، وشيوخها وكهولها، وذكورها وإناثها حتى لا تتمزق وتتفرق نسألك اللهم ذلك يا رب العالمين.
ونختم هذا اللقاء بهذه الدعوة: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، فإن هاتين الكلمتين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) جدير بهاتين الكلمتين أن يقولهما الإنسان دائماً ما لم تشغله عن واجب، فلهذا أحث نفسي وإياكم على الإكثار من هاتين الكلمتين: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، هما على اللسان خفيفتان جداً، وهما في الميزان ثقيلتان، وحبيبتان إلى الرحمن.
الجواب: يقول: هل يجوز أن يجتهد في الفتوى إذا لم يوجد عالمٌ يفتي؟ فنقول: إذا كان جاهلاً كيف يجتهد؟ وعلى أي أساسٍ يبني اجتهاده؟ والواجب على من لا يعلم الحكم أن يتوقف، وإذا سئل يقول: لا علم عندي.
الملائكة لما قال لهم الله عز وجل: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:31] ماذا قالوا؟ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32]، أما كونه يقول: إذا لم يجد عالماً يفتي أنا سوف أفتي، أخبط صواباً أو خطأ.. هذا غلط، لا يجوز، الواجب أن يقول للمستفتي: اسأل العلماء.
والآن ولله الحمد الاتصالات سهلة، يتصل عن طريق الهاتف، عن طريق البريد السريع والبطيء، الحمد لله الأمر ميسر.
الجواب: الظاهر والله أعلم أن الحدث: كل ما أوجب فتنة حسية أو معنوية، فالمبتدعة مثلاً إذا ابتدعوا ونشروا البدعة في المدينة فإنهم يستحقون ما دعا به الرسول عليه الصلاة والسلام.
وكذلك من أحدث بقتل، أو نهب، أو سرقة، أو ما أشبه ذلك فإنه يستحق ما دعا به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما مجرد المعاصي الصغيرة أو الكبيرة التي لا تعد حدثاً وفتنة فإنها والله أعلم لا تدخل في هذا الحديث.
الجواب: لا. ليس للجماعة الثانية أجر الجماعة الأولى، لكن الجماعة أفضل من الانفراد، بمعنى: أننا إذا دخلنا ونحن جماعة وقد انتهت الصلاة فالأفضل أن نصلي جماعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع رجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) لكن أجر الجماعة الأولى لا تدركه الجماعة الثانية.
وقد اشتهر عند بعض طلبة العلم أنه لا تقام الجماعة الثانية بعد الجماعة الأولى، وهذا ليس على إطلاقه، بل نقول: في المسألة تفصيل: فإن كان المسجد معداً للجماعات كالمساجد التي على الطرق عند المحطات أو بعيدة عن المحطة، فهذه تعاد فيها الجماعة بلا إشكال؛ لأنها لم تعد لجماعة خاصة راتبة، فكلما جاء جماعة ونزلوا صلوا بهذا المسجد، وهذا لا إشكال فيه، ولا أظن أحداً ينازع في أن الجماعة الثانية بعد الأولى مشروعة.
القسم الثاني: أن يكون معتاداً في هذا المسجد أن تقام فيه جماعتان، فهذا بدعة وينهى عنه.
القسم الثالث: أن يكون هذا المسجد له جماعة راتبة فدخل أناس بعد انقضاء الصلاة فهنا نقول: صلوا جماعة فهو أفضل، ويدل لهذا ما ذكرته من الحديث، حديث أبي بن كعب : (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) .
وكذلك أيضاً الحديث الآخر: دخل رجلٌ قد فاتته الصلاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا فيصلي معه؟) فقام أحد الصحابة فصلى معه، فأقيمت جماعة بعد الجماعة الأولى، لكن هذه ليست راتبة فصارت إقامة الجماعتين في مسجدٍ واحد ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
الجواب: الجمع بينهما سهل؛ لأن النهي عن الشرب قائماً ليس للتحريم، بل هو من باب الأدب، ألا يشرب الإنسان قائماً فهو مكروه، والمكروه قال أهل العلم: إنه تبيحه الحاجة، يعني: ليس من شرطه الضرورة، ولهذا شرب النبي صلى الله عليه وسلم من شنٍ معلق وهو قائم -القربة البالية القديمة تسمى شناً، والغالب أن القربة القديمة تكون أبرد من القربة الجديدة- شرب منها وهو قائم عليه الصلاة والسلام، وشرب من ماء زمزم وهو قائم، مع أن هذا ليس ضرورة، بإمكانه أن يجلس.
فيكون ما رواه الترمذي من كونهم يأكلون ويشربون وهم يمشون لحاجة، يخشون إذا جلسوا مثلاً -وهم جماعة سائرون لغرض- أن يفوت غرضهم فيكون هذا جائزاً.
الجواب: الأصباغ مما خلق الله لنا في الأرض.
وما خلقه الله في الأرض فهو حلال، كل ما في الأرض حلالٌ لنا؛ لأن الله امتن علينا بذلك: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29] إن كان حيواناً فهو حلال، إلا ما قام الدليل على تحريمه، ولهذا لو وجدت طيراً فصدته فقال لك زميلك: هذا حرام لا تأكله، وقلت أنت: هذا حلال سآكله، من المطالب بالدليل؟ الذي حلل أو الذي حرم؟
الذي حرم، فالأصل الحل.
والأصباغ مما خلق الله لنا في الأرض فالأصل فيها الحِل، لكن يمنع من صبغٍ يحاد به الصابغ سنة الله عز وجل، وذلك صبغ الشيب بالسواد فإن هذا حرام، لا يجوز للإنسان أن يصبغ الشيب بالسواد؛ لأن هذا مضادٌ لسنة الله عز وجل، سنة الله أن الإنسان إذا كبر يبيض شعره كما قال زكرياء: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم:4] هذا أمر لابد منه، فإذا جاء الإنسان يموه على أنه شاب قام بصبغ اللحية بالسواد؛ لأجل أن من رآه يقول: هذا شاب عمره خمس وثلاثون سنة، وربما يكون له سبعون سنة، أيجوز هذا؟
لا يجوز لأمور:
أولاً: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد).
وثانياً: ورد وعيد شديد على من صبغ بالسواد -والعياذ بالله- فهو حرام، وقد قال بعض الشعراء:
يسود أعلاها وتأبى أصولها ولا خير في فرعٍ إذا خانه الأصل |
أصوله بيضاء، لابد بعد يومين أن يظهر البياض من الأصول، فأعلاها مسود ولكن خانه أسفل.
أنت على كل حال العبرة بالقوة والجلد، وكم من إنسانٍ كبير السن وشيخ؛ ولكن همته وعمله عمل الشاب، وكم من إنسان بالعكس، إذاً: ما الذي يحرم من الأصباغ؟
الأسود الذي يغير به الشيء، فإن خلط الأسود بأحمر بأن خلط الكتم بالحناء يجوز أو لا يجوز؟
يجوز؛ لأنه ليس أسود خالصاً، وما حكم غير الأسود من الألوان؟ ينظر: إذا كان هذا اللون لا يصبغ به إلا نساء الكافرين صار حراماً، لماذا؟ لأنه تشبه بالكفار، إذا كان هذا الصبغ لا يصبغ به إلا نساء الكافرين صار حراماً من أجل التشبه لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من تشبه بقومٍ فهو منهم) أتدرون ماذا علق على هذا الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية؟!
قال: أقل أحوال هذا الحديث التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم؛ لأنه قال: فهو منهم، فأقل أحواله أن يكون التشبه حراماً.
أما مسألة قص الرأس، فقص الرأس أيضاً يفصل فيه:
إذا كان قصاً عميقاً بحيث يكون هذا الرأس للمرأة كرأس الرجل فهذا حرام، ما الدليل؟ (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال).
وإذا كان ليس كذلك لاحظنا أمراً آخر: هل هذا القص يكون على صفة قص نساء الكافرين؟ فهو يكون حراماً لأنه تشبه بنساء الكافرين: (ومن تشبه بقومٍ فهو منهم)، أما إذا لم يكن مشابهاً لقص نساء الكافرين فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنه محرم.
والقول الثاني: إنه مكروه.
والقول الثالث: إنه مباح.
هذه أقوال ثلاثة ذكرها أهل العلم في هذه المسألة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر