الشيخ: دخل الدلم سنة سبع وخمسين، وعمره بين الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين، أو ما يقارب ذاك الحد، قام بإمامة المسجد أولاً، وهو مرسل ليكون قاضياً في البلد، وكان إماماً للجامع ومعلماً، وكان قائماً بالقضاء على الوجه الشرعي، من السليمية واليمامة والخرج والهياثم وضبيعة ، وجميع الدلم كلها.. قاضياً للبلد، قائماً بالدراسة، معلماً ليلاً ونهاراً، أما الصبح إذا صلى الفجر جلس من حين يصلي الفجر -هذا برنامجه- إن كان في الشتاء في الخلوة، وإن كان في الصيف يجلس ظاهراً، وجلوسه يبدأ من وقت الصلاة إلى أربع ساعات بعد الصلاة أو ثلاث ساعات ونصف.
ثم الذين بعدهم بالتوحيد كشف الشبهات وغيرها.
ثم الذين بعدهم في الدرجة الثالثة في بلوغ المرام ، والمنتقى ، وعمدة الأحكام في الحديث، والزاد ، وألفية ابن مالك ، هذا الذي عرفنا منه.
وكان رحمه الله وقدس روحه يأتيه الطلاب من الأفذاج، ومن حوطة بني تميم، والحريق، واليمامة، والسليمية، ومن القصيم عبد الرحمن البراك، ومن العراق، ومن مصر محمد حسن ومعه أناس، ومن اليمن سيف وسعيد ، وكذلك من الباحة سعيد بن عياش ، ومسفر منهم، وكل هؤلاء اجتمعوا، وعددتهم يوماً في الحلقة فإذا هم سبعون واحد في يوم، وكان رحمه الله أولاً: يبدأ بـالثلاثة أصول، والآجرومية، والقطر، في النحو، ثم بعد ذلك التوحيد، وكشف الشبهات، وعمدة الأحكام، والأربعين النووية ، ثم بعد ذلك بلوغ المرام، والمنتقى ، ثم الزاد، والروض المربع .
ثم بعد ما يتقنون هذه الفنون يجلسون في المطولات: تفسير ابن كثير، وتفسير ابن جرير الطبري، وإعلام الموقعين لـابن القيم، وفتح الباري، وصحيح مسلم، والطرق الحكمية، وفتح المجيد ، كل هذه مطولات بعد ما ينتهوا من المتون، وكل قراءتهم في المتون غيباً، لا يجعل أحداً من هؤلاء الطلاب يقرأ نظراً أبداً، وهذا ما أعرف منه، مع ورعه وإحسانه، وقد سبقنا بالكلام عنه من هم خير منا.
الشيخ: يجلس في البيت فترة قصيرة، ويأتي بفطيرة وتمرة وقهوة، وقليل من جريش، ونأكله معه أنا وأخي صالح ؛ لأننا مجاورون له، أو الذين يأتون من بعيد فهو لا يرضى أن نذهب فكان يحب طلبة العلم، ومعنا أناس آخرون، ومتى انتهى جلس وقال: أين أهل الخصومات؟ ليقضى بينهم، فلا محكمة عنده ولا شيء، وكان عنده عدد من الكتاب، وهم كثير، منهم الشيخ راشد .....، وعبد الله بن سليمان المسعري ، وعبد الرحمن بن سحمان ، وعلي الحواس ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن باز ابن أخيه، وعبد الرحمن بن إبراهيم ابن أخيه كذلك، وعبد اللطيف بن شدين ، وسعد بن عيسى الزير .
المقدم: هؤلاء ماذا كانوا يكتبون؟
الشيخ: هؤلاء الذين كانوا يحررون.
المقدم: يحررون ماذا؟
الشيخ: يحررون الخصومة إذا حكم، وليس هناك دفاتر ولا شيء، يكتبون ورقة ويعطونه ويمشي الذي حكم له، هذا من سجاياه، مع قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبعد المغرب كل يوم دراسة في الفرائض، وبعد الظهر المطولات، وبعد العصر والعشاء البحوث.
المقدم: هل الدراسة تستمر؟
الشيخ: نعم تستمر كل يوم حتى الخميس.
المقدم: متى ينتهي بعد صلاة العشاء؟
الشيخ: بعد صلاة الفجر يفتتح أول دروسه ويستمر إلى الساعة الرابعة أو الخامسة من النهار، وبعد العشاء دراسة المطولات، أو البحث في الكتب التي عنده من كتب رجال الأحاديث، ويقول لنا: أنا جالس أُعَلِّم وأتعلم -يقول لنا هكذا- والوقت لا يترككم ولن تجدوا وقتاً ليس للعلم، أو وقتاً تلهون فيه عن التعلم، فكان يحض الناس على طلب العلم.
المقدم: يا شيخ ناصر ! نريد منك أن تحدثنا عن مواقف حصلت لك مع سماحة الشيخ؟
الشيخ: ما عندي إلا مثل ما قال عثمان .
الشيخ: والله ما نذكر.
المقدم: مواقفه مع طلبة العلم، كيف كان يستقبلهم ويصبر عليهم؟
الشيخ: يستقبلهم استقبالاً عظيماً، ويجلس لهم، ويقرءون عليه، يأتون من كل مكان، من صلاة الصبح وهم يدرسون عليه إلى أن يكملوا.
المقدم: كيف كان وقته في المناسبات، هل كان يحضر المناسبات عند الجيران والأهل والأقارب؟
الشيخ: والله لا أدري.
المقدم: ما حضرت مناسبة وكان فيها الشيخ؟
الشيخ: والله ما حضرت.
المقدم: الزواجات التي في الدلم هل كان يحضرها الشيخ؟
الشيخ: لا أدري هل حضرها أم لا.
المقدم: طيب ننتقل إلى أحد المشايخ، بالنسبة يا شيخ عثمان للمكافآت التي يقدمها الشيخ لطلبة العلم والعناية؟ وهل هناك رواتب؟
الشيخ: الرواتب ثلاثمائة تأتي آخر الشهر، الصغار على ثلاثة والكبار على خمسة، وهذه ثلاثمائة أو ثلاثمائة وخمسين.
المقدم: هل هناك عناية أخرى يقدمها الشيخ لطلبة العلم، يشفع لهم مثلاً في الوظيفة أو غيرها؟
الشيخ: يشفع في طرق الخير دائماً، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل شيء قائمٌ به، الله يسكنه الجنة، ولا نطيل في المدح فيه، الله يغفر له ويقدس روحه.
الشيخ: نعم. كثيراً ما يشير علينا بمجالستهم ومساعدتهم، والقيام عليهم.
المقدم: كيف استقباله للفقراء في ذلك الوقت؟
الشيخ: كان لهم جناح خاص.
الشيخ: فكرة طيبة وصائبة إن شاء الله، ونافعة للمسلمين، ونافعة لسماحة الشيخ رحمه الله.
الشيخ: علمنا به في الصباح المبكر من يوم الخميس نفسه.
المقدم: كيف كان وقع الخبر على نفوسكم وعلى المثقفين وطلبة العلم؟
الشيخ: والله كغيرنا من الناس، وقع عظيم وكبير، ونعلم أنها مصيبة عامة للمسلمين، وخاصة علينا أهل الدلم وعلى طلبة العلم.
الجواب: هذا شيء معروف من وجوده في الدلم من السابق، كان رحمه الله يخصص لي ما بين أذان العشاء حتى الإقامة، طيلة هذه المدة التي شاء الله، كان مخصصاً لي أن أقرأ في تفسير ابن كثير ، وغالب المجالس التي أحضر معه فيها المناسبات يسأل عني ويأمرني أن أقرأ، وحتى في بعض المجالس إذا كنت متأخراً ودخلت وسلمت وسمع صوتي استأذن من الذي يقرأ ويقول: يا أخ! اسمح لنا من أجل فلان أندى صوتاً منك. فآخذ الكتاب من يد القارئ عليه وأقرأ، وحتى بعد ما ذهب من الدلم غالباً أي مجلس آتيه أو أجتمع فيه يطلب مني الشيخ، وكان ذلك يتكرر غالباً في كل مجلس، فقد سافرنا معه إلى الحوطة والحريق وجلسنا مدة أيام، وفي كل مجلس يبدأ بالقرآن يطلب مني، وبعد ذلك في أي كتاب آخر يطلبه.
ولا أنسى ما خصني به من العناية والمحبة والاحتفاء، وقد كان بي حفياً رحمه الله.
كنت أزوره بين وقت وآخر، وكان فيه من إخواني وأحبابي من طلاب العلم في الدلم من يطلب صحبتي، فيصحبني إلى الشيخ؛ لعلمهم بما يعمله معي جزاه الله خيراً، ويذهبون ليستفتوه في مسائل أخرى والاستئناس به والجلوس معه، فكنا نصلي معه المغرب، فعندما أسلم عليه في المسجد، يمسك يدي ويقول: لا بد من جلوسكم عندنا بعد المغرب في المجلس العام، وبعد العِشاء للعَشاء، فأقول: طيب؛ لأني أخبر الإخوان الذين معي أنهم ما أتوا إلا لطلب الفتيا منه، فنجلس معه بعد المغرب، وبعد العشاء نرجع ويجتمع بنا في المكتبة رحمه الله حتى يحضر العَشاء، ونتعشى، ونجلس معه بعد العَشاء، ويطلب منا الجلوس حتى بعد العَشاء مدة حتى ينام.
وأذكر قصتين حصلتا:
القصة الأولى: أننا ذهبنا أنا والأحبة الذين معي، وجلسنا في المجلس معه بعد المغرب، وقبيل الأذان قمت من جانبه وذهبت لأتوضأ، فمررت من المكتب وفيه الشيخ محمد بن موسى جزاه الله خيراً، فقال لي: لماذا جئتم الليلة؟ فهذه الليلة لن يحصل لكم الذي تعودتم، قلت: لماذا؟ قال: الليلة عنده موعد في الإفتاء بعد العشاء، فلن يحصل لكم الاجتماع، قلت: طيب! عند الله السعة، بدل الليلة ليلة أخرى، ذهبت توضأت وجلست مكاني بجانبه، وبعد ما أذن وقام قبلت رأسه وقلت: أستودعك الله يا والدي. قال: لماذا؟ أين تذهبون؟ قلت: سمعنا أنكم اليوم مشغولون، وبدل الليلة ليلة أخرى، قال: لا. عندنا الإفتاء، والإفتاء نعطي لهم مكان الليلة ليلة أخرى، أما أنتم تبقون وأنا باقي معكم، فبقي واعتذر من الإفتاء.
المرة الثانية: ذهبنا كعادتنا، سلمت عليه في المسجد وقت المغرب، وطلب مني أنا وإخواني الذين معي أن نجلس بعد المغرب في المجلس العام، قال: وبعد العشاء لا بد من العشاء والجلوس، قلت: طيب! هذه رغبته، وبعدما قارب أذان العشاء، قمت كالعادة أتوضأ، ومررت بالمكتب، فقال لي أحد الكتاب وأظنه محمد بن موسى : جئتم اليوم والشيخ مشغول عنكم اليوم، ما يمكن أنكم تجلسون معه بعد العشاء، قلت: خيراً إن شاء الله، ماذا عنده بعد العشاء؟ قال: عنده زواج ابنته الليلة، فابنته ستتزوج الليلة.
قلت: خيراً إن شاء الله، بدل الليلة ليلة أخرى، ذهبت وجلست بجانبه، وبعدما أذن وأقام قبلت رأسه وقلت: يا شيخ أستودعك الله واسمح لي. قال: لماذا؟ قلت: سمعت أنكم مشغولون الليلة، وبدل الليلة ليلة أخرى، قال: لا. عندنا زواج البنت، والوفود الذين سيأتون عندهم الأولاد يصلحونهم، أما أنتم فلا، أنا وأنتم بعد العشاء على العادة، وفعلاً صلينا العشاء ورجعنا، ودخل بنا رحمه الله في المكتبة، وجلسنا معه، وضيوفه عند أولاده في المجلس، وجلسنا فجاء موعد العشاء، جاءه ابنه عبد الله وقال: يا أبتِ! العشاء جاهز. قال: قوموا وتفضلوا.
وذهبنا وتعشينا معه، وكان الزواج مختصراً، ما فيه إلا القليل، وبعد العشاء قال: اتفضلوا -يعنينا- دخلنا معه في المكتبة مرة أخرى، والزوج ومن معه قابلهم أولاد الشيخ، وأدخلوهم على بنت الشيخ، وانتهوا، وجلسنا مع الشيخ حتى قام إلى النوم. هذا مما أذكر منه رحمه الله.
الشيخ: هذا هو الواقع منذ أن انتقل من الدلم ، قلَّ أن يأتيه معاملة من الدلم سواء مساعدة، أو في نكاح، أو في طلاق، أو في غيره، إلا ويرسلها لي ويكتب تحتها: فضيلة الشيخ فلان أرجو الاطلاع والإفادة عما ذكر فيها، وإثبات ما ذكر، وإثبات عجز -إذا كانت مساعدة- المذكور عن إيفاء الدين. فأنا أقوم باللازم وأردها، كذلك الكتاب عنده عرفوا هدفه، فإذا قدم لهم شيئاً، قالوا: من أين أنتم؟ قالوا: من الدلم ، قالوا: اذهبوا إلى عبد الرحمن الجلال ، اجعلوه يصدق عليها. فثقته كاملة رحمه الله وجزاه عنا خيراً.
المقدم: كم تتوقعون عدد المستفيدين من هذه المساعدات في السنة الواحدة؟
الشيخ: والله في السنة الواحدة كثير، ممكن تقول: ثلاثين .. أربعين .. خمسين، كثير؛ لأنه لا يرد سائلاً مطلقاً، وإنما يتثبت فقط.
المقدم: هل تتذكر أعلى مساعدة قدمها الشيخ، مبلغ مالي كبير، كشراء بيت لفقير؟
الشيخ: أعلى مساعدات هي شراء البيوت، فكثيراً ما يُطلب منه شراء بيت لأحد الفقراء، فيكتب لنا في ذلك، فإذا شرحنا له الوضع اشترى، وقال: اشتروا له. ومن أربعمائة إلى خمسمائة ألف ريال، وهذه موجودة وأهلها موجودون، ومن آخر ما مرَّ عليَّ له رحمه الله أن جماعة رفعوا له، قالوا: إن فلانة بنت فلان معوقة ولا يمكن أحد يرغب في زواجها، ونطلب من سماحتكم أن تشتروا لها بيتاً لعله يرغبها في أعين الخطاب، وهي مضطرة ولا لها أحد، وفعلاً أرسل لي يسألني عنها وأخبرته بعد التحقق عنها، وجاءنا أمر بشراء بيت لها، اشترى لها بيتاً فوق أربعمائة ألف، وكتبناه باسمها في كتابة العقد، هذا قبل ثلاثة أو أربعة أعوام.
الشيخ: نعم هذا في أول الأمر، قبل ازدحام الأعمال عليه، كان ينصب له كرسي من الطين، ويوم الخميس والإثنين هو مجتمع الناس، البادية والحاضرة، من الدلم ومن القرى المجاورة لها كلها، يجتمع منهم جمع كثير، ففي هذين اليومين اجتماع الناس، حتى إنه يجتمع فيه نساء ورجال، النساء على حدة والرجال على حدة، فبني له كرسي من الطين بين الرجال وبين النساء، فكان يجلس في ضحى هذين اليومين عند اجتماع الناس، ويلقي عليهم محاضرة، كل يوم الإثنين والخميس مدة طويلة، ويلقي درساً.
المقدم: هل كان يحتسب في السوق كالتأكد من الموازين، ويمنع اختلاط النساء بالرجال؟
الشيخ: لا. كان يرسل المحتسبين وينفذون للشيخ هذا، وكل ما بلغه شيء في وقته لا يتساهل، حتى أذكر أنه في مرة من المرات، لما جاءت السيارات، جاءت سيارة ووقفت في السوق وفيها سائق أعتقد أنه غير سعودي ولا يعرف أنظمة الناس، فأخرج الباكت من مخبأة الدخان، وصار يشرب الدخان، والناس لم يعرفوا الدخان ولم ينظروه، فاستنكروا كلهم، وكما قلت: مفزع الناس بعد الله الشيخ ابن باز ، ما يفزعون إلى أحد غيره، ذهبوا إلى الشيخ في بيته، قالوا: يا شيخ! في السوق رجل سواق يشرب الدخان، فسأل الشيخ وتثبت، ولما ثبت عنده أمر بتعزيره، فأدب وسط السوق.
وقصة أخرى مشابهة نفس الشيء، أدب شخصاً آخر شرب الدخان في السوق.
الشيخ: نعم. تزوج في الرياض ثم طلق قبل قدومه، وأعتقد أنه خطب قبل أن يأتي إلى الدلم ، وجاء صهره الشيخ عبد الرحمن بن عتيق رحمه الله بعائلته بما فيهم زوجة الشيخ، ودخل بها في الدلم ، وسكن في الدلم وهي أم عبد الله ، وأولاده كلهم الأولون ولدوا في الدلم .
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
الحديث عن الأثر الذي تركته وفاة والد الجميع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، مفتي المملكة العربية السعودية ، أثر الحديث عنه مما يضفي على الإنسان الأسى والحزن والتأثر البالغ، ونحن في الواقع خاصة أهالي الدلم نعتبر سماحة الشيخ والداً لأهل الدلم ، والد عطف وحنان ومرحمة على جميع أهالي الدلم ، وله فضل لا يعرفه أحد أكثر مما يعرفه أهالي الدلم ، والسبب: أن الحقبة الزمنية التي قضاها سماحة الشيخ هي باكورة عمره العملية، فهو ما عمل في القضاء في غير الدلم ، فقد عين في القضاء في الدلم لمنطقة الخرج كلها، ومقر إقامته مدينة الدلم منذ شبابه، وسنه يناهز العشرين بما أعرف، أو سبعة وعشرين تقريباً، وهذه الحقبة الزمنية التي تربو على أربعة عشر عاماً هي باكورة نشاطه العلمي والدعوي والقضائي والإصلاحي، كل ذلك كان في الدلم ، ثم هي جذوة حماسه الشبابي في مجال الدعوة وطلب العلم، والحض عليه، والدعوة لطلاب العلم، وهذه الحقبة الزمنية ليست بالأمر الهين، وهي زهرة في سيرة حياة الشيخ، لكن لا يعرفها أكثر من أهالي الدلم إلا النزر اليسير ممن لهم صلة بسماحة الشيخ ممن يزوره آنذاك، أو يعرف عنه ذلك.
وحياة الشيخ في مقامه في الدلم كما يعلم الكثير في ذلك الوقت القاضي هو كل شيء، والدولة وفقها الله في حياة الملك عبد العزيز المؤسس رحمه الله كان القاضي مكان الثقة التامة، والقاضي يقوم مقام ولي الأمر العام ونائبه في كل ما يستدعي ذلك، فالقاضي هو الداعية والخطيب والإمام، والناظر للأوقاف، والراعي للأيتام، وهو المعلم، وهو كل شيء في الواقع؛ لأنه هو الذي يمثل الحاكم العام.
والصلاحيات لديه، ويتصرف حسب ما يرى أنه المصلحة العامة، والثقة فيه من جهة ولاة الأمور.
لذا حظيت الدلم بهذه الحقبة الزمنية من عمل الشيخ الجاد المثمر في التدريس في حلقات حسبما سمعنا من الشيخ/ عثمان بن هليل ، ومن شيخنا وأستاذنا الشيخ/ عبد الرحمن بن الجلال ، حلقات ربما سبقني المشايخ في الحديث عنها، وأنا من صغار طلابه، كنت آنذاك من طلاب العلم الصغار أدرس الأصول الثلاثة وآداب المشي إلى الصلاة وزاد المستقنع والأربعين النووية ونحو ذلك.
ولكني أذكر المواقف التي لا يمكن أن تحصل -والله تعالى أعلم- أو يتحملها أحدٌ سوى الشيخ، خاصة السيرة الذاتية، فالعلم وطلب العلم ميدان للجميع، ويمكن أن هناك علماء يكونون في المكانة العلمية الكبرى، لكن السيرة الذاتية والأخلاق والمواهب التي وهبها الله لسماحة الشيخ عبد العزيز هي فضل من الله، مثل: حسن الخلق، والتواضع، والسماحة، والعطف على الناس، والمساواة بين الناس، والبذل المالي، والسخاء والكرم، وفتح بابه للناس في كل وقت، وحب الناس له، وانفتاح القلوب وثقتهم به، هذه مواهب من الله سبحانه وتعالى، وقد حظي بها سماحته فضل من الله سبحانه وتعالى ومنة عليه، والناس شهداء الله في أرضه.
ونحن نرى الآن ماذا ترك أثر وفاته رحمه الله في العالم الإسلامي كله، لا في المملكة فقط، نرى ما يقرأ، وما يذاع، وما ينشر، وما يقال في المنابر، وفي كل مناسبة نرى عظم الصدمة التي واجهها العالم الإسلامي بفقد ذلك الفذ العالم الإمام الموفق رحمه الله تعالى وجمعنا به في جنات النعيم.
والدلم حسبما أذكر وأنا صغير كانت بمثابة جامعة، جامع الدلم جامعة تتعاقب عليه حلق طلب العلم من بعد صلاة الفجر واستمراراً إلى العشاء، عدا فترة الضحى هذه للمحكمة، يجلس في المحكمة، وإذا كان يوم الإثنين أو يوم الخميس يجلس في السوق المعروف المعتاد في الدلم ، وحتى الآن الأسواق عندهم يومي الإثنين والخميس للسوق نصيبه من الوعظ والإرشاد، إذا اجتمع الناس في ذروة اجتماعهم في السوق قرابة الساعة الثامنة خرج إلى السوق وجلس ثم انضوى حوله الرجال والنساء، وخشعت تلك الأصوات في السوق، واجتمعوا حوله، فبدأ بالتذكير والوعظ والتوجيه والوصية، والتحذير من الحرام، والمبايعات المغشوشة، وغير ذلك فيما يخدم المصلحة العامة، ثم يقوم ويتوجه إلى المحكمة، فهذا الصبر والجلد، وهذا الوقت المبارك، بالإضافة إلى عمله الرسمي في المحكمة، فهذا أمر لا أظنه يتهيأ لإنسان سوى ذلك الرجل.
أسأل الله أن يغفر له، وأن يجمعنا به في جنات النعيم، وأن يحسن الخلفة للأمة الإسلامية، وأن يعوضها من فيه البركة والسداد، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد، وآله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله.
الجواب: والله ما نتذكر إلا أنه في حمايته للدين والدنيا، من مصالح الدين والمسلمين، عامة وخاصة، ليست خاصة فحسب، بل وعامة في جميع الأمور كلها، يدافع عن الكتاب والسنة وفي مصلحة الجميع، حتى في ذاك الحين يوم جاء البلد جراد وأكل الثمار يحامي معهم ويضحك معهم، ويرسل من يأتي لهم بمتاع، ويأتي لهم بالقهوة، ويشجع الناس على قتل هذه الجراد التي فيها مضرة على ثمار المسلمين، وغيره وغيره لا تعد ولا تحصي، والشاهد الله على الجميع في أمور دينهم ودنياهم، وفي القضاء، حتى أن ذاك الحين الدلم و الهياثم و ضبيعة و اليمامة و السليمية كلها تبع قاضٍ وشخص واحد، ما معه شريك ولا مساعد، وقائم بالواجب.
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كان قاضياً ومعلماً ومصلحاً اجتماعياً في محافظة الخرج ككل، وكما نعلم توفي سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز يوم الخميس الموافق (27/1/1420هـ)، وأتقدم بخالص المواساة وعزائي لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ، وولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني سمو الأمير: عبد الله بن عبد العزيز ، وإلى صاحب السمو الملكي الأمير: سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام، وإلى كافة أسرته الكريمة، وإلى كافة إخواني المسلمين، ونسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته.
وسأتكلم باختصار عن جانب من جوانب حياته العامرة بالصلاح والإصلاح، وهو القضاء في الخرج ، والقضاء يشمل المحافظة جميعها، مدنها وقراها، منها: الدلم واليمامة والسليمية ونعجان وضبيعة والعين وماوان ، والمدن القديمة القائمة في عهد الملك عبد العزيز ، وما يسمى… حالياً الخرج مقر المحافظة أنشأ أخيراً بمبادرة كريمة من جلالة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز تولى القضاء في الخرج ، ومقره قاعدة الخرج الدلم، وهو القاضي والمعلم، تولى القضاء في الخرج في عام (1357هـ) حتى عام (1371هـ) ولمدة أربعة عشر عاماً، تصله القضايا من جميع أنحاء إقليم الخرج ، وكان رحمه الله ينهي القضية بأسرع وقت، وينجزها بعد ما يتحرى الدقة بين المتقاضيين، وكان حريصاً جداً على إعطاء كل ذي حق حقه، ولا تأخذه في الحق لومة لائم.
أول من أنشأ السجلات، وقيد القضايا، واستخرج الوثائق -الصكوك حالياً- في أقليم الخرج ، وجعل من سكنه محلاً للقضاء والتحاكم، وأوجد فيه مجلس انتظار للرجال ومجلساً للنساء.
مدينة الدلم كانت محظوظة جداً حيث قدم لها السعدي عندما تم تعيينه قاضياً فيها ولجميع بلدان إقليم الخرج ، فازدهر كل شيء فيها، واعتز الناس بها، وأصبحت مدينة من أكبر المدن بمقياس ذلك الوقت، ولحب الملك عبد العزيز للخرج وأهله، أرسل سماحة الشيخ لهم، واستبشروا واستفادوا من قدومه، قدم معه العلم والتعليم، وسماحة الشيخ جعل من المسجد الجامع الكبير بـالدلم جامعة علمية، يدرس فيه القرآن وعلومه، وعلوم الشريعة ودوافع الطلاب من خارج محافظة الخرج للدراسة على يديه، واتخذوا من مدينة الدلم سكناً لهم للقرب من التعليم على يد الشيخ، وكان سماحته رحمه الله حريصاً جداً على رعايتهم وإكرامهم، وتزامن ذلك في وقت كان الملك عبد العزيز طيب الله ثراه يشجع التعلم والتعليم، وخاصة في بداياته، ويجزل العطاء، إيماناً منه بأن التعليم هدف أساسي في نمو البشر، وقد كتب سماحة الشيخ عبد العزيز للملك عبد العزيز يشرح فيه ظروف المتعلمين، وأمر ببناء مقر لهم، ومنحهم المكافآت، وقد درس على يديه كثير من العلماء الأجلاء، وقد وصلوا إلى مرحلة متقدمة من التعليم، ووصلوا إلى أعلى المستويات، وساهموا في خدمة دينهم ومليكهم ووطنهم، ولذا لم يكن سماحة الشيخ في محافظة الخرج قاضياً فقط، بل كان قاضياً ومعلماً ومفتياً، ومسئولاً على الخدمات العامة، وعلى أعلى المستويات.
ومن الأهمية بمكان، أن نذكر أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز يفد عليه كثير من الناس بمقر إقامته بمدينة الدلم من خارج محافظة الخرج ، يستفتونه في مسائل الطلاق ويفتيهم، فكم له من فتوى أعادت البسمة بين زوجين متفارقين كادا يفترقا طول عمرهما، وكم من ابن وابنة ضمهما جناح الأبوين الأب والأم، فكان سماحته حريصاً على صلة الأرحام، وترابط الأسر، وصلة ذوي القربى، ويحث عليه، ويركز على المودة والمحبة، وحريصاً على تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة.
كان له مجلساً عاماً في السوق العام يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، حيث الناس يستمعون في هذين اليومين من كل أسبوع رجالاً ونساءً للتسوق فيذكرهم ويناصحهم ويتفهم قضاياهم ويدلهم على الخير وطرقه، مجتمع ريفي حظي بإنسان عاش بينهم قاضياً ومعلماً ومفتياً ومصلحاً اجتماعياً، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته.
ولي أن أذكر جانباً من جوانب خدماته الاجتماعية: كان رحمه الله هو المسئول عن الأوضاع الزراعية والبلدية والقضائية، وجميع ما يسمى في وقتنا الحاضر إدارة الخدمات، يتصرف بحكمة فيما يصلح شأن المسلمين، من غير كلل أو عدم مسئولية، ففي وقته بدأت السيارات وبأعداد قليلة، وفي ذلك الوقت كانت الشوارع ضيقة جداً لا تتسع للسيارات، فأمر ووقف على توسيع بعض الشوارع متخذاً المصلحة العامة هدفاً أساسياً، ويقف بنفسه حتى يصلح ما يراد إصلاحه، ولا يترك خللاً يفسد ما أصلحه.
وفي عام (1360هـ) وقعت أمطار كثيرة، وكانت البيوت طينية، والشوارع ضيقة، وامتلأت الشوارع بالمياه الخارجة من هذه البيوت، وكاد يحصل منه ضرر كبير، إلا أنه وبثاقب بصيرته أمر بفتح مجرى لإنزال هذه السيول إلى آبار ملحقة ببساتين لخدمة سكان المدينة، حيث في ذلك الوقت لا توجد شبكة مياه، ويعتمد الناس على الآبار في سقياهم، وحلت مشكلة كبيرة، وبعدها درس مشكلة تصريف سيول هذه الأمطار، حسب المناسير -أي: الانحدار- وشق لها مجرى وعين لها مصرفاً، ومع ذلك يتخذ القرار حسب المصلحة العامة، ولا تهمه المصلحة الخاصة أو المعارضة.
وفي نفس العام أيضاً حصل قدوم سيول كثيرة، وكانت البلد محاطة بسور من الطين، وطبيعة مدينة الدلم تقع في وسط الأودية، وخاف سماحة الشيخ من دخول هذه السيول البلد وتهدمها، ولا بد من دفع الخطر، فأمر على الرجال المقتدرين بالحضور مع الأدوات والمعدات وأمر بتجهيز مئونة الأكل والشرب، وتقدمهم سماحته في مواقع مختلفة وجلس بينهم يحثهم ويدعو لهم، وتم عمل حواجز كبيرة لدرأ خطر السيول، وفعلاً تم اجتياز الخطر والحمد لله.
وفي عام (1364هـ) سنة الدبا، والدبا: صغار الجراد، يزحف مع بداية نموه يأكل الأخضر واليابس، أمر سماحته على الناس بمكافحة هذا الوباء، وتقدم الناس بعد ما تم تأمين الأكل والشرب، وتم حفر عدة خنادق، لردم هذا الدبا، وكان سماحته يأخذ جريدة من سعاف النخيل، ويهش بها، وكان مشجعاً وداعياً لهم بالقوة، ويزيد ذلك من فعاليتهم، واستمر ذلك عدة أيام حتى رفع الله البلاء.
رحمك الله رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله.
أما بعد:
أولاً: نسأل الله تعالى أن يتغمد الشيخ عبد العزيز بن باز بواسع رحمته، وأن يرفع درجته في المهديين، وأن يجزيه عما قدم للإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ثم أما بعد:
فلقد أنعم الله عليَّ وأكرمني بالتعرف على شيخ الإسلام الشيخ عبد العزيز في عام (1397هـ) وكان رحمه الله مثالاً عجيباً في التواضع، فعلى رغم ما نسمع عنه من سعة في العلم، وتضلعه فيه، وما له من هيبة عند ولاة الأمور، إلا أن الجالس معه يشعر أنه عند إنسان عادي بتواضعه وأخلاقه.
وكنت في صغري أتردد عليه، وعلم الله كم أجد من السعادة والراحة النفسية والبدنية عنده، وأذكر حين كنت في أول الطلب حرص الشيخ رحمه الله تعالى على التلميذ، والوصاية بالعلم، وكان يوصيني دائماً بأن أحفظ بلوغ المرام ، وأذكر أنها قرابة ثمان مرات يقول لي: يا فلان احفظ بلوغ المرام ، وكنت أعجب من طلب الشيخ ومن أمر الشيخ بهذا الكتاب، ثم زاد العجب لما علمت أن فتاوى الشيخ كلها لا تكون إلا مصاحبة بالدليل الشرعي، ووجدت أن عزو الشيخ للأحاديث يدل على أنه يحفظ البلوغ حفظاً تاماً، ولعل الشيخ عبد الرحمن الجلال يوافقني على هذا المبدأ.
ثانياً: أن الشيخ عبد العزيز رحمه الله وأسكنه الله جنته، كان مثالاً في السنة في لباسه وتصرفاته، مع العالم وطالب العلم، ومع العامي والكبير والصغير، فإذا رأيت في لباسه رأيت السنة، وإذا رأيت هديه وسمته وحسن منطقه رأيت السنة متمثلة فيه، وقلَّ من يجتمع فيه التمثل بالسنة في اللباس والفعال وأثناء الطعام، والعلم برجل معين، ولكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأذكر أني مرة قلت له: يا سماحة الوالد! محبة الناس لك هذه ما جاءت من فراغ، القبول عند الناس لا نعرف أحداً من الناس كبيراً ولا صغيراً حتى والله العاصين إلا ولك في القلب محبة فما السر في ذلك؟ فكان سماحته يتهرب بأدب ويقول: نحن مقصرون، فلما ألححت عليه، قال: يا فلان! ما أعلم في قلبي غلاً على أحد من المسلمين، ولا أعلم بين اثنين شحناء إلا سارعت للصلح بينهما. وهذه لا يطيقها كل أحد، لفظها يسير، لكن تطبيقها عسير، وكان الشيخ مثالاً في التواضع، يدلك على ذلك حرصه على سماع الفائدة العلمية من أصغر التلاميذ، يقرأ التلميذ البحث عليه فيصغي بجميع جوارحه، تراه يتلهف لسماع الفائدة، بل يقول: أعد أعد، وقد يغير الفتوى أو ينشئ فتوى جديدة بسبب بحث الطالب له.
وكان رحمه الله عنده جلد في البحث، وقبل أن أذكر مثالاً أذكر أنه رحمه الله كان من أبعد الناس عن المدح، وعن حب سماع الثناء، أذكر من عدم حبه لثناء الناس، أن شاعراً استعطفني حتى أشفع له في إلقاء قصيدة على سماحة الشيخ، والقصة أن الشاعر كان له قريحة سيالة فقلت له: لماذا لا تمدح الشيخ بقصيدة تخلد مآثر الشيخ؟ فقال: تعدني أن ألقيها عليه، فقلت: أحاول، فنظمها ودبجها وأحسن اختيارها، فلما جاء الموعد كلمت الشيخ واستعطفته فقال: القصيدة في ماذا؟ فقلت: في شخصك أنت يا شيخ، قال: لا. لا. لا نحتاجها، ننفع الناس بخير منها، يا سماحة الوالد وعدت الشاعر، قال: إن شاء الله خيرها في غيرها، وبعد إلحاح من بعض المرافقين للشيخ، تكرم الشيخ حفظه الله بإلقاء القصيدة.
أيضاً: أذكر أنني دخلت على الشيخ مرة في داره وقلت: يا شيخ! عندي موضوع سأكلمك فيه، وما عندي موضوع، لكن محبة للانفراد بالشيخ، فلما انتهى الشيخ أخذته على انفراد قال: ما عندك يا عبد العزيز ! قلت: والله ما عندي شيء، لكن يا شيخ تفضل الله وإنعام الله عليك بهذه المحبة من الناس هذا خير لك يا شيخ! ونعمة من الله عليك، فقال لي كلاماً لا يقوله إلا إنسان يعرف قدر العلم، يعرف معنى تعظيم الله تعالى، قال: نحن مقصرون نحتاج إلى النصيحة والتعاهد، تعاهدونا بالنصح، الإنسان لا يأمن على نفسه، فمن يقول هذا الكلام وهو في منزلة سماحة الشيخ ابن باز .
وأيضاً كان في درسه مثالاً للحلم، أذكر عام (99) رجلاً توفي رحمه الله، وكان فيه حدة، فسأل الشيخ عن مسألة في صلاة السهو، وكان الطلاب ما بين 20 إلى 25 طالباً، فقال السائل: يا شيخ! -وأنا أسمع- إمامنا صلى المغرب أربع ركعات واختلفنا، فقال الشيخ: ما سبحتم له؟ فقال: اصبر اصبر يا شيخ دعني أكمل السؤال، فرده الثانية، قال الشيخ: هل قمتم، أم ما قمتم؟ قال: يا شيخ! لا تعجل اتركني أكمل السؤال، ونحن الطلاب على أوج الغضب، فرده الثالثة فكانت الطامة، فالشيخ أراد أن يجيب، فقال: يا شيخ! أنت عجل، أنت مفتي، اسمع وافهم السؤال، ثم أجب، فقال: إن شاء الله أبشر، فلما سأله ماذا كان جواب الشيخ؟! قال: أمهلني أياماً ثلاثة حتى أبحث المسألة.
أيضاً أذكر من حلم الشيخ وتواضع الشيخ أن فقيراً جاءه من أهل السودان في داره، وكان الفقير كبيراً في السن، فلما دخل على مائدة الشيخ عبد العزيز كان في المجلس أناس كأنهم تضايقوا من جلوس الفقير بجانبهم، فقام الفقير على استحياء وجلس في طرف المائدة، فكأن الشيخ فقده، كان على يمين الشيخ، ففقده الشيخ، فقلت: يا شيخ! قام المكان الفلاني، فالشيخ سلَّم على الذين حوله وكلمهم كلمات يسيرة، ثم قال: يا فلان! -يكلم الفقير- كيف حال الزراعة عندكم في السودان ؟ حتى بدأ يتكلم كيف حال التوحيد؟ كيف حال السنة؟ وبدأ من أول المائدة حتى آخرها والشيخ في حديث معه، والرجل أخذ يتفاعل مع الشيخ في الكلام، وأخذ يتكلم مع الشيخ من أول المائدة حتى قام، لماذا؟ لأن إكرام الفقير على مائدة الكبير يبقى أثرها في نفس الفقير حتى عند موته.
وبكل حال يكفي أيها الأكارم أن نعلم أن الشيخ والد فقده الأبناء، وشيخ فقده التلاميذ، وشيخ للشيوخ فقده الشيوخ، ومرب فقده الناشئة، وبكل حال فقد جمع الله له خصالاً من الخير قلَّ أن تجتمع، وأنا أقول: لو كان الذهبي رحمه الله حياً، ورأى الشيخ عبد العزيز بن باز ورأى أخلاقه وشمائله وعلمه، لصنفه في كتابه تذكرة الحفاظ لحفظه وفقهه وسعة اطلاعه.
وبكل حال يكفي أيها الأكارم أن هذا الحدث أثر في جميع البلد، من كبار وصغار، ولا أذكر؛ كما أنكم أيضاً فيما أعلم لا تعلمون جنازة في الإسلام حدث لها من الصيت والذيوع ما حدث لهذا الرجل الصالح، وهذه عاجل بشرى المؤمن.
وبكل حال أولاً: نشكر الشيخ عبد الرحمن لكرمه وسعة صدره، ولحضور المشايخ والإخوان جزاهم الله خيراً؛ لأن مجيئهم وتجشمهم هذه المسافة دليل على خير في قلوبهم، وأرجو أن يكون مجيئهم إلى هنا قربة نتقرب بها إلى الله، ما جئنا إلا لننشر للناس سمعة هذا الرجل الصالح العالم، حتى يحتذي أهل العلم حذوه، ويستفيد الناشئة وطلبة العلم والعامة من كتاباته، والشيخ عبد العزيز كما قال أحد العامة عزاني فيه فقال: يا عبد العزيز ! الشيخ ما خسر، نحن الذين خسرنا، الشيخ ذهب إلى خير مما عندنا، فنحن فقدناه.
وختاماً! نسأل الله تعالى أن يجزي الشيخ خير الجزاء، وأن يجعل الفردوس الأعلى مثوانا ومثواه، وأن يجمعنا وإياكم في الدنيا على أحسن حال، وفي الآخرة على أحسن مآل، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وصلى الله وسلم على رسول الله.
المقدم: نشكر فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد السدحان أحد طلاب الشيخ عبد العزيز رحمه الله.
بالمناسبة على ما ذكر لنا هذه الرؤيا العجيبة فقد بلغني ما يشبهها، فحدثني الشيخ عبد الله بن محمد الشتري ، مدير فرع منطقة الرياض للهيئات، فذكر لي أن ابناً له يدعى سعوداً من حفظة كتاب الله، ومن الشباب الصالح إن شاء الله، يقول: إن ابني هذا حدثني أنه رأى كأنه في المسجد الحرام، وقد رأى في المسجد جملة من الأنبياء، ورأى أحدهم يخطب، ورأى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله باز بين هؤلاء الأنبياء، رآه في المسجد الحرام قبيل وفاة الشيخ رحمه الله.
فكل هذه رؤى تسر، وأسأل الله أن يغفر لوالد الجميع، وأن يتغمده برحمته، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خيراً.
مداخلة: على ذكر المنامات وهي بشارة، كنت في بيتي أمس يا شيخ عبد الرحمن ، فقال لي أحدهم وهو اتصال من جنوب المملكة ، فقال: أحد طلاب العلم الكبار رأى في المنام حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ومعه الشيخ ابن باز ، فقال الشيخ: يا حذيفة ! هل عدني الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ قال: لا. قال: يا حذيفة ! هل عدني منهم؟ قال: لا. يا حذيفة ! فقال: لا. فقال حذيفة : عدك من الصديقين. ثم أخرج كتاباً كأني أراه مكتوباً عليه: الصديقون، وفتح فيه وإذا بي أقرأ: عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن آل باز مواليد عام كذا وكذا. يقول: ترجمة مصغرة للشيخ ابن باز ، غفر الله للشيخ وأسكنه جنته.
عندكم فوائد أو شيء؟
عندنا الشيخ إبراهيم البار مدرس في معهد إمام الدعوة، يدرس الفرائض ويعمل في وكالة الجامعة، يقول: قبل أسبوعين من وفاة الشيخ رأيت في المنام أني في مجلس الشيخ، يقول: أنا ما زرت الشيخ، فيقول: كأننا جالسون في المجلس، ثم قال الشيخ: رأيتم الذي خرج، يقول: نحن مبصرون لكن ما رأيناه، والشيخ كفيف، فتعجبنا كيف يقول هذا الكلام، فقال: هذا ملك الموت أتى ليقبض روحي، وأبشركم أني رأيت منازلي وأبشركم أنها خير.
فيقول: ارتعت من هذه الرؤيا قبل أسبوعين، فحرصت أني لا أحدث أحداً إلا بعد وفاة الشيخ رحمه الله.
والشيخ سعد الجريد يقول: رأيت في المنام يوم الأربعاء ليلة الخميس كأنا ذاهبون لزيارة الشيخ -وهو ذهب معي كم مرة لزيارة الشيخ- فيقول: جلسنا فإذا بالشيخ في صورة وفي رؤيا عجيبة جداً، يقول: في لحظة قال: ائذنوا لي فأنا أحب أن أرتاح، فيقول: فخرج من عندنا ليرتاح، يقول: كان وجهه يتهلل نوراً سبحان الله! ليلة الوفاة يوم الأربعاء ليلة الخميس.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر