إسلام ويب

شرح الحموية [5]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه، عال على خلقه بائن عنهم، كما دلت على ذلك الأدلة الكثيرة في الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، بل إن فطرة بني آدم على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم تقر بأن الله تعالى عال على خلقه بائن عنهم، ولم يخالف في ذلك إلا أتباع فلاسفة اليونان، الذين أنكروا هذا، معتمدين في ذلك على سخافات عقولهم، بعد أن تركوا كتاب ربهم وسنة نبيهم.
    قال المصنف رحمه الله: [وإذا كان كذلك فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء].

    قوله: إما نص أي أنه قاطع في الدلالة. وإما ظاهر أي أنه ظاهر في الدلالة وإن لم يكن قاطعاً بمنزلة النص.

    ينتقل المصنف هنا إلى المقصد الثاني، فبعد بيانه لإسناد مقالة السلف يعني بتقرير مسألة العلو: أي أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه.

    سبب اعتناء السلف بمسألة العلو

    وهي مسألة للسلف فيها عناية كثيرة، فإن فيها -مسألة العلو- ومسألة الكلام، والرؤية.. كلاماً للسلف من جهة التفصيل والتقرير أظهر من كلامهم في غيرها من الصفات وأشهر، وخاصة مسألة العلو.. وذلك لأن من أثبت علو الله سبحانه وتعالى لابد أن يقع له إثبات جملة من الصفات، وبطريقة أدق: كل من نفى علو الله سبحانه وتعالى فإنه رتب نفي كثير من الصفات على انتفاء العلو.

    مثلاً: من المسائل التي أنكرها المعتزلة: الرؤية. فما هو دليل المعتزلة الذي ظنوه قاطعاً على نفي الرؤية؟

    هو دليل مبني على نفي العلو، وهو ما يسميه المعتزلة في كتبهم دليل المقابلة ، وهذا الدليل هو أخص دليل للمعتزلة نفوا به الرؤية، بمعنى أنه إذا بطل هذا الدليل بطل المذهب، وإن كانوا يستدلون بدليل الاضطباع، وبظاهر قوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] وقوله: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] لكن كما تقدم أن استدلالهم بالقرآن ليس محققاً لا من جهة الصواب ولا من جهة موافقة المذهب.

    إذاً: بنى كثير من النفاة -من الجهمية والمعتزلة- نفي كثير من الصفات على ما ظنوه من تحقق انتفاء العلو بالعقل، والحق أن مسألة العلو -أعني: علو الباري سبحانه وتعالى - هي من أظهر المسائل ثبوتاً، بل إنها أظهر ثبوتاً من كثير من الصفات التي نفوها بنفيهم لمسألة العلو؛ لأنه ليس كل الصفات يدل على ثبوتها العقل مع الشرع، فبعض الصفات صفات تعلم بالشرع وحده، وإذا قلنا: إنها تعلم بالشرع وحده، فهذا لا يعني أن العقل يمكن أن يعارض هذا المثبت بالشرع، ولكن العقل لا يدل عليه قبل ورود الشرع، ولكن عند ورود الشرع فإن العقل يقبله ولا ينافيه.

    أنواع الصفات من جهة أدلتها

    ولهذا يمكن أن نقول كقاعدة من جهة دلائل الصفات: إن الصفات على نوعين:

    الأول: صفات تثبت بدلالة العقل والسمع.

    الثاني: صفات تثبت بدلالة السمع والعقل لا ينافيها.

    ومن ذلك الذي يثبت بالسمع وحده ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر) فهذا النزول لولا خبر النبي صلى الله عليه وسلم به ما كان لأحد أن يهتدي إليه عقله، وهذا الخبر النبوي لا ينافيه العقل، فهذه صفة تثبت بالسمع.

    والله سبحانه وتعالى موصوف بأنه الخالق، وموصوف بالقدرة.. فهذه الصفات معلومة بضرورة الفطرة وضرورة العقل مع أن الشرع صرح بها.

    وكذلك صفة العلو صفة دلت عليها الفطرة، فإن الخلق مفطورون على أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وكذلك دل عليها العقل، ودل عليها الشرع في آيات متواترة وأحاديث متواترة.

    وقد اتفق نفاة العلو من المتفلسفة والجهمية والمعتزلة والمتأخرة من الأشاعرة على أن الله لا يسأل عنه بأين، وهذا مخالف لما ثبت في الصحيح من حديث معاوية بن الحكم في قصة الجارية، لما قال معاوية : (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون لكنني صككتها صكةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله أعتقها؟ قال: ائتني بها. قال: فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة).

    فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعلم الخلق بالله سأل هذه الجارية -مع أنها ليست من أهل العلم المختصين-: أين الله؟ مما يدل على أن هذا لا ينافي كمال الرب سبحانه.

    والإمام أحمد رحمه الله -كما يذكر هذا شيخ الإسلام كثيراً- كان ممن يستدل على ثبوت العلو في رده على المخالفين بمسألة العقل، قال: فإن الله خلق الخلق -أي: خلق العالم- وهو سبحانه وتعالى منزه عن الحلول في هذا الخلق، فيجب بضرورة العقل أن يكون بائناً عنه، وإذا كان بائناً عنه سبحانه وتعالى فإما أن يكون أعلى وهو العلي الأعلى، وإما أن يكون محايفاً، وإما أن يكون أسفل، والمحايفة والسفل نقص ينزه عنه الباري، فتعين أنه سبحانه بائن من خلقه فوقهم ومقصود السلف بالعلو ليس هو أن الله سبحانه وتعالى في السماوات المخلوقة، كما يقال: إن الملائكة في السماء. فإن الله منزه عن المخلوقات كلها، فهو الأول ليس قبله شيء، والآخر ليس بعده شيء، والظاهر ليس فوقه شيء، والباطن ليس دونه شيء -أي: لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء-.

    سبب آخر لاعتناء المصنف بمسألة العلو

    وهناك غرض آخر جعل المصنف يقرر مسألة العلو، وهو أن قدماء الأشاعرة كـأبي الحسن الأشعري وأئمة أصحابه كانوا يثبتون علو الله سبحانه، وإن كانوا يتأولون مسألة الاستواء على العرش، وهذا قول أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني ، وقبل هؤلاء هو قول أئمة الكلابية الأولى، وأخصهم عبد الله بن سعيد بن كلاب .

    لكن لما جاء المتأخرون من الأشاعرة كـأبي المعالي ومن بعده نفوا مسألة العلو واستعملوا فيها نفس منهج المعتزلة؛ ولما جاء المتأخرون بعد هذا كـمحمد بن عمر الرازي زاد الأمر سوءاً فقال: إن الذين يثبتون الجهة -يقصد: العلو- هم من طوائف الأمة الحنابلة والكرامية، وإلا فإن سائر الأمة اتفقت على تنزيه الله عن الجهة وقد شاع هذا عند متأخري الأشاعرة؛ ولهذا بدأ يوصف الحنابلة -قبل زمن شيخ الإسلام ، وأدرك رحمه الله هذا- أنهم مثبتة للجهة، بل أصبح هذا الوصف مختصاً بهم؛ لأنه لم يكن للكرامية ظهور يذكر خاصة في بلاد العراق وبلاد الشام، وإن كان لهم بعض الظهور في بلاد العجم.

    فعني شيخ الإسلام في كتبه ببيان أن أبا الحسن الأشعري وأئمة أصحابه كانوا مثبتةً للعلو، فضلاً عن إثبات سائر أئمة السنة والجماعة، أي: يقصد أنه حتى أئمة الأشاعرة كانوا مثبتةً لمسألة العلو، ولهذا المصنف عني ببيان هذه المسألة، وأنها مسألة فطرية عقلية شرعية؛ ولهذا استدل بعد ذلك بشعر أمية بن أبي الصلت مع أنه رجل لم يسلم، وإن كان أدرك النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يؤمن به، وقد كان متحنفاً، وله إصابة في التوحيد مجملة لكنه لم يدخل في دين الإسلام.. فلهذين الغرضين عني المصنف بهم.

    إذاً المقصد الثاني، وهو ذكر مسألة العلو لغرضين:

    الأول: لأنها مسألة أصل عند السلف وعند الطوائف، فالتحقيق فيها يتحصل به تحقيق في جمهور الصفات.

    الثاني: لأن متأخري الأشاعرة نفوها وقدماءهم كانوا يثبتونها، وزعم بعض متأخريهم -أعني الأشعرية- أن إثباتها مختص بالحنبلية والكرامية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088536200

    عدد مرات الحفظ

    777190333