إسلام ويب

شرح الحموية [9]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من القواعد التي يذكرها العلماء في باب الصفات: أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فمن أثبت لله تعالى السمع والبصر ونحوهما فيلزمه أن يثبت باقي الصفات كالعلو والاستواء ونحوها، وإلا فإنه متناقض فيما يثبته وينفيه، وإن زعم أن العقل يدل على ما ذهب إليه، فإن العقل الصريح موافق للنقل الصحيح، وليس فيهما ما يوجب مخالفة العقيدة السلفية أصلاً، وإن نفوا الصفات بحجة التأويل فإنها حجة باطلة داحضة، معلومة الفساد من أوجه كثيرة.
    قال المصنف رحمه الله: [والقول الفاصل: هو ما عليه الأمة الوسط: من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك].

    يستعمل المصنف رحمه الله هذه الصفات لأن الرسالة موجهة -في الغالب- لمتأخري الأشاعرة؛ لأن متأخري الأشاعرة يقرون بهذه الصفات: العلم والقدرة والسمع والبصر. فيقول لهم: كما أنكم أقررتم بهذه الصفات ولم يلزم من الإقرار بها أن تكون كصفات المخلوق فكذلك القول في الاستواء وبقية الصفات.

    العقل قوة غريزية لها حد

    [ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، وكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها.

    واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريق السلفية أصلاً].

    هذا معنىً فاضل: أنه إذا قال قائل: الدليل العقلي يكون كذا.

    نقول: العقل لا يعارض النقل، والتعبد إنما هو بالنقل وليس بالعقل، ولكن إذا قلنا: التعبد بالنقل وليس بالعقل؛ فلا يعني هذا أن العقل فيه دلائل يتعذر على السالك مسلك النقل أن يجيب عنها، وإن كانت بعض ما جاءت به الشريعة يتعذر على العقل أن يدركه على التفصيل، وهذا لا إشكال فيه، ولهذا قال شيخ الإسلام : الرسل قد تخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول . ومعنى قوله: محارات العقول أي ما يتحير العقل في إدراك تفصيله، ومعنى قوله: بمحالات العقول أي: ما يستحيل في العقل أو يمنعه.

    وليس غريباً أن يقال: إن العقل قد يتحير أو يعجز عن إدراك التفصيل؛ لأن العقل قوة بشرية خاصة وقوة غريزية في الإنسان له حد، كما أن السمع في الإنسان له حد، والبصر في الإنسان له حد، والذوق في الإنسان له حد، والشم في الإنسان له حد، فكل قوة في الإنسان لها حد، فكذلك هذه القوة الباطنة وهي قوة الإدراك والعقل هي أيضاً قوة لها حد، لكن بحكم أنها غير مشاهدة -أي: ليست حسية- قد يصعب إدراك هذا.

    فأنت تعرف أن لبصرك حداً؛ لأنك تبصر به، ولهذا لا يوجد شخص عنده شبهة في أنه يبصر وهو لا يبصر، أي: لا تكون عند شخص شبهة يقول: أنا أبصر. فنقول: لا، أنت لا تبصر؛ لأن هناك أدلة متناقضة ومتعارضة على أنه يبصر أو لا يبصر؛ لأنها قضية حسية، لكن لأن العقل ليس قضية حسية يقع الوهم عند الكثيرين أنهم يدركون بعقولهم، مع أن العقل في نفس الأمر واقف عما يتكلمون في إدراكه، سواء من يدعي ذلك في مسائل الصفات وغيرها أو حتى من يدعي ذلك في مسائل التشريعات؛ حيث يدعي البعض أن الحكم الشرعي الفلاني لا يناسب العقل، أو أن الحد الفلاني لا يناسب العقل.

    فهذه الحدود الشرعية التي قد يراها كثير من الناظرين أنها قوة على الإنسان أو شدة على الإنسان، أو كما يصنفها الكفار بأنها غير مناسبة للإنسانية نجد أنها في القرآن تذكر على أنها هي الموافقة للطبيعة البشرية؛ لأن البشر لو لم يحدوا بهذه الحدود لحصل بينهم من الفساد والتعدي ما لا ينبغي، ولهذا كان قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179] وكان قوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27]ثم قال: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28] حتى بالحدود يخفف عنهم فقال: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28] فترى أن هذه الحدود -التي هي كفارات كما وصفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم - هي تخفيف على الإنسان، وضبط لميزان الإنسانية والبشرية؛ ولهذا إذا خلا منها مجتمع من المجتمعات يحصل فيه من العدوان والضلال والبغي ما لا ينبغي.

    لا يمكن أن يكون العقل مصدراً للتلقي

    [لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة على الحق. فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير.

    ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة -من المتأولين لهذا الباب- في أمر مريج، فإن من أنكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها].

    بدأ المصنف هنا يضرب أمثلةً، وهي أنهم يقولون: تعارض العقل والنقل. فيقول: إن العقل الذي يزعمونه معارضاً للنقل يضطربون فيه، فالمعتزلة يقولون: إن العقل يحيل الرؤية. في حين أن جمهور الأشاعرة يقولون: العقل يدل على ثبوت الرؤية.. وهلم جرا.

    [وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علماً وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: أن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل].

    بمعنى أنه لا يمكن أن يكون العقل مصدراً للتلقي؛ لأنه لا يمكن أن ينضبط، والدليل على ذلك: أن من هؤلاء الطوائف الذين استعملوا العقل من يثبت شيئاً بالعقل ويزعم الآخر أن العقل ينفيه، فالأشاعرة -مثلاً- تقول: الحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة صفات تثبت بالضرورة العقلية.. لكن المعتزلة تقول: إن هذه الصفات منتفية بالضرورة العقلية. ويقول المتكلمون: نعيم الجنة يثبت بضرورة العقل، لكن المتفلسفة تقول: هذا النعيم لا يثبت بضرورة العقل، بل العقل يدل على نفيه.. وهلم جرا.

    إذاً: الدليل على أن العقل ليس دليلاً ومصدراً للمعرفة الحقة أن من شرط الدليل الحق -وهذا قاعدة-: أن يكون قابلاً للاطراد إذا أُحسن النظر فيه، والعقل لا يمكن أن يكون قابلاً للاطراد مهما وقع النظر فيه على جهة من الحسن؛ لأن العقل يغلب عليه إشكالان:

    الأول: أنه يغلط فيه من يغلط.

    الثاني: أنه لا يمكن أن يطرد؛ لأن العقل قوة قاصرة.

    إذاً: يمتنع أن يكون دليلاً؛ لأنه لا يقبل الاطراد من جهة قصوره ومن جهة اختلاف الناظرين فيه، حتى لو افترضنا جدلاً أن الناظرين يتفقون في العقل فنقول: يمتنع أن يكون دليلاً مطرداً؛ لأنه لا يقبل الاطراد؛ وذلك لأن العقل قوة قاصرة، كما أن البصر قوة قاصرة، فلا يمكن للإنسان أن يبصر ببصره كل شيء؛ فكذلك العقل لا يمكن أن يدرك به كل شيء.

    [ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل.

    ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء: أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل].

    وهذا دليل قاطع: أنه إذا تناقض المخالف تحت القاعدة الواحدة أو تحت الدليل الذي يزعمه دليلاً -وهو الدليل العقلي- وتناقضوا فيه دل على أن هذا الدليل الذي زعموه ليس دليلاً حقاً.

    [بل منهم من يزعم أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله.. فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟!].

    أي: هب أن القرآن يحتاج إلى تأويل عقلي، فبأي عقل هذا التأويل؟

    هل هو بعقل الأشاعرة أو بعقل المعتزلة أو بعقل الماتريدية أو بعقل المتفلسفة أو بعقل الكرامية أو بعقل المشبهة.. وهلم جرا من الطوائف؟

    وهذا يدل على أنه يمتنع أن يرد الله سبحانه وتعالى المعرفة إلى عقول متناقضة مختلفة، أو إلى عقول تلقت معقولها من قوم هم من أعظم من ناقض الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم المتفلسفة الذين بعث فيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

    وقد أسلفنا أن أجوبة السلف رحمهم الله في هذا الباب هي أسد الأجوبة، ولهذا من يقول: إن علماء السلف لم يشتغلوا بالردود العقلية. نقول: هم لم يشتغلوا بالردود العقلية حسب التنظيمات العقلية الاصطلاحية، لكن أن تكون جوابات السلف ليس فيها جوابات عقلية.. فهذا غلط على السلف، فقد تقدم معنا أن في جواب الإمام أحمد في مسألة العلو ومسألة القرآن أجوبة عقلية، وإن كان قد لا يستعمل فيها الاصطلاحات العقلية.

    والإشكال أن بعض طلبة العلم وبعض الشباب كما أن هذا وقع فيه بعض النظار: ظنوا أن الدليل العقلي هو الدليل الذي ينظم باصطلاحات الفلسفة أو المنطق أو علم الكلام، فإذا لم يستعمل ضمن الدليل كلمة الجوهر والعرض والهيولى.. إلخ ظن أن الدليل ليس دليلاً عقلياً، مع أن الأمر ليس كذلك، ولهذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: الدلائل العقلية معتبرة بمعانيها التي يقبلها العقل، وليس بترتيبها واصطلاحها، فإن التركيب والاصطلاح يختلف فيه الناس ، أما الترتيب فلأن العقول تختلف، وأما الاصطلاح فلأنه عبارة عن لسان، واللسان بين بني آدم يختلف، بخلاف المعنى المدرك؛ فإنه لا يختلف بين بني آدم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088542687

    عدد مرات الحفظ

    777226536