هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله لتقرير أصل خاص من أصول الدين، وهو: قدر الله سبحانه وتعالى ، والإيمان بقدر الرب سبحانه وتعالى أصل من أصول الإيمان، كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، وقال ابن عباس : (القدر نظام التوحيد).
والقدر هو: فعل الله سبحانه وتعالى وقضاؤه وإرادته ومشيئته في سائر ما يقع في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؛ فلا يقع شيء إلا بإرادته ومشيئته، وهذا الأصل مجمع عليه بين المسلمين، ولم يقع النزاع فيه من جهة أصله، بل حتى عامة الكفار الذين يقرون بالربوبية يقرون بهذا القدر من حيث الجملة، وأما عند التحقيق فإنه لا يحقق جانب توحيد الربوبية فعلاً إلا مسلم مؤمن بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، وفرق بين الإيمان بالربوبية المجمل عند المشركين، وبين الإيمان المفصل بالربوبية عند المسلمين.
تعتبر مسألة القدر من المسائل التي كثر النزاع فيها بين أهل القبلة، وهل أفعال العباد من قيام وقعود وطاعة ومعصية داخلة في قدر الله وقضائه؟ أم أنها مختصة بالعباد؟
بمعنى هل يقال: إن هذه الأفعال بإرادة الله ومشيئته وخلقه، أم أن العباد يستقلون بها؟ أم يقال: إن العباد قد أجبروا على أفعالهم ولا إرادة لهم ولا مشيئة أمام إرادة الله ومشيئته؟
المرتبة الأولى: علم الرب سبحانه وتعالى بأفعال العباد.
المرتبة الثانية: كتابته لها.
المرتبة الثالثة: إرادته ومشيئته عز وجل.
المرتبة الرابعة: خلقه لأفعال العباد.
وهذا ترتيب صحيح، ولكن إذا أردنا الكمال في تقرير مسألة القدر فإن الأولى أن يقال: إن هذه المسألة محصلة بأصول سبعة عند السلف، وممن نص على هذه الأصول الإمام ابن تيمية رحمه الله ، وهي كما يلي:
الأصل الأول: الإيمان بعموم علمه سبحانه وتعالى بكل شيء في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؛ فعلم ما كان وما سيكون، وقد دخل في عموم علمه: علمه سبحانه وتعالى بأفعال العباد قبل كونها، فيعلم ما هم فاعلون، وما تصير إليه أمورهم وأحوالهم، وهذا أصل شرعي عقلي فطري من أنكره فإنه زنديق كافر، وهو مما لم ينكره أحد من المسلمين، حتى أن القدرية المعتزلة أقروا بهذا الأصل إجمالاً.
فإن قيل: إن غلاة القدرية أنكروا هذا الأصل.
قيل: إن المراد بالغلاة هم من ينكر علم الرب بما يكون من أفعال العباد، ويقولون: إنه لا يعلمها إلا عند وقوعها، وهؤلاء ليسوا مسلمين، بل زنادقة منافقون، وإن زعموا الانتساب للإسلام، وكفرهم أعظم من كفر اليهود والنصارى؛ لأن في قولهم هذا إبطال لمقام الربوبية والألوهية؛ لأن الإله المعبود لابد أن يكون هو الرب المتفرد بالملكوت والتدبير والعلم والإرادة.
فإن قيل: هذا القول ما منشؤه؟
قيل: هذا قول قوم من غلاة الفلاسفة الملاحدة نقل إلى من يزعم الانتساب إلى الإسلام، وأما حكم القائلين به فهو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "منافقون نفاقاً علمياً في انتسابهم للإسلام، وإلا فهم قوم زنادقة" وقد أجمع السلف على تكفيرهم بأعيانهم، ولا يلزم أن تقام عليهم الحجة؛ لأن الحجة قائمة عليهم ضرورة، فإن هذه المسألة لا يمكن أن يحصل فيها اشتباه لكونها مستقرة بالفطرة والعقل والشرع.
الأصل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى كتب في الذكر (اللوح المحفوظ) كل شيء، وقد دخل في عموم كتابته سبحانه وتعالى كتابته لأفعال العباد، وفي حديث عبد الله بن عمرو في الصحيح: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).
مسألة: هل الكتابة لأفعال العباد أصل عرفناه بالعقل والشرع أم بالشرع فحسب؟
الجواب: بالشرع، وإن كان العقل بعد خبر الله بها لا ينفي شيئاً من ذلك؛ فإن العقل لا يعارض النقل.
وهذا الأصل أقر به سواد المسلمين، ولم ينكره إلا قوم من غلاة القدرية، وهو دون الأصل الأول في المقام.
الأصل الثالث: الإيمان بعموم إرادة الله تعالى ومشيئته النافذة، فلا يقع شيء في ملكوت السماوات والأرض إلا وقد أراد الله سبحانه وتعالى وقوعه بمشيئته، وقد دخل في عموم إرادته ومشيئته إرادته لأفعال العباد طاعة أو معصية، خيراً أو شراً، عبادة أو عادة.
الأصل الرابع: الإيمان بأن الله خالق كل شيء، وقد دخل في عموم خلقه سبحانه وتعالى خلقه لأفعال العباد؛ لأن الشيء إما أن يكون خالقاً وإما أن يكون مخلوقاً، ولا شك أن الخالق هو الله وحده وما سواه مخلوق.
وهذا من طرق جدل المعتزلة والقدرية المنكرين لخلق أفعال العباد، أن يقال لهم: ما من شيء موجود إلا وهو أحد أمرين: إما أن يكون خالقاً، وإما أن يكون مخلوقاً، فإذا كان لا يوصف بأنه خالق إلا الله تعالى لزم أن يكون كل ما سواه مخلوق، والعباد ليسوا خالقين، وإنما هم أهل فعل كما وصفهم الله بأنهم فاعلون مصلون مزكون صائمون إلى أمثال ذلك من الأفعال.
وقد أنكرت القدرية من المعتزلة وغيرهم الأصل الثالث والرابع، وهذه هي البدعة التي اشتهرت عند طائفة من أهل القبلة، وهي: القول بأن أفعال العباد لم يردها الله، ولم يشأها، ولم يخلقها.
الأصل الخامس: الإيمان بأن للعباد مشيئة وإرادة في أفعالهم لكنها تابعة لمشيئة الله وإرادته، والإيمان بأن هذه الإرادة والمشيئة على الحقيقة وليست على المجاز كما يقول بعض الأشاعرة، فإن الله أثبت إرادة العباد في مثل قوله: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28]، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، فذكر أن إرادتهم متنوعة ومتعددة، وذكر أن أصحاب الآخرة بإرادتهم، وأصحاب الدنيا بإرادتهم، وهذا المقام -أعني: مشيئة العباد- ينكره الجبرية القائلون: إن العباد مجبورون على أفعالهم، وكذا ما يقوله أهل الكسب من الأشاعرة.
وأما قول السلف فيها فهو قول وسط بين طائفتين:
الطائفة الأولى: القدرية تقول: إن للعباد مشيئة مستقلة عن مشيئة الله وإرادته.
الطائفة الثانية: الجبرية تقول: إن العباد لا مشيئة لهم ولا إرادة.
وأهل السنة يقولون على قوله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]: إن للعباد مشيئة وإرادة ولكنها تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته.
الأصل السادس: الإيمان بعموم حكمته سبحانه وتعالى ، وأن سائر أفعاله لحكمة، فعذاب المعذبين وثواب المصلين الطائعين المؤمنين، وما يقع في الكون من الحوادث وإن ظهر لبعض الناس أنها شر فإن الشر لا يضاف إليه سبحانه وتعالى ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)؛ فكل ما يقع في هذا العالم من الحوادث فإنها لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى ، ولا يكون في ملكه وملكوته سبحانه شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، أو لا يستلزم خيراً؛ فإن سائر ما يقع إما أن يكون خيراً محضاً، وإما أن يكون متضمناً أو مستلزماً للخير.
مثال ذلك: قتال الكفار للمسلمين، فأصل فعل الكفار شر، لكنه استلزم خيراً وهو مجاهدة المسلمين لهم، وإقامة ذكر الله، وإعلاء كلمته، إلى أمثال ذلك.
وهنا يقال: إن كل ما يقع في هذا العالم فإما أن يكون خيراً محضاً كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يكون متضمناً للخير كالولد، ولهذا جعلهم الله نعمة وجعلهم فتنة، وإما أن يكون مستلزماً للخير وإن كان في مبدئه أو في ظاهره شيء من الشر، ولهذا لما طعن على عائشة رضي الله عنها ، ورماها المنافقون بالزنا، وكان في ظاهره ومبدئه شر وتعدٍ نزهها الله في كتابه، فقال: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]؛ لأن به حصل شيء من المنافع لهم، منها: امتياز المؤمنين عن غيرهم، ومنها: تبرئة أم المؤمنين وتفضيلها وتقديمها. وهذا ظاهر، وهذا هو معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك)، وهذه الكلمة تكلف بعض الشراح حتى أهل السنة المتأخرين في شرحها، وهي من البينات والهدى الذي لا إشكال فيه؛ فالله سبحانه وتعالى منزه عن الشر، ولا يضاف إليه الشر بحال من الأحوال، وكل ما يقع في هذا العالم مما ظاهره الشر ففيه مصلحة وخير من وجه آخر.
الأصل السابع: الإيمان بأن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، ولا حجة لأحد من الخلق على الله، بل لله الحجة البالغة على خلقه. وهذا المقام هو ما يسمى بمقام الجمع بين الشرع -أمر الله ونهيه- وبين القدر، وأن القدر ليس حجة على إسقاط الأمر والنهي، وهذه المسألة -أعني: مسألة الاحتجاج بالقدر على المعصية- يأتي الكلام فيها إن شاء الله.
هذه هي الأصول السبعة الجامعة لمسألة أفعال العباد ومقامها في قدر الله وقضائه، وهي أصول أجمع عليها السلف، ومنها يظهر لنا أن السلف خالفوا بها غلاة القدرية في الأصل الأول والثاني، وخالفوا مجمل القدرية من المعتزلة وغيرهم في الأصل الثالث والرابع، وخالفوا الجبرية والقدرية وبعض الأشاعرة في الأصل الخامس، وخالفوا الجبرية الذين ينفون الحكمة في أفعال الله في الأصل السادس، وخالفوا المنحرفة من الصوفية الذين لم يحققوا الجمع بين الشرع والقدر في الأصل السابع، فهذه الأصول هي امتياز أهل السنة عن سائر طوائف أهل البدع في مسألة أفعال العباد ومقامها في قدر الرب سبحانه وتعالى.
هذه الرواية من حديث ابن عمر حدث بها عن أبيه عمر رضي الله عنهما، وهذا هو حديث جبريل المعروف، وقد اتفق العلماء على قبول هذا الحديث وصحته، وفيه ذكر أصول الديانة. فإن الإيمان والإسلام والإحسان، ولما ذكر الإيمان ذكر جملة من الأصول التي يقع بها التصديق، ويقع بها اعتبار القلب، ولما ذكر الإسلام ذكر فيه أصول الشرائع الظاهرة، وهي: الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ولما ذكر الإحسان ذكره على مقام تحقيق العبادة والديانة؛ ولهذا يقال: إن هذا الحديث جامع لمسائل أصول الدين، فقد ذكر فيه الأصول القلبية الباطنة والأصول العملية الظاهرة، وكذا ذكر العبادة ومنهجها الشرعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه)، فهذا الحديث جامع لسائر مسائل أصول الدين.
ويريد المصنف بذكره له هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من أصول الإيمان الإيمان بالقدر خيره وشره، ولا يراد من ذلك أن في أفعال الرب سبحانه وتعالى شر محض، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)، وهذا الشر باعتبار حال الفعل، وباعتبار حال الفاعل، فإن الفعل في نفسه يسمى شراً، ومعلوم بإجماع أهل السنة أن الخالق لأفعال العباد هو الله، إلا أنه ليس معناه أن الله هو الفاعل لها، تعالى الله عن ذلك، بل الفاعل للفعل هو العبد، والمصلي والصائم والمزكي والمجاهد، وفي المقابل: السارق والزاني وشارب الخمر هم العباد، فأفعال العباد هي أفعالهم، وإن كان الله سبحانه وتعالى خالق لها، فثمة فرق بين مقام الخلق لأفعال العباد، وبين مقام أن العباد فاعلون لأفعالهم، ولذلك ما عبر به بعض الشراح من أن أهل السنة يقولون: إن الله هو خالق أفعال العباد، وأنه الفاعل لها، فهذا ليس صحيحاً، فإن كلمة الفعل لم تستعمل عند السلف إنما يستعملون كلمة الخلق؛ لأنها الكلمة الشاملة في القرآن، أن الله هو الخالق لكل شيء، وأما كلمة الفعل فإنها معلقة بالإرادة في قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]، ولهذا فالفعل من جهة أفعال العباد هو أفعال العباد، ولهذا وصفهم الله بأنهم: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ [التوبة:112].
إذاً: ليس في أفعال الله سبحانه ولا في خلقه ما هو من الشر المحض بل هو من جنس قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]، فإنه وإن رميت عائشة رضي الله عنها بالزنا إلا أنه من الإفك والباطل والشر، ولهذا قال الله في كتابه: (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ) ، فهو مضاف، مما يدل على أن أوجه الإضافة تتعدد، فالفعل باعتبار ما وقع من بعض الإضافات يكون شراً، وباعتبار حال سواد المسلمين ليس شراً، ولهذا لم يقل: (لا تحسبوه شراً) وإنما قال: (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ) فهذه إضافة تبين المقصود بذلك.
ثم إن كلمة (الشر) في استعمال أهل اللغة، واستعمال صاحب الشريعة محمد صلى الله عليه وسلم أعم من كلمة (الشر) الذي يراد بها الفجور والفسوق، كما جاء في حديث ابن مسعود : أنهم أدركوا حية بمنى وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فابتدرها القوم ليقتلوها، فذهبت فلم يدركوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقاها الله شركم كما وقاكم شرها)فقوله: (وقاها الله شركم) مع أن قتلهم إياها لم يكن شراً على معنى الفسوق أو الفجور أو ما إلى ذلك.
قال الموفق رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره)، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت)] .
هذا الدعاء رواه الإمام أحمد وغيره وهو حديث حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الحسن بن علي رضي الله عنهما ذلك، وفي جملة هذا التعليم من النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (وقني شر ما قضيت)، وهذا يرجع إلى القاعدة السابقة في تفسير معنى الشر، وأن الله سبحانه لا يضاف إليه الشر، وإنما الشر يكون باعتبار الفعل، أو باعتبار الفاعل، ولذلك ما من أمر هو شر باعتبار الفعل إلا ويمكن إضافته بوجه آخر يكون خيراً، وهذا هو الذي جاء ذكره في القرآن والسنة.
من أصول أهل السنة الجمع بين الشرع والقدر، وهذا من أشرف الأصول في الديانة؛ فإن من أسقط الشرع بالقدر فهذا حجته من جنس حجة المشركين الذين قالوا فيما ذكره الله عنهم في غير مقام في القرآن: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148]، فهذا هو معنى إسقاط الشرع بالقدر، أي: أنهم قالوا: إن الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب علينا الشرك، وقدره علينا، وسبق هذا القضاء والقدر قبل أن يخلق الخلق، فهل أن الله كتب عليهم الشرك وقدره، وعلم أنهم سيشركون، هذا صحيح؛ لكنهم جعلوا هذا العلم المسبق وهذه الإرادة والمشيئة والكتابة السابقة جعلوها حجة لهم على الله؛ وقد سمى الله هذا الاستدلال من المشركين في كتابه كذباً، قال الله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأنعام:148]، والتكذيب هنا يراد به أحد أمرين:
- إما أن هذه الحجة لا تعد حجة بل هي كذب.
- وإما أن هذا هو طريق تكذيب من كان قبلهم.
وعلى المعنيين فإن هذه الحجة إما أن تكون كذباً مطابقاً أو متضمناً، أو مستلزماً للكذب.
ووجه كونها كذباً؛ لأنها خلاف ما في نفوسهم، وفيها هوى.
وقد يقول قائل: لعلها حجة قد اقتنعوا بها؟
والصواب ليس كذلك، بل هي خلاف ما في نفوسهم من جهة أنهم يعلمون أن القدر والمشيئة في قولهم: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148]مختصة بسائر أحوالهم لا بشركهم فقط، فكما أن شركهم بقدر وبمشيئة الله وعلمه، فكذلك أكلهم وشربهم ونكاحهم وتوارثهم، وقتالهم وقتلهم.. إلى آخر أمورهم.
ولا بد أن يعلم أن من أقر بالقدر من المشركين أقروا به في الجملة، لا على التحقيق والتفصيل، فإن التحقيق والتفصيل دائماً لا يقع إلا لأتباع الأنبياء.
مسألة: الإقرار بالقدر هل يراد به في مسائل الشرائع؟ أم في سائر أفعال العباد خيرها وشرها؟ أم يختص في مسائل التكليف والتشريع؟ أم أن القدر يعم جميع أفعال العبد؟
الجواب: إن القدر يعم جميع أفعال العباد، ولذلك من جعل القدر حجة على ما يريد لا يسلم له ذلك، كمن جعل القدر حجة على ترك التوحيد، كما هي حجة المشركين، أو حتى على ترك بعض الشرع، كما هي حجة بعض العصاة، مما يزينه الشيطان لهم يقال له: لمَ لم تصلِّ؟
فيقول: هذا قدر الله.
ويقال للسارق: لم سرقت؟
فيقول: إن الله قدر عليَّ ذلك.
فقوله: "إن الله كتب عليَّ ذلك قبل أن أخلق"، صحيح أنه كتب على هذا السارق أنه سيسرق، وعلم سبحانه وتعالى قبل خلقه أنه سيسرق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض...)إلخ، ولكن الغلط في كونه جعل القدر السابق حجة على ترك الشرع.
فإن من يعرض له هذا في بعض الواجبات من عصاة المسلمين، لو قيل له: إن فلاناً قتل ابنك، وأنه لا يحق لك أن تجازيه أو تعاقبه على قتله؛ لأن قتله لابنك كان قدراً، كان بين أحد أمرين: إما أن يسلم أن هذا قدر ولا يجازيه، وإما العكس فيكون من باب القناعة في النفس أن القدر ليس حجة لأحد، فإذا كان القدر ليس حجة للقائل في قتل القتيل، فكيف يكون القدر حجة للعاصي على ترك أمر ربه. ولهذا يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (إن الاحتجاج بالقدر لم يذهب إليه عند التحقيق واحد -ليست طائفة- من العقلاء) لماذا؟
لأن الشخص لو احتج بالقدر وطبقه باطراد ربما يكون عند الناس أبلغ ممن هو في درجة الجنون، حتى المجنون لا يرضى بهذا؛ لأنه يلزمه أمور كثيرة، من يضربه يلزم أن يقر بالضرب؛ لأن الضارب إنما ضرب قدراً، ويلزمه أن من قتل ولده لا يجازيه؛ لأن القتل كان قدراً، وأن من سرق ماله لا يجازيه؛ لأن من سرق ماله إنما سرق قدراً، وهلم جراً، فلا تجد شيئاً إلا وهو داخل في القدر.
إذاً: إذا كان القدر ليس حجة للعباد بعضهم على بعض، فمن المتعذر عقلاً أن يكون القدر حجة لأحد من العباد على الله.
قاعدة: ما من أصل من الأصول تقرر ثبوته إلا وثبوته بالشرع والعقل، وما من معنىً تقرر نفيه بالضرورة الشرعية إلا ويعلم نفيه بالعقل، لكن دلائل الشرع في الجملة هي على قدر من التفصيل، بخلاف دلائل العقل فقد يلحقها في كثير من المقامات قدر من الإجمال.
فمثلاً: مسألة الاحتجاج بالقدر هي حجة داحضة، وليست بشيء لا عقلاً ولا شرعاً، ويلزم من ذلك: أن يكون عذاب المشركين والجهاد من المسلمين للمشركين، وغير ذلك من الأحكام الكونية والشرعية.. يلزم على هذا أن تكون ظلماً، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك.
الحجة قامت بالرسل والقرآن، وفي كتاب الله تقرير كثير في كون الحجة إنما تكون بالرسل عليهم الصلاة والسلام، ولهذا من لم يدرك رسالة ولا نبوة، وانطمست عليه المعالم؛ فهذا يفوض أمره إلى الله، كأهل الفترة الذين ماتوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدركوا توحيداً صريحاً ولا شريعة صحيحة، ولا يقال: إنهم في الجنة أو النار، بل يقال: إن مردهم إلى الله تعالى، ولا يشكل على ذلك ما ثبت في الصحيح أن رجلاً قال: (يا رسول الله! أين أبي؟ قال: في النار، فلما ولى قال: إن أبي وأباك في النار)، فهذا الحديث فيه أن أباه عليه الصلاة والسلام في النار، مع أنه توفي في الفترة، فهل هذا يدل على أن سائر من كان حاله كحال أبي النبي ومن كان في الفترة يكون في النار؟
الجواب: لا، هذا قياس فاسد، بل الصواب: أن هذا خبر مختص بأبي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأما بقية أهل الفترة فإنه لا يلزم فيهم ذلك، بل أمرهم إلى الله، مع أنهم كانوا في حقيقة حالهم يرتكبون الشرك الأكبر، لكن لا يقال: إنهم في النار؛ لأن الله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]، ويقول: لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، فالرسل لا بد من قيام حجتهم، ولا تقوم الحجة -كما يقرره بعض المتأخرين- بالفطرة السابقة المذكورة في قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]، أو بالعقل؛ مع أن الفطرة والعقل يدلان على التوحيد والإيمان، لكن حجة الله لا تقوم على العباد إلا بالرسالة.
وهنا مسألة وهي: استعمال الأسماء في القرآن، ودلالتها على المقصود، ويتفرع عنها: هل الجهل حجة أم ليس بحجة؟
الجواب: هذا فيه تفصيل، وكما يقرر ابن تيمية رحمه الله: "أن جمهور الأسماء أصبحت عند المتأخرين مجملة، وصار يراد بها أكثر من معنى".
من يقول: إن الجهل ليس عذراً أو ما إلى ذلك. ما دليله؟
الجواب: دليله أن ينظر في مواضع من كتاب الله فيجد أن الله وصف الكفار الذين توعدهم بالنار والعذاب والخلود في النار، مع أنه وصفهم بالجهل، كقول الله تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]، فيقول بعض من يقرر هذه المسائل: إن هؤلاء وافوا ربهم بالكفر وعلى هذا الشرك، فدخلوا النار، مما يدل على أنهم ما عقلوا ولا انضبط سمعهم، فتكون نتيجة مثل هذا النظر في كلام الله: أن الكفار حكم الله عليهم بالخلود في النار مع أنهم جاهلون، وليسوا على عقل وسمع حقيقي أو تام للقرآن.
وهذا غلط في الفهم، وليس الذي يراد بآيات الكتاب هذا المعنى.
ونجد في الطرف الآخر من المسألة من يبالغ في تقرير مسألة الحجة، وأن الكفر لا بد له من كذا وكذا، ثم يضع شروطاً متكلفة في ثبوت الكفر، ويستدل في مقابل القول الأول بأن الله وصف الكفار بالجهل وعدم العقل، وأن ثمة آيات من كتاب الله فيها وصف الكفار بالمعرفة التي تقابل الجهل، كقوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، وقال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14].
وهنا يقع نوع من التردد عند من يجمع المقامين، إلا أن من ينظر إلى المسألة من زاوية واحدة ولا يتصور السياق الثاني.
إذا قيل له: ما حكم أهل الفترة؟
يقول: في النار.
فيقال: لكن ما بلغتهم الحجة؟
فيقول: لا، الحجة الفطرة السابقة، والعقل، ولا يلزم العلم.
فيقال: متى تقوم الحجة على الإنسان؟
فيقول: بمجرد أن يسمع آية من القرآن ولا يسلم بها فإنه تقوم عليه بها الحجة.
فيقال: هل يلزم المعنى؟
فيقول: لا يلزم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد أن يسمع العرب منه آية من القرآن أو دعوة واحدة كان يكفيهم سواء عقلوا أو لا.
فيقال: هذا تخرص، ما معنى أن القرآن حجة على الناس؟ وما معنى أنه بينات من الهدى والفرقان؟ وأن العرب كانوا يدركون جملة أن الدعوة تدعو إلى توحيد الله؛ ولذا قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً [ص:5]؟
فيقال جواباً لهذا: هم كانوا مدركين ومتصورين له على التمام، فهم قبل البعثة كانوا إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فكان هدف النبوة أو مقصودها واضحاً أمامهم، دعك من كونهم لم يتصوروا جملة الشرائع وما إلى ذلك، لكن مقصود الديانة الأول الذي به يحصل الدخول في الإسلام كان مقصوداً واضحاً، وهو أن الله هو الواحد المعبود، وهم يفهمون هذا ويطبقونه أحياناً إذا ركبوا في الفلك.
يقول ابن المنذر : "إن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب العرب بالإسلام ولم يسأل من عقل ومن لم يعقل، وكان يقاتل الكفار وهو لم يتأكد هل قامت عليهم الحجة أو لم تقم عليهم الحجة".
ومسألة قيام الحجة ليس معناها أنك تتكلم مع كل شخص وحده: هل قامت عليه الحجة أو لم تقم؟ فالمعنى الذي يراد في سائر النبوات والشرائع: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، فهذا هو المقصود ذكره، وهو متحقق عند جملة الكفار الذين بعث فيهم الرسل، ولكنهم كذبوا به ولم يأتمروا بأمره.
إذاً.. مسألة العلم أصل في ثبوت الإيمان، وكما أن العلم يكون أصلاً في ثبوت الإيمان فإنه لا بد من اعتباره في ثبوت الكفر، كما ينبغي أن تعلم أن الأسماء في كتاب الله فيها تنوع بحسب السياق، ولا يجوز قطع الآيات عن سياقها، وكذلك لا بد من اعتبار القدر المراد في مراد الله ورسوله بالأسماء وبين مراد أهل الاصطلاح الذي قد يكون وجهاً في اللغة لكن اللغة تجيزه ولا توجبه، مثل الجهل ماذا يراد به في كتاب الله؟
وأحياناً يراد بالجهل في كتاب الله -وهو الغالب على مسائل الكفر والإيمان والمخالفة- فوات علم القبول، ألا ترى أن الله يقول: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] فالسياق هنا من جهة بلاغة اللغة فيه قصر وحصر بـ:(إنما)، فالله قصر التوبة على من يعمل السوء بجهالة، ومفهوم هذا السياق أن من لم يعمل السوء بجهالة لا يتاب عليه، والمفهوم ليس له وجود.
لأنه لا يمكن أن يوجد شخص يعمل السوء إلا وهو يعمله بجهالة؛ خصوصاً إذا فسرنا الجهالة بفوات علم القبول، ولهذا قال أبو العالية : سألت أصحاب محمد عن هذه الآية فقالوا: [كل من عصى الله فهو جاهل] ، أي: كل من ترك الائتمار بالعلم الذي عرفه فقد سمي جاهلاً؛ لأن العلم النظري له لوازم، وإذا عدم اللازم عدم الملزوم.
تقول مثلاً: العلم في تحريم السرقة له لازم شرعي وهو الكف عن السرقة، فإذا ما سرق وهو يقول: إني أعلم أن السرقة حرام ترك اللازم، وفوات اللازم يستلزم فوات الملزوم، ولهذا يصح أن يسمى جاهلاً، ولهذا فإن العلم في كلام الله يراد به تارة علم القبول، وتارة يراد به علم الإدراك والمعرفة واليقين كذلك، ولهذا لما قال الله عن اليهود: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، هذا علم إدراك.
وهنا قاعدة: كل علم أو معرفة أو يقين وصف به جنس من الكفار فيراد به علم الإدراك، وكل علم ذكر في القرآن أو السنة مضافاً إلى المؤمنين فهو علم القبول.
ولهذا جاء في صحيح مسلم وغيره عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)وهذا الحديث عام يخصصه حديث ابن مسعود : (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وحديث أبي أمامة الحارثي : (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)، فنحن إذا وضعنا هذه السياقات أمام سياق: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)، هل يقال: الوعيد يراد به التغليظ وليس الحقيقة؟ أو يقال -كقول المتأخرين-: هذا له شروط، فإذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع حصل الوعد؟
الجواب: لا. بل أحاديث الوعد على ظاهرها، وأحاديث الوعيد على ظاهرها، لكنها تحتاج إلى تأمل لطيف من جهة اللغة، ولهذا لم يقع هذا الإشكال لصحابي واحد؛ لأنهم كانوا يفقهون اللغة، ويدركون مراد صاحب الشريعة.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)، جملة (وهو يعلم) حالية.. لكن قد يرد إشكال وهو أن صاحب الكبيرة قال الله فيه: (بِجَهَالَةٍ) إذاً: اجتمع له مقام من العلم ومقام من الجهل، فإذا كان بمعصيته جاهلاً يكون علمه ناقصاً؛ فإذا نقص علمه تأخر ثوابه بحسب النقص، وقد يعذب وقد لا يعذب، ولكنه يؤخر عن الجنة.. إلخ.
إذاً.. معنى الحديث أنه قد يعذب إذا ما قصر في العلم، لكن لا بد أن يعلم أنه لا يوجد في الشريعة من يحقق هذا العلم ثم يدخل النار، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) فإن معناه: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، لكن عندما يزول أثرها عن القلب إما بالتوبة، أو بحسنات ماحية، عندها يدخل الجنة.
يقول ابن تيمية : "لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة) كان لفظه واضحاً ولا يحتاج إلى تأويل، أي: أنه إذا دخل الجنة لا يدخل وفي قلبه أثر ذنب من الذنوب التي سماها الشارع، وما زال الأثر إلا بسبب توبة، أو زال بحسنات ماحية، كما قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، أو زال بالشفاعة.. إلى غير ذلك من المكفرات".
نعم! السلف أجمعوا على أن لا يقال: إن الحسنات تطرد بتكفير الكبائر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة.. كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر) وهذا ليس مشكلاً ودليلاً على أن الصلاة لا تكفر الكبائر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا التكفير المطرد، وهذا الحديث هو الذي أشكل على أكثر المتأخرين، وفسروا حديث: (من حج فلم يرفث...)أنه في الصغائر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه...)في الصغائر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن العاص : (الهجرة تهدم ما كان قبلها) في الصغائر، و: (الحج يهدم ما كان قبله) في الصغائر، بل الله يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، يقولون: في الصغائر. من أين هذا؟
ومن زعم أن هذا إجماع السلف فقد غلط، إنما السلف أجمعوا على أن التكفير المطرد يكون بالتوبة، وأما التكفير العارض فيكون بأسباب كثيرة، ومنها: الحسنات؛ كالصلاة والجهاد والحج... إلخ.
وأما قوله: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة... كفارة لما بينهما)فالشارع هنا يذكر التكفير المطرد؛ لأنه يقول: كفارة لما بينهما، هل قال: لبعضها، أو قال: لما قد يعرض؟ أو قد تكفر؟ إنما قال: (كفارة لما بينهما)، وهذا تكفير مطرد عام للصغائر ولا شك، لكن هل يمنع أن الصلاة تكفر كبيرة من الكبائر؟
لا يمنع ذلك، وليس في القرآن ولا السنة نفي ذلك، بل في الكتاب والسنة تقرير ذلك، كما في الصحيح عن عمرو بن العاص لما أتى يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يده، قال عمرو : (فقبضت يدي، فقال: ما لك يا
لا. بل قال عليه الصلاة والسلام: (يا
أما المتأخرون في الغالب فإنهم يشتغلون بفرضيات نظرية لا وجود لها في الخارج، فلو حقق الحج أركان الإسلام بصدق ظاهراً وباطناً هل هو من أصحاب الكبائر؟ لا. يستحيل أن يوجد مثل هذا في الواقع، فالنبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن قراءة الخوارج، وقال: (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم)، مع أنه قال: (وقراءتهم خير من قراءتكم) أي: من جهة الأحوال الظاهرة التي قد يراها الناس، وقال: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم)، ومع ذلك فإن الأعظم والأضبط في الإيمان وتحقيقه هم الصحابة رضي الله عنهم ، فصلاة الصحابة وصيامهم وقراءتهم هي المحققة والمؤثرة، فقضية الاعتبار بالظواهر تتمثل في أهل البدع، فهو يحسن الصلاة، أو الحج، إلا أنه يأتي الكبائر.
فالتحقيق تحقيق في الظاهر وتحقيق في الباطن، وتحقيق الباطن معناه ثبوت أمرين:
الأمر الأول: متابعة السنة، وصاحب البدعة ليس على سنة في كثير من أفعاله.
الأمر الثاني: الإخلاص لله، وهذا هو العمل الحسن المذكور في قوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، أي: يكون خالصاً صواباً، ظاهراً وباطناً، ولذلك يقول الله في القرآن: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]؛ لأن من حققها نهته.
فهذه المعاني يجب أن تفقه في القرآن، لأن القرآن يصدق بعضه بعضاً، والسنة كذلك، وكل حديث نطق به الرسول فهو على ظاهره، لكن يحتاج إلى قدر من التأمل والاعتبار، وأما فرض ظهور التعارض كثيراً في كلام الرسول كما هو دارج على ألسنة كثير من المتأخرين فلا.
والأصل في هذا: أن من أشكل عليه بعض الأحاديث فعليه الرجوع إلى المجتهدين فيسأل عنها، أما أن تصنف أحاديث كثيرة، ويقال: ظاهرها التعارض كأحاديث الوعد والوعيد. فهذه من بدع المبتدعين، فالأحاديث ليس ظاهرها التعارض لا ظاهراً ولا باطناً، ولذلك تجد نوعاً من الأحاديث سماها أئمة السنة من المتقدمين: هذا ظاهره التعارض، نعم! قد تشكل على بعض المجتهدين، فيكون ظاهر الأحاديث عنده هو فقط، لكن أن تقرر للمسلمين أن أحاديث كذا وكذا ظاهرها التعارض، وأن كل مسلم يفترض أن يؤمن بهذه الحقيقة، هذا غير صحيح، الأصل أنه لا يوجد تعارض بين حديث وحديث أو آية وحديث، لكن من عرض له هذا التعارض فلا يجعل هذا سنة في الأحاديث.
هذا مدرك بالحس، فمن يقع في معصية يشعر أنه مجبور عليها، أليس للإنسان حساً فلا يفعل فعلاً سواء كان خيراً أو شراً، طاعة أو معصية، عادةً أو عبادة، إلا وهو يشعر أنه ممكن أن يفعل وممكن أن لا يفعل.
إذاً: الجبر أمر ممتنع في الحس، وإذا تأمل الإنسان ذلك الحس وجد أنه ليس هناك أحد مجبور، بل الله سبحانه وتعالى من حكمته ولطفه أن جعل القدرة والإرادة إذا عدمت سقط التكليف.. بل لو نقصت القدرة والإرادة نقص التكليف؛ فالمميز من الصبيان الذي لم يبلغ مع أنه قادر وله إرادة، لكن قدرته وإرادته لم تستتم فإنه لا يكلف.
إذاً: مسألة الجبر ممتنعة بالعقل، ولا يمكن أن يتبادر إلى عقل الإنسان أنه مجبور، بل كل إنسان يرى من نفسه أنه يقدر على الفعل والترك سواء بسواء، وإنما هي شبهة من إبليس زينها للبعض كما زينها للمشركين ولكثير من الفساق في بعض المعاصي، فهي حجة شيطانية، ولذلك فإنها ترد في ترك الطاعات فقط لا في فعل المعاصي، فلم يقل الشيطان له يوماً من الدهر: أنت مجبور على الخير وترك الشر مع أنها ممكنة.
للعبد فعل وكسب، قال الله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]، والتعبير بلفظ الكسب لا بأس به، لكنه ينهى عنه إن اقتصر على أفعال العباد فقط؛ لأن هذا يكون فيه مشاركة لمذهب الأشاعرة الذين يقولون: أفعال العباد كسب لهم، ثم يفسرون الكسب تفسيراً جبرياً في الغالب، وأما مجرد التسمية لأفعال العباد بأنها كسب لهم ضمن مجموعة أسماء فهذا لا ينكر، ومن غلَّط الموفق رحمه الله وقال: "إن من أغلاطه أنه قال: إن للعبد فعلاً وكسباً وهذا من كلام الأشاعرة، نقول له: هذا غير صحيح؛ ففي كتاب الله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، إنما الغلط أن يقتصر على لفظ الكسب في تسمية أفعال العباد، والموفق رحمه الله إنما أراد بها مرادها الشرعي، أي: من اكتسابه وتحصيله وليس من إجبار الله للعباد أو من إكراهه لهم. هذا استعمال لا بأس به؛ لأنه مخالف للأشاعرة حيث يقولون: إن العبد ليس له فعل على الحقيقة وإنما له كسب، فلما جمع المصنف الاسمين دل على أنه ينفي استعمال الأشاعرة.
قال الموفق رحمه الله: [يجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره] .
قوله: (وهو واقع) أي: أفعاله وكسبه واقعة بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر