هذه الجملة من الجمل التي فيها تخصيص وتمييز للمذهب الذي يتقلده الطحاوي رحمه الله، فهي ليست مجملة كالجمل السالفة، ومع كونها مفصلةً من جهة إلا أنها مجملة من جهة أخرى، أما كونها مفصلة مميزة فلأنها أخرجت قول الجهمية والمعتزلة وأبطلته، لأن الجهمية والمعتزلة يقولون: إن الله تعالى حدث له الفعل بعد أن لم يكن، ولا يثبتون صفةً قائمةً بذاته سبحانه وتعالى.
ولكنها مجملة من وجه آخر، لأنها لم تميز قول السلف عن قول الأشاعرة، ولا سيما المحققين منهم المقاربين لطريقة الأئمة.
ومن جهة تقرير مسألة الصفات على جهة الإجمال نقول: إن الله سبحانه وتعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن الذي فيه ذكر أسمائه سبحانه وتعالى وصفاته، وعلى هذا اتفق الأنبياء والرسل وأتباعهم؛ ولهذا فإن مذهب أهل السنة والجماعة كما هو مقرر ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى موصوف بما وصف وسمى به نفسه، وبما سماه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، لا في الأحرف ولا المعاني، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل أهل السنة والجماعة وسط بين المعطلة من الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الصفاتية الذين شاركوا في التعطيل، وبين المشبهة والمجسمة، فهم وسط في هذا الباب كما هم وسط في سائر أبواب أصول الدين بين طوائف المسلمين.
وأول مخالفة ظهرت في باب الأسماء والصفات -وهو من أخص أصول الإيمان والربوبية- لما أظهر الجعد بن درهم مقالة التعطيل، فزعم أن الله لا يوصف بصفة ولا يسمى باسم، وتابعه على ذلك الجهم بن صفوان ، وصارت هذه المقالة تسمى عند السلف مقالة الجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان ؛ لأنه هو الذي أشاعها وأذاعها ونشرها، ثم تقلدتها المعتزلة كـأبي الهذيل العلاف ومن بعده، فصاروا يقررون هذا المذهب.
2- المعتزلة تزعم أن مرتكب الكبيرة يفقد الإيمان، وأنه مخلد في النار، في حين أن الجهم بن صفوان يرى أن الإيمان هو محض المعرفة، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب.
3- مسألة القدر: فإن الجهم من غلاة الجبرية -أي: أن العبد مجبور على فعله- في حين أن المعتزلة قدرية، يقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد، بل العبد مستقل بفعله.
4- بينهم في مسألة الأسماء والصفات اشتراك وافتراق، فإن المعتزلة تقر بأصل الأسماء، في حين أن الجهم بن صفوان لا يقر بالأسماء ولا بالصفات؛ ولهذا فإن المعتزلة في الجملة دون الجهم بن صفوان من هذا الوجه، ولا نقول إنهم يثبتون الأسماء، لأنهم لا يلتزمون أن يسمى الرب سبحانه وتعالى بسائر ما سمى به نفسه أو سماه به رسوله، ولكن أصل الأسماء عندهم ثابت، والذي يتفقون عليه هو: أنه حي عليم قدير، وزاد بعض طوائفهم: أنه سميع بصير، فهذه الأسماء الخمسة هي مدار الإثبات عند المعتزلة.
فلم يكن إذ ذاك في الناس إلا إحدى ثلاث مقالات:
1- مقالة السلف: وهي الأصل المجمع عليه بين الصحابة وأئمة التابعين، أن الله له أسماء حسنى وصفات علا تليق بجلاله.
2- مقالة المعطلة الجهمية نفاة الصفات.
3- مقالة المشبهة.
ويقول: إن الله موصوف بالغضب، ولكنه واحد أزلي، وموصوف بالرضا، ولكنه واحد أزلي، وهكذا.
وقد انتحل رأيه أمثال الحارث بن أسد المحاسبي الصوفي، الناسك المعروف، صاحب كتاب (الرعاية)، وكتاب (فهم القرآن)، وقرر الحارث المحاسبي هذا المذهب الذي قاله ابن كلاب في كتابه (فهم القرآن)، وهو كتاب مطبوع.
ومنذ ذلك الوقت صار ما قرره ابن كلاب يضاف إلى أهل السنة؛ ولهذا نجد أن الحارث المحاسبي في الصفات الفعلية يقول: إن لأهل السنة فيها قولين، فيجعل للأئمة قولاً، ويجعل ما قاله ابن كلاب هو القول الآخر، ثم يختار القول الذي قاله ابن كلاب ، حتى ظهر الأشعري والماتريدي بعد الحارث بن أسد وابن كلاب .
والأشبه أنه كان زمن الاعتزال على طريقة أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي ؛ لأنه تتلمذ على يديه ونشأ في كنفه، ثم رجع الأشعري عن الاعتزال، وهذا لا خلاف فيه بين الناس، لا من الأشاعرة، ولا من أصحاب السنة المحضة، ولا من سائر أهل المقالات والسير.
إنما الذي حصل فيه تردد وكلام هو: إلى أي شيء رجع الأشعري ؟
هنا أحد مسلكين:
المسلك الأول: أن الأشعري كان معتزلياً ثم رجع كلابياً، ثم رجع سنياً، أي أنه مرَّ بثلاثة أطوار.
وهذا القول يعتمده كثير من الباحثين، وهو غلط محض لمن نظر كتب الأشعري وتأمل كلامه، ونظر كتب المحققين كـشيخ الإسلام رحمه الله.
المسلك التالي وهو الصواب: أن الأشعري ليس له إلا مذهبين: المذهب الأول هو الاعتزال، ثم لما ترك مذهب المعتزلة انتحل مذهب أهل السنة.
أما من حيث الحقيقة العلمية فإن الأشعري كان معتزلياً، ثم لما ترك الاعتزال وانتحل مذهب أهل السنة كان -كما يقرر شيخ الإسلام في منهاج السنة وغيره- علمه بالكلام وأصوله ومقالات المتكلمين من المعتزلة وغيرهم علماً مفصلاً، وكان علمه بمقالات السلف والأئمة علماً مجملاً، لأنه اعتنق مذهب أهل السنة عن بعض حنبلية بغداد، فأخذه أخذاً مجملاً، فصار الأشعري يقصد إلى تحقيق مقالة الأئمة، لكن لكون علمه بها علماً مجملاً لم يحقق ذلك، وإن كان عنده نوع ترق إلى الأفضل، فكتبه الأخيرة -كالإبانة- هي أجود ما كتب، وإذا قارنت بين كتاب (الإبانة) وكتاب (اللمع) مثلاً وجدت بين الكتابين فرقاً، وأن كتاب (الإبانة) أجود بكثير من كتاب (اللمع).
لكن مع هذا فإن الأشعري لم يخلص إلى السنة المحضة، بل بقي عليه مسائل كثيرة اختلطت عليه، وأخص ذلك مسألة الصفات والقدر والإيمان، فهو في الصفات على طريقة ابن كلاب ، بل إن ابن كلاب أجود حالاً من الأشعري كما يصرح بذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله في مواضع كثيرة؛ لأن ابن كلاب يثبت الغضب والرضا ونحوها من الصفات، ويقول: إن الله موصوف بالغضب، ولكنه واحد أزلي، ولا يفسر الغضب والرضا بالإرادة، بل يثبتها صفةً أزلية، في حين أن الأشعري يفسر الغضب والرضا بصفة الإرادة.
وكذلك في القدر: فإن الأشعري أبطل الجبر لفظاً، وأبطل مذهب القدرية المعتزلة، ولكنه قال بالكسب فوافق أهل السنة والجماعة لفظاً -حيث إن لفظ الكسب لفظ مستعمل في القرآن وقد أضيف إلى العباد كقوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] ، وقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِيْنَة [المدثر:38] إلى غير ذلك من الآيات، ولكنه فسر الكسب تفسيراً جبرياً، فقال: إن للعبد قدرةً ومشيئةً مسلوبة التأثير يقع الفعل عندها لا بها، فهو جبري، ولكنه دون الجبرية المحضة.
ولهذا نجد علماء الأشاعرة كـالشهرستاني والجويني والرازي يقولون: إن ما قرره أبو الحسن في هذا المقام جبر متوسط، وكذلك يقول الرازي : الكسب معناه: أن العبد مجبور في صورة مختار. وهذا المذهب هو أحد مذاهب الجبرية، لأن الأشاعرة مذهبهم معروف في مسألة القدر، ويتوهمون أنه لا يصح في هذا إلا قول القدرية أو الجبرية، ومن هنا اختاروا مذهب الجبر.
كذلك في مسألة الإيمان: يقول الأشعري : إن الإيمان هو التصديق، وهو بهذا مقارب لقول غلاة المرجئة وإن كان ليس مثلهم.
وأما في آخر كتبه فقد صار يتباعد عن المسائل المفصلة التي لم يحكمها، وينطق بالعبارات السلفية المجملة ويدعها على إجمالها، أي: أنه يذكر الآيات والأحاديث ولا يتكلم في تفصيلها أو تفسيرها، فمثلاً في كتاب الإبانة وهو من آخر ما كتب يقول: (ونؤمن بأن الله مستوٍ على العرش كما في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ) لكنه لا يفصل مقصوده بالاستواء؟ وفي كتبه الأخرى يقول: إن الاستواء فعل فعله بالعرش صار به مستوياً. أي أنه لا يثبت الاستواء الذي كان يثبته السلف.
ومن هنا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما من قال منهم -أي: الأشعرية- بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالةً تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة! هذا نص كلام شيخ الإسلام .
وقد توهم بعض الباحثين أن الإمام ابن تيمية رحمه الله يرى أن الأشعري مر بثلاثة أطوار، وأن الطور الأخير الذي كتبه في كتاب (الإبانة) هو طور السلفية المحضة، وهو ليس كذلك، إنما مراد الإمام ابن تيمية رحمه الله أن جمل كتاب (الإبانة) جمل سلفية، وإن كان الأشعري في كتاب (الإبانة) إذا أتى لمسألة فيها خلاف بين الأئمة والمعتزلة فإنه يفصلها ويقضي على مذهب المعتزلة ويبطله، كمسألة الرؤية مثلاً، فإنه أثبت الرؤية واستدل بدلائل فاضلة، منها استدلاله بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] قال: إن الإدراك هو الذي نُفي، وهو قدر زائد على الرؤية، ونفي القدر الزائد دليل على أن أصل الرؤية ثابت، وهذا استدلال فاضل اعتمده شيخ الإسلام في كتبه.
وإذا جاء إلى الخلاف الذي بين ابن كلاب والأئمة فإنه لا يفصله، وإنما يقف على الإجمال.
الأولى: أنه ينتحل مذهب أهل السنة ويقول: إنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وهذا صرح به في كتاب (الإبانة) لما قال: فإن قيل: قد أبطلتم قول المعتزلة والخوارج والمرجئة، فما قولكم الذي تقولون به ودينكم الذي تدينون الله به؟ قال: هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أثنى على الصحابة خيراً، ثم قال: ونحن بكل ما يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون، ولما يعتقده معتقدون، فإنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل. فكان متشبثاً بالانتماء للإمام أحمد بن حنبل ، حتى إن بعض الحنابلة كـأبي بكر عبد العزيز كان يعده من متكلمة الحنابلة.
الجهة الثانية: أنه في كتبه الأخيرة صار يجمل في المسائل التي فيها خلاف بين ابن كلاب والسلف، ويستعمل العبارات المجملة الصحيحة من حيث حروفها؛ ولهذا السبب انتحل مذهب الأشعري خلق كثير من الفقهاء وتأثروا به.
الجهة الأولى: من جهة الانتماء؛ فإن الأشعري لا ترى في كلامه استعمال لفظ (الحشوية) أو(النابتة) وأمثالها في وصف مقالة المتقدمين من الأئمة، في حين أن الماتريدي يستعمل هذا، وهو استعمال دخل عليه من كلام المعتزلة، فالمعتزلة كانوا يسمون مقالات السلف بمقالات الحشوية وأمثالها.
الجهة الثانية: من حيث الحقائق العلمية؛ فإن الماتريدي أقرب ما يكون إلى طريقة أبي المعالي الجويني من الأشاعرة، مع أن الجويني جاء بعده، وأما الأشعري فهو أجود منه في الاستدلال والمسائل.
ولكن مع هذا فهذان المذهبان -أعني مذهب الأشعري ومذهب أبي منصور الماتريدي - صار لهما تأثير واسع على الكثير من الفقهاء المتأخرين.
وكاد مذهب التشبيه على هذا الاعتبار أن يندثر، حيث لم يكن له أنصار، وكان هذا المذهب ظاهر البطلان.
وقوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه).
أي أن الله سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال ولم يزل سبحانه وتعالى متصفاً بها، وهذا مفارقة لمذهب المعتزلة، من جهة أن المصنف أثبت الصفات، والمعتزلة لا يثبتون الصفات.
ومنشؤها أن أول ما ظهر علم الكلام على يد الجهمية والمعتزلة كانت هناك مقالة اطلع عليها علماء الكلام إذ ذاك في كتب طائفة من الفلاسفة الإلهية، وهي أن الله موجب بالذات، بمعنى: أنه لا يتعلق الفعل بإرادته ومشيئته، بل بين الذات والفعل التلازم بين من جهة تلازم الفعل والمفعول. ومحصل النتيجة من هذه الجملة: القول بقدم العالم، وهذا مذهب إلحادي كفري كان يقول به طائفة من الفلاسفة كـأرسطو وأمثاله.
فأراد المتكلمون من الجهمية والمعتزلة الرد على ذلك، فقالوا: إن الله قادر، ولا يسمى موجباً بالذات، بمعنى: حدث الفعل له بعد أن لم يكن، وهذا الرد أبطل مسألة قدم العالم من وجه، لكنه عطل الباري سبحانه وتعالى عن صفة الكمال.. لأنه يلزم على قولهم أن يكون الله سبحانه وتعالى فيما قبل ذلك معطلاً عن صفات الكمال، وهذا التعطيل ليس له تناهٍ لأن الله لا أول له.
ولهذا كان السلف يقولون: إن الله لم يزل متصفاً بصفات الكمال من الكلام والفعل والإرادة والعلم والخلق والتدبير... إلى غير ذلك من الصفات، فهي صفات أزلية.
فقوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه). هذا مباينة من المصنف لمذهب المعتزلة، لأن المعتزلة لا تثبت الصفات، لكن المصنف لم يباين مذهب أبي الحسن الأشعري صراحة؛ لأن الأشعري يقول بإثبات جملة من صفات الله، ولكنه يجعل هذه الصفات قديمةً، ويجعل الفعل حادثاً بعد أن لم يكن، وهذا من تناقض الأشعري .
والمتحقق المجمع عليه بين أئمة السنة والجماعة: أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالصفات، وأن فعله سبحانه وتعالى لا أول له، بل لم يزل فاعلاً، ولا يصح بإجماع السلف أن يُقال: إن الفعل حدث له بعد أن لم يكن.
المذهب الأول: مذهب السلف الذين يقولون بأزلية الصفات وأزلية الأفعال، فلم يزل الرب فاعلاً كما أنه لم يزل متصفاً بصفات الكمال، وأفعاله من صفاته، ومسألة الفعل هي المميزة عن مذهب الأشاعرة.
المذهب الثاني: مذهب الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات، ويقولون: إن الفعل حدث بعد أن لم يكن، فهذا تعطيل محض.
المذهب الثالث: وهو مذهب الأشعرية الذين يقولون بأزلية الصفات، ويتفقون على إثبات سبع صفات هي: الحياة، والكلام، والبصر، والسمع والإرادة، والعلم، والقدرة. ويزيد بعض متقدميهم ومحققيهم غير هذه السبع، وكلها عندهم قديمة، وأما الفعل عندهم فحدث بعد أن لم يكن.
واتفاق السلف مع الأشاعرة على أزلية الصفات اتفاق مجمل، ولا يعني أن مذهب السلف في الصفات موافق لمذهب الأشاعرة، بل بينهم فرق من جهة حقيقة ما يثبت من الصفات، ومن جهة ما تتضمنه الصفة من الفعل كصفة الكلام مثلاً، فإن السلف يقولون: إن الله لم يزل موصوفاً بصفة الكلام. والأشاعرة يقولون: إن الله لم يزل موصوفاً بصفة الكلام، لكن الكلام عند الأشاعرة معنىً واحد قائم في النفس ليس بحرف ولا صوت. وأما السلف فعندهم الكلام بحرف وصوت ويتعلق بالإرادة والمشيئة..
وينتبه لمثل هذا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -ولا سيما في كتبه الكبار- فمثلاً لما أراد أن يرد على الأشاعرة في مسألة الحكمة والتعليل، قال: وهذا القول الذي ذكره الأشعري أصله قول جهم بن صفوان ، وجمهور المسلمين من السلف والأئمة وأهل الحديث والمعتزلة وجمهور طوائف الشيعة يثبتون الحكمة. فجعل كل هؤلاء مثبتةً للحكمة والتعليل، ومعنى هذا: أنهم يتفقون على إثبات الحكمة والتعليل إجمالاً، وإلا فالمعتزلة تثبت الحكمة التي تعود إلى العبد فقط، وتتعلق بمصالح العباد، لكن لا يثبتون حكمة تتعلق أو تقوم بذات الله سبحانه وتعالى فعلاً له وإرادة له، وهذا خلاف قول السلف.
فينبغي لطالب العلم إذا ذكر له موافقة طائفة من الطوائف الكلامية لأهل السنة أن يتبين، فإن جمهور هذه الموافقات تكون موافقات مجملة ليست مفصلة، وقد يقع شيء من التفصيل في هذا.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تكلم على هذه المسألة بكلام طويل، وهي لا شك مشكلة، لكن الذي قرره شيخ الإسلام على جهة الإجمال هو: أن الحوادث لا أول لها، وليس معنى هذا الإقرار بمسألة قدم العالم، فإن الشيء الحادث هو المسبوق بالعدم، ويمتنع على هذا قدم العالم، لأنه لا بد من سبق العدم، ومراد شيخ الإسلام رحمه الله إبطال مذهب الجهمية والمعتزلة وجماهير الأشاعرة الذين قالوا: إن الفعل حدث بعد أن لم يكن، فيرى شيخ الإسلام رحمه الله أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بالفعل، وأن كل فعل فإنه من جهة آحاده مسبوق بفعل قبله، وأن الفعل من حيث آحاده لا أول له، ولا يلزم على هذا قدم شيء من المفعولات؛ لأن كل فعل مسبوق بفعل قبله.
هذا المذهب هو الذي قرره شيخ الإسلام ، وحكى أنه إجماع أئمة السنة المتقدمين.
هذه جملة مجملة، وبيان هذا: أن ابن كلاب والأشعرية تبعاً له لا يرون مسألة تجدد الصفة، ولهذا لما تكلم الحارث بن أسد على العلم في قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [البقرة:143] قال: إن العلم هنا هو علم الظهور، بمعنى أنه لم يتجدد علم له سبحانه وتعالى؛ ولهذا لما بلغ الإمام أحمد رحمه الله قول الحارث بن أسد هجره، واختلف الناس في تعليل هجر الإمام أحمد له، والذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لقوله هذا في مسألة الفعل المتجدد.
ويبين شيخ الإسلام المقصود بالعلم فيقول: والعلم بالشيء موجوداً ليس هو العلم به مقدراً باتفاق العقلاء، ولا شك أن الله سبحانه علم ما كان وما سيكون، ولكن قوله تعالى: إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [البقرة:143] هذا من إثبات العلم، والله موصوف بالعلم أزلاً، والعلم بالشيء موجوداً ليس هو العلم بالشيء مقدراً، وهذا لا يرجع إلى نقص في علم الله؛ إذ إن العلم هنا تعلق بالموجود، والعلم في الأول تعلق بالمقدر.
وابن كلاب والأشعري وأتباعهم لا يثبتون هذا الفرق، وهذا فرع عن قولهم: إن العلم واحد أزلي، والكلام واحد أزلي، وكذا القدرة والإرادة، وهلم جراً.
فقوله رحمه الله: (لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته) إن أراد أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير قبل خلقهم وبعد خلقهم، وأنه لم تحدث له صفة مختصة من جهة أصلها، بمعنى أن الصفات قديمة وأزلية فهذا صحيح، وإن أراد أن صفة الفعل لا أثر لها في ذاته سبحانه وتعالى، فلا شك أن هذا هو المذهب الذي كان يقول به الأشعري وابن كلاب ، ويرون أنه لا فرق في أفعال الرب سبحانه بين حاله سبحانه قبل الفعل وبعده، فالجملة هنا ليست محكمة، ولهذا تأولها علماء الأشاعرة الذين شرحوا الكتاب على وفق مرادهم.
قال المصنف رحمه الله: [وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً] .
هذه جملة حسنة، فإنه يقرر أن الله سبحانه لم يزل ولا يزال متصفاً بصفات الكمال، وهذا متفق عليه بين أئمة السنة والجماعة، وهذه جملة لا إشكال فيها.
ثم قال رحمه الله: [ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداث البرية استفاد اسم الباري] .
إن أراد أن صفات الله سبحانه وتعالى أزلية، وأنه سبحانه وتعالى له الصفات ولم يكن شيء معه، وأنه الأول كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) وصفاته ليست محصلةً من مفعولاته.. فهذا صحيح.
وإن أراد أن الفعل حدث بعد أن لم يكن فلا شك أن هذا المذهب هو الذي اتفق السلف على إبطاله، ودخل على أبي الحسن الأشعري من جهة المعتزلة، وإن كان قد ترك مذهبهم.
قال المصنف رحمه الله: [له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق] .
هذا تأكيد لما تقدم في كلامه، وقوله: (له معنى الربوبية ولا مربوب) أي: قبل وجود المربوب، (ومعنى الخالق) أي: اسم الخالق، (ولا مخلوق) أي: قبل وجود المخلوق، وهذا كلام محتمل وإذا كان الكلام محتملاً فيجب أن يبين كونه محتملاً، ثم يفسر بما هو مناسب لمقاصد السلف، وأما التكلف في تأويل الكلام فليس منهجاً صحيحاً.
إن أراد المصنف رحمه الله بعباراته هذه أن الله سبحانه وتعالى لم يزل مسمّى بهذه الأسماء التي سمى بها نفسه، وهذه الصفات التي وصف بها نفسه؛ فهذا لا إشكال فيه، ولكن لا يفهم من هذا أنه فيما لم يزل سبحانه وتعالى ليس له من الاسم والصفة إلا اسمها فقط، فإن الاسم يتضمن صفةً وفعلاً، ومن أسمائه الرحمن والرحيم والعليم والقدير والسميع، وهذه تتضمن صفاتٍ وأفعالاً.
فإن أراد بقوله: (وكما أنه محيي الموتى... إلخ)، أن الأسماء والصفات أزلية فهذا صحيح، وإن أراد أن المقصود من أزليتها اسمها فقط، وأن حقائقها حدثت بعد أن لم تكن فلا شك أن هذا مذهب باطل، وقد كان هذا المذهب ينتحله الأشاعرة، وإن كانوا يجملون في حروفه، ولكن مذهبهم على التحقيق يصل إلى هذا المعنى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر