إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [5]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أرسل الله سبحانه الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل، وأيدهم بالمعجزات، بياناً لصدقهم، وجعل خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وفضله عليهم.
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، وإنه خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى، وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء] .

    بعد أن ذكر المصنف توحيد الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وألوهيته وربوبيته عطف على ذكر التوحيد هذه المسألة، فقال: (وإن محمداً عبده المصطفى...إلخ).

    فقوله: (وإن محمداً) عطف على قوله: (إن الله واحد لا شريك له)، ومسألة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو مستقر عند جماعة المسلمين من أخص أصول الإيمان بالله، وهي الركن الثاني في الإيمان بالله والاستسلام له، ولهذا لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله..) وقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله..) كما في المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، إلى غير ذلك.

    الخلاف فيمن نطق إحدى الشهادتين دون الأخرى

    تنازع العلماء فيما لو قال عبد: أشهد أن لا إله إلا الله، هل تلتحق به أحكام الإسلام؟ أم أن أحكام الإسلام مقيدةٌ بذكره للشهادتين معاً؟

    والخلاف هنا ليس لفظياً، وهذه مسألة تكلم فيها المتأخرون وحصل الغلط فيها، والصواب في هذه المسألة: أن الحكم هنا له ظاهر وباطن، فأما من جهة الأحكام الباطنة، التي بين العبد وبين ربه سبحانه وتعالى، فمن قال: لا إله إلا الله على مقصد الدخول في دين الإسلام، فإن هذا في الباطن يكون مسلماً، فلو أدركه الموت أو قتل ولم يقل: وأشهد أن محمداً رسول الله، فلا شك أنه في الباطن يكون قد مات على الإسلام؛ لأن تأخيره لذكر شهادة أن محمداً رسول الله؛ لم يكن عن تفريط.

    وأما من جهة الأحكام الدنيوية، فهذا محل نزاع بين الفقهاء، والصحيح من أقوالهم: أن من قال ذلك ولم يدرك الثانية لمانع فإن أحكام الإسلام تتعلق بالأولى، وهذا هو الذي دل عليه ما ثبت في الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: (لما حضر أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله) .

    ودل عليه ما ثبت في الصحيحين أيضاً من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: لا إله إلا الله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقتله، فقال: يا رسول الله، إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال) .

    وكذلك ما جاء في حديث أسامة بن زيد لما قتل رجلاً وقد قال: لا إله إلا الله في المعركة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فكيف تصنع بـ(لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة) .

    قول الفلاسفة في النبوة

    لقد أجمع أهل القبلة على أن النبوة اصطفاء من الله سبحانه وتعالى يصطفي به عبداً من عباده، ولم يقل بكون النبوة مكتسبة إلا الفلاسفة الملاحدة، كما قرر ذلك ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة، ويجعلون لها ثلاث قوى: قوة التعبير، وقوة التصوير، وقوة التخييل، وهذا قول لا أصل له في دين المسلمين.

    الخلاف بين أهل السنة والمتكلمين في دليل النبوة

    وإنما المسألة التي تكلم أهل السنة فيها كثيراً وخالف فيها طوائف من المتكلمين، هي مسألة دليل النبوة؛ فإن جماهير طوائف المتكلمين يقولون: إن دليل النبوة هو المعجزة، ويفسرونها بما هو خارق للعادة على جهة التحدي، وقولهم هذا غلط من جهتين:

    الأولى: أنهم قصروا دليل النبوة على المعجزة.

    الثانية: أنهم فسروا معجزات الأنبياء بالخوارق التي تقع على جهة التحدي.

    والذي اتفق عليه السلف رحمهم الله أن النبوة لا يختص دليلها بالمعجزات، بل تثبت النبوة بالمعجزة التي تذكر في القرآن وتسمى (آية)، وتثبت بغير ذلك، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من الأنبياء نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) .

    والدليل على فساد قول المتكلمين: أن الجماهير من المسلمين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم عند إيمانهم معجزة له، وإنما آمنوا بما بعث به من الحق، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، قال ابن عباس : (حدثني أبو سفيان من فيه إلى فيَّ، قال: انطلقت بالمدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام) ، وفيه أن هرقل قال: (هل هنا أحد -أي: بالشام- من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان : فدعيت في نفر من قريش، فأجلسني بين يديه، وأجلس أصحابي خلفي، وقال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا -يعني: أبا سفيان - عن الرجل الذي يزعم فيكم أنه نبي، فإن صدقني فصدقوه، وإن كذبني فكذبوه، فكان في أسئلة هرقل :

    هل كان من أبيه ملك؟

    فقال أبو سفيان : لا.

    فقال هرقل : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

    فقال أبو سفيان : لا.

    فقال هرقل : هل قال هذا القول أحد قبله؟

    فقال أبو سفيان : لا.

    قال هرقل : من يتبعه؛ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟

    قال أبو سفيان : بل ضعفاؤهم.

    قال هرقل : يزيدون أم ينقصون؟

    قال أبو سفيان : بل يزيدون.

    قال هرقل : أيرتد أحدهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟

    قال أبو سفيان : لا.

    قال هرقل : هل يغدر؟

    فقال أبو سفيان : لا يغدر، ونحن منه في مدة -أي: في صلح- لا ندري ما هو صانع فيها.

    ثم قال أبو سفيان : فوالله ما أمكنني أن أدخل كلمة إلا هذه -أي: تشكيكاً بالدعوة-.

    ثم قال: بم يأمركم؟

    قال أبو سفيان : يأمرنا بالصلاة، والصدقة، والصلة، والعفاف) .

    فهذه الأسئلة ليس فيها سؤال عن المعجزات، وبعدها قال هرقل : (إن يكن ما تقوله فيه حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه) .

    ثم بيّن هرقل معنى هذه السؤالات، فقال: (سألتك: هل كان من آبائه ملك؟ فلو كان من آبائه ملك، لقلت: رجلٌ يطلب ملك آبائه، وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فلو قاله أحدٌ قبله فيكم، لقلت: رجلٌ ائتم بقول قيل قبله..) إلى غير ذلك.

    فالمقصود: أن هرقل عرف نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بدلائل ليس منها المعجزات، مما يدل على أن دليل النبوة ليس مقصوراً على المعجزة.

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الوفود وتأتيه الأعراب، وآمن به من آمن من عبدة الأوثان، ومن اليهود والنصارى، مع أن جمهور من آمن به لم ينظروا معجزة وقت إيمانهم، وإنما صدقوه بما يقوله من الحق، ولهذا فإن أعظم ما بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم وأخص دلائل النبوة هو القرآن.

    والقرآن من حيث الحقائق والنظم، فإن الله سبحانه وتعالى تحدى العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088466518

    عدد مرات الحفظ

    776891037