بعدما ذكر المصنف مسألة النبوة ذكر مسألة كلام الله سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أن من أصول الإيمان: الإيمان بكتب الله سبحانه وتعالى، وهي الكتب المنزلة على الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأخص هذه الكتب وأعظمها وأحكمها هو القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعظيمُ القرآن مجمع عليه بين المسلمين ولكن لما عطل الجهمية والمعتزلة الباري عن صفاته، ولم يصفوه بصفات الكمال، كان من تلك الصفات صفة الكلام، فقالوا: إن كلام الله مخلوق، ولما كان صريحاً في القرآن أن القرآن كلام الله قالوا: القرآن مخلوق.
وقد أجمع السلف على أن هذه كلمة كفرية، وقد حكى الإجماع غير واحد كـشيخ الإسلام وغيره، بل القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، حروفه ومعانيه، وهذا التقرير هو فرع عن الأصل المقول في الصفات، وهو إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى، ومن أخص صفاته الثابتة في العقل والشرع: الكلام، فإن الله موصوف بالكلام.
وقد ذكر الله القرآن وسماه تنزيلاً، وذكر القرآن وسماه كلاماً له في قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] ولهذا قال المصنف: (وإن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً) أي أن القرآن بدأ منه سبحانه وتعالى قولاً له، بحرف وصوت مسموع.
فهذه الجملة من أبي جعفر الطحاوي رحمه الله تبين أنه لم يكن على طريقة الأشعرية، وإن كان قد يغلط أو يتأثر أحياناً ببعض السياقات التي يستعملها بعض أئمة الأشعرية، ويكون تأثره بها تأثراً لفظياً.
فلما قال ابن كلاب والأشعري : إن الكلام معنى واحد يقوم في النفس ليس بحرف ولا صوت، جعلوا القرآن الذي هو حرف حكايةً أو عبارةً عن كلام الله، وليس كلاماً له، ولا شك أن هذا تناقض؛ فإن من أثبت الكلام لله، لزمه أن يجعله بحرف وصوت؛ لأن الكلام كذلك.
وهذا يقود إلى مسألة، وهي: حقيقة الكلام؛ فإن الذي أجمع عليه أهل السنة أن الكلام يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، ليس هو اللفظ وحده ولا المعنى وحده، والمشهور عند النحاة أن الكلام هو اللفظ، وإن كان من يطلق ذلك من النحاة، ليس بالضرورة أنه يلتزم بعض النتائج المقولة في أصول الدين، ومن هنا قال ابن مالك :
كلامنا لفظ مفيد.... ...................
وجعلوا المعنى مدلولاً لهذا اللفظ، ولم يجعلوا لفظ الكلام متناولاً له، وغلط ابن كلاب والأشعري ، فقالوا: إن الكلام هو المعنى وحده، وقال طائفة: إنه مشترك بين اللفظ وبين المعنى على الانفكاك، فيكون اللفظ وحده كلاماً ويكون المعنى وحده كلاماً.
والله سبحانه لم يذكر الكلام مطلقاً إلا وأراد به ما كان بحرف وصوت، وأما قوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ [المجادلة:8]، فمثل هذا السياق لا يدل على مذهب الأشعري ، لأنه سياق مقيد، فضلاً عن كون طائفة من المفسرين قالوا في تفسيرها: أنهم يقولون فيما بينهم كلاماً لا يسمعه غيرهم.
قوله: (فمن سمعه فزعم أنه من كلام البشر فقد كفر...إلخ).
من قال: القرآن مخلوق فقوله كفر؛ لكن قائل ذلك لا يكفر ابتداءً إلا إذا علم أن الحجة قد قامت عليه، وقد كان في زمن السلف رحمهم الله أعيان كثيرون من الجهمية والمعتزلة وغيرهم يقولون: إن القرآن مخلوق، وما كان أحدٌ من السلف يطرد تكفير أعيانهم، وذلك أن ثمة أصلين عظيمين شريفين في مسألة: التكفير لمن غلط من أهل القبلة في مسائل أصول الدين، قررهما شيخ الإسلام :
الأصل الأول: أن المقالة التي تكون في حكم الله ورسوله كفراً لا يلزم منها أن يكون كل من قالها من أهل القبلة كافراً، ومن ذلك قولهم: إن القرآن مخلوق.
وتقدم أن شيخ الإسلام يقول: (والإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهمية الذين قالوا بخلق القرآن فإنه لم يشتغل بتكفير أعيانهم، بل قد صلى الإمام أحمد خلف بعض من يقول بخلق القرآن ودعا له واستغفر له)، ويعني بذلك الخليفة المعتصم ، فإنه كان يقول بخلق القرآن تبعاً لأئمة المعتزلة، ومع ذلك فقد صلى الإمام أحمد خلفه ودعا له واستغفر له، ولو كان يرى كفره لما فعل ذلك.
وأما من قال: إن الإمام أحمد إنما فعل ذلك خلفه -أي الصلاة والدعاء- لكونه سلطاناً، ولو لم يكن سلطاناً لكفره، فهذا جاهل لا يعرف ما يقول، ومعلوم أن هذه المسائل لا تكفها مسألة السلطنة، بل كان الإمام أحمد لا يرى كفر المعتصم ، والمذهب عند متأخري الحنابلة أن الفاسق لا يصلى خلفه، ولو كان الإمام رحمه الله يرى أن المعتصم كافراً لما دعا له واستغفر له وصلى خلفه، مع أن المعتصم كان ثابتاً على القول بخلق القرآن، ومع أنه سمع المناظرة، وسمع انقطاع أئمة المعتزلة بين يدي الإمام أحمد .
الأصل الثاني: أن يُعلم أن الواحد من أهل الصلاة والشعائر الظاهرة، لا يكون كافراً في نفس الأمر -أي في الحكم الباطن- إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة والشعائر الظاهرة نفاقاً.
ومعلوم أنه لا يلزم من الحكم بكفر شخص ظاهراً أن يكون كافراً باطناً، ولا يلزم من الحكم بإسلامه ظاهراً أن يكون مسلماً باطناً، فالمنافقون عند كثير من المسلمين يحكم لهم بالإسلام مع أنهم عند الله كفار، وكان جماهير الصحابة زمن النبوة لا يعرفون عامتهم، بل إن ظاهر القرآن يدل على أن من المنافقين من كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، قال الله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة:101] وقد يُكّفر أحد أعيان أهل القبلة من بعض العلماء اجتهاداً، وقد يكون هذا الاجتهاد في نفس الأمر صواباً وقد يكون غلطاً، قد يكون له من العذر الذي لم يطلع عليه ما يدفع عنه الكفر عند الله.
وهذا الأصل ليس مشكلاً كما ادعى بعض المعاصرين، فقال: إن كلام شيخ الإسلام فيه نظر، بل إن أحكم من قرر مسألة التكفير من المتأخرين هو الإمام ابن تيمية رحمه الله، وقد بناها بناءً شرعياً عقلياً؛ فإنه قال بعدما ذكر هذا الأصل: (وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بُعث بمكة كان الناس أحد رجلين، إما مؤمن ظاهراً وباطناً وإما كافر ظاهراً وباطناً، ولما هاجر إلى المدينة ظهر نوع ثالث، وهم من آمن ظاهراً وكفر باطناً. والمؤمنون ظاهراً وباطناً على ثلاثة أقسام: فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات.
قال: فالذي يُظهِر الصلاة والصوم والحج ويعتمر ويؤذن ويقيم، لا يسمى كافراً ظاهراً وباطناً لأنه في الظاهر مسلم، قال: فدار بين كونه مؤمناً ظاهراً وباطناً وبين كونه مؤمناً ظاهراً كافراً في الباطن، قال: وإذا قلنا عن أهل البدع المخالفين لإجماع السلف: إنهم مؤمنون ظاهراً وباطناً، فإنما يعنى بهذا الإيمان: الأصل الذي يفارق الكفر، قال: وإلا فإن عامتهم ظالمون لأنفسهم، لأن مثل هذه البدع لا تكون إلا عن تقصير في متابعة أمر الله ورسوله، وهذا التقصير في العلم هو من أخص الكبائر والظلم).
ولهذا قال رحمه الله -وهذا أصل ثالث-: (إن كل من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول فأخطأ فإن خطأه مغفور له).
فذكر ثلاثة شروط: الأول: أن يكون أراد الحق، والثاني: أن يكون مجتهداً في طلبه، والثالث: أن يكون طلبه إياه من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: (فمن عدم الإرادة، أو عدم الاجتهاد، أو طلبه من غير جهة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يكون كافراً، وأما من أراده واجتهد فيه من جهة الرسول فأخطأه: فإنه في الأصول الشائعة بين المسلمين أنه لا يخطئه إلا مقصر إما في مقام الإرادة، أو مقام الاجتهاد، قال: فهذا هو الظالم لنفسه).
قال: (وعامة أهل البدع، مقصرون في مقام الاجتهاد).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر