إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [17]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أجمع أهل السنة والجماعة -ووافقهم جمهور الطوائف- على أن الأصل في أهل الإسلام أن يسموا مسلمين، وإن ارتكب بعضهم كبائر الذنوب فإنه يسمى مسلماً، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج والمعتزلة. ويعتقد أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
    قال المصنف رحمه الله: [ونسمِّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين] .

    ذكر المصنف مسألة الأسماء، ونعني بها اسم أهل الكبائر والمخالفين من أهل الظلم والفسوق والعصيان والمخالفين للسنة والشريعة، هل يسمون مؤمنين أو مسلمين، أو كفاراً، أو فاسقين؟

    والأحكام: أي حكم هؤلاء في الآخرة.

    فابتدأ المصنف بمسألة الأسماء، فقال: (ونسمِّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين)، ثم يذكر بعد ذلك الإيمان، فيقول: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان)، ثم يذكر بعد ذلك حكم أهل الكبائر في الآخرة، وهذا لا إشكال فيه، لكن كان الأصل في الترتيب أن يبدأ بمسألة الإيمان، ثم مسألة الأسماء والأحكام لأنها نتيجة لها.

    وقوله: (ونسمِّي أهل قبلتنا) مراده بأهل القبلة أهل الإسلام، وهم من يستقبل القبلة ويصلي إليها.

    وقوله: (مسلمين مؤمنين)، شرط لهذه التسمية أن يتحقق عندهم أصل الإيمان، ولهذا قال: (ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدِّقين).

    وهذه جملة مجملة، وتُفسَّر بأن أبا جعفر رحمه الله يقصد أنهم محققون لأصل الإيمان، ومن حقق أصل الإيمان فإنه يستحق عنده هذه التسمية، مع أنه قد يكون في هذا التفسير بعض التردد؛ لأن من المعلوم أن أبا جعفر وأمثاله لا يكفِّرون بالعمل المأمور به على الأعيان كمسألة الصلاة، بل لهم قول حتى في جنس العمل الظاهر كما سيأتي تفصيله.

    لكن إذا فسر مراده بقوله: (ما داموا) أي: محققين لأصل الإيمان، فهذا معنىً مناسب، ثم يرجع إلى تسميته، وهو قوله: (ونسمِّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين) فإنه إذا كان كذلك، فإن هذه التسمية عنده تكون مستحقةً لكل مسلم، سواء كان براً أو فاجراً، وسواء كان من الظالمين لأنفسهم أم من المقتصدين أم من السابقين بالخيرات، ومعنى هذا أن أهل الكبائر عنده يُسمون مسلمين ويُسمون مؤمنين.

    أما أن سائر أهل الإسلام سواء كانوا أبراراً أو فجاراً، من أهل الكبائر أو غيرها، يُسمون مسلمين، فهذا بالإجماع، ولم يخالف فيه أحد إلا الخوارج والمعتزلة.

    وأما جمهور طوائف الأمة -فضلاً عن إجماع أهل السنة والجماعة المحكم- فهم على أن الأصل في أهل الإسلام أن يسموا مسلمين، وكل واحد بعينه مهما كانت كبائره فإنه يسمى مسلماً، فاسم الإسلام لا إشكال فيه بوجه، ولا يُنازع في إطلاقه على أهل الكبائر بأعيانهم إلا متأثر بالخوارج.

    فقول من يقول: نقول عنهم مسلمين على الإطلاق لكن لا نسمي أعيانهم مسلمين، فهذا من أثر الخوارج.

    وإذا قلنا: إنهم يُسمون مسلمين بالأعيان فلا يعني هذا أنه لا يصح فيهم إلا هذا الاسم.

    وأما قول أبي جعفر : (مؤمنين) فإن هذا فرع عن رأيه في مسمى الإيمان؛ فإنه لما كان العمل عنده ليس داخلاً في مسمى الإيمان، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، صار أهل الكبائر الذين يقصرون في العمل مؤمنين عنده بناءً على أصله.

    ولهذا نقول: هذه النتيجة -وهي قوله: (مؤمنين)- مناسبة لقوله في مسمى الإيمان.

    وإذا قلت على طريقة السلف: إن الإيمان قول وعمل، فإن اسم الإيمان لا يكون مقامه في أهل الكبائر كمقام اسم الإسلام، وهذا ليس معناه أن أهل الكبائر لا يسمون مؤمنين بحال، وإنما معناه أنه لا يطلق عليهم هذا الاسم في سائر الموارد، وهذه مسألة وقع فيها تنازع بين أهل السنة -وإن كان أصلها مجمعاً عليه بينهم-: هل يسمى أهل الكبائر مؤمنين أو لا يسمون؟

    - فمنهم من قال: إنهم يسمون مسلمين ومؤمنين.

    - ومنهم من قال: إنهم يسمون مؤمنين على الإطلاق دون التعيين.

    وهذه أقوال يذكرها بعض أهل السنة والجماعة من أصحاب الأئمة.

    والذي تدل عليه آثار السلف وجواباتهم في هذه المسألة، بل الذي دل عليه القرآن والسنة، أن اسم الإيمان في حق أهل الكبائر تارة يذكر مطلقاً بدون قيد، وتارة يذكر مقيداً، وتارة لا يذكر.

    وإذا كان لا يذكر فإما أن يكون منتقلاً عنه وإما أن يكون منفياً.

    إطلاق اسم الإيمان على أهل الكبائر وأحواله

    وعليه فيكون لإطلاق الإيمان في حق أهل الكبائر أربعة أحوال:

    الحال الأولى: أن يذكر مطلقاً، أي: بدون قيد، وهو المذكور في مثل قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] في الكفارة، فإن قوله: (مؤمنة) يدخل فيه الفاسق، بمعنى أنه لو أعتق فاسقاً فإن عتقه صحيح بالإجماع، وهو المذكور في مثل قوله صلى الله عليه وسلم للجارية في حديث معاوية بن الحكم : (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) .

    الحال الثانية: ألا يذكر مطلقاً بل يذكر مقيداً، كما إذا سئل عن حكم الفاسق واسمه وقدره من الإيمان، فإنه يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيسمى مؤمناً بالتقييد.

    الحال الثالثة: ألا يذكر على الإطلاق، إما انتقالاً إلى غيره أونفياً له عنه، فانتقاله إلى غيره هو المذكور في حديث سعد رضي الله عنه، في الصحيحين قال: (قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسماً، فقلت: يا رسول الله، أعط فلاناً فإنه مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم) ، فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم بحق هذا الرجل إلى اسم الإسلام، فهذا انتقال عن اسم الإيمان إلى اسم الإسلام، مع أن الرجل لا شك أنه ممن يؤمن بالله ورسوله، ولا شك أنه ممن يؤمن بأن الله في السماء وأن محمداً رسول الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية: إنها مؤمنة، لما أخبرت بهذين الأمرين، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يقر سعداً لما قال هذا عن الرجل، قيل: لأن المقام والحال مختلف، فـسعد إنما ذكر ذلك على جهة المدح والثناء، وإذا قصد مقام المدح والثناء فإنه لا يسمى بالإيمان إلا من استفاض هذا الأمر فيه، وإنما يستعمل في الإطلاق وبين عامة المسلمين اسم الإسلام.

    وأما في حديث معاوية وفي قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] فإن المقام مقام عتق، وفي مقام الأحكام الدنيوية كالعتق والمواريث وغيرها فإن الفساق يسمون مؤمنين.

    فإذا قيل: قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] فلو كان فاسقاً؟ قيل: الفاسق مؤمن في هذا المقام؛ لأن معه أصل الإيمان، وقد ينفى الإيمان عن شخص في مقام، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ، فحال الزنا لا يسمى مؤمناً، بل يسمى زانياً، أو يسمى فاسقاً، مع أنه في مقام العتق لو أعتق الزاني فإنه يقال: أعتق مؤمناً.

    فاسم الإيمان لا يقع على وجه واحد، ولهذا في الأحكام الدنيوية والمخاطبة بالشريعة فإن سائر أهل القبلة من العصاة والفساق وغيرهم يدخلون في اسم الإيمان، ولهذا جاءت في القرآن خطابات كثيرة: (يا أيها الذين آمنوا)، ولا شك أنه يُخاطب بها سائر أهل الإسلام، حتى الفاسق منهم فإنه داخل في هذا، وكذلك يسوغ للخطيب في الجمعة أن يقول: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، ولو كان من بين يديه من هو من أهل الفسق.

    ففي مقامات المخاطبة بأحكام الشريعة وفي مقامات أحكام الدنيا كالعتق والمواريث ونحوها فإنهم يسمون مؤمنين، ويدخلون في هذا الاسم، وعليه فأهل الكبائر المجاهرون بها والمظهرون لها يُسمون فساقاً، وهذا مجمع عليه بين السلف.

    فأصحاب الكبائر تارة يسمون مؤمنين، وتارة مسلمين، وتارة فساقاً.

    فإن قيل: ما الأصل في أهل الكبائر؟ هل هم فساق أم مؤمنون أم مسلمون؟ يقال: إن الأصل فيهم أنهم مسلمون، فلا يكون الاسم المطلق لهم في سائر الأحوال والموارد هو الفسق فإن هذا شبهٌ بالمعتزلة، وكونه شبهاً بالمعتزلة ليس من جهة كون مرتكب الكبيرة لا يسمى فاسقاً، فإنه يسمى فاسقاً بإجماع السلف وبصريح الكتاب والسنة، ولكن لا يلتزم معه هذا الاسم في سائر الموارد، بل يكون هذا الاسم مناسباً لبعض أحواله، كما أن اسم الإيمان قد يناسب بعض أحواله، ويكون الاسم المطلق له هو اسم الإسلام فإنه الأصل فيه.

    ومعلوم أن حسنة التوحيد والإيمان الذي عنده، أعظم مما معه من الكبائر، فهي أولى بالاختصاص به.

    هذا هو محصل قول أهل السنة والجماعة في مسألة الأسماء.

    قول الخوارج والمعتزلة في أهل الكبائر

    جمهور الخوارج يقولون: إن أهل الكبائر كفار كفر ملة، وقال عبد الله بن إباض وأصحابه الأباضية: إنهم كفار كفر نعمة، ويقول: إنهم مخلدون في النار. وهذا تناقض، فإنهم إن كانوا مخلدين في النار لزم أن يكونوا كفاراً كفر ملة.

    وقالت المعتزلة: إنهم ليسوا كفاراً وليسوا مؤمنين أو مسلمين، بل هم فساق، ويريدون بالفسق هنا الفسق المطلق الذي لا يصاحبه من الإيمان شيء، وعن هذا قيل: إن من التزم في أهل الكبائر اسم الفسق في سائر الموارد ففيه شبه بالمعتزلة، والمراد بذلك من نفي اسم الإسلام أو اسم الإيمان في بعض موارده عنهم، فإنهم خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102] .. وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التوبة:106] .

    قول المرجئة في أهل الكبائر

    والمرجئة تقول: إنهم مؤمنون، وجمهور المرجئة مع قولهم بأنهم مؤمنون يقولون: إنهم مؤمنون بإيمانهم فاسقون بكبائرهم، وهذه الجملة وإن كانت صحيحة إلا أنها لا تميز مذهب السلف عن مذهب أكثر المرجئة، فالأشعرية في كتبهم يقولون: إن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويكون التحصيل للتمييز هو في الجملة الأخرى التي يستعملها من يستعملها من أهل السنة والجماعة، وهي قولهم: إنه مؤمن ناقص الإيمان، فجملة النقص في إيمانه هي المحصلة للتمييز بين قول السلف وقول جماهير المرجئة، وإلا فالقول بأنه مؤمن مع فسقه يقر به جماهير المرجئة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088545689

    عدد مرات الحفظ

    777240965