الكرام الكاتبون هم الملائكة الموكلون بكتابة أعمال العباد، وهم المذكورون في مثل قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12] ، وقوله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح عن أبي هريرة : (يتعاقبون عليكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) ، فهؤلاء الكرام الكاتبون، يكتبون أعمال العباد حسنها وسيئها.
ومنهم من قال: لا يكتب إلا ما كان من الحسنات والسيئات؛ لظاهر قوله تعالى: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49] ، فهذان قولان مأثوران والمسألة فيها سعة.
الله أعلم بماهية قبضه للأرواح، وإنما يؤمن أهل السنة والجماعة والجماهير من المسلمين بأن الله سبحانه قد وكل بالموت ملكاً يقبض أرواح العباد، وقد ثبت ذكر ملك الموت في السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله: (على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم):
عذاب القبر مذكور في القرآن، ولكنه ذكر في القرآن مجملاً، وهو المذكور في مثل قوله تعالى إخباراً عن آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [غافر:46] ، وكأن مراد الطحاوي رحمه الله بقوله: (على ما جاء عن رسول الله) أي: مفصلاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فصل عذاب القبر.
والأحاديث في عذاب القبر متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، ومن ذلك حديث أنس المتفق عليه: (إن أحدكم إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، قال: فيأتيه ملكان..) .
وجاء عند ابن حبان : (أن أحدهما منكر والآخر نكير..) ولهذا ذكر المصنف ذلك بقوله: (وسؤال منكر ونكير) وهذان اسمان للملكين، ولم يخرج في الصحيح تسميتهما، ولكن الأئمة ذكروا ذلك، وممن ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله، واحتج على هذه التسمية بهذا الحديث، فهذا الحديث مستعمل في كلام الأئمة رحمهم الله ومحتجٌ به.
ومن ذلك أيضاً ما جاء في حديث زيد بن ثابت الثابت في الصحيح قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن بضعة نفر، وهو على بغلة إذ جالت به وكادت أن تلقيه، وإذا أقبر خمسة أو ستة أو أربعة فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: من هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع به) .
وأيضاً في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) ، وفي روايةٍ في الصحيح: (وإنه لكبير) ..إلخ.
وأيضاً جاء من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة ومقعده بالعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) ، فأحاديث عذاب القبر وكذا نعيمه متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أجمع عليها السلف، وخالف في ذلك طوائف من المعتزلة، فأنكروا عذاب القبر أو أنكروا بعض تفاصيله.
والروح لها أحوال مختلفة، ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تطير في الجنة، وأن أرواح الأنبياء في عليين.. ولكنها وإن كانت تنعم في الدرجات العليا فإنها تكون متصلة بالجسد نوع اتصال، وهذا هو المقصود من قولهم: إن العذاب يقع على الروح والجسد، فالمقصود بذلك ما يقع بالاتصال، وإن كانت الروح قد تفارق مفارقة ما، إما إلى نعيم وإما إلى عذاب.
وقد يكون العذاب أو النعيم على الروح والجسد مع أنهما في القبر، أي أن الروح تكون في القبر، فهذه أحوالٌ تختلف بحسب حال العبد، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الإيمان: أنه يفسح لهم في قبورهم، وما إلى ذلك، ولهذا قال في دعائه للموتى: (اللهم افسح لهم في قبورهم، ونور لهم فيها) ، فالقصد أن أهل السنة أجمعوا على أن العذاب يكون على الروح والجسد، وقول من يقول: بأن الجسد لا علاقة له البتة، وإنما النعيم أو العذاب على الروح فقط، قول مبتدع وإن ذكره بعض المتأخرين من أهل السنة.
القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة، وذلك في حق أهل الإيمان والإسلام، وإما أن يكون حفرة من حفر النار، وذلك في حق أهل الكفر، وأما فساق أهل الملة فقد يعرض لهم في قبورهم ما هو من العذاب، ولكن لا يلزم أن يستمر هذا العذاب أو التضييق، بل يكون مآلهم إلى خيرٍ ورحمة من الله سبحانه.
جمهور الأصول السمعية متفق عليها بين عامة طوائف المسلمين، وإن كانت هناك مخالفات عند المبالغين في التأويل كبعض الغلاة من المعتزلة، أو من تأثر بالفلسفة من الأشاعرة، أو دخل في شيء من ذلك، أو في التصوف الإشراقي كـأبي حامد الغزالي ، حيث يعرض له في كلامه ما هو من التأويل لبعض هذه المسائل كمسألة الميزان ونحوه، وإلا فإن الأصل عند جماهير أهل القبلة -فضلاً عن إجماع أهل السنة والجماعة- هو الإيمان بهذه المسائل وأنها حقائق وماهيات الله أعلم بكيفيتها وماهيتها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر