إسلام ويب

شرح القواعد السبع من التدمرية [7]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الذين ضلوا وزاغوا عن سبيل المرسلين وعباد الله المؤمنين من الكفار والمشركين، ومن اتبعهم من الفلاسفة والفرامطة والجهمية والباطنية ونحوهم -هؤلاء يصفون الله تعالى بالصفات السلبية، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له، وهذا القول يستلزم غاية التعطيل للصفات الذي يستلزم تعطيل الذات، ويستلزم غاية التمثيل؛ لأنهم مثلوا الله تعالى بالمعدومات والممتنعات، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
    قال المصنف رحمه الله: [وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب، ومن دخل في هؤلاء من الصابئة، والمتفلسفة، والجهمية، والقرامطة الباطنية، ونحوهم، فإنهم على ضد ذلك].

    قوله: (وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم):

    أي: خرج وضل عن سبيل المرسلين والمؤمنين.

    وقوله: (من الكفار والمشركين):

    ذكر الكفر والشرك، ولا شك أن كل كفر بالله سبحانه وتعالى فهو نوع من الشرك، والشرك المطلق الذي إذا ذكر في القرآن أريد به العبادة لغير الله، المذكور في مثل قول الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72] هو أيضاً كفر.

    أما أن الشرك الأكبر كفر فهذا أمر بين.

    وأما أن الكفر شرك ولا بد؛ فلأن الكافر لا بد أن يكون قد اتخذ إلهاً غير الله؛ لأن الاتباع المطلق هو نوع من الشرك، وقد ذكر الله في كتابه أنواع الشرك، فذكر من أشرك بعبادة الأصنام والأوثان، ومن أشرك بعيسى عليه الصلاة والسلام، وذكر من الشرك اتخاذ الهوى إلهاً، مثل قول الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] فهذا الذي أعرض عن سائر أمر الله ولم يرفع بذلك رأساً، أو سمى نفسه لا دينياً، أو نحو ذلك من التسميات؛ فإن هذا يقال: إنه كافر، ويجوز أن يقال: إنه مشرك، وشركه هنا بأنه قد اتخذ إلهه هواه، والشرك إذا أطلق في القرآن دل على الشرك الأكبر؛ ولذلك اختلف العلماء: هل الشرك الأصغر يدخل في قوله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] أم أنه يدخل في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] على قولين معروفين في كلام أهل العلم، وإن كان الأقرب أن بعض الشرك الأصغر من باب الكبائر، وليس من باب الشرك الأكبر المذكور في الآية.

    وقوله: (والذين أوتوا الكتاب):

    الذين أوتوا الكتاب إذا أطلق ذكرهم في القرآن فإنه يراد بهم اليهود والنصارى الذين انحرفوا عن كتابهم المنزل على أنبيائهم ورسلهم.

    المقصود بالصابئة

    وقوله: (ومن دخل في هؤلاء من الصابئة):

    اسم الصابئة يستعمل في غير معناه، فقد ذكر الله تعالى في القرآن قوماً من الصابئة مؤمنين، كما في قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ [البقرة:62] على أحد التفسيرين. وليس هذا هو قصد المصنف؛ بل مقصوده أتباع المتفلسفة، وقد ذكر المصنف في الرسالة الحموية أن الفلاسفة هم أئمة الصابئة وشيوخهم، وهذا أمر معروف في المقالات وكتب التاريخ: أن الصابئة يعتبرون دينهم أو طريقتهم بأئمتهم، وأئمتهم هم المسمون بالمتفلسفة.

    فهذا الاسم (الصابئة) يفسر على هذا المعنى.

    المقصود بالمتفلسفة

    وقوله: (والمتفلسفة):

    إشارة إلى من استعمل الفلسفة ممن انتسب إلى القبلة، ويقصد بذلك من صرح بفلسفته ممن انتسب إلى المسلمين، وقد تقدم أن علم الكلام مولّد من الفلسفة، ولكن أصحابه لا يتسمون بالفلاسفة ولا ينتسبون إليها؛ بل لهم اشتغال بالرد على مقالات المتفلسفة؛ كالقول بقدم العالم، وغيرها من المقالات.

    ولما تأخر التاريخ بعض الشيء جاء قوم انتسبوا إلى القبلة وانتحلوا الفلسفة، وانتسبوا إليها، وسموا أنفسهم بهذا الاسم، وأخص هؤلاء: ( أبو نصر الفارابي ) و( الحسين بن عبد الله بن سينا )، ثم بعد ذلك كثروا وظهروا في بلاد المغرب، ومن أخص المغاربة: ( أبو الوليد ابن رشد ) و( ابن الطفيل ) وجماعة.

    الفرق بين المتكلمين والفلاسفة

    وهناك فرق بين الفلاسفة وبين المتكلمين، وأخص تلك الفروق: أن المتكلمين لهم طريقة في تحصيل مسائل أصول الدين مبنية على أن نصوص الصفات قد نطقت بالحق، ولكنها تحتاج إلى تأويل عن ظاهرها، فهي حق إذا ما أولت، أما قبل تأويلها فإنها لا تدل على الحق في زعمهم.

    أما ابن سينا وأمثاله من الذين صرحوا بالفلسفة وانتحلوها، ودافعوا عنها، فيرون أن الحق في باب صفات الرب، وفي باب ذاته، ووجوده، وأفعاله، وما إلى ذلك، يرون أن الحق في هذا الباب لم ينطق به القرآن، وإنما غاية ما في القرآن كما يقول ابن سينا : "إشارة مجملة إلى هذا التوحيد"، وإذا سألته: من أين يحصل ذلك؟ قال: يحصل الحق من الحكمة، ويقصد بالحكمة (الفلسفة)، فإن قيل له: أليس القرآن هدايةً للناس؟ فإن جوابه وجواب غيره من المتفلسفة: بلى! إن هذا القرآن هداية للبشرية، لكنه هداية للعامة، وأما الخاصة -على زعمه- فيرون أن الحق لم يذكر في القرآن؛ لقوة هذا الحق، وشدته، فلا تحتمله عقول العامة.

    فالخاصة يحصلون الحق من الحكمة -أي: من الفلسفة- وأما العامة فإنهم يكتفون بهذه الظواهر؛ لأن عقولهم لا تستوعب إلا هذا.

    ومن الفروق بينهم: أن المتفلسفة ينتسبون إلى الفلسفة، وأما المتكلمون فإنهم لا ينتسبون إليها؛ بل يطعنون فيها.

    ولكن من حيث نتائج المذهبين فإنهم يشتركون في بعض النتائج؛ كتعطيل الصفات عن حقيقتها الشرعية، ويختلفون في المقدمات.

    فمثلاً: ابن سينا لا يوجد في كتبه تأويل؛ بل إن ابن سينا شنع كثيراً على المعتزلة في مسألة التأويل، وقال: "إن نصوص القرآن لا تقبل التأويل"، وقد قال ذلك لأنه يزعم -تعالى كلام الله عن ذلك- أن هذا القرآن ليس هداية للخاصة، وإنما هو خطاب للعامة، فيقول: يجب أن يترك على ما هو عليه، بخلاف المعتزلة؛ فإنهم قالوا: إن الحق في حق الخاصة والعامة موجود في القرآن، ولكنه بحاجة إلى تأويل. فهذا فرق بين الطائفتين في المقدمات، ولكن لا شك أن طريقة ابن سينا أضل.

    حقيقة ابن سينا وابن رشد

    وابن سينا لم يكن يريد التقريب بين الشريعة والفلسفة؛ لأنه رجل نشأ نشأةً فاسدة، فأهل بيته كانوا من الإسماعيلية الباطنية، فنشأ إسماعيلياً باطنياً، ولذلك لم يكن عنده توقيرٌ للشريعة وأحكامها، وقد عرف بإخلاله للآداب، وبشربه للمسكر، ويذكر عنه أنه كان يسهر في قراءة كتب الحكمة والفلسفة، فإذا أعياه الأمر أخذ شيئاً من الخمر أو ما إلى ذلك.. فكان رجلاً فاسد الديانة، وفاسد الآداب، وفاسد العمل، عنده انحراف كثير.

    بخلاف ابن رشد ، فإنه كان فلسفياً، لكنه رجل معظم للشريعة، وفقيه على مذهب الإمام مالك ، وله مصنف مشهور في هذا وهو: (بداية المجتهد)، وأبوه كان من القضاة ومن الفقهاء المالكية، إلا أنه أُشرب هذه الفلسفة وصدقها، ولا سيما فلسفة أرسطو طاليس ، فإنه عُني بها، وشغف بها، وانتصر لها انتصاراً بالغاً، وزعم أن ابن سينا لم يفقهها، وأنه تكلم في مسائل الإشراق وما إلى ذلك.

    مع أن الحق أن ابن سينا -وإن كان أضل سبيلاً من أبي الوليد ابن رشد - إلا أنه أفقه وأعلم بالفلسفة وطرقها ومواردها من أبي الوليد بن رشد ، فإن ابن رشد إنما أخذ فلسفة أرسطو طاليس ، بخلاف ابن سينا ؛ فإنه ذكر هذه الفلسفة وغيرها.

    ولذلك فإن ابن سينا له في كتبه أكثر من طريق، فمرة يستعمل الطريقة العقلية الفلسفية، وهي طريقة أرسطو ، ومرة يستعمل الطريقة الإشراقية، وهي طريق الفلاسفة الإشراقيين، ومن كتبه في ذلك: كتاب (الشفا)، وهو أكبر كتبه في الفلسفة، وهو يقع في سبعة عشر مجلداً، قال في شأن هذا الكتاب في بعض رسائله: "وما أودعناه في هذا الكتاب فهو جري على عادة المشائين"، ويعني بالمشائين: أرسطو وأتباعه الذين يسمون بالمشائين.

    قال: "وأما الحق الذي لا جمجمة فيه" أي: لا خفاء فيه ولا شوب، "فهو ما أودعناه بالحكمة المشرقية" ويقصد بها: الطريقة الصوفية الإشراقية.

    إذاً: ابن سينا عقلاني في بعض كتبه، إشراقي صوفي في البعض الآخر، وفي كتاب (الإشارات والتنبيهات) جمع بين هذين السبيلين، كـأبي حامد الغزالي؛ فإنه عقلاني متكلم في بعض كتبه؛ كقواعد العقائد ونحوها، وهو صوفي، وهو المشهور عنه.

    وقد شاعت في القرن الرابع والخامس والسادس عند الصوفية أو الحكماء أو النظار نظرية تقول: (إن المذهب الشخصي للإنسان لا يلزم أن يكون واحداً)، ولهذا إذا قرأت لـأبي حامد كتاباً تجد أنه لا يرى فيه للعقل مقاماً؛ بل يعظم الإشراق، والنفس، وطريقة الصوفية، وتقرأ له كتاباً آخر فتجده فيه رجلاً عقلانياً، وتقرأ له كتاباً آخر فتجده فيه رجلاً واعظِاً.. وهكذا.

    وقد ظن بعض الباحثين أن الغزالي كانت له أطوار، وهكذا إذا أشكل عليهم مذهب رجل قالوا: كانت له أطوار، والحق أن هذا ليس من باب الأطوار، وقد أجاب الغزالي عن هذا الإشكال فقال: "فإن سألت عن المذهب فالمذهب ثلاثة: مذهب الجدل، الذي يجادل به المخالف للحق -في زعمه- فهذا يكون بالعقل وبعلم الكلام"، وهو أشعري في هذا المقام على طريقة المتأخرين من الأشاعرة، كـأبي المعالي الجويني ومن سلك طريقتهم ممن خالف طريقة مؤسس المذهب أبي الحسن الأشعري .

    يقول: "وإن سألت عن مذهب العامة فهو وعظ الشريعة في الزواجر والدواعي، وإن سألت عن المذهب الحق، وهو اليقين السر بين العبد وبين ربه، فهو طريقة الصوفية".

    فـأبو حامد يستعمل هذه الطرق، ولذلك لما رد على الفلسفة وكتب كتاب (التهافت) استعمل الطريقة الكلامية، وقال: "إننا نستعين بالمعتزلة في ردنا على هؤلاء".

    الجهمية

    وقوله: (والجهمية):

    الجهمية: نسبة إلى الجهم بن صفوان الترمذي ، وهو رجل معروف ومشهور يسيء المقالات؛ فإنه قال كلاماً أحدثه في الإسلام ونشره وأظهره. وهذا الاسم -أي: الجهمية- يطلق في كلام أهل العلم على أحد مرادين:

    المراد الأول: الجهمية المحضة الغالية الذين يتبعون طريقة الجهم بن صفوان بغلوها وشدتها، وينفون الأسماء والصفات، وهذا المذهب نزعته نزعة فلسفية، وهؤلاء يسمون بالجهمية المحضة.

    المراد الثاني: من اشتغل بنفي الصفات أو ما هو منها، فإنه يسمى جهمياً؛ ولذلك قيل: مناظرة الإمام أحمد للجهمية، مع أن جمهور من ناظره إذ ذاك كانوا معتزلة، ومن المعلوم أن المعتزلة ليسوا موافقين للجهم بن صفوان على عقائده؛ بل إن من أئمة المعتزلة -كما ذكره ابن الخياط في الانتصار للمعتزلة وهو معتزلي- من يكفر الجهم بن صفوان .

    فالرجل عندهم ليس محمود الحال، وهو وإن كان قد شاركهم في مسألة الصفات نوع مشاركة إلا أن بينهم فرقاً حتى في الصفات، وكذلك في مسألة الإيمان، فـالجهم من المرجئة الغلاة، بخلاف المعتزلة فإنهم وعيدية في باب الإيمان، وفي باب الأسماء.

    فاسم التجهم هنا في كلام شيخ الإسلام يقصد به الإطلاق الثاني وهو: من نفى الصفات؛ وذلك لما كان الجهم هو الذي نشر مقالة نفي الصفات وأظهرها أضيفت إليه، فصار كل من نفى الصفات يسمى جهمياً.

    القرامطة الباطنية

    وقوله: (والقرامطة الباطنية):

    نسبة إلى رجل يقال له: حمدان قرمط ، وهو رجل باطني من الباطنية، وهم الذين يعتبرون الإسلام والقرآن له ظاهرٌ وباطن.

    والتعبير بالظاهر -كما تقدم- موجود عند المعتزلة، إلا أن الظاهر عند المعتزلة يقابله المؤول، فالمعتزلة لا يسمون ما قابل الظاهر باطناً، وإنما يسمونه: مؤولاً، ويقولون: إن ظاهر النصوص ليس مراداً، إنما المراد هو التأويل. أما الباطنية فإنهم يقولون: إن الظاهر يقابله الباطن.

    والباطنية انتسبوا في فرق أهل القبلة إلى أحد طائفتين: إما إلى الشيعة، وإما إلى الصوفية، فهم إما باطنية الشيعة، وإما باطنية الصوفية، وهم الغلاة من كلا الطائفتين.

    ثم باطنية الشيعة وباطنية الصوفية على مدارس وطوائف، وبينهم قدر من الخلاف والوفاق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088464782

    عدد مرات الحفظ

    776886540