إسلام ويب

شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [1]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من الرسائل النافعة في بابها، القيمة في موضوعها، فقد بين فيها ما يجب على المسلمين من موالاة المؤمنين، وخاصة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وذكر أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، وأنهم جميعاً متفقون على وجوب اتباع ما صح من النصوص وسلم من المعارضة، وقد بسط الأسباب التي دعت المجتهدين إلى عدم الأخذ بالنص، والتمس لهم العذر في ذلك.. وهي رسالة تدل على كمال فقه وورع هذا الإمام رحمه الله رحمة واسعة.

    1.   

    مكانة العلماء في هذه الأمة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذا شرح لرسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لـشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله.

    قال المصنف رحمه الله تعالى ونفعنا بعلمه في الدارين آمين: [الحمد لله على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أرضه وسمائه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم لقائه وسلم تسليماً. وبعد:

    فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصاً العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فعلماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم؛ فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا.

    وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلابد له من عذر في تركه].

    هذه مقدمة هذه الرسالة الفاضلة لـشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد ذكر فيها فضل العلماء في هذه الأمة، وهذا الفضل لا يذكر من جهة التقدير المحض لدرجتهم ورتبتهم، وإنما يذكر لأن هذا من أخص مقومات ثبات هذه الأمة وقيامها شاهدة على الناس؛ فإن الأمة متى قل علماؤها بل متى فسد علماؤها -وهذه هي الرتبة الأقل التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم- فإذا فسد العلماء فسدت الأمة، ولهذا فإن صلاح هذه الأمة مرتبط بصلاح علمائها.

    ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه في الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً -أو لم يَبقَ عالمٌ- اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).

    ولذلك ينبغي أن يكون وجود العلماء من أخص مقاصد هذه الأمة، والأمر هنا يتعلق بأحد جهتين:

    الجهة الأولى: جهة العناية بإعداد طلبة العلم، وإعداد الطلاب الذين يعنون بعلم الشريعة، وتربية ملكتهم العلمية والفقهية على الأخذ بكلام أهل العلم والنظر في النصوص، والترقي بهم إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى لمن يخص منهم بدرجات عالية في العلم، حتى يصلوا إلى رتبة الاجتهاد.

    فالعناية بهذا التأسيس من أخص ضرورات الأمة في سائر أحوالها.

    ومن جهة أخرى: فإن البقية الباقية في الأمة، وهم علماؤها في سائر أمصار المسلمين، لا يختص ذلك بمصر من الأمصار ولا ببلد من البلدان؛ بل كل العلماء أينما كانوا وأينما صار مقامهم -ما دام أنهم قائمون بالعلم المأثور عن سلف هذه الأمة، وهو علم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، العلم المبني على الكتاب والسنة، واعتبار كلام الفقهاء المتقدمين في الإفتاء والنظر والترجيح وما إلى ذلك؛ فهؤلاء يجب أن يصان قدرهم، ويعظم مكانهم، ويرجع إليهم عملاً بما أمر الله به في كتابه في قوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] وقوله: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].

    فمثل هذه المقامات هي من أخص المقامات التي ينبغي -بل يجب- أن يربى الناس عليها في سائر أمصار المسلمين.

    والعلماء وإن اختلف الناس في بعض الأمصار عن بعض في شأن مقامهم، فإن هذا من طبيعة الناس، ولا يلزم في العالم أن يكون سائر ما يقوله مبنياً على قبول سائر العامة؛ بل ربما قال بعض العلماء قولاً لا يصلح لبعض العامة، أو قد يصلح لبعض العامة دون بعض، وقد يختلف اجتهاد العلماء في مسائل كثيرة.

    فمثل هذه الأمور لا ينبغي أن تكون مؤذنة عند أحد من عامة المسلمين بتأخير رتبة العلماء في الأمة، فإن العلماء متى ما أخرت رتبتهم في الأمة فإن هذا من أمارات الفتنة الكبرى في هذه الأمة.

    عدم تعمد أحد من الأئمة مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم

    وقد أشار المصنف رحمه الله إلى مقام فاضل، فقال: (وليُعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ويقصد بهم: أولئك الكبار من الفقهاء؛ كالأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، وأمثالهم ممن قبلهم أو ممن بعدهم، فمثل هؤلاء الكبار المعروفين عند الأمة ليس أحد منهم يتعمد مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    وهذا يرجع إلى قاعدة ذكرها القرآن، وهي من قواعد العلم وقواعد العقل والفطرة، فإن الله قال لنبيه: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50] فجعل للإنسان مقامين:

    المقام الأول: أن يكون متبعاً مستجيباً للنبي صلى الله عليه وسلم وللوحي.

    المقام الثاني: أن يكون متبعاً لهواه.

    ولا يجوز أن يُظَن بأحد من فقهاء المسلمين في سالف عصورهم، وكذلك في حاضر عصرهم -وأعني بهم الفقهاء الذين سبقت الإشارة إليهم، وهم القائمون بقصد الكتاب والسنة واتباع الحق، واقتفاء آثار الأنبياء وآثار السلف الصالح أهل القرون الثلاثة الفاضلة- فهؤلاء أصحاب هذا المقام لا يجوز أن يُظَن بواحد منهم أنه يتعمد مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه يتعمد أن يكون مستجيباً لهواه.

    وإن كان يشار هنا إلى أن القرآن ذكر مقامين، وهما: الاستجابة لله ورسوله، واتباع الهوى، فهل معنى ذلك أن الإنسان المعين إما أن يكون صاحب هوى، وإما أن يكون مستجيباً استجابة محضة؟

    يقال: من حيث الواقع في أحوال الناس فإن هذا المقام -أعني مقام الاستجابة- هو من مقامات الإيمان، بمعنى أنه يدخله الزيادة والنقص، وله أصل وله كمال، فالعلماء الربانيون الراسخون في العلم كأئمة العلم من الصحابة كالخلفاء الأربعة وأمثالهم ومن بعدهم، فهؤلاء يصانون عن اتباع الهوى بسائر درجاته، ولا يحسب في حالهم إلا أنهم من أهل الاستجابة لله ولرسوله.

    وقد يوجد بعض الفقهاء بعد عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم من يكون أصل مقامه على الاستجابة، ولكن مقام الاستجابة عنده يدخله شيء من عوارض النقص، فربما دخل عليه طرف من مادة الظن أو الهوى، ومادة الظن تتعلق بالعلم، ومادة الهوى تتعلق بظلم النفس.

    وقد ذكر المصنف رحمه الله في منهاج السنة: أن ما هو من مقام الهوى الخفي -ولاحظ وصف هذا الهوى بأنه خفي!- يقول: ما هو من مقام الهوى الخفي قد يعرض لبعض الكبار من أهل العلم؛ بل قد يعرض لمن هو من كبار أهل الإيمان والديانة عند المسلمين. بل أشار رحمه الله إلى قدر أكثر من ذلك، ومن شاء أن يقف عليه فليقرأه في منهاج السنة، وقد ذكره في معرض كلامه عن مسألة أئمة أهل البيت وبعض الصحابة.

    فهذا الطرف من الهوى الخفي -ونسميه طرفاً لأنه عارض وليس بأصل- قد يعرض لكثير من الناس، وقد يعرض لكثير من الفقهاء المتأخرين؛ بل ومن قبل المتأخرين، وهذا الهوى الخفي لا ينافي أصل الاستجابة، ولا ينافي المقصود الكلي منها، وقد يكون من صوره -كما سيأتي تفصيله- تلك الصور التي وقعت كثيراً في التاريخ من التعصب الغالي في بعض المذاهب الفقهية، فإن هذا التعصب إذا زاد أثره وصار تقليداً وتعصباً يتجافى عن أثر السنة والوحي، إذا زاد هذا التعصب فلا شك أنه ليس وجهاً من الاستجابة لله ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ بل إنه يكون من النوع المذموم.

    إذاً: عندما ذكر القرآن المقامين لا يفهم من ذلك أن الناس إما أن يكونوا أهل استجابة محضة أو أهل هوى محض؛ بل من حيث واقع المسلمين فإن منهم المحققين لمقام الاستجابة، ومنهم من أتى مقام الاستجابة من حيث الأصل، ولكن قد يعرض له ما هو من مقامات الهوى الخفي، وهذا الهوى تارة يكون بوجه من الظلم، وتارة يكون بوجه من الجهل، فإن جماع الخطأ -كما ذكر القرآن- هو الجهل والظلم، قال الله تعالى: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].

    فمن حقق الاستجابة تجرد عن الظلم والجهل، ومن نقصت استجابته أصابه طرف من الظلم أو طرف من الجهل، وهذا من حيث الأصل.

    1.   

    اختلاف العلماء والفقهاء

    ذكر المصنف أن من ترك العمل بحديث من الفقهاء، فإن جماع العذر في هذا الترك أنهم لا يقصدون ذلك عمداً، وذكر أن جماع العذر في هذا يعود إلى ثلاثة أسباب.

    ثم يذكر المصنف في رسالته هذه الأسباب الثلاثة ثم يعود بعد ذلك إلى تفصيلها إلى عشرة أسباب.

    قال المصنف رحمه الله: [ وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:

    أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.

    والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.

    والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ].

    وهذه الأسباب الثلاثة التي جعلها المصنف جِمَاع الأسباب، هي متعلقة بجهة الدليل العلمي، وبخاصة فيما يتعلق بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما فسر هذه الأسباب الثلاثة بعشرة أسباب بعد ذلك دار كلامه رحمه الله على هذا.

    ومن المعلوم أن هذا وجه من أسباب اختلاف العلماء والفقهاء، لكن إذا أُخذت مسألة الخلاف الفقهي والذي كانت بدايته لا أقول في زمن الصحابة، بل في زمن النبوة، وإن كان من المسلَّم به عند المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاصم وقوله قاطع، ومع ذلك قد اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في زمنه لكن ليس بحضرته، ومن الأمثلة على ذلك: اختلافهم في تفسير حديثه لما قال في حديث ابن عمر في الصحيح: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) فإن الصحابة اختلفوا في المراد بهذا الحديث، ومنها: اختلافهم في معنى قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عباس المتفق عليه حين ذكر الأمم، ثم ذكر أمته فقال (ومنهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) قال ابن عباس : ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم... الحديث.

    أقسام الخلاف

    إذاً: الصحابة قد اختلفوا زمن النبوة في مثل هذه الأحوال، ولما توفي عليه الصلاة والسلام انتشر مثل هذا الخلاف في مسائل الفقه وفروع الشريعة، فقد اختلفوا في مسائل كثيرة، وإن كان هذا الخلاف الذي وقع بعده عليه الصلاة والسلام انقسم في الجملة إلى قسمين:

    القسم الأول: ما يحسم بنص بين، فيستقر الأمر ويرتفع الخلاف، كما خالف بعض آل البيت كفاطمة رضي الله عنها في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، فظنوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يورث، وأرسلت فاطمة -كما في الصحيح- إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها، فكتب إليها أبو بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) والحديث صحيح كما هو معروف.

    فمثل هذه الأوجه من الخلاف كأنها ترتفع بوجود النص، فيستقر الأمر، وكما حصل في زمن عمر رضي الله تعالى عنه لما سار بالأجناد إلى الشام، فبلغه أن الطاعون قد وقع بالشام، فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا عليه، ثم استشار الأنصار فاختلفوا عليه، فمنهم من قال: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، ومنهم من قال: يا أمير المؤمنين! قد خرجت لأمر ولا نريد أن ترجع عنه، فكان هذا جواب المهاجرين والأنصار، ثم أمر أن يدعى من بقي معه من مسلمة الفتح، فاجتمعوا على كلمة واحدة وهي أن يرجع، فنادى: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة : أفرار من قدر الله؟ فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة !

    لكن هذا الخلاف كأنه ارتفع بمجيء عبد الرحمن بن عوف وقوله: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به -أي: الطاعون- بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا يخرجنكم الفرار منه) فهذا النص الصريح ارتفع به هذا الخلاف الذي عرض في زمن عمر رضي الله تعالى عنه.

    إذاً: هذا النوع من الخلاف يرتفع بوجود نص قاطع.

    القسم الثاني: الخلاف الذي لا يرتفع؛ بل تبقى مادة الخلاف موجودة في المسألة المختلف فيها؛ وذلك لأنه يكون مبنياً على مناطات من النصوص ومقاصد من الشريعة ونحو ذلك، وقد وقع هذا الخلاف في زمن الصحابة رضي الله عنهم، فقد اختلفوا في بعض مسائل المواريث، وفي بعض مسائل الحج، ومن المعلوم أن الخلاف ظل فيها إلى ما بعد عهد الصحابة حتى نقلت مذاهب فيما بعد، فصار لبعض الصحابة مذهب وصار للبعض الآخر ما يخالف ذلك.

    إذا كان كذلك فإن الخلاف الفقهي واسع، والخلاف الفقهي في الجملة -وإن كان هذا تعبيراً اصطلاحياً- كأنه يقابله الخلاف المتعلق بالعقائد وأصول الدين، ومعلوم أن باب أصول الدين محكم عند الصحابة وليس فيه مادة للخلاف، ولهذا فإن المخالف فيه هم أهل البدع والأهواء، وأما ما يتعلق بالخلاف الفقهي فإن السبب فيه لا بد من فقهه على وجه من السعة، ومن فَقِه السبب في هذا الخلاف الفقهي وسار على حسن إدراك له عرف مراتب الخلاف.

    1.   

    مكونات الخلاف الفقهي

    أسباب الخلاف تتعلق بأربع جهات، وإذا أُخذت هذه الجهات الأربع ونُظر إليها نظراً منطقياً؛ وُجد أنها هي الجهات المكونة للخلاف الفقهي، أي: عنها يتكون الخلاف الفقهي، وهي كما يلي:

    الجهة الأولى: جهة الدليل، والدليل فيه ثلاث حيثيات:

    الحيثية الأولى: الدليل من حيث التعيين.

    الحيثية الثانية: الدليل من حيث درجة الاحتجاج أو درجة الحجية.

    الحيثية الثالثة: الدليل من حيث الثبوت.

    الجهة الثانية: جهة المدلول من حيث الإفادة للحكم، وهي جهة الدلالة كما تسمى.

    الجهة الثالثة: جهة المستدل، وهذه الجهة الكلام فيها قليل عند أهل الأصول، وإذا تكلموا فيها فإنما يتكلمون فيها من معتبر واحد في الجملة.

    والمستدل: هو الفقيه، سواء كان مجتهداً أو لم يكن مجتهداً، ومعلوم أن أكثر من يتكلم ويفتي ليس هم أهل الاجتهاد؛ لأن المجتهدين أقل من الفقهاء غير المجتهدين، وهذه نتيجة طبيعية، فإن الذين يستطيعون أن يجيبوا عن كثير من المسائل -اليوم- هم كثير، ولكن إذا نظرنا إلى المجتهدين الذين بلغوا رتبة الاجتهاد العالية وجدناهم قليلين بالنسبة لسائر الفقهاء.

    إذاً: المقصود بالمستدل من يفتي الناس وينقل لهم أقوال الفقهاء، أو يرجح في الخلاف الفقهي، سواء كان من أهل الاجتهاد، أي: من مؤسسي الخلاف، أو كان من ناقليه ومقرريه والمنتصرين له بوجه من الوجوه.

    والمستدل فيه أربعة معتبرات:

    المعتبر الأول: من حيث المجموع العلمي عنده، والمجموع العلمي في الغالب هو ما يذكره الأصوليون فيما يسمونه بشروط المجتهد، ومما يذكرون: أن يكون عارفاً بالناسخ والمنسوخ، عارفاً بأحاديث الأحكام، عارفاً بدلالة اللغة.. إلخ.

    المعتبر الثاني: البيئة الخاصة -وهذه الأسماء أو المصطلحات قد تكون جديدة من بعض الحيثيات، ولكن من حيث الحقائق هي مؤثرة، وقد أشار إلى درجاتها في التأثير جماعة من العلماء منهم المصنف، وابن حزم ، والشاطبي .. وغيرهم- والبيئة الخاصة قد تكون بيئة مذهبية؛ كانتحال الفقيه لمذهب فقهي، كانتحال الشافعي لمذهب الشافعية، وانتحال الحنفي لمذهب الحنفية، فهذه البيئة التي عاشها تؤثر فيه: أهو من متقدمي الأحناف أو من متأخريهم؟ وعلى أي كتب المذهب تمذهب؟ وعلى أي درجات فقه المذهب تمذهب؟ .. وهكذا.

    فالبيئة الخاصة قد تكون بيئةً مذهبية فقهية على أحد المذاهب الأربعة، وقد تكون بيئة على مذهب أهل الحديث؛ كبعض الصور التي ظهرت في التاريخ بعد عصر الأئمة، وهي أحوال لبعض أهل الحديث في الانفكاك من المذاهب الفقيه أو التمذهب بمذهب فقيه معين، وقصدهم هو التمذهب والالتزام بما دلت عليه النصوص وما إلى ذلك، والبيئة لها صور سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.

    المعتبر الثالث: البيئة العامة، سواء كانت بيئة إقليمية تتعلق بإقليم، أو بحدود جغرافية معينة، فيكون أهل هذا البلد لهم طبيعة معينة أو تأثير معين، أو كانت بيئة تتجاوز إقليماً معيناً، وهذا أيضاً يؤثر في النتائج الفقهية.

    المعتبر الرابع: التكوين الذاتي، ويقصد بالتكوين الذاتي: طبيعة المستدل: كيف خلقه الله؟ ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس متفاوتين، والفقيه واحد من الناس، فقد تكون له طبيعة تختلف عن الفقيه الآخر من حيث حرارة الطبع وبرودته، ومن حيث سعة العقل وعدم سعته، ونحو ذلك مما سنذكره إن شاء الله.

    الجهة الرابعة لأسباب الخلاف هي: المسألة المستدل عليها، التي يراد إعطاء حكم لها، وأثر هذه الجهة هو من جهة اعتبار الفقيه لمحل المسألة من الشريعة: هل هي من الرتب الأولى في الشريعة، أم هي مما دون ذلك؟ وهل صرحت بها النصوص أم لم تصرح بها؟ وهل مقصود هذا الباب يتأتى عليها؟ وهذه سنتكلم عنها لاحقاً إن شاء الله تعالى.

    هذه هي الجهات الأربع، وإذا تأملتها تأملاً منطقياً -ولا بأس بهذا التعبير- وجدت أن مناط المسائل العلمية لا يخرج عن أثر هذه الجهات الأربع.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768252584