إسلام ويب

شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [5]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ينقسم الناس من حيث الفقه في الدين إلى: مقلد، وناظر، وفقيه، ومجتهد.. وكل له درجته ومقامه الذي يجب عليه أن يلتزمه. وإذا رجعنا إلى أسباب ومكونات الخلاف الفقهي وجدنا أن الجهة الرابعة من تلك المكونات هي: المسألة المستدل عليها، ولابد أن تفقه من حيث التصور لها، ورتبتها من الشريعة، وفقهها من حيث الأصل.
    الناس من حيث الأصل أربعة أصناف: إما مقلد، وإما ناظر، وإما فقيه، وإما مجتهد.

    المقلد

    أما المقلد فليس داخلاً في بحثنا الآن؛ لأنه ليس مستدلاً، فإن المستدل إما أن يكون ناظراً، وإما أن يكون فقيهاً، وإما أن يكون مجتهداً، ولكن من هو المقلد؟ إن القول بأن الفقيه المقلد لمذهب والعامي المقلد كلاهما مقلد بنفس المستوى قول غير صحيح، ولكن المقلد المحض: هو من لا يملك القدرة العلمية على فهم أقوال الفقهاء وإنما حقه السؤال، فيسأل أهل العلم عما يعرض له من مسائل وأحكام، ومن ثم يجاب عنها.

    الناظر

    الناظر: هو من يملك القدرة العلمية على فهم أقوال الفقهاء والاختيار منها. وهذا حال كثير من الباحثين المختصين بأبواب من الفقه، وحال كثير من طلبة العلم الذين جالسوا الشيوخ والعلماء، فهؤلاء لا يسمون مقلدين بمعنى التقليد المحض؛ لأن الواحد منهم عنده قدرة على أن ينظر في كتب الفقهاء؛ ككتب الفقه المقارن، وكتب المذاهب، ويرجع إلى بعض الكتب في السنن والآثار كالمصنفات مثلاً، فعنده قدرة على هذا الجمع العلمي، ثم يستنتج أن المسألة مثلاً فيها ثلاثة أقوال، ويذكر أقوال الفقهاء مع أدلتهم، ثم يصل إلى نتيجة يراها أقرب إلى الشريعة، فيقول: الأقرب عندي هذا القول؛ كمن يصل إلى نتيجة فيرى أن ما قرره ابن تيمية في مسألة تحية المسجد أقوى من حيث الدليل، ومن حيث تطبيق القواعد الأصولية، وهذا الأمر -كما ذكرنا- يحصل لكثير من الباحثين الذين ينصرف أحدهم في بحث ما إلى دراسة كتاب الطهارة أو كتاب الجنايات من الفقه، لكن لا يوجد عنده اطلاع واسع في أبواب الفقه الأخرى، إنما قصد إلى مبحثٍ معينٍ خاص.

    ويحصل كذلك لكثير من طلاب العلم الذين جالسوا العلماء والشيوخ، فتجد أن عندهم هذه القدرة، لكنهم ليسوا على أكثر من ذلك.

    إذاً: هذا يسمى: ناظراً في أقوال الفقهاء، وليس هو مجتهداً ولا فقيهاً، وسيأتي الفرق بينه وبين الفقيه، وليس هو أيضاً كالعامي المقلد؛ لأنه -كما ذكرنا- يستطيع أن ينظر في أقوال الفقهاء، ثم يصل إلى اختيار يراه، وليس بالضرورة أن يكون هذا الاختيار اجتهاداً مطلقاً؛ بل هو اختيار حسب ما يقارب من الأدلة عنده.

    الفقيه

    الفقيه على مرتبتين:

    المرتبة الأولى: من اجتمع له القدرة العلمية على فهم أقوال الفقهاء والاختيار منها، أي: استكمل رتبة الناظر، مع معرفته بجمهور الأقوال في مذهب ما، كمذهب الشافعية مثلاً، فنجد أنه قد حفظ جمهور فروع الشافعية، وعرف أقوالهم، فإذا عرضت له مسألة من المسائل؛ سواء كانت في العبادات أو في المعاملات؛ نجد أنه يعرف أقوالهم فيها؛ إما لكونه قد حفظ متوناً في المذهب فعرف فروعهم، أو لأوجه أخرى من التحصيل العلمي، ولذلك لا يسأل عن مسألة -في الجملة- في فروع مذهب الشافعي إلا وأجاب عنها.

    وهذا حال كثير من الفقهاء أتباع المذاهب الأربعة الذين جاءوا في عرض التاريخ، فهم يملكون القدرة العلمية، أي: يعرفون مصطلحات العلماء وعباراتهم، والمصطلحات الأساسية التي هي التأصيل العلمي الأول، وهي أصول علوم الآلة، فيعرفون التأصيل العلمي في علوم اللغة مثلاً، وفي أصول الفقه، وفي علم المصطلح، ونحوها من علوم الآلة.

    المرتبة الثانية -وهي الأعلى-: من اجتمع له القدرة العلمية على فهم أقوال الفقهاء والاختيار منها، مع معرفته بجمهور الأقوال في مذاهب الفقهاء، فهو ليس مختصاً بمذهب معين، كمذهب الحنفية أو الشافعية أو الحنابلة أو المالكية؛ بل إنه يعرف في أكثر المسائل أقوال الحنفية والشافعة والمالكية والحنابلة، ولا يلزم بالضرورة أن يسند الأقوال على التعيين، لكنه يعرف أن في المسألة ثلاثة أقوال أو نحو ذلك.

    المجتهد

    المجتهد: هو من استكمل رتبة الفقيه العالية - وهي الثانية- أي: أنه يملك القدرة على فهم أقوال الفقهاء والاختيار منها، مع معرفته بجمهور الأقوال في مذاهب الفقهاء، مع امتيازه -وهذا هو الفرق بينه وبين الفقيه- بملكةٍ فقه بها مفصل مقاصد الشريعة.

    فهو لم يقتصر على مجرد القدرة العلمية على فهم أقوال الفقهاء، بل ويعرف أيضاً جمهور أقوال الفقهاء، وكذلك يمتاز بملكة فقه بها مفصل مقاصد الشريعة؛ لأن أخص امتياز في الاجتهاد هو فقه مفصل مقاصد الشريعة، وليس فقط معرفة مجمل القواعد، مثل: اليقين لا يزول بالشك، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، فإن هذه -كمعلومات- جمل تحفظ في مجلس.

    وهذا الفقه بمفصل مقاصد الشريعة يتحصل من سعة المجموع العلمي عنده، ومن نظره في سائر العلوم، ويتحصل بدرجة أخص من طبيعته التي خلقه الله عليها، فإن بعض الناس لا توجد عنده ملكة على فهم المقاصد، إنما هو حامل فقه، وليس بفقيه فيه، والفقيه في لسان الشارع هو صاحب الاجتهاد، قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، فالفقيه هنا من يحمل الفقه، لكن إذا كان فقيهاً فيه سمي في الاصطلاح: مجتهداً.

    إذاً: المجتهد من استكمل رتبة الفقيه الثانية -العالية- مع امتيازه بملكة فقه بها مفصل مقاصد الشريعة، وهذه الملكة تتحصل بالمجموع العلمي، وبالطبع الذي خلقه الله عليه من القدرة.

    ومن المعلوم أن الصحابة تفاضلوا في فقههم وهم صحابة، فـمعاذ بن جبل كان فقيهاً في الحلال والحرام، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على امتياز معاذ في هذا الباب، وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه حافظاً، لكنه لم يشتهر كاشتهار معاذ في الفقه، وابن مسعود رضي الله عنه كان فقيهاً في القرآن، وقد كان رضي الله عنه يقول -كما في الصحيح-: (لو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله أو قال: أفقه مني في كتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه)، وهذا من الثقة التي وصل إليها ابن مسعود في إدراكه لفقه القرآن وسعة علمه بذلك.. وهكذا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.

    ومن هنا يتبين أن الاجتهاد ليس كلأً مباحاً، كل من تعلم شيئاً من العلم وأراد أن يكون مجتهداً، أو دفعه الجمهور إلى الاجتهاد تحول إلى مجتهد، وهذه هي المشكلة الواقعة اليوم في الأمة، ليس في مصر معين فقط؛ بل في عامة الأمصار، وفي أبواب أيضاً مختلفة، وهذا أمر ينبغي أن يتفطن له طلبة العلم، فلا يتقدم طالب العلم أكثر من المرحلة التي وصل إليها. فمثلاً: الناظر ليس هو الفقيه، والفقيه: هو الذي ينتصب للناس ليفتي في الحلال والحرام، والناظر ليس من حقه أن يفتي الناس ويجيب عن أسئلتهم وقضاياهم الدينية؛ لأن الإفتاء هو من اختصاص الفقيه، لكن ليس بالضرورة أنه هو الذي يفصل في النوازل، إنما يُسأل عن مسائل فقهية، فإن كان على مذهب معين أجاب بما قال فقهاء المذهب، وإن كان عالماً بجميع المذاهب أجاب بما يراه، وهذا يسمى فقيهاً برتبتيه، أما الناظر فهو الذي ينظر في مسائل معينة، وقد يعطي حكماً جيداً فيها، كما يحصل من بعض الباحثين الذين لديهم تحصيل علمي متميز في بحث معين، فهذا يسمى ناظراً، وله قدر من الاعتبار والاختصاص والامتياز كما هو الواقع اليوم.

    إذاً: الاجتهاد ليس كلأً مباحاً لكل من رأى من نفسه القدرة العلمية، أو رأى ذلك له غيره، وبالمقابل فليس الاجتهاد نظرية مثالية متعالية، فأهل السنة والجماعة بل وجمهور المسلمين ليس عندهم مثاليات مطلقة تحت شروط شبه غائبة، أو شروط مثالية متعذرة التطبيق؛ لأن الأمة لا بد لها من إمام مجتهد على الأقل، فمن استكمل رتبة الفقيه الثانية، فكان عنده قدرة علمية على فهم أقوال الفقهاء والاختيار منها، مع علمه بجمهور الأقوال في المذاهب، وآتاه الله ملكة بمجموع علمي طلبه، وبطبع خلقه الله عليه من الفقه، فهذا هو المجتهد.

    وهل من شروط المجتهد أن يكون ممن يمكنه الاجتهاد في كل المسائل؟

    الجواب: من قال من الأصوليين: إن من شرطه أن يكون قديراً على الاجتهاد في كل المسائل، فهذا واهم؛ لأنه لم يوجد أحد في التاريخ كذلك، فكل إمام قد توقف في بعض المسائل، حتى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قد توقفا في بعض المسائل، فليس هذا -إذاً- من شروط المجتهد، فإنه من المعلوم أنه إذا جاء المجتهد إلى المسألة التي يجتهد فيها فقد يتلكأ عن الاجتهاد فيها لسبب؛ إما لنقص في تصور المسألة، أو لأسباب أخرى.

    أيضاً: المسألة التي يريد المجتهد الاجتهاد فيها لا شك أن من شرط اجتهاده فيها: أن يكون محيطاً بعلم هذه المسألة في الجملة، أما الإحاطة المطلقة فلا تشترط هنا، فمثلاً: إذا أراد أن يجتهد في مسألة في الحج فلابد أن يكون فقيهاً في أدلة الحج وأحاديثه وأحكامه؛ لأنه سيجتهد في بابه، فالمسألة التي يجتهد فيها لا بد أن يكون عالماً في الجملة بمفصل أدلتها، وهذا الشرط إنما يشترط في المسألة التي يراد أن يجتهد فيها، أما مسألة قد كفاه الفقهاء أمرها من قبل، وليست من النوازل ولا من عوارض الاجتهاد، فهذه مسألة يدرج فيها على طريقة من سبقه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088809218

    عدد مرات الحفظ

    779188759