إسلام ويب

شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [9]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الترجيح هو تقديم المحتمل الأقوى في نظر المستدل، وإنما يصار إليه إذا كان في المسألة خلاف معتبر، أما إذا كان الخلاف شاذاً، أو مخالفاً لإجماع العلماء ونحو ذلك، فإنه لا يصار هنا إلى الترجيح؛ لأن القول الشاذ لا عبرة به ولا التفات إليه.
    قال المصنف رحمه الله :

    [وبهذا الدليل رجح عامة العلماء الدليل الحاضر على الدليل المبيح، وسلك كثير من الفقهاء دليل الاحتياط في كثير من الأحكام بناءً على هذا، وأما الاحتياط في الفعل فكالمجمع على حسنه بين العقلاء في الجملة، فإذا كان خوفه من الخطأ بنفي اعتقاد الوعيد مقابلاً لخوفه من الخطأ في عدم اعتقاد هذا، بقي الدليل الموجب لاعتقاده والنجاة الحاصلة في اعتقاده دليلين سالمين عن المعارض].

    يشير المصنف رحمه الله في هذا السياق من كلامه مع كلام سبق ولحق في تقريره إلى مسألة الترجيح، وهذه هي المسألة التي سنتكلم عنها الآن، ولقد أشار المصنف في هذا السياق إلى شيء من مناط الترجيح عند كثير من أهل العلم، وإذا تكلمت عن هذا المعنى من فقه الخلاف أو فقه الفقه -إن صح التعبير- فإن مسألة الترجيح يمكن أن يقال إن القول فيها يقع في أربع جهات:

    الجهة الأولى: ماهية الترجيح.

    الجهة الثانية: محل الترجيح.

    الجهة الثالثة: لغة الترجيح.

    الجهة الرابعة: مناطات الترجيح.

    ماهية الترجيح

    الجهة الأولى: ماهية الترجيح:

    إن ماهية الترجيح -أي حقيقة الترجيح- هي: تقديم المحتمل الأقوى في النظر، أي: في نظر المستدل، ويقابل الراجح: المرجوح، وحينما يقال: إنه تقديم للمحتمل الأقوى، أو تقديم للظني الأقوى؛ فإنه من المعلوم أنه في نفس الأمر عند عامة أهل النظر والفقه - بل حكي الإجماع عليه عند السلف -أن حكم الله سبحانه وتعالى في المسألة واحد، هذا أصل معروف عند السلف، ومع ذلك فإن الفقهاء إذا تردد قولهم على أكثر من قول فإن هذا الاحتمال يتعلق بهذه الجهة، لا بجهة الحكم في نفس الأمر، فإن الحكم في نفس الأمر واحد.

    وهل هذه الدرجة من الاحتمال تجعل عمل الناظر بالقول الذي رجحه ليس عزماً في التدين؟

    الجواب: لا؛ بل يعزم بالفعل عند تدينه لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك فإن من يذهب إلى فعل من الأفعال فإنه يعزم به، ومن لا يذهب إلى هذا الفعل من الفقهاء فإنه لا يعزم به، فعند الفعل - أي: التعبد لله بالعمل - فإن المستدل هنا يعزم بفعله، لكن إذا تعلق الأمر بجهة القطع بقوله دون قول غيره من أهل العلم، فإن هذا لا يحصل فيه عزم.

    ولهذا فإن الماهية تتجاذبها بعض الترددات، فالماهية التي نتكلم عنها هنا هي الترجيح بين أقوال المختلفين، ولسنا نتكلم عن ماهية الحكم في نفس الأمر، ومن هنا قيل: إن ماهية الترجيح تقديم الأقوى، وإلا فإن الحكم في نفس الأمر واحد، وحتى من جهة الفعل، فإن المكلفين يعزمون بفعلهم الذي رأوا أنه الظاهر بحسب اختلاف أئمتهم ونحو ذلك.

    وقولنا: الترجيح، أفصح من قولنا الراجح؛ لأن الترجيح هو فعل المفاضلة بين الأقوال المختلفة، فماهية الترجيح: هي تقديم الأقوى في النظر، أي: في النظر الشرعي بمجموع الأدلة، والذي يقابل الراجح هو المرجوح فالمقدم هو الراجح ويقابله المرجوح، وقولنا: إنه تقديم للأقوى، لا ينافي أن حكم الله في المسألة واحد، ولا ينافي أن المكلف يعزم بالفعل، بل يعزم به؛ لأنه قد اختاره وذهب إليه.

    محل الترجيح

    الجهة الثانية: محل الترجيح:

    وهذه الجهة تفسر لماذا قيل في ماهيته: إنه تقديم الأقوى، فإن محل الترجيح هو الخلاف المعتبر، فخرج بقولنا: (الخلاف المعتبر) ما ليس معتبراً؛ كمخالفة الإجماع، فهذا لا يعد خلافاً معتبراً لو خالف به مخالف، وخرج بذلك أيضاً الخلاف الشاذ، فإذا خالف مخالف الإجماع لسبب طرأ عنده؛ إما لأنه لم يعرف الإجماع، أو لأنه لم يبلغه، أو ما إلى ذلك، فهذا لا يقال فيه: الترجيح بين الإجماع وبين قول فلان، وكذلك إذا كان الخلاف ليس خلافاً للإجماع ولكنه خلاف للعامة من أهل العلم، بمعنى: أن رتبة القول المتروك تسمى شاذة.

    فالقول الشاذ ليس داخلاً في باب الترجيح، صحيح أنه يقدم القول الذي عليه العامة من أهل العلم، لكن كلمة الترجيح تعني راجحاً ومرجوحاً، تعني وجود أكثر من محتمل، أما في باب الخلاف الشاذ الذي تقدمت الإشارة إلى مفهومه، فإن الخلاف الشاذ ينبغي أن يكون من باب المتروك، وهو ما خالف ظواهر الأدلة والعامة من الأئمة، فما اجتمع فيه هذان الأمران: أنه مخالف للعامة من الأئمة، ومخالف في نفس الوقت لظواهر النصوص، فهذا يسمى: الخلاف الشاذ وهذا ليس محلاً للترجيح؛ لأن ما خالف الإجماع محله الإبطال، وما خالف العامة -وهو الشاذ- فمحله الترك والهجر، ولا يوازن في مسائل الترجيح، ولا ينبغي الاشتغال بموازنته في مسائل الترجيح.

    ومن هنا يكون الترجيح متعلقاً بالخلاف المعتبر، وهذا هو الذي يصطلح عليه بكلمة الترجيح، ولما كان محله الخلاف المعتبر صار مناسباً أن يقال في ماهيته: إنه تقديم الأقوى.

    لغة الترجيح

    الجهة الثالثة: لغة الترجيح

    ليس للترجيح مصطلح معين يلزم في التعبير، فإن هذا باب يختلف الناس فيه، ولا مشاحة في التعبير والاصطلاح الصحيح، ولكن يقال تستعمل في الترجيح لغة تحفظ مقام الأدب مع الأئمة والضبط في المسألة، كقولك مثلاً: الراجح هو مذهب الشافعي ، فأنت قد حفظت الأدب مع مخالف الشافعي كـمالك مثلاً، وأيضاً حفظت الضبط في المسألة، فما جعلت المسألة مسألة يقينية في حقيقتها؛ بل جعلت للمخالف اعتباراً ولمخالفته كذلك، فينبغي أن لا تخرج المسألة عن كونها مسألة فيها تردد عند الفقهاء إلى مسألة فيها يقين وجزم، وما إلى ذلك.

    ومن الكلمات التي ينبغي أن يعبر بها في الترجيح: أن يقال: الراجح، والأرجح، والأظهر، والأقرب، والأقوى، والأصح، ونحوها، وتدرأ لغة الترجيح عن طرد الاستعمال - ونقول: طرد الاستعمال حتى يكون هذا منهجاً في لغة الترجيح، فإن الطرد معناه التتابع - وتدرأ عن طرد الاستعمال لكلمات تنافي مقام الأدب مع الأئمة، أو تنافي الضبط للمسألة.

    وتدرأ لغته أيضاً عن طرد الاستعمال لكلمات تنافي ذلك، إما بوصف الراجح عند الناظر بأنه هو الصواب المقطوع به، أو بوصف المرجوح بأنه خطأ مقطوع به - وهذا بعد أن اتفقنا على أن محل الترجيح هو الخلاف المعتبر - كقول بعضهم إذا رجح قولاً بعد أن يذكر الخلاف: وهذا هو الصواب المقطوع به، أو يقول: وفصل الخطاب في هذه المسألة كذا، فهذه لغة عزم، فإن فصل الخطاب هو الحكم الصريح القاطع، ولذلك إنما جاء ذكره في القرآن على مثل هذا المعنى.

    ومن ذلك أن يقال عما يرجَّح: وهذا هو السنة السلفية، فيفهم من ذلك أن ما قابله ليس سنةً سلفية، مع أنه قد يكون قولاً للشافعي أو لـمالك ؛ بل ربما كان قولاً للجمهور، وقد يكون القول الذي وصف بأنه السنة السلفية قال به البعض كالظاهرية مثلاً، بخلاف قول الأئمة الأربعة فإنه لا يوصف بذلك، وهذا فيه إشكال؛ لأن هؤلاء من أئمة السلف، فهذه الأوصاف ينبغي أن تدرأ عن لغة الترجيح، ولا سيما باعتبار الطرد.

    ويدخل في هذا أيضاً وصف المقابل - الذي هو المرجوح - بألفاظ تدل على بطلانه، كقول الناظر عن القول المرجوح في الخلاف المعتبر: وهذا القول بدعة، أو محدث، أو لا أصل له، أو لا دليل عليه، مع أنه قد يكون قولاً لأئمة، وعليه ظواهر من نصوص ودلائل معتبرة ونحو ذلك، وهذه الكلمات يستعملها بعض طلاب العلم أحياناً في غير موردها، وكما أسلفت أنها قد تقال عن أقوال معروفة للجماهير من الأئمة فيقال: وهذا القول لا دليل عليه، وهذا ممتنع شرعاً وعقلاً: أن يتضافر الجماهير من أئمة الأمصار على قول ويكون هذا القول ليس عليه دليل.

    ولذلك من قل فقهه بأقوال الفقهاء، وقل فقهه بمفهوم الدليل، نجد أنه ينغلق عليه الأمر فيقول: إن هناك أقوالاً ليس عليها أدلة، وهذا يصاب به من قل فقهه لمفهوم الدليل، ولاسيما من يقصر وجه الدليل على الدليل اللفظي، ولا يكون له فقه في دليل الاستقراء المعروف عند المتقدمين.

    وإنما قلنا: ويدرأ عن طرد الاستعمال فاستعملنا كلمة ( طرد ) لأنك إذا نظرت في كلام المتقدمين من الأئمة كـمالك وأحمد وغيرهم - وهذه قد يحتج بها البعض أحياناً - تجد أنهم قد يعبرون فيما هو من الخلاف المعتبر عن القول الآخر بعبارة أو بكلمة تأتي على مثل ذلك، كقول الإمام أحمد في بعض مسائله عن بعض الآراء التي انضبط أنها لأئمة: إن هذا القول محدث، كما سئل مثلاً عن مسألة القنوت في الفجر فقال: إن المحافظة على القنوت في صلاة الفجر أمر محدث. وكذلك يقول الإمام مالك عن صيام الست من شوال: إنه محدث، فأحياناً نجد أن بعض الأئمة قد يستعملون ذلك في بعض المسائل فيأخذونها بقدر من العزم والقوة، فهل هذا منهج مطرد عندهم؟ هذه روايات موجودة ولا جدال فيها، لكن الذي نبحثه الآن هو فقه هذا الاستعمال.

    وهنا أحد فرضين: هل هذا يقع تحت أن كل ما رجحه الإمام وظهر له أنه هو الأقرب من الأدلة فيجعل ما خالفه من أقوال الأئمة التي بلغته عنهم على هذا الوصف؟

    الجواب: قطعاً هذا ليس موجوداً، ولذلك نجد في جمهور الأقوال عند أحمد أو مالك أو غيرهم أنهم لا يغلقون هذا الإغلاق ويستعملون هذا التعبير، فهم -إذاً- يستعملونه في آحاد من المسائل قد يوافقهم عليها غيرهم من الأئمة، وقد يخالفونهم، كقول مالك مثلاً عن صيام الست من شوال: إنه محدث، فهل هذا مما يرجح قوله فيه؟ الجواب: لا؛ لأن الحديث الدال على استحباب صيام الست من شوال جاء في الصحيح، والجمهور على استحبابه.

    إذاً: يقال هنا: إنما كان كثير من الأئمة المتقدمين في بعض المسائل الفقهية المعتبرة في الخلاف يغلقون القول بمثل هذه الكلمات أحياناً لقصد حماية جناب السنة؛ لأن البدع عند ذلك تظهر، ولذلك إذا استقرأنا هذه الأمثلة نجد أنها تأتي على هذا الوجه، فلما كان الإمام مالك رحمه الله يريد إغلاق باب مجانبة الهدي النبوي، والهدي المحفوظ المأثور، وبدأت البدع تظهر، صار يغلق كل ما لم ينضبط عنده عن الأئمة القول به، مع أننا إذا رجعنا إلى مصر من الأمصار وجدنا أنهم يعرفون هذا القول الذي أغلقه مالك ، ولذلك إذا قرأنا تمام قوله في مسألة صيام الست من شوال نجد أن من كلامه في الموطأ: أدركنا أهل العلم لا يعرفونه. فهو لم يغلق لتقوية رأيه على رأي غيره من نظرائه، إنما يغلق لقصد حفظ الهدي النبوي، وكذلك الإمام أحمد وغيرهم من الأئمة.

    والخلاصة: أن ما نقل عن الأئمة من الإغلاق فيما هو عند التبين من الخلاف المعتبر، أي: باستقراء أقوال أئمة الأمصار، فهذا ليس مقصودهم فيه الانتصار المحض لآحاد أقوالهم بهذه اللغة التي تغلق الخلاف أحياناً، وإنما مقصودهم حماية جناب الهدي والسنة النبوية، وهذا باب من حيث الأصل متفق على قصده، أما من حيث آحاد المسائل المنقولة عن مالك أو عن أحمد أو عن غيرهم، فهذه مسائل مترددة، فـمالك لما أغلق هذه المسألة وجعل القول بها قولاً محدثاً، لا يلزم أن يكون هذا هو الذي يقال به في هذه المسألة؛ لأنه إذا نظرنا فيما خالف قول الإمام مالك وجدنا أنه قول عليه الجماهير من الأئمة.

    إذاً: مقصودهم هنا أصل شريف، وهو من مناطات فقههم واجتهادهم، ومن هنا يكون العذر من كلام الأئمة بيناً، وإن كان هذا لا يفهم منه أن هذه هي لغة الترجيح عندهم فيما اشتهر من الخلاف.

    فهنا أحد فرضين: إما أنهم يتكلمون بهذا المصطلح لأنه لغة الترجيح عندهم لأقوالهم فيما يعرفونه من مشهور الخلاف، وهذا ليس بصحيح وغير مطرد في جمهور كلامهم، وإما أنهم في أمثلة معينة رأوا أن خلاف المخالف من مخالفة بيّن السنة؛ إما لأن الأقوال لم تبلغهم، أو لأسباب أخرى، فمثلاً: الإمام أحمد في مسألة القنوت في صلاة الفجر لما رأى كثرة من يقول به - وهذا المقام يصلح لمثل الإمام أحمد ، لعلو منزلته في الإمامة والاجتهاد وسعة العلم بالآثار - ورأى أنه لا أصل له في الآثار النبوية؛ أوصله إلى هذه الرتبة.

    وهذه المسألة لها مثالات لكن ليست منهجاً يطبق فيما هو من مشهور الخلاف، فنجد أن الإمام أحمد تارةً يقول: يا بني! هذا محدث، وتارةً يقول: لا أعرفه، فيتجاهل القول أحياناً، وهذا نوع من الفقه في حماية جناب السنة والهدي، أو ترك الأقوال التي قد يرى البعض أنها شاذة ويرى البعض الآخر أنها من باب الخلاف المحفوظ؛ لأن الأقوال إذ ذاك كانت تبلغ البعض ولا تبلغ البعض الآخر أحياناً.

    وعليه: فلا ينبغي لمتأخر ومعاصر أن يستعمل في ترجيحه في الخلاف المعتبر لغة: أن المرجوح بدعة، أو لا أصل له، أو لا دليل عليه، ويقول: إن حجته في ذلك أن من الأئمة من استعمل ذلك، فينبغي أن يفقه استعمالهم، ومن وصل إلى رتبة عالية في الاجتهاد فله أن يستعمل ما استعمله الأئمة المتقدمون على منهجهم وطريقتهم وفقههم، أما أن يكون ذلك منهجاً مطرداً كلغة، وكأن الإنسان لا ترضى نفسه بترجيحه إلا أن يرمي القول الآخر المعروف المعتبر بكلمة توهنه عند سامعيه، فيقول: وأما القول الآخر فلا دليل عليه؛ فإن هذا من تضييق الفقه، وتضييق المدارك، وتضييق العقل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088529504

    عدد مرات الحفظ

    777151987