إسلام ويب

شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [10]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ينبغي على طلاب العلم أن يراعوا جملة أمور فيما يتعلق بفقه الخلاف بين العلماء، منها: تعظيم نصوص الكتاب والسنة، وتوقير كلام الأئمة في الخلاف المعتبر، ومن ثم التوسعة على المسلمين تحت قاعدة الخلاف المعتبر، وهناك أمور في مقام التحصيل العلمي ينبغي لطالب العلم أن يقف عليها ويعمل بها.

    1.   

    وصايا لطلاب العلم في فقه الخلاف

    بعد هذا الوقوف مع هذه المسائل المتعلقة بفقه الخلاف الفقهي، يوصى طلاب العلم بجملة من الوصايا:

    تعظيم النصوص

    الوصية الأولى: التعظيم للنصوص، نصوص القرآن ونصوص السنة، فهذه هي أجل الوصايا: أن يكون الفقيه والناظر في كلام الفقهاء أعلى رتبة في عقله ونظره واستصحابه هي التعظيم للقرآن ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولهديه، وأن يكون هذا الاستصحاب استصحاباً علمياً وإرادياً، أي: أن يقصد في كل قول يصير إليه أو يعمل به أنه هو الموافق والأقرب إلى السنة والهدي، وليس كمعرفةٍ مجردة.

    توقير كلام الأئمة في الخلاف المعتبر

    الوصية الثانية: التوقير لكلام الأئمة في مقام الخلاف المعتبر، حتى لو رجحت قول فلان من الأئمة فلابد أن يكون لمن قوله مرجوح عندك قدر من التوقير، وكلمة (التوقير) أخف من كلمة (التعظيم)، ولذلك قيل في النصوص: التعظيم، وأما في الأئمة فيقال: التوقير، ومن قلة الفقه عند البعض أن يجعل هناك قدراً من التمانع بين توقير الأئمة وبين تعظيم النصوص، والأمر ليس كذلك لمن كان فقهه حسناً منضبطاً.

    وصايا لطالب العلم فيما يتعلق بالتحصيل العلمي

    الوصية الثالثة: فيما يتعلق بالتحصيل العلمي، والتحصيل العلمي له مقامان:

    المقام الأول: مقام التأصيل، والتأصيل العلمي يكون بالمختصرات العلمية في العلوم الشرعية، كالفقه، والحديث، والاعتقاد، والتفسير، والأصول، أعني: أصول الفقه والقواعد، وما إلى ذلك، وهذه المختصرات متاحة وشائعة وإن كانت قد تختلف من بعض الوجوه، كبعض المتون المختصرة في الفقه في مصر حنبلي تختلف عن غيرها في مصر شافعي ... إلخ، وفي باب المصطلح كالنخبة مثلاً، وبعد ذلك المقدمة لـابن الصلاح ، وفي النحو الآجرومية المشهورة عند الكثير اليوم، وبعد ذلك ألفيه ابن مالك ، وفي باب الاعتقاد كبعض المتون لـشيخ الإسلام ابن تيمية أو لغيره من الأئمة، وغير ذلك، فهذا مقام التأصيل، والكتب المسماة فيه مشهورة.

    المقام الثاني: النظر والفقه بعد التأصيل، فبعد أن يتأصل الطالب في مقدمات هذه العلوم وأوئلها يترقى إلى التفقه والنظر، وليس إلى الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد رتبة متأخرة.

    والمنهج الذي أراه في هذا الباب إذا انتهى من التأصيل: أن يعنى أولاً بحفظ القرآن، وقد جرت سنة أهل العلم أنهم يبتدئون بحفظ القرآن مع معالجتهم لمسائل التأصيل، فإذا تيسر له أن لا ينتهي من التأصيل إلا وقد حفظ القرآن فهذا هو الأصل، لكن إذا لم يستتم حفظ القرآن في مرحلة التأصيل، فأول ما يبدأ به في مرحلة التفقه والنظر أن يستكمل حفظ القرآن.

    ثانياً: أن يكثر من النظر في كتب السنن والآثار، فمن تيسر له قدر من الحفظ وكان يعرف من نفسه أن الله آتاه حفظاً فليجتهد في الحفظ، وإذا كان الله قد أعطاه ذهناً يستوعب إستيعاباً عاماً، فالكتب التي يقصد فيها إلى الاستيعاب هي الكتب التسعة، مع مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة ، فيقرأ طالب العلم قراءة مستوعبة متأملة، يقرأ صحيح البخاري وصحيح مسلم، ثم يقرأ السنن الأربع، ويعنى بسنن أبي داود كثيراً؛ لكثرة ما فيها من الأحكام، ويقرأ موطأ الإمام مالك ، وسنن الدارمي ، ويقرأ مسند الإمام أحمد ، فيقرأ هذه الكتب كلها، ولتأخذ عليه وقتاً من التأمل وكثرة القراءة لها، بحيث يكون لديه قاعدة واسعة في سماع السنة ونصوصها.

    وعند قراءته لا يقرأ فقط ليحاول أن يحفظ بعض الكلمات، وإنما يحاول أن يقرأ بعقلية استيعاب وملاحظة للنظير مع نظيره، فإذا مر بأثر أشار إلى معنى، وإذا لفت نظره حديث أشار إلى معنى، فيبقى هذا المعنى في ذهنه، وهذه قدرات يعطيها الله تعالى لمن يشاء، وكلما كان الإنسان لديه قدرة أو ملكة أوسع استطاع أن يستفيد بها أكثر، فتجد أنه يرتب على هذا المعنى آثاراً، فيقول: وفي الباب - أحياناً في الباب الفقهي، وأحياناً في الباب المنهجي، وأحياناً في باب قاعدة من القواعد - وردت أحاديث ... وهكذا.

    ومما ينبه إليه هنا: أن العلماء يقولون: فقه البخاري في تراجمه، والإمام مسلم لم يترجم كما هو معلوم، ولكنك إذا نظرت في ترتيب الإمام مسلم للروايات؛ تحد أنه يذكر العام ويذكر بعده الخاص، وإذا ذكر المطلق فإن كان في صحيحه في روايته ما يقيده ذكره، وكذلك يذكر المجمل والمفصل وهكذا.

    فإذا كان قد قيل: إن فقه البخاري في تراجمه، فإننا نقول: إن فقه مسلم في ترتيبه، وهذا إذا تؤمل وجد أنه من أجود الفقه، فإذا تأملت بعض كتب مسلم في صحيحه -وبخاصة كتاب الإيمان مثلاً - تجد أنه مرتب في طريقة الرد وطريقة التأصيل، وفي ذكر مسائل التوحيد الأولى، ثم ذكر ما طرأ من المخالفة لمسائل التوحيد، ونحو ذلك فيما كتبه في كتاب الإيمان، وفي غيره من كتب العبادات ونحوها، وإذا ذكر مسائل الأدب فإنه يترقى من الأدب العالي إلى ما دونه.. وهكذا.

    هذا هو الفقه في الترتيب، وهو مما ينبغي تأمله، فلا ينبغي أن تكون القراءة قراءة لمجرد الجرد كما يقولون، بل لا بد أن تكون القراءة قراءة تأمل، ومحاولة في الاستيعاب، ومحاولة ضم النظير إلى نظيره، والالتفات إلى كلمات المعلقين وأهل العلم على الترمذي مثلاً، ومعرفة تفسيرهم لكلام الترمذي ، كقوله مثلاً: وهذا عليه أكثر أهل العلم، أو وفي الباب كذا، وكذلك كلمات الإمام مالك في موطئه وغيرهم من الأئمة.

    ثم بعد ذلك يقرأ قراءة استيعاب وتأمل مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة ، ليعرف آثار السلف وآثار الصحابة، وآثار المتقدمين الذين وجدت آثارهم في هذه المصنفات.

    ثم ينتقل بعد ذلك إلى القراءة في فقه المتقدمين، بحسب ما تيسر مما وصل إلينا من فقههم، فيقرأ في مسائل الإمام أحمد ، ومعروف أن ثمة أجزاءً في مسائل الإمام أحمد ، فيقرأ في هذه الأجزاء، وقد يقول قائل: ليس فيها كل الفقه، ولم تنظم تنظيماً متكاملاً، وما إلى ذلك، وهذا صحيح، ولكن المقصود من القراءة ليس أن يجمع آحاد الفروع، إنما المقصود أن ينظر في طريقة الأئمة في الاستدلال، وفي الحكم على المسألة، وفي المنهج الذي ساروا عليه ... إلخ، فيقرأ قراءة فقه تطبيقي يقصد منه أن تكون عنده ملكة علمية، فإنه بمثل هذا تصنع الملكة العلمية، فيقرأ في مسائل الإمام أحمد ، ويقرأ في المدونة، وفي جوابات الإمام مالك ، ويقرأ كتاب الأم للإمام الشافعي ، ويتأمل في قراءته للأم ليتذوق لا ليحفظ الفروع التي قال فيها الشافعي رأياً، هذا مهم لكنه ليس الأهم، فإن الأهم في قراءة الأم - كمثال - أن يحاول أن يتذوق التطبيق الفقهي عند الشافعي ، وتطبيق الدليل على المستدل عليه، وكيف يكون تطبيق الدليل اللفظي، وكيف يكون تطبيق الدليل من المقاصد والقواعد العامة، كذلك يعرف طريقته في محاجة الخلاف، وما إلى ذلك.

    وكذلك يقرأ في كتب بعض المتقدمين من الحنفية، ومن ذلك كتاب الحجة على أهل المدينة، لـمحمد بن الحسن الشيباني ، فإن فيه نوعاً من المجادلة العلمية الرفيعة العاقلة بين الحنفية وبين المتقدمين من المالكية، وكذلك كتاب اختلاف الفقهاء لـمحمد بن نصر المروزي ، فإنه يعتبر من أوسع الناس معرفة بخلاف المتقدمين، وأضبطهم في هذا، فينبغي أن لا يستغني عنه طالب العلم.

    وهناك بعض كتب الأجزاء في بعض الأبواب، ككتاب الأموال لـأبي عبيد القاسم بن سلام ، وكتاب القراءة خلف الإمام، وهو جزء للإمام البخاري ، فيقرؤها ليعرف طريقة تعامل المحدثين في تطبيقات الفقه، ويقرأ كذلك ما يؤصل في هذا الباب كرسالة الإمام الشافعي رحمه الله.

    وننبه إلى أننا لا نتكلم عن منهج علمي شمولي، إنما نتكلم عن منهج يتعلق بالفقه، حتى لا يقول قائل: أين كتب التفسير وكتب اللغة وكتب أصول الفقه وغيرها.

    ومع أننا نتكلم عن منهج فقهي إلا أن لدي قناعة بأن هناك أشياء في المصطلح العلمي ليست من الفقه، ولكن لا بد أن تقرأ من أجل الفقه، وهذا ستأتي له أمثلة قريباً إن شاء الله.

    وبعد أن يقرأ كتب الحديث والأثر، وكتب المتقدمين من الفقهاء، يقرأ كتب الفقه للمتأخرين، أي: الكتب التي كتبها محققون كبار، من الجوامع الفقهية العالية، كالمغني للموفق ابن قدامة الحنبلي، فهذا كتاب جامع على مختصر أبي القاسم الخرقي، فإن كتاب المغني - في الجملة - كتاب خلاف مقارن، وفيه ذكر للتطبيق الفقهي، ولاسيما أن الموفق من أفقه العلماء المتأخرين، حتى إنه نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: "ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من أبي محمد "، فهو ممن علا كعبه في الفقه، وقد نقل عن أحد الحنابلة أنه قرأ المغني ثلاثاً وعشرين مرة.

    والمقصود من هذا كله أن يكون طالب العلم مستوعباً للخلاف الفقهي، وهذا هو الأولى والأفضل؛ لأنه في نظري أن نصف الفقه هو معرفة الخلاف، فكل من كان أعلم بالخلاف - أعني خلاف المتقدمين - وأكثر استيعاباً له، فقد حصل - إن أمكن التعبير - ما يقارب نصف الفقه، وذلك إذا ضبط الأقوال، وعرف رتب الأقوال، وعرف ما هو الشاذ، وما هو الذي عليه الأكثر، وليس أن يعرف مجرد أن هناك خلافاً؛ بل إذا ضبط الخلاف مع مراتبه فهذا نصف الفقه، وقليل من يحفظه اليوم، أو يحاول السلوك إليه.

    وهناك كتاب المجموع في شرح المهذب عند الشافعية، ولكن المغني أوسع، وإن كان من حيث الترجيح في الجملة على المذهب الحنبلي.

    ثم عليه أن يعنى بكتب التفسير، ولسنا نتكلم هنا عن التفسير كتخصص، لكن حتى صاحب الفقه لا بد له من فقه التفسير؛ لأن الأحكام الفقهية الشرعية محصلة من الكتاب والسنة، ويقرأ في التفسير - تحت هذا المعنى الذي هو المقصود الفقهي - يقرأ تفسير ابن جرير ، فقد جمع أثار السلف وأقوالهم في تفسير القرآن، ويقرأ في التنصيص على الأحكام من التفسير كتاب الجامع للإمام القرطبي .

    ولا بد أن يعرف أثر اللغة وأثر الملكة العلمية في تحصيل الاستدلال من القرآن، ومن أجود ما يقرأ في ذلك تفسير الطاهر ابن عاشور ، أو تفسير أبي حيان ، مع أن تفسير الطاهر ابن عاشور أجمع وأجود.

    ثم بعد ذلك ينظر في الموسوعات العلمية، وليس بالضرورة أن يكون هذا المصطلح مصطلحاً شائعاً، والجوامع العلمية قد تكون في حقيقتها شرحاً لكتاب، لكنها لثرائها العلمي أصبحت مليئة بالفوائد، ولذلك فهي أعلى من كونها مجرد شرح، فمثلاً: صحيح البخاري له كثير من الشروح العلمية، فبعضها على قدر من الاختصار، فهذا يسمى شرحاً، لكن كتاب فتح الباري يعتبر أشبه بالموسوعة العلمية، فهذا هو ما أقصده بالجوامع العلمية التي كتبها محققون في أبواب، ومن أخص مثالاتها: فتح الباري للحافظ ابن حجر ، والجزء الموجود في فتح الباري لـابن رجب ، والتمهيد لـأبي عمر ابن عبد البر ، وينبغي أن تكون العناية بالتمهيد عناية مؤكدة، حتى إن ابن تيمية يقول: "لم يكتب في شرح حديث الرسول مثل هذا الكتاب"، ومن ذلك كتاب المحلى لـأبي محمد ابن حزم ، وهذه الرتبة في نظري هي الرتبة المناسبة للتعامل مع كتاب المحلى، فقراءة المحلى ككتاب لتأخذ منه الفرع الفقهي والراجح الفقهي، هذا لا أراه منهجاً يبتدأ به، ولكن أن تأخذ المحلى في صناعة التفقه والملكة الفقهية، وسعة العلم بالآثار والأقوال، وطرق المحاجة والمراجعة والأخذ ونحو ذلك، فهذا ينبغي أن لا يستغني عنه طالب العلم، أعني: كتاب المحلى لـأبي محمد ابن حزم تحت هذا التسلسل.

    وهناك بعض الكتب المؤصلة مثل: كتب الشاطبي كالموافقات في التقعيد، وكتاب إعلام الموقعين لـابن القيم ، وغيرها من الكتب، وهذا الأمر الاستطراد في تتبعه يطول، لكن لعل الإشارة إلى المقصود قد فهمت.

    التوسعة على المسلمين تحت قاعدة الخلاف المعتبر

    الوصية الرابعة والخاتمة: بعد أن ذكرنا تعظيم النصوص، وتوقير الأئمة، فآخر ما يذكر في الوصايا: هو قصد التوسعة على المسلمين في الفقه تحت قاعدة: الخلاف المعتبر، والتوازن بين مراعاة الدليل وفقه المصالح، فقصد التوسعة قصد شريف إذا ضبط بمراعاة الدليل ومراعاة المصلحة، وقد سبق أن ذكرنا أن إشاعة بعض الأقوال فيه مفسدة وفتنة على كثير من العامة، فلا يوسع على الناس فيما يقتضي الفتنة أو الفساد، وإنما يوسع عليهم بما كان من الخلاف معتبراً، ولا ينافي ظواهر السنن، وليس فيه مفسدة أو فتنة، فما كان من الخلاف لا يتأثر بذلك فإن التوسعة فيه هي الأصل الذي ينبغي أن يعمل به في الفتوى والاجتهاد.

    هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768253004