النبي عليه الصلاة والسلام بيَّن أن أمته ستفترق، وهذا متواترٌ عن الرسول عليه الصلاة والسلام، تلقته الأمة -أعني: أهل السنة والجماعة- بالقبول، ولم ينازع فيه أحد من أئمة الحديث، فإنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة: (أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)، وفي وجه: (حتى يأتي أمر الله).
هذا الحديث المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم المتلقى بالقبول يدل على أن ثمة افتراقاً سيحدث.
أيضاً ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الاختلاف في نصوص كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق). فمثل هذا النص وما في معناه يدل على أن ثمة افتراقاً.
أيضاً الاختلاف والافتراق من جهة الوقوع لا أحد ينكره، فإن الأمة وقع فيها افتراق واختلفت، وصار فيها طوائف متحيزة لمذاهبها وأصولها.
فمثل هذا مما لا ينبغي إنكاره أو التكلف في إنكاره.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه أهل السنن وغيرهم من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما- أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) وهذا الحديث لا يختص وحده بذكر مسألة الافتراق في هذه الأمة، وقد أخرت ذكره؛ لأن فيه طعناً من جهة صحته.
لكن من أراد أن يرفع هذا الافتراق، ويقول أنه لا وجود له، وأن الأصول السلفية وغير السلفية لا فرق بينها، وإنما هذا اجتهاد للمحدثين، وهذا اجتهاد لبعض النظار.. وهلم جرا، ويدفع ذلك بأن الحديث المروي في الافتراق -وهو حديث: (افترقت اليهود... إلخ)- حديث ضعيف.. فقد جاء أمراً متكلفاً وارتكب شططاً؛ فإنه لو سلم جدلاً أن الحديث ضعيف -ليس بَيِّنَ الصحة والثبوت، وإن كان الأظهر فيه أنه ثابت- فإن الحكم لا يختلف؛ لأن الحديث المتواتر بيَّن أن الأمة سيقع فيها اختلاف، وأن طائفةً منها ستختص بالصواب، وإن كان اختصاصها بالصواب لا يلزم منه أن سائر ما يقع لغيرها من الأقوال والأفعال يكون باطلاً، بل يقع لهم قدر من الصواب إما مجملاً وإما مفصلاً، ولكن الذي اقتدى بسنة النبي صلى الله عليه وسلم على تفصيلها هم أصحاب هذه الطائفة الناجية المنصورة.
ويقع عند بعض العلماء الكبار من المحققين المعاصرين أنهم يضيفون -كثيراً-: فهم السلف الصالح، وهذه الإضافة إضافة حسنة في الجملة -ليس المقصود الاعتراض عليها- لكنها ليست شرطاً لابد من ذكره.
فإذا قيل: إن الطائفة الناجية المنصورة إنما هي معتبرة بالكتاب والسنة لكان هذا كافياً.
وقد يقول قائل: إن كثيراً من الفرق الإسلامية تقول: إنها على الكتاب والسنة، ولكن لا أحد منها يقول: إنه على فهم السلف.
فأقول: إن الاستقراء الدقيق لسائر هذه الطوائف بلا استثناء يُعلم به أنه ليس هناك طائفة تعتبر أقوالها بالكتاب والسنة وحدهما؛ إنما يقع أحد أمرين: إما أن هذه الطائفة تجعل مع الكتاب والسنة أصولاً في الاستدلال، وهذا وقعت فيه جمهور الطوائف المخالفة للسنة والجماعة، وإما -وهو حال معتقدي المخالفين من الطوائف- أنهم لم يدخلوا أصولاً في الاستدلال إلا أنهم لا يعتبرون دلالة الكتاب والسنة على الإطلاق، كقولهم أن خبر الآحاد لا يحتج به في الاعتقاد.
قد يقول قائل: إن التفسير لهذا الكلام حقيقته فهم السلف الصالح.
فنقول: نعم، ومن هنا نقول: إن من أضاف هذا القيد فقد أضاف كلاماً حسناً، وكأنه -بحسب الحدود المعروفة في المنطق- قيدٌ بياني؛ وذلك لأن إجماع السلف الصالح لا يخرج عن الكتاب والسنة، فإذا قلت: إن معتبر هذه الطائفة هو الكتاب والسنة فقد أصبت، وإذا قلت: إن معتبرها الكتاب والسنة والإجماع فقد أصبت.
وقد ورد هذا التنوع في كلام السلف من الصحابة والأئمة، فإننا نجد أنهم يذكرون الكتاب والسنة تارة، وتارة يذكرون الكتاب والسنة والهدي أو الإجماع، أو ما إلى ذلك من الأحرف المعبرة عن هذا المعنى الفاضل.
وهذه الطائفة مختصة بهذا الأمر، وهو أنها معتبرة بدليل الكتاب والسنة، وهي الطائفة الناجية -أي: من عذاب الله سبحانه وتعالى- وهي المنصورة، وكأن لفظ النجاة -والله أعلم- إشارة إلى نجاتها في الآخرة، ولفظ النصر إشارة إلى حالها في الدنيا، وكأن هذا هو موجب هذا التعبير وهذا التعبير، وليس هناك اختصاص لهذه الفرقة الناجية عن الطائفة المنصورة أو عكسه.
قوله: "إلى قيام الساعة" لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن: (أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله)، وفي رواية: (حتى تقوم الساعة). مع أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم -في الصحيح وغيره- أنه قال: (أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق)، ولا تقوم حتى لا يقال في الأرض: (الله الله)وهذا من التعبير العربي الواسع، فإن قوله: (حتى تقوم الساعة) ليس بالضرورة أن يدل على أن الساعة تقوم عليهم، بل عند قيامها؛ فإن من أمارات الساعة الريح التي يبعثها الله سبحانه وتعالى؛ فتأخذ نفوس المؤمنين، حتى يبقى الكفار فعليهم تقوم الساعة.
فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تقوم الساعة)، وبهذا يتبين أنه ليس معارضاً لخبره: (أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق).
أهل السنة: أي هم المتمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قد يقول قائل: لِمَ لم يقل: أهل القرآن؟
الجواب: أنه ليس المقصود بالسنة هنا الحديث الذي هو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، بل معنى السنة هنا أعم من ذلك، فإنه يراد بالسنة في هذا السياق ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، فسنة المرسلين هي رسالتهم، ويمكن أن يقال: إن أهل السنة هنا بمنزلة أهل الرسالة، فقوله: (أهل السنة) أي: المتمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنته ليس فقط ما قاله صلى الله عليه وسلم، بل ما بعث به، وأخصه القرآن الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى، ثم ما أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى نبيه من الأقوال، وكذلك ما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأفعال الشرعية.
قوله: "والجماعة" يقع في كلام بعض المتكلمين وأهل البدع أن هذا الاسم -يعنون "الجماعة"- دخل عليهم لما اجتمع الناس على معاوية رضي الله عنه، وهذا كله تكلف، فإن الجماعة لفظٌ شرعي، فقد قال الله سبحانه وتعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] فيقصد بالجماعة الاجتماع.
وفي هذا إشارة إلى أن الإصابة الشرعية معتبرة بشرطين:
الأول: الفقه.. وهذا ما يمكن أن نعبر عنه بقول المصنف: "السنة".
الثاني: الاتباع أو الاقتداء، وهو قوله: "الجماعة".
وهذا يستلزم نتيجةً شرعية لا بد من فقهها: أن ثمة تلازماً بين السنة والاجتماع، أو أن ثمة تلازماً بين الفقه وبين الاتباع.. وهلم جراً من المعاني.
فمن اختص بفقه -ولاسيما في المسائل العامة التي تكلم فيها السلف- ليس عليه أثر صريح من كلام السلف فإنه ينكر عليه مهما أظهر للناظر أو للسامع أنه بناه على النصوص، وهذه النصوص من لم يفقهها فإنه يقع له اختلاطٌ كثير، ليس في مسائل الفقه، بل في مسائل فوق ذلك.
وأضرب لذلك مثلاً:
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج فوصفهم بقوله المتواتر عنه: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر -أي: الرامي- إلى نصله فلا يجد فيه شيئاً، ثم ينظر إلى رصافه فلا يجد فيه شيئاً، ثم ينظر إلى قذده فلا يجد فيه شيئاً، قد سبق الفرث والدم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي وجه: (قتل ثمود) وفي وجه: (قاتلوهم؛ فإن لمن قاتلهم أجراً عند الله) وفي وجه: (لو يعلم المقاتل لهم ما أعد له لنكل عن العمل).
فهذه الأحرف النبوية قد تقود الناظر فيها ابتداء -ولا سيما أنهم خرجوا على المسلمين، وكفروهم واستباحوا دماءهم، وأنهم لم يعتبروا حديث النبي صلى الله عليه وسلم- إلى أن هؤلاء قومٌ كفار، وأن الذي كفرهم هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قال: (يمرقون من الدين) ليس أي مروق، بل: (كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله.. قد سبق الفرث والدم) كالسهم إذا دخل رمية فخرج وليس فيه أي أثر لفرث أو دم، وكأنهم خرجوا من الإسلام لم يبق معهم منه أي أثر.
فالأحرف فيها كنايات قوية في ذمهم وفي مروقهم وبعدهم عن السنة وما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن الصحابة رضي الله عنهم مع كل هذه النصوص لم يتطرق -حسب ما نقل في الرواية- إلى صحابي واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد تكفيرهم، فإنهم لما ظهروا بآيتهم الحسية وبقتالهم للمسلمين، وبتكفيرهم لأئمة الصحابة الذين أدركوهم، وبسلهم السيف على المسلمين، لم يختلف الصحابة في قتالهم، لكن لم ينقل أي اختلاف عن الصحابة في كونهم ليسوا كفاراً، فقد أجرى فيهم علي بن أبي طالب والصحابة معه رضوان الله عليهم أجمعين سنة المسلمين، فلم يجهزوا على الجريح، ولم يتبعوا المدبر، ولم يغنموا الأموال، ولم يسبوا النساء والذراري.
بل لما قتل أحدهم علياً رضي الله عنه، وأدخل علي الدار قال: (إن مت فاقتلوه، وإن حييت فأنا ولي الدم) . فقوله رضي الله عنه: (فإن حييت فأنا ولي الدم)، يدل على أن الرجل مسلم؛ لأنه لو كان كافراً مرتداً لم يكن لـعلي رضي الله عنه ولاية في دمه، ولكان حكمه القتل مطلقاً: (من بدل دينه فاقتلوه)، وهذا ليس توانياً من علي رضي الله عنه؛ فإنه لما ظهر الكفر الصريح البواح ما تردد رضي الله عنه -بل ربما فعل أمراً عده بعض الصحابة من الزيادة- في قتل من أظهره، فإنه لما ظهر المؤلهة التناسخية -وهي فكرة زندقية فلسفية نقلت من بلاد فارس وأدخلها قوم يظهرون التشيع، وليس لها أثارة لا في العقل ولا في الشرع ولا حتى في ديانة أهل الكتاب- وألهوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أحرقهم بالنار، فاعترض ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة على مسألة الإحراق، وقال ابن عباس رضي الله عنهما -كما في البخاري -: (لو كنت أنا لم أحرقهم، ولقتلتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من بدل دينه فاقتلوه).
فهذا الباب يحتاج إلى فقه واسع، ومن العجب أن ترى بعض طلبة العلم لا يجزم في بعض المسائل -وهي مسائل فقهية مفصلة- ويقول: إني متوقف فيها، مع أنها مسائل قد درست وصرح بدراستها، وضبطت في كتب الفقهاء.
لكن تراه في هذه المسائل الاستطرائية وفي شأنها تخبط كثير، إفراطاً وتفريطاً فإن التفريط فيها ليس بعيداً من جهة قدره وانتشاره عن الإفراط، فالإفراط موجود ولكن التفريط والتقصير في تحقيق هذه المسائل موجود أيضاً.
قصد المصنف رحمه الله أن يكون ما يذكره في معتقد أهل السنة والجماعة من باب التفصيل للإيمان الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل؛ فإن هذه الأصول من الإيمان هي التي ذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل لما فسر الإيمان، ومن هنا فإن سائر جمل المصنف التي يذكرها في باب الأسماء والصفات أو في باب الإيمان ومسماه، أو باب القدر، أو باب اليوم الآخر؛ هي داخلة في الإيمان بالله؛ فإن الإيمان بجميع ما هو من شرع الله سبحانه وتعالى -العلمي والعملي- من الإيمان به سبحانه وتعالى.
كذلك سائر هذه التفاصيل التي يذكرها المصنف رحمه الله هي من الإيمان بالكتب، ومن الإيمان بالرسل؛ لأن الدلالات يتنوع موردها، فقد يدل السياق على معنىً من المعاني بدلالة المطابقة أو بدلالة التضمن أو بدلالة التلازم، فسائر هذه المعاني تقع على هذا الوجه.
ويمكن أن يقال: إن هذه التفاصيل العقدية التي ذكرها المصنف رحمه الله وغيره في معتقد أهل السنة والجماعة حقيقتها الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
والمصنفون إذا ذكروا الإيمان فتارةً يريدون به القول في مسماه والرد على المرجئة بذلك، وتارةً يريدون به مسائل الاعتقاد والأصول على الإطلاق.
والطريقة الأولى هي طريقة البخاري في صحيحه، والثانية هي طريقة الإمام مسلم في صحيحه، فكتاب الإيمان في صحيح البخاري هو على الطريقة الأولى، أي: القول في مسماه، فقد ذكر البخاري رحمه الله فيه مسمى الإيمان والرد على المرجئة في ذلك.
أما الإمام مسلم فإنه لما وضع في صحيحه كتاب الإيمان قصد بذلك أصول الاعتقاد، ولهذا ضمنه جمهوراً من أحاديث أصول الاعتقاد في التوحيد والقدر والشفاعة وغير ذلك.
وهذا ينبه إلى مسألة، وهي: أن ما أحدثته الطوائف من أقوال بدعية في مسائل أصول الدين لا يوجب الزيادة على ما بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل يبقى معتقد أهل السنة والجماعة هو المعتقد الذي كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه من بعده.
ولهذا كانت الجمل المستعملة في كلام أئمة السلف التي لم ترد بألفاظها في كلام الله ورسوله أو في كلام الصحابة هي -في الغالب-: إما جملٌ سياقها يقع على النفي، أو جملٌ يقصد بها درء شبهة ودفع باطل قد طرأ على الحق.
مثلاً: شاع في كلام أئمة السنة والجماعة إذا ذكروا مسألة القرآن القول بأن القرآن غير مخلوق؛ مع أن هذه الجملة من جهة حرفها لا وجود لها في الكتاب والسنة أو في كلام الصحابة رضي الله عنهم، وإنما الذي في القرآن أنه كلام الله؛ لقول الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6].
وهذا الأمر -وله أمثلة كثيرة في كلام السلف- يبين لنا أنه حين يقرر المعتقد الواجب على سائر المسلمين أن يتبعوه، وهو معتقد أهل السنة والجماعة والمعتقد الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة كلها، وأوجب على الأمة أن تتبعه، فإن هذا المعتقد يجب أن يذكر بطريقة التقرير ابتداءً؛ فإنها الطريقة المعتبرة في القرآن والسنة.
أما ذكر هذا المعتقد بطريقة الردود وجمل النفي من غير ذكر لجمل الإثبات، فإن هذا ليس من منهج أئمة السلف، فضلاً عن كونه غير معرف بالحق، فإنك لو خاطبت من خاطبت من المسلمين من خاصتهم أو عامتهم بجمل من النفي، فإنهم يعلمون من هذه الجمل أن هذا المنفي ليس حقاً، لكن تعيين الحق من جهة كونه كلاماً مثبتاً مفصلاً قد لا يصلون إليه.
قد يقول قائل: إن النفي يستلزم إثبات الضد، فإذا عرف المسلم (أن القرآن غير مخلوق) علم أن السلف يرون أن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً، وأن هذا رد لقول من قال: إنه مخلوق من الجهمية والمعتزلة ونحوها.
فأقول: إن متكلمة الصفاتية يبطلون بدعة الجهمية من جهة عمومها، فينفون أن القرآن مخلوق، ومع هذا فإنهم -أعني عبد الله بن سعيد بن كلاب من بعده من متكلمة الصفاتية- لا يثبتون معتقد أهل السنة والجماعة من كون القرآن هو كلام الله بحروفه، وأن كلام الله سبحانه وتعالى يقوم بذاته ومشيئته، وأنه بحرف وصوت مسموع... إلخ.
فالمقصود من هذا: أن تقرير المعتقد في سائر المسائل لا ينبغي أن يعتبر ابتداءً بمسألة النفي أو الرد، وإنما يعتبر بجمل التقرير، وهي الجمل الخبرية أو الجمل الأمرية التي سياقها خبري، ولكنها وقعت أمراً من الشارع، أي: ألفاظها ألفاظ خبرية، ولكنها جاءت في سياق الأمر أو التشريع.
والمصنف رحمه الله هنا أتى على هذا القصد الفاضل بقوله: (وهو الإيمان بالله).
وهذا أيضاً تأكيد لما سلف من أن معتقد أهل السنة والجماعة هو الإسلام الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، وبموجب هذا فإن سائر الطوائف التي يقال عنها أنها مخالفة للسلف هي قبل ذلك مخالفة للإسلام الذي بعث به النبي عليه الصلاة والسلام.
هذا الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام في بيان الإيمان، وسائر هذه الجمل الشرعية جمل عقدية، فإن الإيمان بالله والملائكة والكتب والقدر واليوم الآخر هي من محل القلب.
ومن هنا ظن كثير من الطوائف -ولا سيما المرجئة- أن الإيمان هو التصديق، وأهل السنة والجماعة لم يذهبوا بعيداً عن هذا الأصل الذي ذكره الشارع؛ فإنهم وإن قالوا: إن الإيمان قول وعمل، فإنهم يقولون: إن أصل الإيمان في القلب.
ولهذا فإن الشارع إذا ذكر الإيمان ومعه التفاصيل التي هي تبع لهذا المعتقد؛ فإنه يذكر الإيمان على جهة الاختصاص، وهذا هو الذي وقع في حديث جبريل عليه السلام؛ فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان هو المعتقد، وجعل الإسلام هو العمل، وهو عليه الصلاة والسلام في حديث عبد القيس فسر الإيمان بما فسر به الإسلام في حديث جبريل عليه السلام.
وهذا أمر يأتي التفصيل فيه، ولكن يقال هنا: إن السلف وإن قالوا: إن الإيمان قول وعمل إلا أنهم لا يختلفون أن أصل الإيمان في القلب، وأن التصديق هو الأصل في هذا الإيمان، وهو التصديق الذي يقع معه إذعان.
الأول: أن هذه الجمل الكلية من معتقد المسلمين جمهورها متفق عليه بين سائر أهل القبلة.
فمثلاً: حين يقال: إن ثمة خلافاً بين الطوائف في مسائل الأسماء والصفات، فهذا لا شك أنه ثابت، ولكن إذا اعتبرت كليات هذا الباب وهو القول بأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وأنه سبحانه وتعالى مستحق للكمال منزه عن النقص.. إلى غير ذلك من هذه الكليات؛ فإن المسلمين جميعاً قد اتفقوا عليها، ولا يعقل أن أحداً ينتسب إلى الإسلام أو إلى شريعة نبي من الأنبياء صدقاً ينتقص الرب سبحانه وتعالى أو يقول بأنه ليس مستحقاً للكمال.
وفرق هنا بين الأقوال الدالة بمنطوقها على ذلك، وبين الأقوال التي تستلزم هذا أو تتضمنه، ولكن صاحبها لا يقصد بها هذا المفهوم؛ فأقوال الجهمية -بل ومن دونهم- تعطيل للرب سبحانه وتعالى عن صفات الكمال، ولكن هذا التعطيل هو إما من جهة التضمن، وإما من جهة اللزوم في مذاهبهم.
أما أنهم صرحوا بهذا التعطيل حرفاً وقصدوه، وعرفوا أنه من النقص، فهذا لم يقع لهم ولم يقع لأحد من أهل القبلة.
الثاني: جمهور المصنفين في معتقد أهل السنة والجماعة -والمصنف في هذه الرسالة- يذكرون المسائل التي هي محل نزاع من جهة تفاصيلها.
فمثلاً: قد يقول قائل: إن مسائل الربوبية -بل وحتى مسائل الألوهية- لا نراها تفصل في الكتب التي تذكر معتقد أهل السنة والجماعة، فإنه وإن كان ثمة كتب من كتب أهل السنة والجماعة مختصة بهذا الباب -كتوحيد العبادة؛ ففيه مصنفات كثيرة- لكن عند النظر فيما صنف في المعتقد نجد أن جمهور هذه الكتب لا تذكر مسألة توحيد العبادة إلا على قدر من الإجمال، ولا تذكرها تصريحاً، والمصنف في هذه الرسالة لم يعن بتقرير هذه المسألة.
وكأن هذا إشارةٌ -والله أعلم- إلى أن السلف رحمهم الله ومن بعدهم من أتباعهم اشتغلوا بذكر الأصول التي صارت مورد نزاع.
وهذا يبين أن توحيد الربوبية من جهة حقائقه، أو بتعبير أدق: من جهة نتائجه: ليس مورد نزاع، فإن هذا الأصل من حيث هو كلي كان المشركون مقرين به، وإن كان يقع لهم انحراف عن بعض تفاصيله بما هو من الشرك، لكن مسائل الربوبية لم يشتغل السلف رحمهم الله بتفصيلها وتقريرها: كمسألة إثبات وجود الله وأنه الخالق وأنه الملك وأنه المدبر... إلى غير ذلك.
وإن كانوا فصلوا في باب الأسماء والصفات الذي حقيقته أنه من أخص مقامات الربوبية لله سبحانه وتعالى، فإن غرضهم بتفصيل مسألة الأسماء والصفات هو بيان أن الله سبحانه وتعالى متصف بهذه الصفات، وأنها صفات تقوم بذاته، وهذا درءٌ للقول الذي أحدثته الجهمية والمعتزلة من القول بأن الرب سبحانه لا يقوم بذاته شيءٌ من الصفات، وإن كانت سائر طوائف المسلمين تثبت ما هو من أحكام الصفات، وإلا فإن من نفى الصفات -أي: من نفى قيام الصفات بالذات- ونفى أحكام الصفات، فإنه لا يكون من الإسلام في شيء، بل ولا ينتسب إلى ديانة نبي من الأنبياء صدقاً.
فإن الجهمية والمعتزلة وإن قالوا: إن الرب سبحانه وتعالى لا يقوم بذاته صفة العلم أو القدرة أو السمع أو البصر أو ما إلى ذلك، لكن لا أحد منهم يصف الله سبحانه وتعالى بضد ذلك، فإنهم وإن لم يقولوا بأنه يقوم بذاته العلم، فإنهم لا يصفونه بالجهل... وهلم جراً.
وأيضاً فإنهم يثبتون أحكام الصفات، أي: كون الرب سبحانه وتعالى لا يعزب عنه شيء، فهذا المعنى من جهته حكماً تثبته الجهمية والمعتزلة وسائر من نفى الصفات، وإن كانوا لا يثبتونه صفةً تقوم بذات الرب سبحانه.
إذاً: باب الربوبية لم يشتغل الأئمة بتفصيله كمسألة وجود الله ونحوها؛ لأن القرآن نفسه لم يذكر هذه المسألة على التفصيل التقريري للمؤمنين باعتبارها مسألةً فطرية، وباعتبارها محل إقرار عند جمهور الناس، وإن كان -كما أسلفت- يقع للمشركين انحراف -بل شرك- في بعض تفاصيل الربوبية.
وأما مسألة الألوهية: وهي إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، فهذه المسألة هي أخص مسألة تذكر في كتاب الله سبحانه وتعالى، ومشركو العرب كانوا مخالفين في هذا الأصل، بل هو أصل مخالفتهم هم وغيرهم من المخالفين للرسل، بل يمكن أن يقال: إن العرب لم يكونوا على إظهار للمخالفة في مسائل الأسماء والصفات، بل كان القرآن بين ظهرانيهم يسمعونه، ومع ذلك لم يعترضوا على النبي صلى الله عليه وسلم بشيء في باب الأسماء والصفات أو أن العقل يمنع شيئاً من ذلك.
وهذا المعنى من جوابات أهل السنة والجماعة على المعتزلة والجهمية الذين زعموا أن العقل يمنع ثبوت هذه الصفات، فيجيب عليهم أهل السنة بأن العرب لم يعترضوا على شيء من هذا بما يقال: إنه من الطرق العقلية التي لا تختص بأمة من الأمم.
فالذي ذُكر في القرآن على التفصيل هو توحيد العبادة الذي هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة.
فهنا يقال: هل توحيد العبادة من المسائل التي حدث فيها نزاع بين أهل القبلة؟
هنا جهتان:
الجهة الأولى: أن يقال: إنها مسألة حدث فيه نزاع نظري.
الجهة الثانية: أن يقال: إنها مسألة حدث فيها انحرافٌ عند كثير من الطوائف.
أما على الاعتبار الأول فيقال: إن هذه المسألة باعتبار أصولها مسألة محكمة، بمعنى: أنه لم يسوّغ الشرك على الإطلاق أو يبطل التوحيد على الإطلاق أحد من الطوائف إبطالاً نظرياً، نعم وقع في كلام بعض علماء السنة والجماعة من المتأخرين ومن أخصهم الإمام ابن تيمية رحمه الله أن المتكلمين لم يشتغلوا بتقرير توحيد الألوهية، وهذا حق، فإنك إذا نظرت كتب المتكلمين من سائر طوائف المتكلمين لا ترى أن لهم اشتغالاً بتقرير هذا التوحيد، ولكن هناك فرقاً بين كون القوم لم يشتغلوا بتقريره -ولا شك أن ذلك تقصير وافتيات على الأصول- وبين كون القوم لا يقرون به أو حتى لا يعرفونه.
ولهذا: إذا قيل: إن المتكلمين لا يعرفون هذا التوحيد، فإن هذا القول على هذا الإطلاق ليس بصحيح، إلا إذا فسر بمعنىً صواب، فإذا فسّر بأنهم لا يفرقون بين توحيد الله والشرك به فهذا لم يقع لطائفة من الطوائف، بل إن الرازي مثلاً -وهو من المتكلمة المتأخرين من الأشاعرة- إذا ذكر بعض مسائل الشرك الأكبر ذكر أن هذا كفرٌ وخروج من الملة بإجماع المسلمين.
إذاً يقال: إن الذي وقع عند طوائف المتكلمين هو عدم تحقيق هذا الأصل الشريف وهو توحيد العبادة؛ لأنهم لم يشتغلوا بتقريره وبيانه والدعوة إليه والدفاع عنه.. فهذا الحق قصر فيه هؤلاء المخالفون، وليس هو أول تقصيرهم أو خروجهم عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
أما أن القوم ينكرونه أو لا يؤمنون به أو ما إلى ذلك من المعاني، فهذا ليس بصحيح، فإنه لم يقع لطائفة من الطوائف من أهل الكلام أنها نظّرت في كتبها لمسائل الشرك وأقرتها، وأبطلت مسائل توحيد العبادة وردتها.
إذاً: هذا الأصل وهو توحيد العبادة من جهة كونه أصلاً نظرياً لم يقع فيه اختلاف نظري، لكن الذي وقع هو انحراف في تطبيقه وتحقيقه، وهذا الانحراف جمهوره وقع عند القاصدين إلى مسائل العمل، ممن دخل باسم التصوف أو العبادة أو ما إلى ذلك؛ فإن جمهور هؤلاء العباد المتأخرين المنحرفين عن سبيل السنة والجماعة ومن يتبعهم من العامة وقع لهم انحراف أو تقصير في هذا التوحيد، فضلاً عن الشيعة؛ فإنهم أيضاً منحرفون في كثير من مسائل هذا التوحيد.
إذاً: هذا التوحيد وقع فيه بين طوائف المسلمين انحراف؛ بل يوجد عند بعض الطوائف انحراف يصل إلى حد الشرك الأكبر أحياناً، لكنه يقرر بوجهٍ من العمل، ليس على جهة كونه شركاً أكبر مضاداً للتوحيد، بل كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إنما يقع من المخالفة في العمل عند طائفة من هؤلاء يحسبون أنها من الإيمان الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: مع أنه يعلم بالضرورة أنها من الشرك الذي بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبطاله).
فهو انحراف شائع، إما شرك أصغر وإما بدع، وتارةً يكون شركاً أكبر، وهذا الانحراف ليس مخصوصاً بهؤلاء وهؤلاء، بل حتى عند كثير من المتكلمين يقع شيءٌ من ذلك في بعض المسائل، ولا سيما بعدما امتزجت كثير من مسالك الصوفية بمسالك المتكلمين.
وكان لهذا موجبات، من أخصها: ظهور المعتزلة البغدادية، والذين كانوا متشيعين لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فحصل بين التشيع وبين الاعتزال قدر من التآلف والاختلاط، وإلا فإن أصول الشيعة كانوا على مذهب التشبيه في الصفات، ثم انحرفوا إلى مذهب التعطيل على طريقة معتزلة بغداد.
فهذا التآلف -مع ما هو معروف عند الشيعة من الغلو في آل البيت كـالحسين بن علي وغيره- جعل مسائل النظر تدخل على هذه المسائل الأخرى من العمل، فصار هذا الانحراف النظري يشاركه انحراف في مسائل العمل.
ثم لما ظهر المتفلسفة المحضة -وهم الفلاسفة الذين يصرحون بالفلسفة ويجعلونها طريقاً صريحاً لهم، ولا سيما فلاسفة المشرق كـأبي نصر الفارابي والحسين بن عبد الله بن سينا وأمثال هؤلاء- كان من طرقهم التي أحدثوها أن الناظر لا يلزم بالضرورة أن يكون له أخذٌ واحد، بل يكون له أخذ من جهة النظر، وأخذ من جهة العمل، فقرروا بذلك طريقاً مخترعاً، وهو أن المذهب الشخصي للواحد -أي: المعتقد للشخص الواحد- لا يلزم أن يكون معتقداً واحداً، بل يكون متعدداً.
ومن هنا تجد ابن سينا في بعض كتبه رجلاً عقلانياً نظرياً، يأخذ الطريقة العقلانية التجريدية المبالغة في العقلانية والتجريد؛ حتى لا يعتبر كثيراً من أدلة العقل، وهي الأدلة الحسية وما إلى ذلك، معتبراً أن هذه الأدلة -كما يزعم عن أرسطو وغيره- هي من الدلائل الخطابية أو من الدلائل الجدلية، وأن برهان اليقين لا يكون بمثل هذه الدلائل.
ثم تجده بعد أن استعمل طريقة التجريد العقلي الغالية في الأخذ بالعقليات والبعد عن مسائل الحس وما يتعلق بها، تجده في كتب أخرى له رجلاً صوفياً إشراقياً يعتبر مسائل النفس والعمل وما إلى ذلك، ويبتعد عن مسائل النظر والعقل.
فالاختلاط عند هؤلاء المتفلسفة لم يقتصر عليهم؛ إذ لما ظهر متكلمة الصفاتية، وكان خلق منهم قد اشتغل بالفقه، وخلق منهم قد اشتغل بعلم الكلام، وخلق منهم قد اشتغل بعلم الحديث، صار أتباعهم إلى مثل هذه الأنحاء.
فجاء -مثلاً- أبو حامد الغزالي ، وهو من متكلمة الأشعرية، من أصحاب أبي المعالي الجويني ، فصرف المذهب الأشعري عن صورته الأولى التي كان عليها الأشعري ومتقدمو أصحابه، وانحرف به انحرافاً باطلاً، وإن كان المذهب من أصله ليس على السنة المحضة، فوضع أبو حامد الغزالي للمذهب الأشعري منهجاً ذكره في كتابه (ميزان العمل)، وصرح بأن المذهب ليس واحداً، بل ثمة المذهب الجدل، وثمة المذهب اليقين، وثمة المذهب العام، فجعل علم الكلام مذهباً للجدل والدفع عن عقيدة المسلمين كما يقول، وجعل المذهب اليقين طريقة التصوف، الذي هو سر -كما يقول أبو حامد - بين العبد وبين ربه، وجعل للعامة مذهباً ثالثاً يخاطب به العامة من الناس الذين لا يعرفون طريق النظر ولا يؤهلون لطريق اليقين والتصوف.
فهذه الطريقة التي قررها الغزالي في كتبه انتشرت عنده وعند غيره، ومن هنا يعلم أن الانحراف -أعني الانحراف في توحيد العبادة- لم يختص بالصوفية أو الشيعة فقط، بل وقع حتى عند بعض النظار الذين قرروا مثل هذه المسائل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر