إسلام ويب

شرح الوصية الكبرى [5]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الوسطية الشرعية هي المنهج الحق الذي بعث الله به الأنبياء عليهم السلام، وجعل هذه الأمة أخص الأمم في تحقيق هذه الوسطية، وأهل السنة والجماعة هم أهل الوسطية في هذه الأمة، أما من خالفهم فإنهم انحرفوا عن الوسطية إما إلى الإفراط وإما إلى التفريط، ومنهم الصوفية، الذين خرجوا عنها لموجبات عرضت لهم، ظنوها حقاً وهي بخلاف ذلك.
    تقدم أن أول مسألة من مسائل أصول الدين ظهر فيها الخلاف هي: مسألة العمل، وقد طرأ الخلاف في مسألة العمل في ابتدائه من جهة رتبة العمل وحكمه، وقلنا: إن المخالفين في رتبة العمل وحكمه ابتدأ الأمر بالخوارج، ثم قاربتهم المعتزلة، ثم قابلتهم على جهة المقابلة المضادة طرق المرجئة، هذا من حيث الرتبة والحكم للعمل.

    أما من حيث الجهة الثانية وهي مفهوم العمل وتطبيقه، فهذه كانت بداية الغلط فيها في أثناء المائة الثانية من الهجرة ببعض الأغلاط التي سبقت الإشارة إليها، أي: لم تكن على عصر النبوة وإن كان الجمهور من الفقهاء قد يعذرون في كثير منها أو أكثرها.

    ثم تميز هذا المنهج في مفهوم العمل وتطبيقه بظهور اسم الصوفية بطرقها الخاصة، وظهرت أوجه التصوف على ثلاث درجات: الاختصاص بالاسم والشيء من العمل الذي لا أصل له، ثم الدرجة التي بعدها التصوف المنظم بمصطلحاته المعروفة التي يغلب عليها أنها مصطلحات مولدة في الإسلام، ومصطلحات رمزية، هذا نسميه: التصوف المنظم بمصطلحات رمزية مولدة، كمصطلح الكشف، والوجد والسكر والصحو والفناء، وأمثال ذلك.

    ثم تغلظ التصوف بأثر الفلسفة وظهور التصوف الفلسفي المباعد للحقائق الشرعية التي كان عليها أئمة السلوك والعبادة في أول الأمر.

    وقد تكلمنا عن هذا الأمر كمقدمة، ثم بعد ذلك تحدث شيخ الإسلام عن الوسطية الشرعية، والوسطية الشرعية هي المنهج الحق الذي بعث الله به الأنبياء، وجعل هذه الأمة هي أخص الأمم في تحقيق هذه الوسطية، وقول الله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] ليس معناه أن الأنبياء الآخرين لم يبعثوا بالوسطية، وإنما معناه: أن أتباع هذا النبي هم أخص الأمم لتحقيقها، ولذلك قال: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143].

    ومن جهة الآية يعلم أنه لا يجوز أن يقوم بالشهادة على الناس إلا من حقق منهج الوسطية الشرعية، أما من لم يكن وسطاً بل كان إما صاحب خفض وإنقاص للحقائق الشرعية، وإما صاحب رفع وغلو، فإن هذا لا يجوز أن يكون شاهداً على أحد من المسلمين، لا من أهل الصواب ولا من أهل الخطأ؛ لأن الله سبحانه وتعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، وكان أئمة السنة المحققون أنصف لمخالفيهم من المخالفين أنفسهم بعضهم مع بعض.

    وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله أن بعض طوائف الشيعة نصوا -في بعض كلامهم- على إنصاف أهل السنة لهم أكثر من إنصاف بعضهم لبعض.

    ومن أمثلة ذلك: مسألة التكفير في كلام أئمة السنة المحققين، فإنهم أعدل بل لا يوجد من الطوائف من اعتدل في هذه المسألة كاعتدال الأئمة.

    الخروج عن الوسطية الشرعية

    إن الخروج عن الوسطية ليس الذي يبتلى به هم فقط أهل البدع الخارجون عن السنة والجماعة، بل إن بعض المتأخرين من أصحاب السنة والجماعة قد يعرض لهم أوجه إما من الخفض وإما من الرفع في مقامات من مقامات العلم، أو من مقامات الحكم على المخالف، حيث يكون هذا الحكم خارجاً عن الوسطية الشرعية التي كان عليها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

    ومن الأمثلة على ذلك: إذا جئت إلى مسألة أحكام المخالفين من أهل القبلة، قد تجد في كلام بعض المتأخرين من الزيادة ما ليس مذكوراً في طرق الأئمة المتقدمين، فضلاً عن النصوص الشرعية: نصوص الكتاب والسنة.

    ومن مثال ذلك: ما يقع في كلام أبي إسماعيل الهروي صاحب المنازل؛ فإن له عناية بالانتصار لمذهب السلف في أسماء الله وصفاته، وكلامه في الأسماء والصفات حسن في الجملة، لكنه اشتد على المخالفين في هذه المسائل ونحوها؛ حتى إنه لما تكلم عن أبي الحسن الأشعري وصفه بأوصاف مغلظة، فقد ذكر في كتابه (ذم الكلام) أن أبا الحسن الأشعري لا يصلي ولا يتوضأ، وأنه مات متحيراً، ووصف هذا الطائفة بنوع من الزندقة وما إلى ذلك.

    ولا شك أن هذا تجاوز للعدل وتجاوز للقسطاس المستقيم الذي بعث الله به الرسل عليهم الصلاة والسلام.

    ولذلك تجد في حكم المحققين كـشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أصحاب أبي الحسن ما هو من العدل في تحقيق السنة وضبطها، مع بيان ما هم عليه من الصواب في مسائل، وما هم عليه من الغلط والبدعة في مسائل أخرى.

    قال شيخ الإسلام عن كتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره: "وأما من قال منهم -أي: الأشاعرة- بما في كتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة".

    وليس المقصود هنا الكلام عن اسم أو طائفة معينة، وإنما المقصود أن نعلم أنه قد يعرض لبعض الفضلاء المنتسبين للسنة والجماعة أو من هم من أصحابها بعض الخفض والإنقاص، أو بعض الرفع والزيادة، فالحكم على المخالف يعتبر بأصول الكتاب والسنة، وما مضى عليه هدي السابقين الأولين والأئمة المتقدمين.

    وفي هذا العصر أصبحت كلمة الوسطية فيها نوع من الاقتباس لمناهج لا تحكي وسطية شرعية، فنجد أنه ربما حمل اسم الوسطية على نوع من المجاملات، أو الخفض في تقرير مسائل الشريعة، وإسقاط حقائق الأصول، وإسقاط قدرها، والتهوين من شأن البدع وما إلى ذلك تحت اسم الوسطية في المنهج، وبالمقابل قد يوجد ما يقابل ذلك.

    فالوسطية الشرعية هي المنهج الشرعي الذي يجب على طالب العلم أن يعتبره.

    وقد تقدم أن الوسطية تعتبر بثلاثة أصول:

    الأصل الأول: اعتبار العلم بالنص الذي هو الكتاب والسنة والإجماع، فهذه الأصول الثلاثة هي الجامعة لعلم المسلمين وعقيدتهم.

    الأصل الثاني: اعتبار فقه النصوص بالقواعد التي مضت بها الشريعة، والمقاصد التي بعث الله بها الأنبياء، وإننا نتكلم عن علم وعن فقه، أما العلم فهو العلم بالدليل: الكتاب والسنة والإجماع، وأما فقه الدليل فهو اعتبار هذا الفقه بقواعد الشريعة ومقاصدها.

    الأصل الثالث: التفريق بين الأصول والفروع، وبين المحكم والمتشابه، وقد تقدم الكلام عن مفهوم الأصول والفروع وما قيل في ذلك.

    هذه هي الوسطية التي مضى عليها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وإذا تكلمنا عن المنهج المخالف له في مسألة السلوك، فهو ما طرأ في طبقات الصوفية الثلاث:

    الأولى: طبقة المقتصدين من الصوفية.

    الثانية: طبقة من فوق ذلك.

    الثالثة: طبقة الغلاة من الصوفية.

    موجبات الخروج عن الوسطية الشرعية عند الصوفية

    الخروج عن الوسطية الشرعية بأصولها الثلاثة يكون القول فيه على وجهين:

    الوجه الأول: يتعلق بالخاصة.

    الوجه الثاني: يتعلق بالعامة.

    فإن الناس إما خاصة وإما عامة، وهذا الاصطلاح ليس اصطلاحاً بدعياً، بل هو اصطلاح مستعمل في حقائق الكلام وكلام العرب، وقد استعمله بعض الأئمة المعتبرين كالإمام الشافعي ؛ فإنه يوجد في كلامه في الأم والرسالة ونحوها ذكر الخاصة والعامة.

    والمقصود بالخاصة: الخاصة من أهل العلم والإمامة في السلوك ونحو ذلك، والعامة: هم من عوام المسلمين الذين لا يصلون إلى هذه الرتبة من الفقه بأصول الشريعة أو الإمامة في وجه من أوجهها.

    فإذا جئنا للخاصة والعامة في الصوفية، وعرفنا أنهم طبقات مختلفة: فمنهم المقتصدون، وهم من يسميهم ابن تيمية بفضلاء الصوفية، ومقتصديهم ومقاربيهم للسنة والجماعة، أو يسميهم أصحاب السنة والحديث، أو جئنا إلى من فوقهم من المتأثرين بطرق المتكلمين ونحوها، أو جئنا للغلاة المتأثرين بأوجه الفلسفة، فإن الخاصة موجب خروجهم عن الوسطية أمور، وسنذكر هنا أمراً واحداً بالتفصيل؛ لأن المصنف أشار إليه في هذه الرسالة، وهو الاجتهاد المخالف للشريعة، هذا هو الموجب للخروج عن أصول الوسطية الثلاثة في حق الخاصة، وهو أخص الموجبات، ولا نقول: هو الموجب الفرد.

    أما إذا جئنا للعامة فإن أخص موجبات الخروج عن الوسطية في حقهم هو التعصب، وسيأتي بيانه لاحقاً.

    أما أصول الوسطية الثلاثة فقد يكون الخروج عنها خروجاً مقتصداً في حق مقتصدة الصوفية الذين يسميهم ابن تيمية : فضلاء الصوفية.

    وقد يكون الخروج عن الوسطية الشرعية بأصولها الثلاثة فوق هذا، وهذا يكون في حق من هم فوق هذه الدرجة، وقد يكون الخروج عن هذه الوسطية خروجا غالياً، وهذا يكون في حق الغلاة ولعله بهذه الطريقة قد انتظم رسم المنهج.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088509790

    عدد مرات الحفظ

    777032390