فهؤلاء العامة الذين عندهم غلط أو انحراف في منهج السلوك والتعبد، أكثر ما يوجب خروج هؤلاء عن الوسطية الشرعية هو التعصب والتقليد.
وهذان الاسمان: التعصب والتقليد، التحقيق فيهما أنهما ليسا من الأسماء المترادفة، بل بينهما قدر من التقارب، ولكن اسم التقليد أكثر قبولاً من اسم التعصب.
قيل: قد استعمل بعض أهل السنة -كـشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- لفظ التعصب مضافاً إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: "إن أهل السنة والجماعة ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، مع أن التسمية الشرعية الأولى أن يسمى ما يقع معه صلى الله عليه وسلم: اتباعاً واهتداءً واقتداء، فهو الذي يتبع اتباعاً مطلقاً، ويهتدى به اهتداءً مطلقاً، ويقتدى به اقتداءً مطلقاً.
والمقصود أن هذا الاسم غلب في كلام العرب على ما هو من التجمع الذي لا يكون عاقلاً ولا رشيداً؛ فهو في أكثر موارده ليس من الأسماء الممدوحة، فإذا تعلق بغير النبي صلى الله عليه وسلم على هذا التقرير فإنه ليس ممدوحاً، فإنه لا يجوز التعصب لأحد من أعيان المسلمين، لا من أئمة الفقه ولا من أئمة السلوك ولا من أئمة العقائد، بل يجب أن يكون هذا الاسم بعيداً عن حال العامة من المسلمين.
وإذا أخذت مسألة التقليد كجملة عامة في تقرير أهل العلم لها فإنه يقال: إن الجمهور من أهل العلم يرون جواز التقليد فيما يناسبه من المواضع، ولذلك يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وجمهور الأئمة ذهبوا إلى جواز الاجتهاد وجواز التقليد كل بحسبه"، أي: يكون الاجتهاد مشروعاً في مقام، ويكون التقليد جائزاً، وربما صار مشروعاً في حال معينة.
أما كون التقليد بإطلاق لمعين دون النبي صلى الله عليه وسلم مشروعاً، فإن هذا ليس مذهباً لأحد من الأئمة المعتبرين، ونعني بقولنا: (بإطلاق) أي: باطراد في سائر المسائل وسائر التفاصيل.
ولذلك من اتبع إماماً من الأئمة في مسألة على وجه من الدليل البين للمتبع، فإن هذا يسمى مقتدياً، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بـأبي بكر وعمر رضي الله عهما، وبين للناس أنهم إن يقتدوا بهما يرشدوا فهذا الاقتداء إذا كان مفصلاً على دليل الوحي فهو الاقتداء المشروع، وهذا لا يسمى تقليداً محضاً، فضلاً عن أن يسمى تعصباً.
وعليه: فليس المقصود من الكلام في التعصب أن يقال: إن المسلمين يجب أن يكونوا أهل اجتهاد، فإن هذا الطلب ليس طلباً شرعياً، ولا طلباً عقلياً، فإن جمهور المسلمين لا يسعهم لا شرعاً ولا عقلاً أن يكونوا من أهل الاجتهاد، بل التقليد وأجلّ منه الاقتداء سنة ماضية في شأن المسلمين، ولاسيما من بعد عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لما كثر العامة، وفتحت البلاد، وانتشر سواد المسلمين، فإنه يتعذر هنا شرعاً وعقلاً أن يتحول جميع الناس إلى أهل اجتهاد.
ولذلك أمر الله في كتابه عند عدم العلم بسؤال أهل الذكر، ودل ذلك على أن المسلمين وأهل الإيمان يكون فيهم من هو من أهل الذكر والعلم، ويكون فيهم من هو ليس كذلك.
إذاً: التعصب في عامة موارده ليس اسماً شرعياً ولا مناسباً للعقل والحكمة، ولذلك غلب التعصب كاسم في كلام الجاهليين على التجمع الجاهل، كالتعصب لولاءات قبلية وثارات جاهلية ونحو ذلك.
أما التقليد فإنه أرفق من هذا بكثير، فقد استعمله أهل العلم كمصطلح علمي، وتكلم جمهورهم في جوازه، إلى غير ذلك.
والناظر إلى ما عليه أهل الإسلام من قرون مضت يجد أنهم يتجافون عن مصطلح التعصب، ولا ينتحلونه؛ لما فيه من قلة الاهتداء بالشريعة، والتحيز الجاهل، وآثار العزم بغير علم، إلى غير ذلك، وإنما يستعملون إما مصطلح التقليد، وهو الذي غلب على أتباع الفقهاء، أو مصطلح الاقتداء، وهو الذي غلب على أصحاب الاختصاص في مذهب العقائد أو السلوك.
ولا شك أن الاعتبار ليس بمجرد الأسماء، وإنما الاعتبار بحقائق المعاني والأحوال؛ فإن أهل السلوك من طوائف الصوفية يستعملون كلمة القدوة؛ فإذا بلغ بعض الخاصة عندهم مبلغاً سموه قدوة، وصار من تعريفه ولقبه: الشيخ العارف القدوة، فهذا الاقتداء وتعيين أحد به هو من باب استعمال هذه الكلمة التي أصلها شرعي، لكن هذا التخصيص لا بد أن يكون مبيناً على القواعد الشرعية، وهذا من حيث ظاهر الحال، ولكن من حيث حقيقة الحال، فإن التعصب وإن سمي في بعض الأحوال في حال كثير من الفقهاء تقليداً، أو في حال بعض أهل الاختصاص بعقائد غير أهل السنة والجماعة أو طرق في السلوك سمي تقليداً أو اقتداء؛ فإنه في حقيقة حاله وفي جمهور حاله إما أن يكون تعصباً، وإما أن نسميه تقليداً ليس مشروعاً، والتقليد إذا لم يكن مشروعاً ولا جائزاً فإنه هو التعصب.
فهذه الأحوال هي التي تغلب من حيث الحقيقة، أعني التعصب الجاهل، والتقليد الذي لا تجيزه الشريعة، ولا تقره أصول الحكمة والعقل.
المسألة الأولى: الاقتداء المشروع أو التقليد الجائز هذه وجدت زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا أهل علم إلا أنهم مراتب، وقد وجد في تاريخ الصحابة وفي هديهم رضي الله تعالى عنهم التعظيم لبعض أئمتهم أكثر من بعض، فكان من كثير من الصحابة عناية بكلام أبي بكر وكلام عمر ، وفقه علي وعثمان ، وفقه زيد في الفرائض، وعلم معاذ بن جبل بالحلال والحرام.. وما إلى ذلك، وكان الصحابة يسألون أئمتهم، كما كانوا يسألون أم المؤمنين عائشة عن بعض خواص النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فكان هذا جزءاً من السؤال في العلم، وهو جزء من الاقتداء، وقد يكون من التقليد الجائز الذي عرض في سيرة الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
ومن الأمثلة على ذلك:
ما جاء في الصحيح لما أقبل أبو موسى رضي الله تعالى عنه في الحج فأفتى الناس في مسائل، وكان عمر رضي الله عنه -وهذا في خلافته- يفتي الناس بغير ذلك، فلما سمع أبو موسى بهذا قال: أيها الناس! من كنا أفتيناه بشيء فليتأد؛ فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتموا. فترك أبو موسى بعض الذي كان يراه هو الأقرب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتهاد عمر رضي الله تعالى عنه وراعى في ذلك مقام الخليفة عمر رضي الله تعالى عنه.
وكذلك ما جاء في وقوف بعض الصحابة في بعض المسائل عن إظهار المخالفة، كإتمام عثمان رضي الله تعالى عنه، فاقتدى به ابن مسعود اقتداءً معيناً وليس اقتداء مطرداً، والاقتداء المعين هنا أنه صلى خلفه تماماً؛ لأن الإتمام جائز، وترك به السنة، ولما قيل لـابن مسعود في هذا قال: (إن الخلاف شر) فقد وجد في هدي الصحابة ما هو من الاقتداء المشروع وفي بعض الأحوال ما هو من التقليد الذي يسمى في الشريعة جائزاً، لكن هذا التقليد الذي عرض لبعض الصحابة لا يكون حالاً عامة، وإنما يكون في وجه معين أو واقعة معينة؛ لمصلحة ولحكمة كلية أو شرعية راجحة، كتحصيل الاجتماع، وترك الافتراق، وما إلى ذلك.
أما التقليد بغير علم، والتقليد بما يعلم أنه منافٍ للشريعة وتجويزه فضلاً عن التعصب، فإن هذا لم يكن من هدي أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأما من بعد الصحابة فإنه في المائة الثانية ظهرت بعض مقدمات التعصب في مسائل السلوك، وقد سبق ذلك فيما يتعلق بمسائل العقائد التي بدأ الانحراف فيها في آخر خلافة الخلفاء الراشدين، ومن هنا يمكن أن نقسم ما يتعلق بالتعصب إلى وجهين:
الوجه الأول: ما هو من الميل العام الذي لا يصل إلى درجة الانتظام والتحيز المطلق، فهذه أحوال عرضت في أواخر عهد الصحابة، وفي المائة الثانية.
أما في المائة الثانية فإنه لما ظهر السلوك صار بعض الأصحاب والمريدين والعامة، يعطون مشايخهم بعض الاختصاص والإجلال والتسليم والتبعية ما ليس مشروعاً، لكن هذا لم يكن شأناً منتظماً تحت اسم طائفي، أو تحت تجمع مدرسي ينتسب إليه.
ثم ظهر في الإسلام ما يمكن أن نسميه -وهذا هو الذي يعيشه المسلمون من قرون، وهو من أشكل ما قام في تاريخ المسلمين- التعصب المنظم، ونقصد بمصطلح التعصب المنظم: التحيز والاختصاص بمدارس معينة، إما في باب العقائد، وإما في باب السلوك، وينتهي سند هذه المدارس والطوائف إلى أعيان، أي : أسماء رجال عرضوا في تاريخ الإسلام، ومعنى أنهم عرضوا في تاريخ الإسلام أي: أنهم ينقطعون إلى سنة ما في تاريخ الإسلام، حتى لو كانت هذه السنة في أثناء المائة الثانية أو في أواخر المائة الأولى أو ما إلى ذلك.
وقد يقول قائل: إنه ظهر من التقليد المنظم ما يتعلق بمسألة المذاهب الفقهية.
فأقول: إن ما يتعلق بالمذاهب والمدارس الفقهية شأنه دون ما يتعلق بمسائل العقائد ومسائل السلوك التي انتظمت عند البعض على أوجه من العقائد والاختصاص العقدي.
وهذه الأوجه الثلاثة وهي: العقائد والسلوك والفقهيات، نجد أنه من حيث الاقتضاء الشرعي -أي: التجويز الشرعي- ومن حيث الاقتضاء الممكن عقلاً أن الفقهيات هي الأولى أن تظهر ابتداء، أي: التي لو ظهرت مبكرة لما كان في ظهروها كثير من الإشكال.
لكن المفارقة في تاريخ المسلمين أن أول تعصب وتحيز واختصاص ظهر هو فيما لا يسع التحيز فيه والاختصاص، وهو باب العقائد، ثم جاء بعده الاختصاص والتحيز في باب السلوك، ثم آخر ما ظهر التحيز أو الاختصاص الفقهي.
وإنما قلنا: إنها أخف بكثير؛ لأن شعار أهل البدع المغلظة كما يذكر ابن تيمية ترك الانتساب للسنة والجماعة، كالجهمية، والمعتزلة والخوارج، فما كانوا ينتسبون للسنة والجماعة، فهؤلاء أهل البدع المغلظة.
ثم ظهر جيل من المدارس فيما بعد أخذوا جملاً من جمل السلف، وانتسبوا إليهم، وعظموا أصول السنة العامة، ولكن دخلت عليهم إما أصول كلامية وإما غير ذلك، وإما مجموع من هذا وهذا.
فالمقصود أن هؤلاء هي المدارس العقدية المختصة، وأعني بكلمة (المختصة) أي أنها تختص برجل ينتهي سند المدرسة إليه.
ولكن أصحاب الجيل الثاني من المدارس ينتسبون لأهل السنة والجماعة، وهذا لا يعني أن الجيل الثاني تاريخياً جميعه ينتسب للسنة والجماعة؛ فإن بعض المدارس الغالية في العقائد لم تظهر إلا في التاريخ الثاني من الإسلام، والذي هو بعد عصر القرون الثلاثة الفاضلة، وهي بعض مدارس المتفلسفة والباطنية، وهؤلاء كانوا غلاة، بل أكثر من غلو جمهور من تقدمهم، وهم مع ذلك لا ينتسبون للسنة والجماعة.
إذاً: المدارس العقدية انقسمت إلى قسمين:
الأولى: أصحابها لا ينتسبون للسنة والجماعة، وهؤلاء من يسميهم ابن تيمية بأهل البدع المغلظة.
الثانية: أصحابها ينتسبون للسنة والجماعة، ويوافقون أهل السنة وأئمة السنة في مسائل وبعض الأصول، ولكنهم يختلفون معهم في حقائق بينة.
الجواب: هذا الكلام فيه قدر من الإجمال؛ فإن الحقيقة الشرعية الموجودة في القرآن هي أن ما يتعلق بمذهب أهل السنة والجماعة -أو ما سماه الشارع بما روي عنه في الفرقة الناجية والطائفة المنصورة- لا يختص بأحد بعينه، وهذا هو جوهر الفرق في باب العقائد بين المدارس التي خالفت أهل السنة والجماعة، وبين مذهب أهل السنة والجماعة.
وقد يقول قائل: جوهر الفرق أنهم لا يقتدون بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه المدارس حتى التي انتسب أصحابها للسنة والجماعة ينتهي سندها العلمي إلى ما قد يسمى بالمؤسس أو المؤسسين، وليس المهم أن يتفق من هو المؤسس، فمثلاً: الاعتزال، من هو مؤسسه؟ هل هو واصل بن عطاء ، أم عمرو بن عبيد أم رجل آخر؟ هذا لا يهم، لكن المهم أن هذه المدارس انطلقت بأسماء، فالخوارج انطلقوا بأسماء، فإنه لا يوجد ذكرهم في خلافة عمر بن الخطاب ، فضلاً عن خلافة أبي بكر ، فضلاً عن زمن النبوة، ولا توجد نظرية الخوارج وطائفة الخوارج ومذهب الخوارج، وإن وجدت المقدمة من ذلك الرجل الذي قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أنه سيخرج من بضع هذا قوم.
إذاً: هي حادثة، وهذا هو معنى البدعة في الإسلام، وقد كان تعبيره عليه الصلاة والسلام بيناً في ذلك، وذلك لما كان يقول في مقدمة خطبته -كما في حديث جابر في الصحيح-: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها) فلفظ الحدوث هنا لفظ بين، أي: أن فيها حدوثاً، بمعنى أنها طرأت على الإسلام وهي ليست منه.
وهذا يميز مدارس العقائد كلها الخارجة عن أهل السنة والجماعة؛ لأنها تنتهي إلى أسماء، وقد يكون اسماً واحداً، وقد يختلف أهل التاريخ والمقالات في اسم من الأسماء، وهذا ليس مهماً، بل المهم أن هناك تأكداً علمياً بيناً أنها تنتهي إلى أسماء، وهذا الانتهاء يعني: تحويل العقائد إلى اجتهاد؛ لأنه إذا سألت سؤالاً شرعياً وعقلياً: ما معنى أن يختص فلان من الناس في قرن من القرون بمذهب عقدي كي ننسبه إليه؟
قد يقال كما يقوله بعض مدارس العقائد المنتسبة للسنة والجماعة: ما قاله هو عين ما قاله ورتبه من كان قبله من الأئمة.
وإذا كان ما قاله ورتبه هو عين ما قاله قبله أئمة السنة فأي معنى لاختصاصه والانتساب له؟ وأما إذا كان له اختصاص فيه فإن هذا يعني أن مسألة العقيدة تحولت من كونها مسألة الأصول في الإسلام والقطعيات في الإسلام، والمعرفة الأولى في توحيد الله سبحانه وأسمائه وصفاته، وقدره والإيمان به، وما إلى ذلك من الأصول التي توافرت فيها النصوص وأجمع عليها الصحابة رضوان الله عليهم وأئمة السلف رحمهم الله -تحولت إلى وجه من الاجتهاد الخاص الذي يرسمه أحد الراسمين له في قرن من قرون الإسلام.
وهذا غير مقبول لا شرعاً ولا عقلاً: أن تتحول العقائد إلى نظريات اجتهاد، ولا سيما إذا كان الشخص ذا تحول، فإننا نجد أن بعض هؤلاء قد يكون في أول أمره معتزلياً، ثم تحول عن عقيدة المعتزلة إلى مذهب آخر .. وهلم جرا. وبهذا يعلم علماً شرعياً وعلماً عقلياً أن انتهاء السند في مذهب من مذاهب المسلمين إلى رجل بعينه يدل على أن هذا المذهب مذهب بدعي في الإسلام.
فالجواب: بلى، يقال عن أحمد وعن مالك وعن أبي حنيفة وعن الشافعي وعن جملة من الأئمة، وهذا من اللقب الشائع المستفيض الذي كل من استفاض فضله وعلمه ودينه من الأئمة سموه إماماً لأهل السنة والجماعة، ولا يختص بالسابقين، بل يسمى أيضاً من هو من اللاحقين بهذا الاسم، لكن ما معنى الإمامة هنا؟
معناه: أنه جامع لهذا العلم، فقيه فيه، قائم بالعمل، والدعوة إليه، وليس معناه أنه ابتدأ تاريخ مذهب أهل السنة والجماعة من أحمد بن حنبل أو مالك أو الشافعي أو الثوري أو غيره؛ ولذلك ابن تيمية رحمه الله في مناظرته في الواسطية لما كان يقرر هذا المعنى، وأن العقائد ليس صحيحاً أنها تختصر بتاريخ رجل عرض في تاريخ المسلمين في المائة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو غيرها، كان بعض مناظريه من متكلمة الصفاتية يقولون ذلك للسلطان، فقال له السلطان الذي كانوا يتناظرون بين يديه: لو سميت هذا الذي كتبته في الواسطية: مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، ومذهب الحنابلة، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: إن هذا المذهب موجود قبل أن يولد الإمام أحمد . وهذه هي الحقيقة العلمية هنا، أن الإمام أحمد أو غيره إذا سمي بإمام أهل السنة ليس معناه أن المذهب ترسم أو ابتدأ أو انتظم من جهته، والله سبحانه وتعالى قد فضل النبيين بعضهم على بعض، وكذلك أتباع الأنبياء بعضهم أفضل من بعض، فيكون بعض الأئمة أقوم بالسنة وأهدى فيها وأكثر فقهاً فيها وما إلى ذلك، فيميز بمثل هذا اللقب.
إذاً: لا يوجد عند أهل السنة والجماعة تعصب لشخص معين في العقائد؛ لأن التعصب لمعين يعني الانفكاك عن غيره، ولا يوجد عند أهل السنة والجماعة رجل معين دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشرع التعصب له بعينه في العقائد، على معنى أن هذا الأمر يختص به وينفك عن غيره، وهذا بخلاف غيره من المذاهب، فإن مدرسة الماتريدية -مثلاً- مع انتساب أصحابها للسنة والجماعة، إلا أن نظارهم وعلماءهم فضلاً عن العامة منهم ينتهي سندهم إلى أبي منصور الماتريدي الحنفي، وهذا الانتهاء هو المشكل؛ لأنه إذا كان ما نظمه الماتريدي هو ما عليه أئمة السنة القدماء من أئمة الحنفية وغيرهم، وليس له اختصاص فيه، فإنه لا يوجد معنى للانتساب المختص به في باب العقائد.
وقد يقول قائل: إنه استعمل في بعض البيئات مصطلح الوهابية انتساباً للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهذا الشيخ إنما تكلم كاختصاص في باب العقائد، وفي باب توحيد الله سبحانه وتعالى.
فيقال: إن القاعدة مطردة؛ فإن الشيخ رحمه الله -أعني الإمام محمد بن عبد الوهاب - لم يأت إلى الدعوة باسم طائفي ينتسب هو إليه أو ينتسب إليه أبو أو جده، بل حقيقة ما أتى به الشيخ رحمه الله أنه منهج في تجديد الدين يقوم على الكتاب والسنة وما مضى به الإجماع عند الأئمة، وعند التأمل فيما أتى به الشيخ رحمه الله يظهر أنه في باب توحيد الله، وهو باب بين في الشريعة، لكن لما كثرت البدع والخرافات في تاريخ المسلمين المتأخر صار عند كثير من العامة من المشكل والمستغرب. فما أتى به الشيخ ليس اسماً طائفياً، وكذلك أتباعه من بعده لا ينتحلون هذا الاسم؛ فإننا لا نجد أحداً من علماء الدعوة ومن بعدهم ومن انتظم في فقه هذه الدعوة يسمي نفسه وهابياًً أو ينتسب هذه النسبة، بل الأصل أن الوهابية اسم سماهم به إما أعداؤهم أو من يخالفهم، وقد لا يصل إلى درجة العداوة المطلقة، فهو ليس اسماً متعبراً به لا عند الشيخ ولا عند أتباعه، بل هم يعدون أنفسهم جزءاً من أهل السنة والجماعة الذين يوجدون في سائر بقاع المسلمين، لكن الإمام رحمه الله عني بتقرير توحيد العبادة وتخليص كثير من العامة من مظاهر الشرك والخرافة والبدع، وهذا شأن بين في كتبه، وليس له اختصاص بكلمة واحدة في التوحيد عن أئمة سبقوه كالأئمة الأربعة ومن قاربهم، فضلاً عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وأما في باب الفقه فمن المعلوم أنه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله من حيث الأصول، مع أن الشيخ رحمه الله ليس من المتعصبين ولا من الغلاة في التقليد، بل نقل عنه كلمة تبين أنه رحمه الله ليس من المتعصبة في باب الفقه، هذه الكلمة قالها تعليقاً على كتابي: الإقناع والمنتهى، فإن ما انتهى إليه صاحب المنتهى وصاحب الإقناع من النتائج يجعله المتأخرون من الحنابلة هو المذهب.
ومع ذلك نقل بعض علماء الدعوة عن الشيخ رحمه الله كلمة قال فيها: "أكثر ما في الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد نفسه".
ولما كان العارفون والنساك والعباد أثناء المائة الثانية الغالب عليهم أنهم في أصولهم على السنة والجماعة، لم يكن هذا التقليد والتعصب يتولد عنه كثير من الإشكال، أو البدع المغلظة، وإن لم يكن هذا التقليد والتعصب شرعياً في باب السلوك.
لكن لما ظهرت المدارس والانتماءات الصوفية، صار هناك تميز تحت هذه الدائرة، وإذا طرأ علينا سؤال: هل التعصب في باب السلوك من حيث الأصل قدره في الإشكال مثل التعصب والاختصاص في باب العقائد؟
الجواب: لا؛ فإن باب السلوك من حيث الأصل يتعلق بتزكية النفس وإصلاحها، وهذا الباب يدخل الاجتهاد في كثير منه، بخلاف باب العقائد؛ فإنها كلمات وجمل ومعانٍ واحدة منضبطة لا يجوز الزيادة عليها ولا النقص منها، ولا أخذها على سبيل التفقه والاجتهاد؛ لتعدد الرأي واختلافه، أما باب السلوك وفقهه فإن فيه سعة أكثر.
ثم بعد ظهور اسم التصوف وظهور الصوفية المتأثرين بالأصول الكلامية والفلسفية، تحول باب السلوك إلى أثر عقدي.
إذاً: ما يتعلق بالسلوك قدر منه يقبل الاجتهاد، فقد يختلف بعض العارفين والسلوكيين والنساك في تقريب العبد إلى حقائق الإيمان الشرعية، وإذا جئت إلى هدي الإسلام الأول وهدي الصحابة رضي الله عنهم. وجدت أن بعضهم يغلب عليه الجهاد، وبعضهم يغلب عليه الصوم، وبعضهم يغلب عليه كثرة ذكره وصلاته وقيامه بالليل وصيامه بالنهار، وبعضهم كثر اشتغاله بالعلم، فكانت النفوس مختلفة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه من يسأله عن فضائل الأعمال ربما أجاب بأجوبة لا أقول: مختلفة، وإنما متنوعة، فلما جاءه عبد الله بن بشر -وكان رجلاً قد اشتد في سنه- أوصاه بالذكر وقال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)وهكذا.
فهذا التنوع في تأديب النفس وتزكيتها إذا كان على قواعد الشريعة وهديها فإنه يدخله كثير من الاجتهاد، وبحسب اختلاف الطباع والنفوس والأحوال فيه.
لكن لما تعلق التصوف بكثير من التصورات والمعاني العلمية العقدية أصبح كثير من هذا الاجتهاد لا يعد من الاجتهاد السائغ الجائز، فضلاً عن المشهور، بل أصبح اجتهاداً بدعياً، وبهذا نتج عن التعصب في باب التصوف والسلوك جملة من الإشكالات:
والامتياز بحد ذاته بدعة، إلا إذا انتظم هذا الامتياز تحت اجتهاد يمكن قبوله ولا يكون مطلقاً، فإن الامتياز إذا كان مطلقاً أي -مطرداً- فإنه لا يكون امتيازاً مشروعاً.
وهذا الامتياز يقع كثير من تحققه عند كثير من عوام الصوفية تحت ما يسمى بالآداب الوضعية الخاصة، وهي الآداب التي تكون من العامة للخاصة، كطريقة الدخول والسلام والجلوس بين يديه، فيكون هناك من التخصيصات والرسوم الوضعية التي ليس لها أصل في نصوص الشريعة ونصوص النبوة.
مع أن باب الأدب ورعاية الأخلاق وحسن التأتي باب مشروع في الإسلام، ولا أحد يجادل فيه، لكن الناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم -مع أنه هو صاحب هذه الأمة ورسولها وإمامها- لا يجد أنه كان يرتب لأصحابه طرقاً معينة، بل كان يعلمهم آداب الاستئذان، وآداب الدخول والخروج بذكر اسم الله سبحانه وتعالى، وتقديم اليمنى ونحو ذلك، هذه هي الآداب الشرعية، أما أن لهم حركة معينة في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والقيام من عنده وما إلى ذلك، فضلاً عما هو أكثر من ذلك، كمسألة التبرك بآثاره التي لا تكون مستساغة لا عقلاً ولا شرعاً، فإن مثل هذه الأوضاع والآداب الوضعية التي انتشرت في عوام الصوفية في كثير من قرون المسلمين ليست آداباً مشروعة.
فصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم لم يكن يتكلف له أصحابه كثيراً، وإن كان ورد في بعض المناسبات كقصة الحديبية أن أصحابه قاموا بين يديه قياماً خاصاً ما كان مألوفاً، حتى إنه لما انصرف رسول قريش قال لقريش -كما في صحيح البخاري وغيره-: (لقد أتيت الملوك فما رأيت رجلاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً) وذلك لأن الصحابة أظهروا شيئاً خاصاً، فقد قام المغيرة بن شعبة على رأسه بالسيف، وعندما كان رسول قريش يمد يده للحية النبي صلى الله عليه وسلم أثناء المفاوضة كان المغيرة بن شعبة يكف يده بنعل السيف، وفعل كذلك الصحابة بعض الأمور التي كانت خاصة بذلك المجلس، أما في جمهور مجالسه عليه الصلاة والسلام فقد كان غير متكلف الحال، اقتداء بهدي إخوانه المرسلين عليهم السلام الذين كانوا يقولون لقومهم: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].
والمقصود أن هذه الآداب الوضعية والمراسيم الصوفية التي يوجد فيها قدر من الإذلال للعامة، وأحياناً الخروج إلى شيء من البدع، والوصول إلى شيء من التبركات في الأشخاص التي لا تكون تبركات مشروعة، كالانحناء بين يديه. فمثل هذا من البدع، وقد يصل إلى أوجه مغلظة من الحكم الشرعي، كالانحناء والتقبيل لركبته مثلاً، أو ما إلى ذلك، فهذه كلها من الأمور المتكلفة في الإسلام.
فهذه الرسوم ليست رسوماً شرعية، وينبغي لشيوخ السلوك والعارفين وأهل الاقتداء وأولياء الله سبحانه وتعالى من المعاصرين أن يقوموا كما قام صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، على قدر من اختصار الحال -أي عدم التكلف- في هذه الأمور، والإتيان بالأخلاق والسنن الشرعية؛ كالسلام، وحسن التأتي، وحسن الأدب، ومراعاة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، والمحافظة على الأوقات المناسبة في الدخول والجلوس، هذه هي الآداب الشرعية.
أما المراسيم الخاصة حتى في شكل اللباس، كتخصيص لباس معين وهندام معين وشكل معين لطائفة من المسلمين بالانتساب لهذا الرجل أو ذاك ، فمثل هذه الاختصاصات لم تكن مشروعة في الإسلام، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث لم يأمر أصحابه بتغيير طريقة لباسهم التي كانوا عليها في جاهليتهم، وإنما أرشدهم إلى هديه في اللباس؛ كنهيه صلى الله عليه وسلم عن إسبال الثياب كبراً في حق الرجال، فكان هذا من باب الضبط لآداب الشريعة.
فهذا ما يمكن أن نسميه بالامتياز في مسائل الرسوم، وهو وجه من وجوه التعصب، وإلا فما معنى أن يمتاز الإنسان بنظام في رسم حركته ومجلسه ولباسه وآدابه الوضعية وما إلى ذلك؟
لأنه إما أنه لا معنى لها إذا كانت جائزة، وقد يقول قائل: ما هو الحرام في أن يلبس الإنسان بطريقة معينة؟
فنقول: الإنسان حر في لباسه ما دام أنه في حدود ما أذن الله به، لكن الاقتصار على نظام معين في اللباس كتجمع خاص عن جمهور أهل مصر من المسلمين، أو عامة المسلمين، هذا لا شك أنه ليس مشروعاً، فضلاً عما إذا كان الأمر يصل بهذه الرسوم إلى بدع أو إلى محرمات.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة في أدب الأخلاق: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، فلا ينبغي للعارف وصاحب العبادة والنسك أن يمتاز أمام الناس، وأن يظهر حاله بنوع من الإشارة المعينة التي تدل عليه، بل عليه أن يكون بعيداً عن التكلفين: تكلف الإظهار وتكلف الإضمار، فإن بعض الناس -أحياناً- يتكلف في الإضمار، وفي هضم نفسه وتبذل نفسه، وفي تحطيم نفسه -إن صحت الكلمة- إلى وجه ليس مشروعاً، فإن الشريعة لم تأمر بهذا التكلف: لا في الإظهار ولا في الإضمار.
وهذه الرتب لا أصل لها في الإسلام، ولا شك أن الإيمان يتفاضل، وأن المؤمنين يتفاضلون، لكن تفاضل الإيمان لم يوكل في الإسلام إلى رجل بعينه هو الذي يرتب مراتب الناس في الإيمان، حتى الرسول عليه الصلاة والسلام مع ما كان ينزل عليه من الوحي لم يكن يشتغل أمام أصحابه بترتيب الدرجات على اطراد، فقد ميز أبا بكر وعمر ، وذكر العشرة المبشرين بظهور أحوالهم في الإسلام، أما أنه كان يتتبع عليه الصلاة والسلام ذلك فلا.
ولذلك من فقه عمر -كما في البخاري وغيره- أنه قال: إنا كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله ينزل عليه الوحي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات فمن أظهر لنا خيراً قبلناه، ومن أظهر لنا خلاف ذلك أخذناه به.
أي: أصبحت الأمور تعتبر بالظواهر، وليس المقصود بالظواهر الظواهر البسيطة، بل ظواهر الفقه، فإن الشخص قد يظهر الصدق من حاله، وتقوم القرائن على الصادق وعلى غير الصادق.
لكن نظرية ترتيب الداخلين في هذا الانتظام إلى درجات في التقوى، وتنقل الإمام تنتقل هذه من هذه الدرجة الشرعية الدينية وأصبح في هذا اليوم أو في هذا التوقيت أو في هذه السنة في هذه الدرجة، ثم انتقل إلى تلك الدرجة التي هي أرقى من هذه. هذا لا معنى له في العقل، فضلاً عن الشرع، فقد يكون في حاله الأولى التي كانت أنزل في النظم الصوفي أكرم عند الله وأتقى.
فالولاية والتقوى في شريعة الله سبحانه تعتبر بما قاله سبحانه في كتابه: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] .
وإذا تأملت القرآن وجدت أن الله سبحانه إذا ذكر الأسماء المطلقة في الغالب، وهي أسماء الكمال الشرعية؛ تجد أن لها تعريفاً يتبعها في سياق الآيات، وهذا حتى لا تترك إلى فهم خاص، كقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا) أي: أصبح عندهم الإيمان والديانة في قلوبهم وفي أعمالهم، واتقوا ربهم قدر ما يستطيعون، هؤلاء هم الأولياء، وليست الولاية درجة تمنح إما من شخص معين له مقام أكبر، أو تمنح بتوافق العامة على أن هذا هو الولي بعد فلان، أو هو الخليفة بعد فلان، فإن هذا قد يقبل في الأوجه السياسية -مثلاً- أو غيرها، لكن في مثل هذه الطرق لا يمكن أن تكون الأمور شورى، أي: يكون فلان هو الولي من بعد فلان، أو أن فلاناً يوصي بالولاية من بعده لفلان، فالولاية لم تكن يوماً من الأيام في فقه الإسلام الأول مسألة وصايا: أن فلاناً أوصى أن الولي من بعده أو أن العارف من بعده أو القائم بهذا الأمر من بعده يكون فلان بن فلان، أو تدخل أحياناً مسألة الوراثات الشخصية الخاصة.
وينبغي على الداعية والعالم أن لا يصطدم مع العوام في تصحيح هذه المخالفات، فإننا نتكلم في هذا أمام واقع اليوم من أقاليم شتى من المسلمين نتكلم في هذا أمام واقع اليوم من أقاليم شتى من المسلمين، والاصطدام معهم ليس من الحكمة، لكن ليكون هناك منهج وسطي معتدل حكيم عاقل في التصحيح، وإلا فلست أرى أن من الحكمة أن ينفر الإنسان الناس، وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله)، ويعلق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند هذه الكلمة بقوله: "إن مقصود علي أن بعض العامة ينبغي أن لا يحدث بما هو من السنة أحياناً في بعض المقامات؛ لأنه يقول: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ولو كان مراد علي أنهم لا يحدثون بغير السنة لما قال: أتريدون أن يكذب الله ورسوله، فهذا فقه ينبغي أن يوصل إليه.
لكن التصحيح أيضاً مطلب، فليس هناك معنى لأن يبقى المسلمون على إلف وتقليد وتعصب ليس مشروعاً لهم في كتاب ربهم أو في سنة نبيهم، ولكن نوصي هنا بحسن التأتي وحسن الفقه، والرفق في تصحيح بعض هذه الأوضاع الموجودة عند المسلمين اليوم.
وقد يكون عند البعض طموح في أن يتجرد الناس عن كل تبعية، وهذا ليس منهجاً ممكن التطبيق في الحال، بل قد يكون في هذا المنهج قدر واسع من المثالية.
لكن ما يتعلق بباب العقائد هذا لا يجوز التساهل فيه؛ بل ينبه الخاصة والعامة أنه لا يجوز لأحد أن يختص بعقيدة عن عقيدة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أو يتميز باسم خاص عن هدي السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم.
أما باب السلوك فهو باب أوسع بكثير من الباب الأول؛ لأن هناك درجات ومدارس وطبقات من التصوف هي في جمهور أصولها على السنة والجماعة، لكن اختلفت بعض طرائقهم.
فينبغي في مثل هؤلاء أن يخفف عندهم جانب التعصب في هذه الرسومات والامتيازات والرتب وما إلى ذلك، وليس بالضرورة أن يطالبوا بالانطلاق على وضعهم الخاص، فإن هذه المطالبة -وإن كان أحياناً قد يكون لها وجه ما- مطالبة مثالية، تقود إلى تنفير كثير من هؤلاء عن السنة واتباعها إلى مزيد من التعصب والجهل في مثل هذه المقامات.
فهذا الباب باب من الحكمة والفقه، لا تنقص فيه الحقيقة الشرعية، لكن تعرف رتب وتفاضل الحقائق الشرعية، وأن بعضها يسع فيه الاجتهاد، وبعضها قد يقع الغلط في مثله، كما يقول أبو عبيد في قول مرجئة الفقهاء: "وبعضه غلط لا يقع المسلم في مثله؛ بل هو وجه من الضلالة البينة".
فتجد أن ثمة طريقة معينة للذكر لها رسم معين في لفظها، ولها رسم معين في وقتها، ولها -أحياناً- رسم معين في كيفية وطريقة الجلوس لها، كترديد -مثلاً- (الله)، بدون إضافة أو وقوع في جملة مركبة، (الله.. الله.. الله)، أو (هو)، وهذه النظم في الطرق في تحصيل السلوك، أو الاختصاص النفسي بهذه، أو تعويد النفس أنها لا تتحرك بإيمانها الصحيح أو معرفتها الصادقة إلا تحت هذه الطرق المحدثة -هذا هو من أشكل ما يعيشه التعصب السلوكي اليوم، بل من قرون كثيرة.
وليس المقصود هنا أن ندخل في الحكم بمثل هذا الأمثلة؛ فإن هذا باب آخر، لكن من المعلوم أن الذكر المشروع هو: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو ما إلى ذلك من الجمل التي هي كلام عند العرب، كما قال ابن مالك :
كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم
أما هذا الاسم المقطوع والمجرد فإنه لا يكون معرفاً بحكم وذكر شرعي صحيح، وإن كان البعض قد يستدل أحياناً بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله)، فليس مقصوده عليه الصلاة والسلام هنا أن الناس يتعبدون بهذه الكلمة، ولو كانت هذه الكلمة تذكر في الذكر وحدها وهي الاسم العظيم لله سبحانه وتعالى لاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره وفي تسبيحه لربه سبحانه وتعالى، إنما المقصود هنا أنهم لا يعرفون الله؛ ولذلك جاء في بعض الروايات: (حتى لا يقال: لا إله إلا الله)، وإن كانت هذه الرواية ليست في الصحيح.
المقصود من هذا: أن ما يتعلق بالاختصاص النفسي بطرق، وأن الإيمان يحصل بهذا الاختصاص، ويرون أن غيره من أهل الإسلام الذين معهم في هذا المصر لا يعرفون هذه الخاصية النفسية الصحيحة الموصلة لليقين، والولاية والمعرفة وما إلى ذلك، فهذه الطرق من الاختصاص النفسي في التعبد بدعة في الإسلام. بل ليس هناك اختصاص في الإسلام لأحد، والعبادة الظاهرة والباطنة مفتوحة بهدي الإسلام وشريعته لكل المسلمين، فكل مسلم يمكنه ويسوغ له أن يعبد الله سبحانه وتعالى؛ بكل ما هو مشروع في عبادة الله، إما بصلاة، أو بذكر، أو بصيام، أو بحج، أو بقراءة قرآن، أو ما إلى ذلك.
أما أن الوصول إلى الحقيقة والولاية يكون بطريقة معينة، فهذا ليس بصحيح. فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يخص طرقاً معينة من العبادة الشرعية وجعلها موصلة للولاية، لا منهجاً خاصاً في الذكر، ولا غير ذلك، بل كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].
والإيمان عند أهل السنة والجماعة: اسم جامع لما شرعه الله ورسوله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ويجمع بقول السلف: الإيمان قول وعمل، أو قول وعمل واعتقاد، فيقال: الإيمان اسم جامع لما شرعه الله ورسوله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والتقوى يقاربه كما هو معروف، وإن كانت أوسع متعلقاً بباب الترك.
وعليه فمبدأ الاختصاص العبادي والسلوكي ليس له أصل في الإسلام، والاختصاص المذموم هو الاختصاص الذي يكون تحت انتظام لطائفة أو مدرسة معينة في السلوك، أما أن بعض المسلمين تكون نفسه قابلة للصيام أكثر من قبولها وقوتها على الجهاد والقتال مثلاً، فإن هذا شأن بدني، وشأن موجود زمن الصحابة رضي الله عنهم، فبعض النفوس تقوى على الصيام، وبعضها لا تقوى، وبعض النفوس تقوى على قيام الليل، وبعضها لا تقوى، وبعض النفوس تقوى على كثير من الذكر، وبعضها تقوى على غير ذلك، فهذا التفاضل والاختلاف والتنوع ليس هو المقصود هنا؛ فإن التنوع شيء والاختصاص شيء آخر.
فالتنوع يعني المحافظة على أصول الإسلام؛ كالصلوات الخمس وأركانها، مع اختيار في المشروعات والمستحبات هذا هو التنوع الذي كان يعيشه الصحابة، أما الذي نقوله هنا -وهو ليس مشروعاً- فهو الاختصاص بطرق معينة، كأن يكون هناك مجموعة أشياء لا بد للإنسان أن يطبقها، مثل: ذكر في كل جمعة بطريقة معينة، حضرة بطريقة معينة، جلسة بطريقة معينة، إحياء ليلة من السنة بطريقة معينة، هذه التخصيصات لتحصيل الوصول النفسي والولاية ليس عليها آثار شرعية بينة، وهذا واضح في قراءة هدي الصحابة رضي الله عنهم، بل حتى في هدي الشيوخ العارفين من بعد الصحابة، كـالفضيل بن عياض ، أو إبراهيم بن أدهم ، أو شقيق البلخي ، أو حتى مثل الجنيد بن محمد من مقتصدة الصوفية، لا نجد أنهم يلتفتون إلى مثل هذه الطرق.
وهذا إذا كان الاختصاص فيه قدر من المقاربة، فما بالك إذا كان الاختصاص بوجه من الغلو الذي يؤدي إلى تعطيل كثير من الشرائع، كما هو عليه الغالية من الباطنية، فإن هذا شأنه أنكر وأبعد.
وهذا بخلاف القيام بوجه من العبادة بعيداً عن أعين الناس؛ فإن هذا باب معروف، وباب مشروع، وفي كتاب الله تعالى في وصف المؤمنين: أن في صفاتهم ما يتضمن إظهار الخير والمعروف، وفي صفاتهم ما يتضمن القيام به على وجه من البعد عن أعين الناس، ومن المعلوم أنه عرض لرجال -ليسوا من كبار الصحابة- في زمن النبي عليه الصلاة والسلام -كما في حديث أنس وغيره- أن للرسول صلى الله عليه وسلم عبادة خاصة، فجاءوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم -أي: بيوت أزواجه- فسألوا عن عمله في السر، فما رأوا فيه كبيراً عن عمله الظاهر، أي: لم يكتشف هؤلاء السائلون أنه صلى الله عليه وسلم كان عنده أسرار خاصة في اتصاله بربه، بل كان له أحوال من قيام الليل وذكر الله يعلمها أصحابه، وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث بها الصحابة، فلم تكن مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بأشياء، مثل الوصال، ونهى أصحابه عنه، وهذه مسائل معروفة في الشريعة، أما أن العبادة لها أنظمة في سر النفس هي التي تترقى بها، فهذا ليس كذلك، والتوفيق في الإسلام هو اتصال بعبادة الله وحده كما شرع الله ورسوله.
فمسألة السر هذه مسألة محدثة، سواء سميت سراً، أو طبقت بطريقة معينة تحت هذا المفهوم، وهذا الانتظام في أن الولاية درجة من اليقين يترقى فيها بالسر، هذا هو الذي أبعد العامة عن العلم المشروع؛ ولذلك كثر في الصوفية -حتى من الخاصة منهم- الجهل بمعرفة الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، حتى إنك تجد بعض الرموز الكبار من العارفين والسالكين في الإسلام كـأبي حامد الغزالي ، والذي له من الفضائل والاختصاص والتأله والديانة والنسك فضلاً عن العلم في الفقه والأصول ونحو ذلك، تجده يقول عن نفسه: "إن بضاعته في الحديث مزجاة"، ولذلك ذكر في إحياء علوم الدين أحاديث صحيحة، ودخل عليه شيء من الأحاديث المتروكة بل والموضوعة.
فهذا التعصب عند العوام قاد إلى البعد عن العلم الشرعي، ولا يتبادر إلى الذهن إذا قلنا: العلم الشرعي، أن المقصود أنهم لم يتعلموا تفصيل الأحكام الموجودة في كتب الفقهاء والمذاهب الفقهية وما إلى ذلك، فإن هذا نوع من العلم الشرعي، لكن المقصود بالعلم الشرعي هنا: هو العلم الشرعي في السلوك، كمعرفة صور الذكر المشروعة الثابتة في البخاري ومسلم وكتب السنة المعتبرة، وكمعرفة صور العبادة المشروعة، فالعناية بهذه العلميات التي هي صور العمل المشروع فيه فقر كثير في هذا الباب.
ومن هنا يجب أن لا يبدأ منهج التصحيح لمسائل السلوك بالأقل، بل يجب أن يبدأ التصحيح في الأمور التي تخالف أصولاً شرعية، أما الأمور التي يحتمل شأنها وإن كانت خطأ فهذه يتأخر القول فيها، وأما الأمور التي تقبل الاجتهاد وتقبل التنوع فهذه ينبغي أن يوسع فيها.
ويمكن أن يقال: إن المسائل قد تكون إجماعاً صريحاً شائعاً من أصول الإسلام البينة، فهذه يبتدأ بذكرها، ولا يجامل أحد فيها، وهناك مسائل قد تكون وجهاً من الإجماع عند الأئمة وكبار أهل العلم، لكنها تخفى على كثير من العامة، بل وبعض المتأخرين من أهل العلم، فهذه لا بأس أن يتأخر في تصحيحها، وهي التي قال عنها أبو عبيد : "في أمر قد يقع الغلط في مثله"، هذا مع أن مرجئة الفقهاء خالفوا الإجماع، ولم يكن أبو عبيد رحمه الله مختصراً للحقيقة الشرعية، بل رد على هذا المذهب رداً مفصلاً في كتابه، لكنه أشار هذه الإشارة، ولم يجرد أصحابها، بل قال: "هم من أهل العلم والعناية بالدين".
أما ما كان خطأ محتملاً، وكثير منه يسع فيه الاجتهاد والتعدد، فهذا يتأخر في أمره، وأما المطالبة لأهل السلوك أو أهل التصوف بمطالب حرفية معينة هي اجتهاد لبعض طلاب العلم أو نحوهم، فإن هذه المطالبة في الغالب لا تكون مطالبة حكيمة، فالسير بالفقه، والترقي في التصحيح، وعدم الإقرار على البدع، ومعرفة أوجه التصحيح، والعناية بكليات الشريعة وأصول الدين وأصول العقائد وأصول السلف، هذه هي التي يقصد إلى العناية بها ابتداءً.
وأما ما دون ذلك فيترقى في تصحيحه؛ لأن هؤلاء العامة ألفوا كثيراً، وقد ترفق أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام في دعوة قومهم؛ وذلك لأنه بلا شك أن موجب التعصب والعوائد والتقليد هي التي تحاصر عقول كثير من عوام المسلمين اليوم، ليس في باب السلوك فقط، بل في أمور كثيرة؛ لأن النفس ألوفة، ولا سيما إذا دخلت في مسائل الالتزامات والمراسيم الخاصة، فيكون الإنسان من العامة أحياناً مندمجاً في هذا الاجتماع أو هذا التجمع.
أضف إلى ذلك أنه إذا جاءت مسألة الأرزاق ومن يسميهم ابن تيمية بصوفية الأرزاق، فإن الجانب المادي والاقتصادي يكون أحياناً مؤثراً في تعصب كثير من العامة، ولكن طالب العلم والعارف بالسنة وهدي السلف لا بد أن يكون بصيراً، ويعنى بالتصحيح في الأصول الكلية.
وأقول: إن أخص ما يجب التصحيح فيه اليوم هو توحيد الألوهية؛ فإنه -مع الأسف- هو الذي ينتشر عند كثير من عوام المسلمين اليوم الغلط فيه؛ إما ببدع، أو بشرك أصغر، أو بما هو في حقيقة الشريعة وجه من أوجه الشرك الأكبر، ومظاهر المشاهد وما عندها من البدع والخرافات والفلسفات هذه يجب أن يكون هو الهم الأعظم لتصحيح مبادئ الإسلام الكلية الأولى؛ فإن هذا هو المقصود الأول في دين الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأما التفاصيل بعد ذلك فيكون الإنسان فقيهاً في القصد إلى تصحيحها، وما تحتمله سعة الشريعة فينبغي أن لا يشدد فيه.
لكن من الذي يحدد أن هذا تحتمله سعة الشريعة أو لا تحتمله؟
أقول: من لا يجد في نفسه علماً وفقهاً واسعاً فينبغي له أن لا يجعل نفسه فيصلاً في الأمور؛ فمثلاً مسألة توحيد العبادة مسألة محكمة، لا تستطيع أن تقول لشخص: انتبه لا تصحح؛ لكن هناك أمور قد لا يكون الإنسان أو حتى طالب العلم على بصيرة في درجة حكمها من الشريعة، فمثل هذه الأمور لا يعزم فيها بشيء إلا حيث يعلم علماً بيناً أن الشريعة قدمته.
أقول: إن التقليد الفقهي هو آخر هذه الانتظامات وجوداً، مع أنه من حيث الإمكان الشرعي العام ومن حيث الاقتضاء العقلي هو أفضل شرعاً وعقلاً من وجود التعصب العقدي والتعصب السلوكي؛ وذلك لأن الجانب الفقهي الذي هو مسائل الفروع، كثير منها -أو أكثرها- يدخلها الاجتهاد، فإن المختلف فيه من مسائل الفقهاء أكثر من المجمع عليه بين الفقهاء، فإن المختلف فيه بين الفقهاء قد تكلم فيه الأئمة بكلام ظهر لأجله في تاريخ الإسلام مدارس، ولا تزال قائمة إلى اليوم، وقد كانت أكثر من العدد الموجود، ثم انتظمت أو استقرت على أربع مدارس، وهي مدرسة: المالكية -بعبارة أصح؛ لأن مالكاً ما قصد أن يصنع مدرسة-، مدرسة المالكية والحنبلية والشافعية والحنفية.
هذا الذي يسمى بالتمذهب، أو المذهبية الفقهية، هل يقال أنها صحيحة أو ليست كذلك؟
أولاً: هذا الاسم -أعني: التمذهب- يمكن أن يختصر القول فيه بأنه اسم مشترك، وهو من حيث الواقع التاريخي تمثل في وجهين:
الوجه الأول: يسمى سائغاً شرعاً.
الوجه الثاني: يسمى مذموماً شرعاً.
فإن التقليد منه ما هو سائغ، ومنه ما ليس كذلك.
أيضاً: النص نفسه، نجد أن دلالة النص يمكن أن تقسم إلى أوجه، مثل: المنطوق والمفهوم، ثم المفهوم جملة من الصور والدرجات، هل تطرد هذه في العمل والتشريع والحكم أم لا؟ وعلى كل حال هذا باب واسع في أصول الفقه.
فأئمة السلف -ومنهم الأئمة الأربعة- جميعهم متفقون في الفقه أنه يستدل بالكتاب والسنة والإجماع، لكن الاختلاف في المسائل التي ليست صريحة في هذه الأصول الثلاثة، من أين تؤخذ؟
فـأبو حنيفة له منهج في اعتبار طرق وأصول معينة يستدل بها إذا لم يجد نصاً ولا إجماعاً، ولـأحمد وكثير من أهل الحديث طريقة، ولكثير من أهل المدينة طريقة، فهذا منطق شرعي مقبول، ووضع شرعي أو حالة وجدت لا إشكال فيها شرعاً، ولما جاء أصحابهم وانتظم علم الحديث، وكتبت كتب المحدثين، وتأصلت الأمور في صدر الإسلام الأول؛ وجد هناك الأصحاب الذين يقتدون بهذا الإمام أو ذاك، فاشتهر هؤلاء الأئمة الأربعة، مع أن أصول أبي حنيفة أو مالك أو أحمد ليست خاصة به، بل ما ذكره أبو حنيفة عليه كثير من الكوفيين، والأصول عند أحمد في قول الصحابي وتقديمه وما إلى ذلك عليها كثير من أهل الحديث، وما عليه مالك عليه كثير من أئمة المدينة النبوية، لكنها ظهرت بأسماء هؤلاء.
فالمنتمي لهذه المذاهب الفقهية -كمن ينتمي للشافعي ، أو لـأبي حنيفة أو لـأحمد أو لـمالك - إذا كان انتماؤه على معنى أنه قلد أحد هؤلاء الأئمة في اختياره في الأصول التي يستدل عليها فهذا جائز.
لكن المشكلة اليوم أن البعض يسقطون المذهبية من أولها إلى آخرها وليس هناك بديل منتظم في القواعد الشرعية كمنهج يكون عليه نظام الاستدلال، حتى لا يقع الفقيه أو طالب العلم في الاضطراب، ولذلك نجد أنه عند المتقدمين انتظام في الاستدلال، فتقديم قول الصحابي عند أحمد على جمهور صور القياس كتقديم أبي حنيفة للقياس على كثير من قول الصحابة في بعض المسائل، فهذا له انتظام؛ ولذلك نجد أن طريقته في كتاب الصلاة هي الطريقة في كتاب الزكاة وهي الطريقة في البيوع .. وهلم جرا.
فلا بد من وجود منهج ينتظم، وهذا موجود حتى عند ابن حزم ؛ فإنه لما قال: أنا أنطلق من النص ليس إلا؛ فإن هذا كمبدأ شرعي وسلفي ومفهوم إيماني لا أحد ينازع فيه؛ لأن الناس متعبدون بما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن تحصيل الأحكام الفقهية غير المتناهية من نص الكتاب أو نص السنة لا بد أن يكون له منهج، فالقياس داخل في النص، فهو إلحاق فرع بأصل، ومسألة المنطوق والمفهوم، وأن المفهوم مأخوذ من النص هل يعتبر أم لا يعتبر؟ وهلم جرا.
فليس هناك انفكاك مطلق عن النص، بل حتى في فقه المتقدمين؛ فإنهم صرحوا بقول الصحابي، مع أن قول الصحابي قد يبدو أنه أكثر انفكاكاً عن النص من القياس؛ لأن القياس إلحاق الفرع بأصل لاتفاقهما في العلة، فقد يبدو للبعض -كما بدا لكثير من الكوفيين- أن القياس أولى من كلام كثير من الصحابة، والإمام أحمد كان له اعتبار، وبعض المحدثين كان لهم اعتبار آخر.
على كل حال: هذه مسائل محتملة في التنظير لأصول فقه المسلمين وتشريعهم وعبادتهم؛ لذلك نقول باختصار: من انتحل التمذهب الفقهي كترتيب علمي واختيار علمي فهذا سائغ، والدليل على ذلك إذا أردت مثالاً بسيطاً للإدراك: الآن لو أن شخصاً ما قلد عالماً من العلماء السابقين أو المعاصرين في مسألة معينة، سألهم فأجابوه فاقتنع بجوابهم، مثلاً: قال له: هل أصلي صلاة تحية المسجد في وقت ما؟ فقال: لا، فاقتنع بجوابه، أو قال: نعم، فاقتنع بجوابه بدليل ذكره أو نحو ذلك، فهل يقول أحد: إن هذا من البدعة أو من المحرم أو من المنكر في الإسلام؟ الجواب: لا، بل هذا موجود ولم يزال موجوداً، وهو مقر حتى في القرآن في قول الله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
فكذلك الفقيه الحنبلي أو المالكي لما رأى أن أصول مالك في الاستدلال أجود من أصول أبي حنيفة ، انتسب إليها حتى ينتظم فقه، ... وهكذا.
لكن التمذهب من حيث الواقع التاريخي وجد من هو على الوجه الأول، وهم المحققون من المتمذهبين، ووجد من هو على الوجه الثاني، فهذا موجود وهذا موجود، وبهذا يعلم أن إنكار التمذهب مطلقاً ليس لازماً شرعياً، ليس هو اختصاصاً عقدياً، ولو كان اختصاصاًعقدياً لكان الاختصاص باسم فقيه بدعة، لكنه اختصاص فيما يسوغ فيه التعدد، وكقاعدة شرعية وعقلية: إذا ساغ التعدد والاجتهاد شرعاً واختلف الرأي فلا يسوغ -بل هذا هو الممكن- ولا يمكن شرعاً ولا عقلاً إلا اختيار رأي واحد.
ومثال ذلك: أن مالكاً يرى أن عمل أهل المدينة حجة، والجمهور لا يرونه حجة، فهل يمكن القول بجمع الجميع، كما جمعناهم في قولهم: الإيمان قول وعمل؟ الجواب: لا؛ لأن قولهم: الإيمان قول وعمل هم مجتمعون عليه ، لكن في هذه التراتيب الفقهية هم مختلفون، فانتسابك لـمالك كترتيب في أصول الاستدلال أو لـأبي حنيفة أو للشافعي أو لـأحمد انتساب لا إشكال فيه من جهة الشرع ومن جهة الحكمة العقلية العامة.
لكن إذا زاد الأمر عن هذا الترتيب العلمي إلى درجة التسليم المطلق لسائر فروع المذهب وأصحابه الذين كتبوه، والبعد عن النظر في الدليل واتباع السنة، فلا شك أن هذا من التقليد المذموم، وهو تعصب لا يجوز إقراره.
فالنوازل لا بد من مجتهد فيها، وقد يرد المجتهد هذه النوازل إلى الأصول الشرعية والنصوص، لكن إن لم يكن على رتبة عالية في الاجتهاد فإنه يرد هذه المسائل إلى فروع فقهية سابقة، فيحاول أن يخرج هذه المسألة النادرة على فرع مذهبي سابق، وهذه في نظري -مع أنها هي المتداولة اليوم- لا تبشر بخير في وضع المسلمين، فإنه قد تأتي نازلة في مسألة فتجد أن بعض علماء العصر يضيقون عنها، ثم يأتي شخص قد أتعب نفسه في البحث فيقول: يوجد عند الحنفية في حاشية كذا، أو بعض الحواشي المتأخرة في كتب الحنيفة أو المالكية فرع يمكن أن ترد المسألة لذلك الفرع.
لكن: ما هي المواصفات التي كان ذاك الفقيه الحنفي الذي جاء في القرن التاسع أو الثامن بحيث أنك تجعل هذه النازلة تحكم هذا الحكم؟ الأولى هنا أن هذه النازلة ترد إلى النصوص، وأن يتوافر في المسلمين من عنده ملكة الاجتهاد وحسن المنهج والفقه لقواعد السلف الأول في الاستدلال وما إلى ذلك، وهذا شأن إنما يشار به إلى أن إغلاق باب الاجتهاد ليس منهجاً معتدلاً، ولا من الحكمة.
لكن الذي يجب أن يقال: إن الاجتهاد لا بد أن يكون منضبطاً بحسب الأصول.
لكن من الذي يستطيع أن يقول: إن هذا التقليد تعدى إلى ترك الدليل أو لم يتعد؟
إذا خالف قولك هؤلاء العامة من أهل هذا المصر، كما يقول البعض أحياناً: في بلدنا يضعون أيديهم على الصدر بعد الرفع من الركوع، فيتمذهبون بالمذاهب التقليدية الفقهية، ولا يطبقون السنة في إسبال اليدين، فإن هذه مسألة محتملة، وهو هنا قد جعل التقليد مقابل الدليل، وهذا ليس حكيماً؛ التقليد لا يقابله الدليل، بل التقليد يقابل الاجتهاد، وإلا فالأصل أن المقلد يقلد عالماً بنى على دليل.
فمثل هذا الأمر الذي يراه بعض الحريصين على السنة، مع أنه حرص فاضل لكن ينبغي أن يكون معتدلاً؛ لأنه من كثر علمه بفروع الفقهاء وأقوالهم يحمسه ذلك في الخلاف الفقهي، فصار يرجح لأن هذا هو الظاهر وهذا هو الأقرب، وهذا ليس بحكيم، ولا سيما إذا كان المذهب هو مذهب الجمهور من الفقهاء، فينبغي لطالب العلم أن يترفق في مخالفته، ويجب عليه أن يقتدي بالدليل في سائر موارده، لكن يعرف للجمهور المتقدمين قدرهم.
أحياناً نسمع من بعض طلاب العلم عن قول من الأقوال: إن هذا القول لا دليل عليه، مثلاً: هل غسل الجمعة واجب أم ليس بواجب؟ فيقول: غسل الجمعة واجب، وهذا هو السنة، وهو الصريح في الصحيحين من حيث أبي سعيد : (غسل الجمعة واجب على محتلم)، فإذا قيل له: والقول بأن غسل الجمعة ليس بواجب، قال: هذا القول لا دليل عليه، وإذا رجعت وجدت أن القول بأن غسل الجمعة ليس واجباً هو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد والجمهور من المتقدمين، بل حكي الإجماع عليه، وليس المراد هنا أن نقول هو الراجح، كلا! فإن هذه مسألة سهلة ليس المراد أن نقول: إنه راجح ولا أن نقول إنه مرجوح، لكن المقصود: هو أن لا يتربى الإنسان على منهج (لا دليل عليه) مع أنه قول الجماهير، وذلك لأجل ظاهر ظهر له من بعض النصوص، مع أن الظاهر أنه جواب، والأجوبة بينة، ومن يستقرأ النصوص لا يأخذ من حديث أبي سعيد الوجوب الذي هو الإلزام؛ لأن النبي نطق بكلمة الوجوب في مسائل قد أجمع سائر الفقهاء من المتقدمين والمتأخرين على أنها ليست فرض عين، كقوله في الصحيح: (خمس تجب للمسلم على أخيه) مع وجود الإجماع على أن هذه ليست من فروض الأعيان.
أيضاً لو أكملنا هذا الحديث كما في رواية الصحيح عند مسلم : (غسل الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك ويمس من الطيب ما قدر عليه) فقوله: (وسواك) معطوف، والتقدير اللغوي هنا والسواك واجب، البعض قد يقول: هذه دلالة الاقتران، وهي ضعيفة، مع أن هذا لا علاقة له بدلالة الاقتران لا من قريب ولا من بعيد.
فأحياناً البعض -إن صحت العبارة- يختطف بعض الكلمات الأصولية أو القواعد الأصولية اختطافاً غير رشيد، فيستعملها بطريقة ليست منتظمة ولا صحيحة، وتقدير الكلام عند العرب هنا بين: (وسواك) أي: وسواك واجب، لأن الاسم هنا قطع عن تكملة جملته وخبره.
فالشاهد: لم يقل أحد بأن السواك واجب، والقضية لست قضية مماحكة، فتقول: لا، نقل عن إسحاق بن إبراهيم أنه يرى الوجوب، فليست القضية قضية معاداة، بل إنها قضية وصول إلى حكم شرعي معتدل.
فالذي أقصده: أن ترك التمذهب يجب أن يكون معتدلاً، وليس التمذهب ينزع من الإنسان كونه سنياً أو سلفياً، بل من تمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة واقتصد في تمذهبه وعني بالدليل، فهذا إذا كانت أصوله على السنة والجماعة فهو من أهل السنة والجماعة، ومن ترك التمذهب لتقليد إمام، أو لكونه من أهل الاجتهاد، فهذا أيضاً شأن واسع إذا انتظم أمره.
هذا ما يتعلق بمسألة التمذهب الفقهي، وعليه نجد أن التقليد والتعصب بدأ بالعقائد، ثم في السلوك، ثم في باب الفقه، وباب الفقه هو أوسعها وأرفقها، فأصله على الجواز، وجملته الجامعة ما قاله ابن تيمية رحمه الله: إن الجمهور من الأئمة يذهبون إلى أن التقليد جائز، والاجتهاد جائز، فمن كان أهلاً للاجتهاد صار حكمه فيه إليه، ومن كان ليس كذلك صار حكمه إلى وجه من التقليد.
والتقليد أوسع من التمذهب فقد يكون التقليد لأحد المذاهب الأربعة، وقد يكون التقليد لعالم متأخر في تاريخ المسلمين اجتمع له فقه واسع وإمامة في الدين، كبعض العلماء الذين سبقت الإشارة إليهم.
هذا جملة القول في مسألة التعصب الذي هو موجب خروج جمهور العامة من أهل السلوك والتصوف عن الوسطية الشرعية إلى أوجه مبتدعة، أو على أقل الأحوال إلى أوجه مخالفة للسنة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر