وهذا قد نص عليه الإمام أحمد ، قال رحمه الله: "صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه" . وبدعة الخوارج: أنهم كفروا مرتكب الكبيرة من المسلمين، وأنهم انتصبوا بطائفتهم على قدر من الموالاة والمعاداة لغيرهم من المسلمين.. وهذا لا يجوز، إلا إذا كان هذا على مقام السنة والجماعة -أي: موالاة أهل السنة ومعاداة أهل البدع-.
[وقد قاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ] .
علي رضي الله عنه أمير المؤمنين، وخلافته إمارة وخلافة نبوية، وهو رابع الخلفاء الراشدين كما هو معروف في شأنه رضي الله عنه ، وقد قال الإمام أحمد وغيره: "من لم يربع بـعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله". فقال له بعض العراقيين: قد كان لا يربع به من لا يقال إنه أضل من حمار أهله.. يقصدون من قاتله من الصحابة كـمعاوية ، فإنهم ما كانوا يرون خلافته، فقال الإمام أحمد : "أنا لست من حربهم في شيء" . وهذا من فقه الإمام أحمد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم -وقد كان الإمام أحمد يحتج بهذا الحديث كثيراً- قال فيما رواه سفينة : (الخلافة بعدي ثلاثون سنة) فبهذا الحديث علم أن خلافة علي بن أبي طالب كانت خلافةً راشدةً نبوية.
وأما من اجتهد كـمعاوية فلم يحقق هذا المعنى -وهو العلم بخلافة علي بن أبي طالب - فإن مخالفة واحد من الأعيان حتى لو كان عالماً مجتهداً لا ترفع الحكم الشرعي، وهذا معنىً يطرد إلى أنه: إذا تحقق المعنى من كلام الله ورسوله فخفي على بعض الكبار من العلماء فخفاؤه على بعض الأعيان لا يعني كونه متردداً في ثبوته.
فالقصد: أن علياً كان هو الخليفة الراشد والرابع والأخير، ولا يصح أن يقال: إن عمر بن عبد العزيز هو الخليفة الخامس، فإن الخلافة انتهت بهذه الثلاثين سنة، وهي خلافة النبوة، أما ما بعدها فهو الملك، فـمعاوية رضي الله عنه هو أول ملك من ملوك المسلمين، ثم إن معاوية رضي الله عنه أفضل من عمر بن عبد العزيز ، وقد حكى الإمام ابن تيمية الإجماع على أن معاوية بن أبي سفيان هو أفضل ملوك المسلمين، وقد أنكر الإمام أحمد وغيره من كبار أئمة السنة على من قال: إن عمر بن عبد العزيز هو الخليفة الخامس.
صنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف قاتلوا مع هؤلاء] .
القتال الذي وقع زمن الصحابة رضي الله عنهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
النوع الأول: قتاله رضي الله عنه لمن ارتد عن أصل الإسلام، وهذا لا جدل في أنهم مرتدون.
النوع الثاني: قتاله رضي الله عنه لمن جحد وجوب الزكاة، وهذا أيضاً لا جدل في شأنه، وإن كان قد شذ من المتأخرين من تردد فيه، فهذا شذوذ صريح، فإن جمهور المتأخرين على أن هؤلاء أهل ردة.
الثالث: وهم من امتنع عن الزكاة وقاتل عليها، وإن لم يصرح بجحده، ولا نقول: وإن لم يجحد وجوبها؛ فإن عدم التصريح ليس تصريحاً بالعدم، أي: لا يلزم منه أنهم يعتقدون وجوب الزكاة، إنما لم يصرحوا بنفي وجوبها.
فهؤلاء أيضاً المحقق في شأنهم أنهم مرتدون، وقد حكاه أبو عبيد مذهباً للصحابة.
إذاً: في الجملة كان القتال الذي وقع في زمن الصديق قتال ردة، أي: قتال لقوم مرتدين.
أما النص: فهو ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) ، وفي رواية: (قتل ثمود) .. (قاتلوهم فإن لمن قاتلهم أجراً عند الله) إلى غير ذلك من النصوص، وهم بدءوا المسلمين بقتال فوجب دفعهم من باب دفع الصائل، فإنهم استحلوا دماء المسلمين وكفروهم، فقتالهم مشروع بالنص.
وأما الإجماع فهو إجماع الصحابة، فإن الصحابة رضي الله عنهم في خلافة علي لم يختلفوا في شرعية قتال الخوارج، وإن كان بعض الصحابة لم يشارك لأسباب تتعلق ببعده عن أرض القتال، كمن كان بمكة أو نحو ذلك، لكن لم ينقل عن صحابي أنه خطّأ علياً في شأن القتال، بل كان قتاله مجمعاً عليه بين الصحابة، وجمهور من أدرك القتال من الصحابة وتيسر له شاركوا فيه، ولم يتأخروا عن علي من باب الورع أو نحو ذلك.
فهذا القتال الثاني مشروع بالنص والإجماع، وهل هو قتال ردة أم قتال بغي؟
نقول: إن كلمة "قتال البغي" أو كلمة "البغاة" في كلام الفقهاء مفصلة على مقامات، وهي أقل مما يتعلق بمراد أو بذكر البغي في باب موارد النصوص من الكتاب أو السنة، فأحياناً يكون فيها زيادة أو نقص في كلام الفقهاء.. والنتيجة من هذا: أن كلمة "بغي" كلمة فيها إجمال، إنما الذي يتحقق لك أن تقول: إن قتال الخوارج ليس قتال ردة، وهل يسمى قتال بغي؟ نقول: لا بأس بتسميته قتالاً لقوم بغاة، لكن هذه التسمية لا تعني أنهم بغاة من جنس من بغى على علي من الصحابة، بل لا شك أن الخوارج أشد.
فالنتيجة: أن قتال الخوارج لم يكن قتال ردة، والدليل على ذلك: أنهم مسلمون مؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن ابتدعوا هذه البدعة، وقد كان علي لا يرى كفرهم وكذلك الصحابة معه، فلم يجهزوا على الجريح، ولم يتبعوا المدبر، ولم يسلبوهم أو يغنموهم أو ما إلى ذلك من سنن القتال مع الكفار أو مع المرتدين، بل جروا فيهم بسنة المسلمين، حتى قال علي : "من الكفر فروا. قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا" . ولما ضربه ابن ملجم قال علي : "إن مت فاقتلوه، وإن حييت فأنا ولي الدم" . فقوله: وإن حييت فأنا ولي الدم دليل على أنه لا يرى الخوارج كفاراً؛ لأنه لو كان ابن ملجم كافراً أو مرتداً لما كان علي رضي الله عنه ولي الدم، فإن من بدل دينه وجب قتله، ولا ولاية لأحد على دمه، بمعنى أنه يستطيع العفو.
وكون هذا القتال من القتال المشروع أو ليس من القتال المشروع، هذه مسألة نزاع بين علماء السنة والجماعة، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن جمهور أهل السنة لم يذهبوا إلى هذا القتال، ولا يرونه قتالاً مشروعاً لا من علي ولا من معاوية ، قال: بل كانوا يرون أن السنة ترك القتال، قال: وهذا هو الصحيح في مذهب الإمام أحمد كما نص عليه" .
والقول الثاني عند طائفة من أهل السنة المعتبرين: أن القتال كان مشروعاً، وأن الصواب كان مع علي بن أبي طالب ، ولم يقل أحد من المعتبرين من أئمة السنة: إن الصواب كان مع معاوية .
فالقول بأن القتال ليس مشروعاً، قد حكاه الإمام ابن تيمية عن الجمهور من أهل السنة، وقال: "لأن هؤلاء -يعني: جيش معاوية - أشد ما يقال فيهم أنهم بغاة، قال: وليس في الكتاب ولا في السنة أمر بقتال الطائفة الباغية ابتداءً، فإن الله تعالى قال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] ولم يقل: فاقتلوا أحدهما أو ما إلى ذلك، وإنما قال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] قال: فليس في القرآن تشريع لقتال الطائفة الباغية ابتداءً، وإنما يشرع قتالها إذا نكثت بعد الصلح.." فدليل شيخ الإسلام أنه انعدم الدليل على التشريع، والأصل حرمة الدماء وحرمة القتال بين المسلمين.. فهذا استدلال.
والاستدلال الثاني عنده -وهما أخص دليلين لـشيخ الإسلام في استدلاله لقول الجمهور، وهو ممن ينتصر له بقوة- هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن بن علي : (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) وكان هذا الصلح بين الحسن ومعاوية ، يقول ابن تيمية في وجه الاستدلال: "إن الله امتن على المؤمنين برفع هذا القتال بـالحسن بن علي ، ولو كان هذا القتال مشروعاً لما كان من منة الله الرفع له بـالحسن بن علي ؛ فإن المنة برفع شيء إنما تكون برفع شيء مكروه عنده سبحانه وتعالى.." .
وهذان الدليلان دليلان قويان، لكن ينبغي أن يقال: إنهما ليسا بدليلين لازمين، فالمأخذ في الدليل الأول: أن قتال الطائفة الباغية لا يشرع إلا بعد نكث الصلح، بمعنى: أن ثمة واجباً أولاً وهو الصلح، فإن بغت بعد الصلح شرع قتالها.
هنا سؤال: فإذا تعذر الصلح مع الطائفة الباغية وأبت الصلح ماذا يعمل معها؟
إذاً الآية هل تكلمت عن هذا المعنى: إذا تعذر صلح الطائفة؟ هذا لم يذكر في الآية.
ولهذا من يقول: إن علياً أصاب في قتاله يقول: إن الطائفة الثانية التي سماها الرسول نفسه: والفئة الباغية، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (تقتل
وهذا كما أسلفت تنبيه لا أقصد به ذكر الترجيح على خلاف قول شيخ الإسلام ، إنما هو نوع من التنبيه إلى أن الاستدلال الذي ذكره رحمه الله ليس بالضرورة أنه استدلال ملزم.. ومن هنا اختلف السلف في هذه المسألة.
أيضاً: استدلاله بحديث الحسن في البخاري : (إن ابني هذا سيد) نقول: نعم، ولكن متى رفع القتال؟ هل رفع بعد مقتل علي أو أثناء وجود علي ؟ من المعلوم أنه رفع بعد مقتل علي ، وشأن الحسن ليس كشأن علي .
أي: إذا قيل: إن القتال كان مشروعاً من علي بن أبي طالب فهل مقام علي كمقام الحسن ؟ لا، فإنه لا أحد يقول: إن منزلة من خلف علي بن أبي طالب - الحسن ابنه أو غيره - تكون بمنزلته في تشريع القتال، فإن علياً له مقام لا يصل إليه الحسن ، فضلاً عن غيره من قادة علي .
إذاً: هذا إنما كان بعد قتل علي ؛ فلا حجة فيه من جهة اللزوم، وإن كانت الحجة في المقامين حجة محتملة.
الشاهد من ذلك: أن هذا هو محل الخلاف بين أهل السنة، وكلا القولين فيه قوة.
يقول ابن تيمية : "إن هذا من أصح الأسانيد على وجه الأرض إلى ابن سيرين -كما في منهاج السنة وغيره- ابن سيرين يقول: لم يشارك يوم صفين إلا بضعاً وثلاثين صحابياً" . أي: أن عدة من كان من الصحابة في عسكر علي وعسكر معاوية لم يصلوا إلى أربعين رجلاً، بل كان هذا السواد من الجيش -من جيش الشام وجيش علي - من مسلمة الفتوح العمرية من أهل العراق وأهل الشام.
وأما الصحابة فإن ابن سيرين يقول: "إنه لم يشارك في عسكر علي وعسكر معاوية إلا بضعاً وثلاثين صحابياً" وهذا يدلك إذا انضبط هذا التقرير من ابن سيرين -هو صحيح إليه، لكن الشأن في انضباطه- على أن الصحابة ما كانوا يرون القتال.
ثم إن أفضل الناس بعد علي في ذلك الزمان وهو سعد بن أبي وقاص كان معتزلاً للقتال.
والحق: أن مسألة هل كان الصواب مع علي أم في ترك القتال؟
وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم.
ومع هذا الاعتزال الشديد لم يشنع سعد رضي الله عنه على من خاض الغمار كـعلي بن أبي طالب ، ولم يشنع علي بن أبي طالب على سعد ، بل كان يقول: "لله در مقام قامه سعد بن مالك ، وعبد الله بن عمر ، إن كان براً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً، إن خطأه ليسير، فقد برئ من كثير" .
إذاً: في زمن الفتن والنوازل لا يستغرب وجود الاختلاف، وإن من قلة الفقه وقلة العلم: الطعن على المخالف باجتهاد سائغ.
ومن المعلوم أنه في أول قتال للمسلمين في بدر استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن الأسارى، فأتى بأخص رجلين في الإسلام إمامةً وعلماً وتقوى... إلخ، وهما الشيخان: أبو بكر وعمر . فقال: ما ترون في شأن هؤلاء الأسارى؟
الذي سوف نلاحظه هنا أن الصحابة عندهم مبدأ الوضوح في كل شيء، وهذا هو الذي يجب أن يربى عليه المسلمون، حتى الأطفال يجب أن يربوا على الوضوح، أما مسألة المجاملات والتحزبات والالتفافات غير المدروسة، ثم يقال في الأخير بعد كذا سنة: تبين لنا أن الطريقة السابقة غير شرعية أو غير دقيقة، وأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.. حسناً: أين كنت في السنين الماضية؟ يعني: لو كان عنصر الوضوح بيناً لما عانت الأمة مثل هذه التكدسات في المواقف التي تتعب الجماهير وتتعب الأمة، ثم بعد ذلك يتراجعون عنها أو ما إلى ذلك.
ماذا قال أبو بكر؟
قال: (يا رسول الله! هم بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوةً على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام). فـأبو بكر رضي الله عنه ، يقول: (بنو العم والعشيرة)، ويقول: (عسى الله أن يهديهم للإسلام) مع أن القوم جاءوا يقاتلون المسلمين، بعد أن طردوا النبي صلى الله عليه وسلم من مكة.. إلخ.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر: (ما ترى يا قال عمر : لا والذي لا إله إلا هو، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه
فهذا الاجتهاد وإن كان له مناط بعيد عن مناط أبي بكر ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أحدهما، وإنما قال عمر : (فهوى رسول الله ما قال
وقد يقول قائل: إن القرآن نزل.
نقول: نعم، القرآن كان ينزل، لكن الآن الاجتهاد سيظل اجتهاداً؛ لأنه لا يمكن أن ينزل نص يحسم المسألة، وهذا يدل على أن الاجتهاد قد يتباعد مناطه، فإن مناط أبي بكر مناط شرعي ممكن، وهو أنهم بنو العم والعشيرة، مع رجاء إسلامهم وأخذ الفدية منهم لتكون قوة لنا على الكفار.. فهذه مناطات شرعية ممكنة.
لكن عمر قال: هؤلاء أئمة الكفر.. وهذا -أيضاً- مناط شرعي.
قد يقول قائل: إن القرآن غلَّط. نقول: القرآن كان ينزل أما الآن فلا ينزل.. هذه جهة.
الجهة الثانية: أنه حتى لما نزل القرآن لم يغلِّط مناط الاجتهاد عند أبي بكر أو عمر ، إنما نزل القرآن بحكمة غيبية لا يمكن أن يصل إليها الاجتهاد، والعقل البشري، أي: هي قضاء رباني محض، وهي قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67] وهذا ليس من مقامات الاجتهاد بل من القضاءات التسليمية الربانية، وإن كانت حكمته واضحة: أن هذا هو التمكين والقوة ولا شك.
[وصنف أمسكوا عن القتال وقعدوا، وجاءت النصوص بترجيح هذا الحال] .
وهذا مذهب سعد بن أبي وقاص ، ومحمد بن مسلمة ، وأسامة بن زيد ، مع أن أسامة بن زيد له فقه أيضاً مختص، ومن الفاضل أن ينبه إليه: فقد كان موافقاً لـعلي بن أبي طالب ومنتصراً له، لكن لما رأى أن علياً وصل إلى السيف توقف. وهذا الفقه: أن الإنسان قد يوافق عالماً أو ناظراً أو ما إلى ذلك، ولكن إذا تجاوز به المقام فلا يجوز للثاني -أي: للتابع- أن يتابع إلا أن يكون على بصيرة في الثاني كما كان في متابعته في الأول على بصيرة، وأما التقليد في الثاني تبعاً للتقليد في الأول فهذا لا يجوز. فلا يصح أن يقول: ما دام أن بدأنا في هذا الدرب سنواصل فيه، ولا يمكن الرجوع الآن.. فأسامة لما وصل الأمر إلى السيف أرسل إلى علي بن أبي طالب يقول له: "لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه -وهذا واضح في موالاة علي - ولكن هذا أمر لم أره" . أي: السيف.
إذاً: الإمام ابن تيمية يقرر أنه لم يشرع قتالهم لمحض قولهم، بل لقولهم الذي تضمن فعلاً وهو القتال والاستحلال لرقاب المسلمين ودمائهم، ومن المعلوم أن القتال والقتل لا يستلزم الكفر، فإن الإنسان قد يكون كافراً بالإجماع ومع ذلك يحرم قتله ويحرم قتاله، ومثال ذلك: أهل الذمة، وهم من دفع الجزية من أهل الكتاب أو حتى من غير أهل الكتاب على الصحيح، فهذه طائفة كافرة لكن يحرم قتالها، وكذلك المعاهد المعين، أو رسول المشركين الذي يأتي برسالتهم ورأيهم وما إلى ذلك، فهؤلاء كفار ومع ذلك يحرم قتالهم.
وعكس هذه الصورة: مسلم بالإجماع ومع ذلك يجب قتاله، كالطائفة الممتنعة من جنس الخوارج الصائلة على دماء المسلمين؛ فإن الصحابة أجمعوا على قتالها مع حكمهم بإسلامهم. وكذلك المعين من المسلمين قد يكون قتله واجباً، ومثاله: من قتل عمداً فطلب أولياء الدم القتل، فإن قتله يكون واجباً مع إسلامه.. إلخ.
وبهذا يتبين أنه لا تلازم بين القتل والمقاتلة وبين الكفر.
[كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة)] .
لأن هذا من باب عصم المسلمين من شرهم وفتنتهم.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيهم مقامات، وهي قوله: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم) فكانوا مظهرين للنسك والعبادة، وكانوا عباداً زهاداً، لكنهم لم يكونوا على السنة، وبهذا يعلم أن الأصل المطرد عند المسلمين وفي كتاب الله وفي سنة نبيه: أنه لابد من الجمع بين مقام العلم والعمل، فلابد من اتباع السنة مع الإخلاص لله سبحانه وتعالى في العمل، أي: أن الإخلاص إذا انفرد عن الاتباع فإنه لا يكون كافياً.
ومن هنا نعلم أن الإنسان لا يلزم من مجرد إخلاصه أو غيرته الهداية، فإن ما ذكره الله في كتابه شرطان: قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] الشرط الأول قوله: "جاهدوا" أي: بذلوا المجاهدة -وهي بذل الوسع- قال: "فينا" وهذا هو مقام الإخلاص، "لنهدينهم" هذا هو ثبوت الهداية.
إذاً من جمع المقامين لا بد أن يكون مهدياً، ومن قصر في أحد المقامين فهذا عرضة للغلط والشر والفتنة، وهذا معنى: إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
هذا الرجل قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ووصفه أبو سعيد وغيره بقولهم: (فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: اعدل يا محمد؛ فإنك لم تعدل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟) وفي لفظ: (أو لست أحق أهل الأرض بأن يتقي الله؟ ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ فقام
فهذا الرجل كان من الغالين الجافين، وكان ممن يطعن على السنة وأهلها، حتى طعن على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد التزم هذا الخوارج من بعده.
قول المصنف رحمه الله: "وأما تعيين الفرق". أراد بذلك التعيين لأصولها، وإلا فسبق في كلامه في هذه الرسالة -وفي غيرها- أنه لم يذهب أحد من السلف إلى تعيين الفرق المخالفة الثنتين والسبعين بالأعيان، بل هذا التعيين لا شك أنه غلط، إنما الذي عينه بعض أئمة السلف هو أصول أهل البدع.. هذه مسألة.
المسألة الثانية في هذا التقرير من كلامه: أنه ذكر عن ابن المبارك أن أصول البدع أربع. فقيل له: والجهمية؟ قال: أولئك ليسوا من أمة محمد. وقال: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.
نقول: أحياناً يقال في بعض البحوث المعاصرة: إن بين السلف خلافاً في تكفير الجهمية، فطائفة كـابن المبارك يكفرونهم، ويرونهم ليسوا من أهل القبلة، ويرون أنهم أكفر من اليهود والنصارى، ويحتجون بمثل هذه الجمل المقولة في كتب السنة المسندة كما في السنة لـعبد الله بن أحمد أو غيره عن ابن المبارك وأمثاله من السلف، ويجعلون هناك قولاً آخر لطائفة من السلف الذين لم يبادروا إلى التصريح بالتكفير أو حصل منهم مقام من مقامات التردد المعينة، فيجعلون هذا مذهباً مطرداً لهم.
ومنشأ هذا التقرير يرجع إلى عدم فقه مراد السلف بأحرفهم.
فقد تواتر عن كثير من السلف التصريح بتكفير الجهمية، حتى قال ابن القيم :
ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان
وقد نقل هذا اللالكائي أيضاً، وهذا لا يعني كثيراً، إنما الذي يهم: أن المراد بكلمة التجهم عند السلف: هو عدم الإثبات على التحقيق لصفات الله؛ فصاروا يسمون كل من قصر في هذا التحقيق للإثبات على طريقتهم على قدر من التأويل أو التعطيل جهمياً، هذا هو التجهم العام، وفيه يدخل المعتزلة وغير المعتزلة ممن ينفي الصفات؛ ولهذا سموا الفتنة التي وقعت للإمام أحمد والأئمة زمن المأمون العباسي : فتنة الإمام أحمد مع الجهمية. مع أن أساطين المناظرة إذ ذاك كانوا معتزلة.
أي: أن السلف سموا المعتزلة جهمية مع أن المعتزلة يرون الجهم بن صفوان الذي تنسب الجهمية إليه كافراً، وهذا نص عليه كبار أئمة المعتزلة، وممن نص عليه القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني في كتاب المغني وغيره.
قال: "وإنما ألحق أصحابنا به من تقرير العامة؛ فصار عندهم كل من يقول: القرآن مخلوق جهمياً" ، وهو يقصد بالعامة: أهل السنة.
القصد: أن المعتزلة تكفر الجهم ، وهي تختلف معه في الأصول، فـالجهم مرجئ في الإيمان، والمعتزلة على النقيض، وهو جبري في القدر، والمعتزلة يرون استقلالية العبد.. إلخ.
فثمة أصول متناقضة بين الجهم وبين المعتزلة، حتى في الصفات والأسماء بينهم اشتراك كلي، وإلا فـالجهم رجل غال في باب الأسماء والصفات، فهو ينفي الأسماء والصفات، ونظريته نظرية مفرطة في الغلو، حتى إن ابن تيمية يقول: "إن مقتصدة الفلاسفة كـأبي الوليد ابن رشد كلامهم في الصفات خير من كلام جهم بن صفوان في هذا الباب، بخلاف كلام المعتزلة؛ فإنه في الجملة خير من كلام أبي الوليد ابن رشد " .
إذاً: حتى في باب الصفات هناك فرق، لكن لم يكن مقصود السلف التعيين لهذه الفروقات؛ لأن التعيين لهذه الفروقات -الفرق بين فلان وفلان من أهل البدع- ليس من شريف العلم عندهم، إنما الذي كان يعنيهم أن هذا المعنى مفارق لإجماع السلف، وأنه معنىً في الجملة مبني على مفهوم واحد، ومن هنا سموا كل تعطيل تجهماً، ونسبوا صاحبه إلى الجهمية.
أما من قصدهم ابن المبارك بقوله السابق فإنهم الطائفة الغالية من الجهمية، والتي ظهر من حالها المعارضة الصريحة لكلام الله ورسوله، وحين نقول: ليس كل من نفى الصفات يكون كافراً بعينه، لا يلزم منه أنه يمتنع أن يوجد فيهم كافر بعينه أو أن يوجد فيهم زنادقة، وسيأتي في كلام شيخ الإسلام في هذه الرسالة: أن جمهور أهل البدع ليسوا كفاراً، لكن قال: "إن بعض طوائفهم المغلظة كالجهمية يقع فيهم من هو على قدر من الزندقة والكفر" .
إذاً مراد ابن المبارك من عبارته السابقة الغلاة ممن التزم هذا المذهب، فهؤلاء هم الذين يقال فيهم: إنهم كفار، وهم الذين ظهر تعصبهم وعنادهم وتكبرهم وكفرهم.. إلخ.
وأما جمهور من يعطل الصفات فهؤلاء أهل بدعة، وأقوالهم كفرية، لكنهم لا يكفرون، وليسوا خارجين عن أهل القبلة، فضلاً عن أن يقال: إنهم أكفر من اليهود والنصارى..
مثلاً: لما تكلم عن وحدة الوجود قال: "إن قول أهل وحدة الوجود أن الوجود واحد، وليس ثمة امتياز بين وجود العبد وبين وجود الرب.. قال: إن هذا القول الكفري أكفر من قول اليهود والنصارى.." وهذه قضية شرعية واضحة لا جدل حولها.
أما جمع طوائف بغلاتها ومتوسطيها ومقتصديها والقول فيهم: الطائفة الفلانية أكفر من اليهود والنصارى على الإطلاق.. فهذه الإطلاقات ما كان السلف ينطقون بها، فاليهود والنصارى ماذا بقي لهم من الخير وهم يقولون كما قال الله عنهم: وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] و: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181].. وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] وبعد ذلك تأتي إلى طائفة من أهل البدع لا تستطيع تحقيق إجماع السلف على تكفيرها وتقول: هم أكفر من اليهود والنصارى..؟! هذا في الغالب فيه قدر من الزيادة.
والصواب هو أن توزن الأمور بميزان الحق، فالطائفة تبدع ويبين خروجها عن السنة وتذم.. إلخ بما ذمها به السلف، أما الحروف المفردة فلا تلزم.
وأنبه إلى أنه قد يوجد عند بعض المتأخرين من فضلاء أهل السنة القاصدين إلى تعظيم السنة والجماعة بعض الزيادة، فبعض الحنابلة خاصة -وهذا ليس عيباً لهم، فقد قلت سابقاً: إن الحنابلة أشرف الطوائف الأربع في السلامة من البدع، لكن لما صاحب بعض أئمتهم من قصد التحقيق حصل عندهم قدر من الزيادة- من الفقهاء المنتسبين والمعظمين للسنة الذامين لأهل البدع، يقول كلمة، مثلاً: وكان الأئمة يذهبون إلى أن فلان أكفر من اليهود والنصارى، أو هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، أو كفر هؤلاء من جنس... أو كفر فرعون أخف من كفر... فهذه الكلمات إذا اجتهد بها قائل فقالها فهذا قول يخصه هو، ولا يلزم أن يكون قاعدة ومنهجاً للسلف؛ لأن -وقد تقدم- منهج السلف: هو النقل الإجماعي إما استفاضةً وإما تصريحاً بالإجماع.
فإطلاق هذه الكلمة في الغالب لا يكون صحيحاً، لا نقول: دائماً، وإنما نقول: في الغالب.
هذا التقرير من بعض أصحاب أحمد يقع على أحد وجهين:
الوجه الأول: أن من محققي الحنابلة من يقرر مراد ابن المبارك على وجهه، وهو أنه أراد الغلاة.. وهذا ليس لـابن المبارك اختصاص فيه، بل جميع السلف يرون أن الغالية كانوا على قدر من الزندقة، وأصل هذه البدع ليس له بالإسلام صلة، بل هو فلسلفة مولدة بما يسمى علم الكلام.
الوجه الثاني: أما من فهم من أصحاب أحمد أن ابن المبارك يرى أن كل من نسب إلى التجهم -أي: كل من دخل عليه شيء من تعطيل الصفات- ليس من أهل القبلة.. فهذا نقول: إنه فهم غلط من بعض أصحاب أحمد على ابن المبارك وأمثاله من السلف.
[كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وهم الزنادقة] .
"الزنديق" لفظ لم يستعمل في الكتاب ولا في السنة، بل ولا معروف في لسان العرب، ولكنه استعمل عندما جاءت الدولة الإسلامية فيما بعد، ويراد بالزنديق: المنافق في لسان الصحابة أو في كلام الله ورسوله، فإذا ذكر الأئمة أن فلاناً من الزنادقة أو قالوا: الرد على الزنادقة فإنهم يريدون المنافقين، ولكن الفرق بين نفاق من كان في المدينة كـعبد الله بن أبي وبين هؤلاء: أن نفاق هؤلاء نفاق علمي، فهم يظهرون أنهم على الكتاب، ولكنهم إذا تكلموا في الحقائق الإيمانية الأولى: المعرفة بالله ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم وما إلى ذلك، لم يلتزموا الحقائق القرآنية، بل يلتزموا المعارف الفلسفية التي وصلت إليهم من ملاحدة الفلاسفة، فهؤلاء زنادقة بمعنى أنهم منافقون، لأنهم أظهروا التسليم بالقرآن وإذا أتوا إلى حقائقه امتنعوا عن تصديقها، وذهبوا إلى تصديق ما يعارض هذه الحقائق، وزعموا أنهم يتصرفون مع القرآن بالتأويل.
والصواب: أنه ليس بين كلام السلف تعارض، لأن الجهمية ليست طائفة محددة بحدود يمتنع أن تزيد أو تنقص عنها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً...) .. (آية المنافق ثلاث...) ثم قال: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) ومع ذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يفهمون أن النفاق ليس على درجة واحدة؛ ولهذا إذا أخطأ المخطئ في أمر على قدر من الاستغراب قام واحد من الصحابة وتكلم عن صحابي آخر وقال: "يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق" أو "نافق فلان". وما كان عليه الصلاة والسلام يراجع في كثير من هذه الاستعمالات؛ لأن مبدأ النفاق له زيادة وله نقص.
إذاً التجهم ليس مقاماً واحداً، وليس بين السلف خلاف، وإنما الخلاف حرره والتزمه المتأخرون، فصار بعضهم يقول بكفر سواد الجهمية، وإذا قيل له: من هم الجهمية؟ تعذر عليه ضبطهم، إلا إذا التزم أن كل من عارض في الصفات يكون جهمياً، وكل من تأول في الصفات يكون جهمياً، ومن هنا يكفر جميع هؤلاء، فهذا هو الذي التزمه بعض من عنده زيادة من الحنابلة رحمهم الله كـأبي إسماعيل الأنصاري الهروي ، فإنه قال: إن ابن المبارك كفر الجهمية، وقال: والجهمية عند السلف هم من يعطل الصفات والأفعال، فلما تكلم عن الأشاعرة -الذين ما أدركوا ابن المبارك أصلاً- ووجد أن عندهم تعطيلاً في الصفات من جنس بل على حروف المعتزلة في صفات الأفعال وفي بعض الصفات الأخرى، كانت النتيجة عند الهروي رحمه الله أنه كفر الأشعرية، من باب دخولهم جميعاً في دائرة التعطيل، الذي هو التجهم عند السلف..
ومثل هذه التحصيلات فيها تأخر، وليست مطردة على هذا الوجه من الصحة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر